ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية

ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية (https://www.ahlalloghah.com/index.php)
-   حلقة الأدب والأخبار (https://www.ahlalloghah.com/forumdisplay.php?f=4)
-   -   دفائن الحماسة (https://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=14353)

صالح العَمْري 11-05-2018 01:08 AM

دفائن الحماسة
 
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
هذا حديث سأجعل فيه إن شاء الله فوائد واستنباطات واستدراكات ونحو ذلك من حماسة أبي تمام وشروحها، وأسأل الله أن يعينني ويوفقني وينفع به، وما أنا بذي جَداء عن مشاركة الإخوان بما عندهم، بل أنا إلى ذلك محتاج وبه منتفع إن شاء الله.

صالح العَمْري 12-05-2018 01:12 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 -
(أ)
المقطوعة رقم: 14

قال بعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنها لبشامة بن حزن النهشلي:
1 - إِنّا مُحَيّوكِ يا سَلمى فَحَيّينا * وإِن سَقَيتِ كِرامَ الناسِ فَاسقِينا
2 - وإِن دَعَوتِ إِلى جُلّى ومَكرُمَةٍ * يَومًا سَراةَ كِرامِ الناسِ فَادعِينا
3 - إِنّا بَني نَهشَلٍ لا نَدّعي لِأَبٍ * عَنهُ ولا هُو بِالأَبناءِ يَشرينا
4 - إِن تُبتَدَر غايَةٌ يَومًا لِمَكرُمَةٍ * تَلقَ السَّوابِقَ مِنّا والـمُصَلّينا
5 - وليس يَهلِكُ مِنّا سَيِّدٌ أَبَدًا * إِلّا افتَلَينا غُلامًا سَيِّدًا فينا
6 - إِنّا لنُرخِصُ يَومَ الرَّوعِ أَنفُسَنا * ولو نُسامُ بِها في الأَمنِ أُغلِينا
7 - (بيضٌ مَفارِقُنا تَغلي مَراجِلُنا * نَأسو بِأَموالِنا آثارَ أَيدينا)
8 - لو كانَ في الأَلفِ مِنّا واحدٌ فَدَعَوا * مَن فارِسٌ خالَهُم إِيّاهُ يَعنونا
9 - إِذا الكُماةُ تَنَحَّوا أَن يُصيبَهُمُ * حَدُّ الظُّباةِ وَصَلناها بِأَيدينا
10 - ولا تَراهُم وإِن جَلَّت مُصيبَتُهُم * مع البُكاةِ على مَن ماتَ يَبكونا
11 - ونركَبُ الكُرهَ أَحيانًا فَيَفرُجُهُ * عَنّا الحِفاظُ وأَسيافٌ تُواتينا
وقد اعتمدتُّ في أرقام المقطوعات على رواية المرزوقي بتحقيق عبد السلام هارون وأحمد أمين، لأن روايات الحماسة في بعضها زيادة مقطوعات، فيختلف الترقيم في الروايات.
ومرادنا نحن هو البيت السابع، بل مرادنا منه هو الجزء الأول الذي لوّنته بالأحمر، وهذا الموضع الذي هو كلمتين أكثر موضع إشكالًا في ديوان الحماسة، بل قد يكون أكثر موضع إشكالا في شعر العرب كله، وقد اختُلف فيه كثيرًا، حتى قال المظفر العلوي في «نضرة الإغريض»: "وقال بَشامةُ النّهشَلي وتُروَى لغيره:
بيضٌ مفارِقُنا تَغْلي مراجِلُنا * نأسُو بأموالِنا آثارَ أيدينا
رأيتُ بخطّ الشيخ أبي زكريا التبريزي كتابًا قد خرّجَ فيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب ما يُوفي على مِئَتي وجْهٍ في قوله (بيضٌ مفارِقُنا) حسْبُ، وقد شيّد بناء تلك المعاني بأشعار عربية وألفاظ مقبولة
".
وقال الصفدي في «نصرة الثائر»: "وكنتُ وقفتُ بالديار المصرية على جزء فيه كلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب على قول الشاعر:
بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وقد ذكر في قوله (بيض مفارقنا) مئتي وجه وثلاثة أوجه، في احتمال معنى هاتين اللفظتين
".
فهل تراني مبالغًا إذ قلتُ إنه قد يكون أكثر موضع في شعر العرب إشكالًا، لكنا لم نقف على كتاب أبي عبد الله الخطيب، ولا نعرف الأوجه التي ذكرها، فسنذكر بعض ما قاله شارحو الحماسة في تفسير هذا الموضع.
قال المرزوقي: "بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
يروى: (بيض معارفنا)، وهي الوجوه. والمراد بذلك نقاء العرض وانتفاء الذم والعيب. ويقال: امرأةٌ حسنة المعارف، أي الوجه بما يشتمل عليه. وقيل الأنف وما والاه. وقيل: الحسن في الأنف، والملاحة في الأسنان. وواحد المعارف معرفٌ ومعرفٌ، وكأن الوجه سمي بها لأن معرفة الأجسام وتمييزها تقع بها. والأشهر والأحسن (بيضٌ مفارقنا)، ويجوز أن يكون أراد ابيضت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشدائد، وهذا كما يقال أمرٌ يشيب الذوائب. وفي القرآن: {يوماً يجعل الولدان شيبا}، و(تغلي مراجلنا) أي حروبنا، كقول الآخر:
تفور علينا قدرهم فنديمها * ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا لانحسار الشعر عنها، باعتيادنا لبس المغافر والبيض، وإدماننا إياه،ويكون هذا كما قال:
قد حصّت البيضةُ رأسي فما * أطعم نومًا غير تهجاع
وتكون المراجل على هذا كنايةً عن الحروب أيضًا.
ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا من كثرة استعمالنا للطيب، ويكون كقول الآخر:
جلا الأذفر الأحوى من المسك فَرقَهُ
ويكون على هذا معنى (تغلي مراجلنا) أي قدورنا للضيافة، ويجوز أن يريد: مشيبنا مشيب الكرام، لا مشيب اللئام. وأنشد ابن الأعرابي في نوادره:
وشبتَ مشيب العبد في نقرة القفا * وشيبُ كرام الناس فوق المفارق
وعلى هذا يحمل المراجل على أن المراد بها قدور الضيافة. فأما قوله:
نأسو بأموالنا آثار أيدينا
فإنما يريد ترفعهم عن القود ودفع أطماع الناس عن مقاصتهم، فيداوون جراحاتهم ببذل الأروش والديات. والأسو: مداواة الجرح وإن استعمل في موضع الإصلاح. قال:
والأساة الشفاة للداء ذي الريبة والمدركون للأوغام
ويقال للضار النافع: يشج ويأسو. ومنه اشتقاق الإسوة، ويقال الأسوة أيضاً. ويروى أن مصعب بن الزبير لما انهزم الناس عنه يوم مسكن جعل يقاتل ويتمثل:
وإن الأولى بالطف من آل هاشمٍ * تأسوا فسنوا للكرام التأسّيا
وفي البيت مع حسن المعاني التي بينتها توازن في اللفظ مستقيم، وسلامةٌ مما يجلب عليه التهجين
".
وقال الشنتمري: "قوله (بيض مفارقنا) يُتأول على معانٍ، أجودها أن يريد بالمفارق الطُّرُق، أي هي معمورة إلينا لما يُعلم من كرمنا، فقد ابيضت وتبينت العمارة، لأن الطريق إذا عُمر ابيض وتبيّن، وإذا انقطعت عنه السابلة تعفى أثره وخفي، ولذلك قال (تغلي مراجلنا)، أي هي معدة للأضياف لا تنقطع موادها".
فهذا وجه آخر غير الأوجه التي ذكرها المرزوقي، وباقي كلام الشنتمري يشبه كلام المرزوقي، ويشقّ علي أن أكتبها كلها، فمن أرادها فليرجع إليها.
والأوجه التي ذكرها المرزوقي والشنتمري كلها ذكرها قبلهما أبو عبد الله النمري، ولعلهما أخذا منه، فقد ذكر هذا الوجوه كلها تقريبا، ثم قال: "وقد روى قوم لا علم لهم: (بيض معارفنا) و(مغارفنا)، وقال (المعارف) الوجوه، و(بيض مغارفنا) لجمود الدسم عليها، وأهل العلم على تلك الرواية لا غير".
وقال الفسوي: "ويروى (بيض مغارفنا) جمع مغرفة".
وقد كنتُ قبل أن أقرأ كلام النمري والفسوي أقول: أخشى أن (مفارقنا) و(معارفنا) محرفتان عن (مغارفنا). وكنتُ حينئذ لم أقف على (مغارفنا) في شيء من الروايات وإنما هو شيء ابتدعتُه، ثم وجدتُّ النمري يذكره في الروايات، ولكني كنت أقول: إذا كان كذلك فينبغي أن تكون (سُودٌ مَغارِفُنا) لا (بيض مغارفنا)، لأن المعنى عليها أجود وسنبيّن سبب ذلك، فكنت أقول: هب هذه الكلمة فيها تصحيف للشبه بين (مفارقنا) و(معارفنا) و(مغارفنا)، فكيف تصنع بالكلمة الأولى وكلهم قد رووا (بيض)، فكيف تصحفت هذه إلى (سود)، حتى وجدتُّ كلام أبي محمد الأعرابي الذي تعقب به النمري، فإنه قال:
"سألتُ أبا الندى رحمه الله عن قوله:
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا
قال: هذه رواية ضعيفة، فإن بياض المفارق قرع، ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك، قال: والرواية الصحيحة:
شُعثٌ مقادمنا نهبى مراجلنا
قال: ومعناه أننا أصحاب حروب وقِرى
".
ولم أفرح بكلام الأعرابي لصحة روايته، فإني أعتقد أنها غير صحيحة، وإنما فرحتُ بها للكلمة الأولى وهي (شُعثٌ)، فإن هذه قد تلتبس في الرسم بـ (سُودٌ)، وأنت لا تراها الآن تشبهها بخطنا هذا الواضح، وأما الخطوط القديمة مع خلو كثير منها من النقط فتلتبس فيها هذه بهذه، وهذه كلمة (سود) كتبتُها بخط يشبه خطوط بعض الناس:
https://d.top4top.net/s_861whyyh1.jpg
فهذه تلتبس بـ (شعث) إذا كانت (شعث) غير منقوطة، وما أكثر ترك النقط في الزمن الأول، وأما (مقادمنا) فلا يخفى الشبه بينها وبين (مفارقنا) و(معارفنا) و(مغارفنا).
* وأريد أن أنبه على أنني لا أجزم بصحة ما سأقوله، فالبيت بيت مشكل، وإنما هو رأي رأيتُه واجتهاد اجتهدتُّه، يصيب أو يخطئ.
فأقول مستعينا بالله:
قد تعجب من الاقتراح الذي ستراه في تسلسل وقوع التصحيف وتراه شبيها بقصص الأطفال، ومن عرف كيف يتصحف الكلام ويتحرف ثم يتصحف المصحَّف تصحيفًا آخر وثالثًا لم يعجب من وقوع ما سنذكره، وقد تنكره لسبب آخر وذلك أن تقول: كيف يقع هذا من العلماء الجِلَّة الأوائل؟! فإن قلتَ هذا فإني أحيلك إلى كتب التصحيف ككتاب «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف» لأبي أحمد العسكري و«التنبيه على حدوث التصحيف» لحمزة بن الحسن الأصفهاني، وغيرهما.
فالذي أقترحه أن الرواية:
(سُودٌ مَغارِفُنا)
وأنها كانت في كتاب قديم مكتوبة هكذا، ولا تستنكرْ أن تكون القصيدةُ غير موجودة إلا في هذا الكتاب، فإن كل واحد من العلماء قد يروي أشياء لا يشاركه غيره من العلماء في روايتها، وإذا روى العالم شيئا من هذه النوادر التي ليست عند غيره فإنه ربما ينفس بها ويضن، فلا يكاد يذيعها، ولذلك شواهد لا أريد أن أطيل بذكرها، وانظر مثلا في المجلس (155) من «مجالس العلماء» في صفحة (264) كيف استأثر الأصمعي بالقصيدة عن إسحاق الموصلي ولم ينشده إياها كاملة، روى الزجاجي بسنده عن إسحاق الموصلي قال: "أنشدني الأصمعي أرجوزة لدكين الراجز حتى انتهى إلى موضع منها، فقال لي: هذا آخرها. فاجتمعنا بعد ذاك بمدة عند الفضل بن الربيع، فجرى ذكر الأرجوزة، فأقبل ينشدها، وعارضتُه أنشد معه منها، فأمسك حتى انتهيت إلى الموضع الذي أنشدنيه على أنه آخر الأرجوزة فوقفتُ، فقال لي: أَمِرَّ يا أبا محمد. قلتُ: هذا آخرها. قال: تركتَ والله أحسنَها. ثم أقبل ينشد، فأنشد لعمري أحسنَها، فقلتُ: أما أنشدتني هذه وقلتَ لي هذا آخرها؟ فقال لي: يا أبا محمد:
يُصان وهو ليوم الروع مبذولُ".
وقال صاعد البغدادي في مقدمة كتابه الجليل «الفصوص»: "حتى ولاني الوزير أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف تغمد الله خطاياه خزانة كتبه، فأصبتُ فيها خطوط العلماء وأصولَهم التي استأثروا بها لأنفسهم دون الناس، إذ لا بد لكل عالم من أثيرة مجموعة لخاصته، غير ما يذيعه للطلبة عنها. ووجدتُّ في كتب الخلافة التي خرجت في نهب دار المقتدر بخط الأصمعي والفراء وأبي زيد وابن السكيت وابن الأعرابي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وأبوي العباس المبرد وثعلب وغيرهم عيونا من علم العرب لم يصنَّف في شيء من الكتب ضنًّا بها واختصاصًا بحسنها، فنقلتُ منها بخطي موفيًا على ثلاثة آلاف ورقة".
فكذلك قد تكون هذه القصيدة مما نفس به بعض الأئمة القدماء، ثم أصابه بعد موته بعض خاصته.
فأما قوم فصحفوا (سود مغارفنا) إلى (شعث مقادمنا)، وقد ذكرنا الشبه بينهما.
وأما بعضهم فصحف (مغارفنا) إلى (معارفنا) وقرأها (سود معارفنا)، ثم أنكر أن يصف الشاعر قومه بسواد الوجوه، فاجترأ على تغيير (سود) إلى (بيض) ولم يشك في صحة فعله، لأنه يبعد أن يصف الشاعر في افتخاره وجوه قومه بالسواد، فصارت عنده: (بيض معارفنا)، وقد يكون هذا من طبقة الأئمة الكبار الذين أُخذت عنهم الرواية.
ثم أُخذ عن صُحُف هذا الإمام أو عن صُحُف بعض تلاميذه فصحّف الآخذ (معارفنا) إلى (مفارقنا)، فصارت عندهم (بيض مفارقنا)، ومن أخذ عن هذا الإمام مباشرة رواها عنه (معارفنا).
فمن ها هنا تشعبت الرواية، فأما كلمة (سود) التي في الأصل القديم فصارت إلى شيئين:
1 - قرأها بعضهم قراءة صحيحة (سود) ثم أنكرها وغيرها إلى (بيض)، وأخذ عنه الناس.
2 - وقرأها بعضهم (شعث) وأخذت عنه بعد ذلك.
ورواية (شعث مقادمنا) لم تقع في شيء من روايات الحماسة التي رأيتها، ولعل هذه الرواية قد أُخذت عن ابن الأعرابي، قال البغدادي في الخزانة: "والبيت وقع في شعرين: أحدهما للمرقش الأكبر رواه المفضل بن محمد الضبي له، وكذلك ابن الأعرابي في نوادره، وأبو محمد الأعرابي فيما كتبه على شرح الحماسة للنمري، وهو:
يا دار أجوارنا قومي فحيينا * وإن سقيتِ كرام الناس فاسقينا
وإن دعوتِ إلى جُلَّى ومكرمةٍ * يومًا سراة خيار الناس فادعينا
شُعثٌ مقادمنا نهبى مراجلنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبّت شآميةٌ * وخير نادٍ رآه الناس نادينا".
ولم أجدها في نوادر ابن الأعرابي المطبوعة وهي غير كاملة، ويكفي ذكر البغدادي لذلك.
وأما المفضل الضبي فلم يروها وإن كانت وقعت في المفضليات، ولو كان رواها لقلنا إنما أُخذت عنه لأنه أقدم من ابن الأعرابي، لكنه لم يروها، وليس كل شعر في المفضليات هو مما رواه المفضل، بل زيد عليها، وارجع في ذلك إلى مقدمة الشاكرين للمفضليات، وإنما أدخل هذه الأبيات في المفضليات محمد بن حبيب، قال التبريزي في شرح المفضليات عند هذه الأبيات: "ولم يروها المفضّل، ورواها ابن حبيب"، ولم يروها الأنباري الكبير أيضا في روايته للمفضليات، ومحمد بن حبيب من تلاميذ ابن الأعرابي وممن رووا عنه، وقد روى عنه ديوانَ الفرزدق، وهو موجود ومطبوع برواية محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، فهذه الأبيات التي أدخلها محمد بن حبيب في المفضليات هي نفسها التي أنشدها ابن الأعرابي في نوادره، فظاهر الأمر أن ابن حبيب قد أخذها عن ابن الأعرابي.
وأما أبو محمد الأعرابي فهو متأخر، ولعلها وصلته من طريق تتصل بابن الأعرابي.
وأما كلمة (مغارفنا) فصارت إلى أربعة أشياء:
1 - قرأها بعضهم قراءة صحيحة ورواها كما وجدها وبقيت الرواية موجودة.
2 - وقرأها بعضهم (معارفنا) ورواها عنها الناس.
3 - وصارت عند بعضهم (مفارقنا).
4 - وقرأ بعضهم (مقادمنا).
وأنت تعلم أنه يستحيل أن يكون الشاعر قال هذه كلها، فالتصحيف حاصل ولا بد.
وقد رغبتُ عن الوجوه التي ذكروها كلها ولم أر شيئا منها جديرًا بالصواب، حتى صرتُ إلى (مغارفنا) وأعجبني موقعها لذكره للمراجل معها وهي القدور، فما أليط المغارف بالقدور وألصقها بها، لكني لم أوثر أن تروى (بيض مغارفنا) وأن تُفَسَّرَ بما رواه النمري وبما أنكره من قولهم: "لجمود الدسم عليها". ولم أوثره لأن الشاعر يذكر أن مراجلهم تغلي فإذا كانت المراجل تغلي والمغارف تدخل فيها وتخرج منها فأي دسم يبقى جامدًا على هذه الحرارة والماء الحميم؟!
على أن لهذا وجهًا، وهو أن تكون المراجل تغلي بما فيها ولـمّا ينضج ما فيها بعد، وتكون المغارف متروكة إلى حين نضج ما في القدور، ويكون على المغارف دسم جامد مما غرفوه في اليوم الذي قبله إذ كانوا يَقرون كل يوم.
ووجه آخر أنهم يدخلونها في القدور لتقليب ما فيها ويخرجونها، فإذا أدخلوها ذاب الودك وإذا أخرجوها جمد عليها من فوره لشدة البرد، وإنما يكون ذلك في الشتاء، والشتاء عند العرب هو وقت الجدب والشدة، فلذلك افتخر بالقرى فيه، ونحو منه قول الراعي وهي في الحماسة:
فباتت تَعُدُّ النجم في مستحيرةٍ * سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي يجمد الدسم على يد الآكل من فوره لشدة البرد، والدليل على أنهم في الشتاء قول الراعي في أولها:
عجبتُ من السارين والريح قرة * إلى ضوء نار بين فردة والرحا
والريح قرة: أي باردة، ويدل على ذلك في البيت نفسه قوله: (تَعُدُّ النجم)، وهو موضع لطيف خفي، قال أبو محمد الأعرابي:
"ولا يجوز أن يكون النجم ها هنا إلا الثريا، وذلك أن في البيت خبيئة لم يخرجها أبو عبد الله [يعني النمري]، وذلك أن الثريا لا تكاد تُرى في قعر الجفنة وغيرها من الأواني إلا أن تكون قمةَ الرأس [أي فوق الرأس]، ولا تكون قمةَ الرأس إلا في صميم الشتاء، ويقال حينئذ أفغر النجمُ، ومنه قول الكميت:
إذا النجم أفغرا
وقوله (تعد النجم) أي لصفاء الودك في الجفنة يُعرف عدد الثريا فيها، وهذا معنى مليح، وذلك أن نجوم الثريا لا يكاد يعدها إلا ذو بصر حديد، ولذلك يقول القائل:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت * يراها حديد العين سبعة أنجم".
قلتُ: قال في اللسان: "وأفغر النجمُ، وذلك في الشتاء، لأن الثريا إذا كبّد السماء من نظر إليه فغر فاه أي فتحه، وفي التهذيب: فغر النجمُ وهو الثريا، إذا حلّق فصار على قمة رأسك، فمن نظر إليه فغر فاه".
قلتُ: أي أفغر النجمُ الناظرَ إليه، أي جعله يفغر فاه، لأنه يكون في كبد السماء فوق رأس الإنسان، فإذا أراد الإنسان أن ينظر إليه فغر فاه، لأن الإنسان إذا نظر إلى ما فوق رأسه انفتح فمه بغير إرادته، وجرّب ذلك، ارفع رأسك إلى أعلى كأنك تنظر إلى شيء فوقك وستجد أن فمك ينفتح وربما يشق عليك إغلاقه وأنت على تلك الحال.
وهذه الرواية (بيض مغارفنا) وتفسيرها أحب إلي من جميع ما رووه وفسروا به البيت، وأحسب أنك إذا وازنت بينها الآن بعد ما شرحتُ لك وبين (بيض مفارقنا) و(بيض معارفنا) و(شعث مقادمنا) وجدتَّ أن (بيض مغارفنا) أشرف منها وأعلى، ودع عنك إنكار النمري على من رواها وعدّه إياه ممن لا علم له.
وأحسن منها في ما أرى -والله أعلم- أن تكون (سُودٌ مَغارِفُنا)، وهو شيء لم أجد أحدًا قبلي قدّره أو اقترحه، بل اللفظة (سُودٌ) لم يذكرها أحد منهم أصلا، لكني قدّرتُ أن (شُعثٌ) إنما جاءت من تحريفها، وأن (بيضٌ) إنما جاءت من تغييرها عمدًا. وأما (مغارفنا) فإنما ذكرها النمري والفسوي وأنكرها النمري وذم رواتها، وسأقيم حجتي على ما اقترحتُه إن شاء الله.

صالح العَمْري 13-05-2018 12:42 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 -
(ب)
المقطوعة رقم: 14
قد رأيتَ اضطراب العلماء في تفسير (بيض مفارقنا)، وإنما ذلك في تقديري لوقوع التحريف فيها، وكذلك البيت إذا أصابه التحريف، فإنه قد يلتوي ويعتاص.
وقد كنتُ رأيتُ أن صوابها (سُودٌ مغارفُنا)، وزعمتُ أنني سأقيم حجة عليه، وقد يطول عليك هذا البيان، وإنما طال لشدة إشكال البيت، ولو كان البيت مقاربًا لكان البيان وسطًا، فلما اعتاص هذا طال هذا، كما قال المتنبي:
لقد أطال ثنائي طولُ لابسه * إن الثناء على التنبال تنبالُ
فهذا بيان قوله (سُودٌ مغارفنا):
وذلك أن نار الطبخ في شعر العرب وفي واقع الحال تسوّد أربعة أشياء هي القدر وما يتصل بها، وذلك:
1 - القدر، ووصفها بالسواد في شعرهم كثير جدًّا، ولا نريد الإطالة به، ومنه قول النابغة الذبياني يمدح رجلا ويصف قدره -وأنا أنسخ بعض الأبيات من الموسوعة الشعرية والشاملة لئلا يطول علي الوقت بكتابتها فلعلك تعذرني إن وقع فيها خطأ-:
لَهُ بِفَناءِ البَيتِ سَوداءُ فَخمَةٌ * تُلَقَّمُ أَوصالَ الجَزورِ العُراعِرِ
بَقِيَّةُ قِدرٍ مِن قُدورٍ تُوُرِّثَت * لِآلِ الجُلاحِ كابِراً بَعدَ كابِرِ
ولذلك هجوا البخيل ببياض القدر لأن بياضها يدل على أنها لا يُطبَخ فيها، قال أبو نواس:
رأيتُ قدور الناس سودًا من الصلى * وقِدرُ الرقاشيين بيضاءُ كالبدر
2 - الأثافي، ووصفها بالسواد في شعرهم كثير جدًّا أيضًا، ومنه قول زهير:
أثافيَّ سُفعًا في معرّس مرجل * ونؤيًا كجذم الحوض لم يتثلم
سُفعًا: أي سُودًا، والمرجل: القِدر.
3 - ثياب الطبّاخ، وقد وصفت في الشعر بالسواد، وسننشد في هذا قول مسكين الدارمي.
ولذلك أيضًا هجوا البخيل ببياض ثياب الطباخ كما هجوه ببياض القدر، لأنه لو كان الطباخ يطبخ لاسودّت ثيابه، قال طرفة يهجو عمرو بن هند:
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم * لؤمًا وأبيضهم سربال طبّاخِ
أي لا يسودّ سربال طباخك لأنه لا يطبخ أصلًا، وللبيت روايات أخرى، ونقصد بالطبخ الطبخ على نار الحطب كما كان في وقتهم، فإنه يسوّد الثياب لكثرة الدواخن، وأما الغاز الذي يُطبخ عليه اليوم فليس له دخان يسوّد الثياب، لكن قد تتسخ ثياب الطباخ اليوم كثيرا بسواد وغيره ولو كان يطبخ على غاز.
وقال آخر:
مطبخ داود من نظافته * أشبه شيء بعرش بِلقِيسِ
ثياب طبّاخه إذا اتسخت * أنقى بياضًا من القراطيسِ
وقال آخر:
ثياب طهاتك عند الشتاء بيض تلألأ لا تدنسُ
وقدرك لم يعرها طارق * وكلبك منجحر أخرسُ
لأن كلبه لا يرى ضيفًا غريبًا فينبحه، ولا يسمع مستنبحًا فيجيبه.
وقد يسودّ مع الثياب شيء من بدن الطباخ كالكفين والمعصمين.
4 - المغارف التي يُغرَف بها من القدور، ولا أعرف وصفها بالسواد إلا في شعر حماسي لمسكين الدارمي سننشده الآن.
وقد جمع مسكينٌ الدارمي في أربعة أبيات متتالية هذه الأشياءَ الأربعةَ التي عددناها بهذا الترتيب نفسه، أعني سوادَ القدور وسوادَ الأثافي وسوادَ ثياب الطباخين وسوادَ المغارف، وأبيات مسكين الدارمي هي:
كأَنَّ قُدورَ قومي كلَّ يومٍ * قِبابُ الترك مُلبَسةَ الجِلالِ
أَمام الحيّ تحملها أَثافٍ * مُلَملَمَةٌ كأثباجِ الرئالِ
كأَنَّ الموقدين لها جِمالٌ * طلاها الزِّفتَ والقَطِرانَ طالِ
بأَيديهم مَغارِفُ من حَديدٍ * أُشَبِّهها مُقَيَّرةَ الدَّوالي
والذي في روايات الحماسة البيت الأول والثالث والرابع، وليس فيها البيت الثاني، وكأن أبا تمام لم ينتخبه معها، لكن القصيدة موجودة في ديوانه كاملة وأربعة الأبيات فيها هكذا.
فأما البيت الأول ففيه وصف القدور بالسواد لقوله (مُلبَسَةَ الجِلالِ)، قال الشنتمري: "شبّه القدور لعِظَمها وسَوادها بقِباب الترك، وهم يجلّلونها السواد، ومعروف ذلك منهم".
قلتُ: وشبّهها بها لاستدارتها أيضًا، فإن القباب دائرية كشكل القدر وليست مربعة كما تكون الأخبية عند العرب، وللعرب قباب مستديرة أيضا، والترك ليسوا أهل تركيا فقط كما يتوهم بعض الناس اليوم بل هو اسم يشمل شعوبًا كثيرة كالآذر والأوزبك والكازاخ والقرقيز والتتار وغيرهم، فهؤلاء الشعوب أكثر مساكنهم قديمًا قباب دائرية الشكل، ولا تزال فيهم إلى اليوم، وهذا أهم من وجهي الشبه اللذين ذكرهما الشنتمري، وهو الشبه في الشكل، ولا يثرَّب على الشنتمري في ترك ذكره على أهميته لأن شكل القدور وشكل القباب معروف فلا حاجة إلى ذكره، وأما السواد فقد تكون القدر غير سوداء وذلك إذا كانت لا يُطبَخ فيها، وكذلك العِظَم فقد تكون القدر غير عظيمة، فمعنى كلام الشنتمري أن مسكينًا أراد أن يدل على سواد قدورهم من كثرة الطبخ فيها وعلى عِظَم قدورهم، فلذلك شبهها بالقباب في سوادها وعِظَمها، وسَمّ هذين إن شئت فائدة التشبيه، لأن التشبيه إنما سيق من أجلهما، وليس من غرض مسكين أن يدلّ بالتشبيه على شكل قدورهم وأنها مدورة، لكن هذا التدوير في الشكل هو الذي سوّغ التشبيه، وسمّه إن شئت عمود التشبيه، فلو لم يكن الشبه واقعًا في الشكل المدور ما ساغ أن تشبه القدور بأي شيء أسود عظيم للدلالة على سواد القدور وعِظَمها.
والقباب المدورة تشبه القدور حقًّا شبها تامًّا، وهذه صورة لقبة في قرقيزستان، وقرقيزستان من بلاد الترك:
https://a.top4top.net/p_863fummj1.jpg
وأرجو من المشرفين إن كان وضع هذه الصور يشقّ على الموقع أن يخبروني بذلك، وأنا لا أضعها إلا رغبة في زيادة الإيضاح، فإن كان فيها إثقال أمسكتُ عن وضعها بعد هذا.
فإذا نظرتَ إلى صورة القبة المدوّرة رأيتَها أشبه شيء بالقدر، وسقفها الذي فوقها يشبه أغطية القدور، فلله ما أحسن هذا التشبيه وما أحكمه.
وأعيد هنا باختصار شيئا ذكرتُه من قبل مفرقًا:
أن التشبيه غالب ما تراه يكون في ثلاثة أشياء:
1 - الشكل
2 - اللون
3 - الحجم
فقد يكون التشبيه في واحد منها وقد يكون في اثنين وقد يكون في ثلاثتها، فالذي ذكره الإمام الشنتمري -رحمه الله- من عِظَمها وسوادها هو الحجم واللون، والذي ذكرتُه من الاستدارة هو الشكل، وقد اجتمعت كلها في تشبيه القدور بالقباب السود.
وقد يكون التشبيه في غير هذه الأشياء، فيكون تشبيه ريح بريح أو صوت بصوت أو ملمس بملمس أو غير ذلك.
ونعود إلى حديثنا -وأنا أتكلم عن أبيات مسكين بشيء من التفصيل لأنها من أبيات الحماسة أيضا فهي داخلة في العنوان (دفائن الحماسة)- فنقول:
(قباب الترك) جعلها المحققان في ديوانه: (قيان الترك)، وقالا: "في ديوان المعاني: (قباب البرك ملبسة الجلال)، وفي الأصل: (قباب)، وكلاهما تصحيف، ولعل الصواب ما أثبتناه".
ولا أدري من أين جاءا بالقيان، وهو شيء من كيسهما، وهو باطل لا يصح، والذي في الأصل: (قباب)، والذي في «ديوان المعاني»: (قباب)، والذي في روايات الحماسة التي رأيتها كلها: (قباب)، وكذلك في «التذكرة الحمدونية» وفي «الحلل» للبطليوسي وفي «خزانة الأدب»، وليس فقط في «ديوان المعاني» والأصل كما يُفهَم من كلامهما، والأصل الذي نقلا القصيدة منه هو مخطوطة «الموفقيات» للزبير بن بكار.
على أن في نفسي شيئا من (قباب)، ولكن ليس صوابها (قيان) كما زعما، وإنما أخشى أنه أراد تشبيهها بالخيل لا بالقِباب، كما في قول عمرو بن أحمر في صفة القدور وقد شبهها بالخيل:
إذا ركدت حول البيوت كأنما * ترى الآل يجري عن قنابل صُيَّم
وقد شرحنا هذا البيت من قبل في حديث (التشبيه المعكوس)، وبيّنّا وجه الشبه بين القدور والخيل، ووجدتُّ في الموسوعة الشعرية بيتًا يشبهه أيضا، وهو قول حسان بن ثابت:
إِذا اِغبَرَّ آفاقُ السَماءِ وَأَمحَلَت * كَأَنَّ عَلَيها ثَوبَ عَصبٍ مُسَهَّما
حَسِبتَ قُدورَ الصادِ حَولَ بُيوتِنا * قَنابِلَ دُهماً في المَحَلَّةِ صُيَّما
والذي يقوّي هذا الشك قول مسكين الدارمي (مُلبَسَةَ الجِلالِ)، فكأنه يصف خيلًا، والـجِلال قد يأتي بمعنى الغطاء لكل شيء، فيصلح بهذا المعنى أن يكون للقباب، ولكن الجِلال أيضًا جمع جُلّ، قال في اللسان: "جُلُّ الدابّة وجَلّها: الذي (تُلبَسُهُ) لتُصانَ به...والجمع جِلالٌ وأجلال"، فقول مسكين (مُلبَسَة) يقرّب أن يكون أراد خيلًا أُلبِسَت الجِلال، فيكون البيت مثلًا:
(جِيادُ التركِ مُلبَسَةَ الجِلالِ)
كما قال عدي بن زيد:
والأَباريقُ عليها فُدُمٌ * وجِيادُ الخَيلِ تَجري في الجِلالِ
ويكون شبّه قدور قومه التي حول بيوتهم بالجياد في مرآها للناظر من بعيد إليها كما شرحنا في بيت عمرو بن أحمر وحسان بن ثابت وزاد إلباسها الجِلال ليدلّ على سواد القدور، ولا يبعد رسم (القباب) من (الجياد) وإن توهمت الآن تباعدهما، فليست الخطوط القديمة كهذا الذي تراه، وما أحرى لفظة (جياد) إن كُتبت كما كانت تُكتب في ذلك الزمان بأن تلتبس بلفظة (قباب).
فالحاصل أني أخشى أنه تحريف قديم، ولستُ الآن على يقين من ذلك، وأما (قيان) التي اقترحها المحقّقان فلا يُلتَفَت إليها.
وأما البيت الثاني فدل على سواد الأثافي لقوله: (كأثباج الرئال)، والرئال جمع رأل، وهو فرخ النعام، وثبج كل شيء وسطه، فثَبَج الرأل هو جسمه كله ما خلا رجليه وعنقه ورأسه، فترى ثَبَجَه مُلملَمًا مجتمعًا مدوَّرًا، ولونه أورق -وهو ما يُسمَّى اليوم بالرمادي- يضرب إلى السواد.
فشبه الأثفية بثبج الرأل في ثلاثة أشياء، في:
1 - شكله واستدارته
2 - وفي لونه الذي يضرب إلى السواد
3 - وفي حجمه، فإن ثبج الرأل ليس صغيرًا، والأثفية التي تكون بمقدار ثبج الرأل أثفية كبيرة حقًّا، وهو يريد أن يصف القدور والأثافي بالعِظَم.
وهذا أيضًا غيره المحققان فجعلاه (كأثباج الرمال) ولم يقيما على ذلك بيّنة، قالا في الهامش: "في الأصل: (أثباج الرئال)، ولعل صوابه ما أثبتناه".
فأما ثبج الرمل فهو وسطه ومعظمه، أي وسط الكثيب ومعظمه، وهو لا يشبه الأثفية في الشكل ولا في اللون، وأما في الحجم أي العِظَم والمقدار فيجوز أن يكون شبهها بها على إرادة المبالغة والإغراق، وليست بأشنع من قول زياد الأعجم أو غيره:
وبوأتُ قدري للورى فوضعتُها * برابية من بين ميثٍ وأجرعِ
جعلتُ لها هضب الرِّجام وطخفةً * وغولًا أثافي دونها لم تُنزَّع
بقدرٍ كأن الليل شحنة قعرها * ترى الفيل فيها طافيًا لم يُقَطَّعِ
يُعجَّل للأضياف واري سديفها * ومن يأتها من سائر الناس يشبعِ
وهذا إغراق فاحش في المبالغة، فزعم أن قدره تشبع الناس كلهم، وأنها تسع الفيل فيطفو فيها من غير أن يُقطَّع، وأدهى من ذلك وهو الذي يعنينا زعمه أنه جعل هضب الرجام وطخفة وغولا أثافي لقدره، وهذه أسماء جبال بينها مسافات، فزعم أنه جعلها أثافي لقدره!!
لكني أرى أن (الرئال) هو الصواب، لثلاثة أمور هي:
1 - ما ذكرنا من أوجه الشبه الثلاثة بين الأثفية وثبج الرأل، وليس لثبج الرمل هذه الأوجه من الشبه كما ذكرنا.
2 - لأن (الرئال) هو الذي في الأصل وأما (الرمال) فمن عند المحقّقَين.
3 - لقول الشاعر نفسه في قصيدة أخرى دالية:
قدور ابن حرب كالجوابي وتحتها * أثافٍ كأمثال الرئال ركودُ
ومعلوم أن المقصود تشبيهها بأثباج الرئال وإن لم يعيّن ذلك وأن الرجلين والعنق والرأس غير مقصودة في التشبيه، ولا يسوغ في هذا البيت أن يقال: (أثافٍ كأمثال الرمال)، وقد أثبتها المحققان في القصيدة الدالية كما هي ولم يغيراها كما صنعا في القصيدة اللامية.
4 - لأن العرب تشبه القدر نفسَها بحيزوم النعامة أو ثبجِها، وهو كثير في شعرهم، قال الجاحظ في الحيوان: "والشعراء يشبّهون القدر الضخمة التي تكون بمنزل العظيم وأشباهه من الأجواد بالنعامة"، ثم أنشد بيتًا للفرزدق، وهو من أبيات الحماسة يصف قدرًا:
بعثتُ له دهماءَ ليست بلقحة * تدر إذا ما هب نحسا عقيمها
غضوبًا كحَيزوم النعامة أُحمشَت * بأَجذال خُشْبٍ زال عنها هشيمُها
وحيزومها هو صدرها والمراد بذلك ثبجها.
فكما شبه هؤلاء الشعراءُ القدرَ بثبج النعامة شبه مسكينٌ الأثفيّةَ التي هي أصغر من القدر بثبج الرأل الذي هو فرخ النعامة.
وكما شبه الفرزدق القدر بحيزوم النعامة الكبيرة في:
1 - استدارته
2 - ولونه، وحيزوم النعامة الكبيرة شديد السواد، وكذلك تكون القدر إذا كثر الطبخ فيها.
كذلك شبه مسكين الأثفية بثبج الرأل الذي هو فرخ النعامة في:
1 - استدراته
2 - ولونه
وأما الوجه الثالث من أوجه الشبه وهو الحجم فإن كلًّا منهما جعل التشبيه مبنيًّا على ما يناسبه، فلما كانت القدر أكبر من الأثفية شبهها الفرزدق في حجمها بثبج النعامة الكبيرة، ولما كانت الأثفية أصغر من القدر شبهها مسكين في حجمها بثبج الرأل وهو فرخ النعامة.
وقد تكون القدر أصغر من التي سبق وصفها فيشبهونها بالرأل، قال تميم بن أبي:
ولا تزالُ لهم قِدرٌ مُغَطغِطَةٌ * كالرَّأل تعجيلُها الأعجازُ والقَمَعُ
وليست هذه بصغيرة على الحقيقة، وإن قدرًا في مثل مقدار الرأل الذي كبر قليلا لتشبع الجماعة من الناس.
وأما بيت مسكين الثالث ففيه وصف ثياب الطباخين أو الموقدين أو الموفدين بالسواد لأنه شبههم بجمال طُليت بزفت وقطران، والزفت والقطران كلاهما أسود.
وأما بيت مسكين الرابع -وهو الذي سقنا الأبيات من أجله- ففيه وصف المغارف بالسواد لأنه شبهها بالدوالي الـمُقيَّرة، أي المطليّة بالقار، والقار أسود أيضا، والدوالي جمع دالية وهي شيء يتخذ من خُوص وخشب يُستقَى بها بحبال تشد بها في رأس جذع طويل، فشبه مغارفهم في عظمها بهذه الدوالي التي يُستَقَى بها ويُغرَف بها الماءُ من الأنهار ونحوها.
قال المرزوقي: "وجعل (المغارفَ سودًا) لما عَلِقَ بها في الممارسة من سواد القدور والنار، ومن زهومة اللحم والشحم".
فانظر إلى قوله: (المغارفَ سودًا)، وإلى قول مسكين:
بأيديهم (مغارفُ) من حديد * أشبهها (مُقَيَّرةَ) الدوالي
وإلى الذي اقترحناه من أن يكون ذاك الموضع من البيت الأول المشكل هكذا: (سُودٌ مغارفُنا)، وشعر العرب يفسر بعضه بعضا، وقد استعنا ببيت مسكين الرابع على معرفة الصواب في البيت المشكل للمرقش الأكبر أو لبشامة بن حزن، كما استعنا ببيت الفرزدق على معرفة الصواب في بيت مسكين الثاني.
فإن قيل: أين الفخر في سواد مغارفهم حتى يقول (سود مغارفنا
قلنا: إنما فخر به لأن المغارف هذه لا تسودّ إلا إذا طال دنوّها من النار وملامستها لظاهر القدر وباطنها فإن كليهما أسود، وإذا طال الغرف بها منها، فهذا كناية عن كثرة طبخهم ومعالجتهم للقدور وما فيها، كما يقال: فلان كثير رماد القدر، لأنه لا يكثر رماد القدر إلا على طول الطبخ والإيقاد.
وإذا كانوا سبّوا ببياض القدر كما أنشدنا من قول أبي نواس في هجاء الرقاشيين، ومدحوا بسواد القدر كما في قول النابغة، وافتخروا بسواد القدر كما في قول الفرزدق وغيره، فكذلك يفتخرون بسواد المغارف، لأن السبيل في ذلك واحدة، وسواد المغارف يدل على كثرة القِرى كما يدل عليه سواد القدور، ولو لم يكن دالًّا على كثرة القِرَى ما مدح به مسكين الدارمي قومه، فتراه قد مدحهم بعظم مغارفهم وسوادها، ومدحه لقومه بذلك هو افتخار بهم على الحقيقة، فكذلك فَخرُ صاحبِنا بسواد مغارف قومه في قوله (سُودٌ مغارفُنا).
ولا تقل كيف ينتقل الشاعر من قوله:
6 - إِنّا لنُرخِصُ يَومَ الرَّوعِ أَنفُسَنا * ولو نُسامُ بِها في الأَمنِ أُغلِينا
إلى أن يقول:
7 - سُودٌ مغارِفُنا تَغلي مَراجِلُنا * نَأسو بِأَموالِنا آثارَ أَيدينا
فما أقبح موقع (سود مغارفنا) بعد البيت الذي فيه إرخاص أنفسهم في القتال وإغلائهم إياها في الأمن.
لا تقل هذا لأن الظاهر أن البيتين ملفقان من قصيدتين وليسا من قصيدة واحدة أصلًا، وقد نقلنا من قبل كلام البغدادي في الخزانة، وإنما جاءت الأبيات في روايات الحماسة ملفقة من شعرين، أحدهما للمرقش الأكبر وهو الذي رواه ابن الأعرابي في نوادره ورواه عنه ابن حبيب وأدخله في المفضليات والآخر لبشامة بن حزن أو غيره.
فكأن البيت السادس هذا من شعر بشامة والبيت السابع المشكل من شعر المرقش، وأبيات المرقش التي أنشدناها من المفضليات ليس فيها هذا البيت السادس، وإنما هي هكذا:
يا دار أجوارنا قومي فحيينا * وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ * يوماً سراة خيار الناس فادعينا
شعثٌ مقادمنا نهبى مراجلنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآميةٌ * وخير نادٍ رآه الناس نادينا
وإن كانت الأبيات كلها من قصيدة واحدة فينبغي أن يكون معها هذا البيت الأخير الذي فيه (المطعمون إذا ...)، وهذا البيت هو الذي يسوغ ذكر المغارف لذكر الإطعام فيه، ولعله كان في القصيدة أبيات أخرى من جنسه، وهذا البيت غير موجود هناك في الحماسة، فدل على أن الذي في الحماسة لم يحو القصيدة كلها، وأبو تمام لا يختار أبيات القصيدة كلها، فالمقصود أن الانتقال الذي كرهتَه بين البيتين السادس والسابع لم يقع في القصيدة هكذا، بل اختار أبو تمام أبياتا متفرقة فصار بعضها في موضعها نشازًا، كأنه منبت مما قبله.
وما دام قد وقع في الرواية (نُـهبَى مراجلنا) فإني أراها أحسن من (تغلي مراجلنا) وأوقع مع (سود مغارفنا)، وسأبيّن ذلك، والنُّهبَى اسم للشيء الذي يُنهَب، أي: يتناهب المساكينُ ما في مراجلهم.
وأنا أحسب أن البيت الرابع من هذه قبل الثالث منها، فتكون هكذا:
المطعمون إذا هبت شآميةً * وخير نادٍ رآه الناس نادينا
سُودٌ مغارفُنا نُـهبَى مَراجلُنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وقد يكون سقط من هذه القصيدة أبيات بعد البيتين الأولين، وأحسب أنها قصيدة طويلة لم يبق منها إلا هذا.
واضطراب ترتيب الأبيات في القصائد القديمة كثير، وأوضح دليل عليه أنك تجد القصيدة الواحدة تروى في الموضعين المختلفين بترتيبين يختلف كل منهما عن صاحبه، فهل جاء الشاعر بهذا وهذا؟! بل هو اضطراب حصل في الرواية.
ولا تعجل علي وتقول: هذا يعبث بشعر العرب.
فإني لا أجزم بشيء من هذا، ولا أبني عليه فأغير شيئا مما أُثبت في الكتب، وإنما هو تأمل وتقدير ومقاربة وتفكير، فإن طاب لك فاركن إليه وإن لا فدعه ولا تعبأ به.
يُتبَع.

صالح العَمْري 15-05-2018 06:02 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 -
(ج)
المقطوعة رقم: 14
وإن أبيتَ إلا أن تعجل علي فإني أطلعك على ما تطمئن به نفسك، وهو موضع عجيب، يشبه ما نحن فيه من أوجه كثيرة، ففيه دليل على اضطراب ترتيب أبيات القصيدة الواحدة، وفيه صفة المغارف في القدور، وفيه انتقال البيت الذي فيه صفة المغارف إلى موضع يقبح فيه ذكره المغارف وذلك بعد وصف الحرب والقتال، وهذا من عجيب الاتفاق، فهلم نراه، قال الأفوه الأودي وهي في «الطرائف الأدبية» التي اختارها الإمام عبد القاهر الجرجاني وحققها الشيخ الميمني:
1 - وإذا عجاج الموت ثار وهلهلت * فيه الجياد إلى الجياد تسرّعُ
2 - بالدارعين كأنها عصب القطا الأسراب تمعج في العجاج وتمزع
3 - كنا فوارسها الذين إذا دعا * داعي الصباح به إليه نفزع
4 - كنا فوارس نجدة لكنها * رتب فبعض فوق بعض تشفع
5 - ولكل ساع سنة ممن مضى * تنمي به في سعيه أو تبدع
6 - (وكأنما فيها المذانبُ خِلفةً * وَذَمُ الدلاء على قليب تنزعُ)
7 - فينا لثعلبة بن عوف جفنة * يأوي إليها في الشتاء الجُوَّعُ
8 - ومذانبٌ ما تُستعار وجفنةٌ * سوداءُ عند نشيجها ما تُرفَعُ
9 - من كان يشتو والأرامل حوله * يُروي بآنية الصريف ويُشبعُ
10 - في كل يوم أنت تفقد منهم * طرفا وأي مخيلة لا تُقلعُ
هكذا جاءت في «الطرائف الأدبية» بهذا الترتيب الذي تراه، فانظر كيف كان الشاعر يصف الحرب والقتال ثم انظر كيف جاء البيت السادس بعدها غريبًا مقيتًا، لأن (المذانب) هي (المغارف) التي يُغتَرف بها من القدور، وقد شبهها بدلاء تنزع من قليب، فأي معنى لذكر المغارف هنا؟! وعلى أي شيء يعود الضمير من (فيها)؟! فانظر إليه كيف جاء منبتًّا منقطعا مما قبله غير مفهوم، وهذا يشبه كل الشبه ما وقع في بيت الحماسة لما جاءت (سُودٌ مَغارِفُنا) بعد (إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا)، وإنما سبب قبحها ونشوزها سقوط بعض الأبيات قبلها أو اختلاف الترتيب، فعد الآن إلى بيت الأفوه السادس ثم انقله وصيّره بين البيتين الثامن والتاسع، وانظر كيف يتسق الكلام ويطرد، فإنه يصير هكذا:
كنا فوارس نجدة لكنها * رتب فبعض فوق بعض تشفع
ولكل ساع سنة ممن مضى * تنمي به في سعيه أو تبدع
فينا لثعلبة بن عوف جفنةٌ * يأوي إليها في الشتاء الجُوَّعُ
ومذانبٌ ما تُستعار وجَفنَةٌ * سوداءُ عند نَشيجها ما تُرفَعُ
(وكأنما فيها المذانبُ خِلفةً * وَذَمُ الدلاء على قليب تُنزَع)
من كان يشتو والأرامل حوله * يُروي بآنية الصريف ويُشبعُ
وإذا تأملتَ هذا أدنى تأمل عرفتَ أنه كان مختلًّا وأن صوابه ما ذكرنا، فإنه بعد ما وصف القتال انتقل إلى وصف جودهم فقال: (فينا لثعلبة بن عوف جفنةٌ)، أي عندنا جفنة هي بقيّة من تراث ثعلبة بن عوف، كما قال النابغة:
بقية قدر من قدور تورثت * لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وكما قال الفرزدق:
وَرِثتُم عن الجارودِ قِدرًا وجَفنَةً * كثيرًا إِذا احمَرَّ الشِّتاءُ عِيالُها
ثم قال الأفوه: (ومذانبٌ)، وهي المغارف، وهو معطوف على (جفنةٌ)، أي: وعندنا مغارف من تراثه الأول، ثم قال: (وجفنةٌ)، وهذا أيضا معطوف عليها، والمقصود في هذا الموضع يجب أن يكون القدر جزمًا لا ريب فيه، لأمور منها:
1 - أنها ذكر الجفنة من قبل فلأي شيء يعيد ذكرها، وكيف يعطفها على نفسها باللفظ نفسه؟! وإنما يريد هنا القدر.
2 - أنه قال (سوداء) فوصفها بالسواد، وقد ذكرنا من قبل أنهم يصفون القدر بالسواد.
3 - أنه قال (عند نشيجها)، والجفنة لا تنشج وإنما الذي ينشج القدر، وأراد بنشيجها صوت القدر إذا غلت وجاشت، وقد أكثرت الشعراء من صفة أصوات القدور.
4 - أنه قال (ما تُرفَع)، أي: ما تُرفَع عن النار، فجعل القدر كأنها تنشج وتبكي إذا مسها حرّ النار فلا يأوون لها ولا يرحمونها ولا يرفعونها عن النار حتى ينضج ما فيها.
5 - أنه في البيت الذي بعده شبه المغارف التي تنزع منها بدلاء تنزع من بئر، والمغارف لا تنزع من الجفنة فيسوغ أن تُشبّه بالدلاء التي تنزع من البئر، بل المغارف تنزع من القدر وتُفرغ في الجفنة.
فالشاعر يريد في هذا الموضع القدر يقينا قاطعًا.
ولكن قد يقال: نعلم أنه يريد القدر، ولكن لعل القدر تسمّى جفنة، فهذا ما أراد.
وأنا قد بحثتُ في ما تيسّر من كتب اللغة فلم أجد أن القدر تسمّى جفنة، وإني لأحسب أن صوابها: (جَونَةٌ)، والجونة هي السوداء، وأنت ترى أنه وصفها بعد هذه اللفظة مباشرة بأنها (سوداء)، وذكرنا من قبل أن القدور توصف بالسواد، والقدر توصف في شعر العرب بأنها (جَونَة)، قال حميد بن ثور في صفة طلل:
فَتَغيَّرَت إِلا مَلاعبَها * ومُعَرَّسًا مِن (جَونَةٍ) ظَهرِ
أي: بقي من الطلل معرَّس الجونة، فالجونة هي القدر، ومعرَّسها هو الشيء الذي كانت عليه وهو الأثافي، فيقول: بقي من الطلل الأثافي.
ولعل: الذي قرأ شعر الأفوه غرّته لفظة (جَفنَةٌ) في البيت الذي قبله فقرأ هذه مثلها، وصوابها إن شاء الله: (جَونَةٌ)، وهما متشابهتان جدًّا في الرسم.
فعطف الأفوه على الجفنة والمذانب وقال: وفينا (جَونةٌ سوداءُ) من تراث ثعلبة. يريد بها القدر، ثم وصف نشيجها وأنها لا تُرفع عن النار، ثم شبه المذانب وهي تنزع من هذه القدر بالدلاء تنزع من البئر.
فخذ الآن هذا البيت الذي فيه تشبيه المغارف وهي تنزع من القدر بالدلاء وهي تنزع من البئر وردّه إلى موضعه الذي وقع فيه في شعر الأفوه الأودي بتحقيق الميمني، وانظر إليه، فإن كنتَ بعد هذا البيان تشك في اضطراب الترتيب الذي وقع في شعر الأفوه في كتاب «الطرائف الأدبية» فإني لا أستطيع أن أقنعك بشيء، وأسأل الله لي ولك التوفيق، وإن كنتَ تصدّق أنه قد اضطرب وأن البيت الذي فيه صفة المغارف قد انتقل خطأ إلى موضع أصبح فيه غريبًا كريهًا غامضًا فكذلك البيت الذي فيه (سُودٌ مَغارِفُنا) قد صار في روايات الحماسة إلى موضع أصبح فيه ذكر المغارف هُجنةً وقبحًا، ولو رُدّ إلى موضعه لاستبان جماله.
وقد رأيتَ كيف استقام الكلام واستتب في شعر الأفوه لما رددنا البيت إلى حاقّ موضعه، فهل أنت بعد هذا لائمي في ما زعمتُه من أن قوله:
سُودٌ مغارفُنا نُـهبَى مَراجلُنا * نأسو بأموالنا آثار أيدينا
ينبغي أن يكون بعد قوله:
المطعمون إذا هبت شآميةً * وخير نادٍ رآه الناس نادينا
وأنه ينبغي أن يكونا هكذا لا كما جاء ترتيبهما في المفضليات.
فنعود الآن إلى هذين البيتين لبيانهما:
(المطعمون إذا هبت شآميةً) * (وخير نادٍ رآه الناس نادينا)
(سُودٌ مغارفُنا نُـهبَى مَراجلُنا) * (نأسو بأموالنا آثارَ أيدينا)
فاجمع الصور في أربعة الأشطار هذه وتأملها.
فأما (المطعمون إذا هبت شآميةً) فالمراد به الإطعام في وقت الشتاء إذا هبت الريح شآميةً وهي ريح الشمال الباردة، والشتاء هو وقت الجدب والشدة. وبعض الناس لا يفهم من هذا الإطعام إلا أن الرجل يأتيه الضيف يطرقه في بيته فيبذل له القرى في بيته، وليس هذا المراد هنا، بل المراد به الميسِر، وما أكثر ما تفتخر به العرب في الجود والسماحة، وأكثر ما يكون ذلك إذا ذكروا الشتاء.
وذلك أن الأجواد إذا أجدب الناس وعمّ الجوع خرجوا إلى ناديهم فضربوا بالقداح على جَزور -وهي الناقة التي تُجزَر- ثم جعلوا لحمها للفقراء والضعفاء، وستفهم معنى هذا إن شاء الله، ومعرفة طالب الأدب لهذا مهمة جدًّا، فإن كثيرًا مما يجيء في الشعر لا يكاد يفهم منه أحد من أهل زماننا إلا الضيافة المألوفة، وهي أن ينزل ضيف ببيت الرجل فيقريه مما حضر أو يذبح له من غنمه، وكثير مما في شعر العرب لا يُراد به هذا، وإنما يُراد به الميسر الذي سنصفه، وسأختصره فافهمه لتفهم كثيرًا مما في شعر العرب.
وأنا ناقل من كلام الإمام ابن قتيبة في كتاب «الميسر والقداح» بعض ما يتضح به ذلك، قال رحمه الله في قول الله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}، قال ابن قتيبة: "وأما نفع الميسر فإن العرب كانوا في الشتاء عند شدة البرد وجدب الزمان وتعذر الأقوات على أهل الضر والمسكنة يتقامرون بالقداح على الإبل، ثم يجعلون لحومها لذوي الحاجة منهم والفقراء، فإذا فعلوا ذلك اعتدلت أحوال الناس وأخصبوا، وعاشوا واستراشوا، قال الأعشى يمدح قومًا:
المطعمو الضيف إذا ما شتوا * والجاعلو القوت على الياسر
أي يجعلون أقوات الفقراء منهم على الياسرين بالقداح، وهم أهل الثروة وذوو الجدة والأجواد، وكانوا يمدحون بأخذ القداح، ويسبّون بتركها، ويسمّون الموسر الذي لا يدخل معهم في الميسر ولا يتحمل الغرم لصلاح أحوال الناس: البَرَم، قال متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا:
ولا برما تهدي النساء لعرسه * إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
وجمعه أبرام، وإذا كان الرجل بَرَمًا -لا يدخل معهم في القداح - لم يدخل اللحم بيته إلا بأن يُهديه نساء الحي إلى امرأته
".
قلتُ: وانظر إلى الشبه بين قول الأعشى: (المطعمو الضيف إذا ما شتوا)، وهو في الميسر كما ذكر ابن قتيبة وكما دلّ عليه عجزه، وبين قول المرقش الأكبر: (المطعمون إذا هبّت شآمية)، فإن هذا يشعرك أن بيت المرقش أيضًا في صفة الميسر، فهذا أول شيء يطالعك وتستأنس به، وإلا فجميع ما في بيتي المرقش يؤكد أنه يصف الميسر، وكما يتشابه شعر العرب في المعاني يتشابه كثيرًا في الألفاظ والتراكيب، كما تشابه هذان الشطران للأعشى والمرقش الأكبر، والرجلان كلاهما من بني بكر بن وائل.
وندع هذا فنقول:
القِداح - لتفهم كلامه - هي أعواد النبل أو صغار النبل ليس عليها نصال ولا ريش، وهي عشرة قِداح، سبعة منها لها حظوظ، وستفهم معنى الحظوظ، وثلاثة لا حظوظ لها، فأما السبعة ذوات الحظوظ فيأخذها سبعة من القوم يأخذ كل واحد منهم واحدًا منها، أو يأخذ الواحد منهم اثنين أو ثلاثة، والمقصود أنها تقسم كلها، ويضعونها في خريطة واسعة لها فم ضيق، ويضعون الثلاثة التي لا حظوظ لها معها، وستفهم سبب ذلك أيضا، ثم يجلجلون بالخريطة ويدفعونها فيخرج من فمها واحد من القداح، فمن خرج قدحه فاز وغنم، ومعنى فوزه وغنمه أنه يأخذ حظا من الناقة التي جزروها أو حظين أو ثلاثة أو غير ذلك بحسب حظ قدحه ولا يدفع ثمن هذا الذي يأخذه من الناقة بل يغرمه الخاسر من أصحابه، وهذا الفائز لا يأخذ اللحم ليأكله وإنما يطبخه للضعفاء والمساكين، فلذلك تفخر العرب كثيرًا بالميسر لما فيه من إطعام الضعفة والـهُلّاك، فهذا اختصاره الشديد، وسأزيده إيضاحا بغير تطويل.
فدونك مختصرًا من كلام ابن قتيبة لا أنقله بنصه وإنما بمعناه وأكثره من لفظه، قال في ذكر القداح التي لها حظوظ وهي سبعة:
للفذ نصيب، وللتوأم نصيبان، وللرقيب ثلاثة أنصباء، وللحلس أربعة أنصباء، وللنافس خمسة أنصباء، وللمسبل ستة أنصباء، وللمعلى سبعة أنصباء.
وعلى كل قدح منها علامة تدل عليه وعلى حظه، فعلى الفذ فرض، أي حَزّ وقطع يكون علامة له، وعلى التوأم فرضان، وعلى الرقيب ثلاثة فروض، وهكذا.
وكانوا يأخذون هذه السبعة على قدر أحوالهم، فآخذ الفذّ منها لا يكثر غرمه ولا غنمه، لأنه إن فاز أخذ حظا واحدًا من أجزاء الـجَزُور -وهي الناقة التي تُجزَر- وإن خاب غرم حظًّا واحدًا. ثم يتلوه صاحب التوأم إن فاز أخذ حظين وإن خاب غرم حظين، وهكذا.
وأما الثلاثة التي لا حظوظ لها فليس عليها علامات، ولذلك تسمى الأغفال، والغُفل من الدواب هو الذي لا سمة له.
وإنما تُجعَل هذه الثلاثة مع تلك السبعة ليكثر بها العدد وتؤمن بها حيلة الضارب الذي يجلجل الخريطة وستعرف خبره بعد قليل.
فكانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا ناقة بثمن مسمّى يضمنونه لصاحبها، ولم يدفعوا ثمنها حتى يضربوا بالقداح عليها فيعلموا على من يجب الثمن، ثم ينحرون الناقة قبل أن ييسروا، فيقسمونها عشرة أقسام، ثم ييسرون أي يفيضون بالقداح، فإذا أرادوا أن يفيضوا بالقداح أحضروها وأحضروا رجلا يضرب بها بينهم، وهو الضارب الذي ذكرنا قبل قليل، فإذا أحضروه شدوا عينيه لئلا يرى القداح، ثم عصبوا على يديه بثوب لئلا يفهم علامات القداح إن كان له هوى في فوز بعضهم، لأن القداح عليها حزوز كما ذكرنا، فيستطيع بجس يده ولو لم يرها أن يعرف القدح الذي فيه حَزٌّ واحد وهو الفذّ، والذي فيه حزّان وهو التوأم وهكذا، فأرادوا أن يأمنوا من ذلك، ثم يعطونه خريطة واسعة ذات فم ضيق لا يخرج منه إلا قدح واحد، وهذه الخريطة يسمونها الربابة، وتكون القداح كلها العشرة في هذه الربابة، ثم يُقعدون خلف ظهر الضارب رقيبا يتأمل حركة يديه وصنيعه لئلا يكون منه خيانة واحتيال، ثم يقولون للضارب: جلجل. فيجلجل بالقداح في تلك الخريطة مرتين أو ثلاثا، أي يحركها حتى تختلط القداح، لئلا يعرف أماكنها في الخريطة فيتوصل بذلك إلى خيانة، ثم يدفع بالربابة دفعة قوية فيخرج من فمها الضيق قدح واحد، فيقوم الرقيب إليه يأخذه وينظر إليه، فإن كان من الثلاثة الأغفال التي لا حظوظ لها ردّه إلى الربابة، ويكون ذلك لغوًا لا غرم فيه على أحد ولا غنم، ثم يقولون للضارب: أعد الجلجلة والإفاضة، وإن كان من السبعة ذوات الحظوظ دفعه إلى صاحبه وقال له: قم فاعتزل. فيأخذ قدحه ويثبت له حظه من الجزور ويعتزل، ويكون صاحب هذا القدح قد غنم على قدر حظ قدحه. فإذا اعتزل صاحب القدح قال الرقيب للضارب: أعد الجلجلة والإفاضة. فيعيدها وهكذا حتى تؤخذ أجزاء الجزور العشرة.
فإن كان الذي خرج في المرة الأولى مثلا هو الفذ -وله حظ واحد- أخذه صاحبه وصار له جزء من أجزاء الجزور وسلم من الغُرم واعتزل القوم، وبقي تسعة أجزاء من الجزور، ثم يعيدون الجلجلة والإفاضة، فإن خرج التوأم مثلا -وله حظان- أخذه صاحبه وصار له جزءان من الجزور وسلم من الغرم واعتزل القوم، وبقي سبعة أجزاء من الجزور، ثم يعيدون الجلجلة والإفاضة، فإن خرج الرقيب مثلا -وله ثلاثة حظوظ- أخذه صاحبه وصار له ثلاثة أجزاء من الجزور وسلم من الغرم واعتزل القوم، وبقي أربعة أجزاء، ثم يعيدون الإفاضة، حتى تنتهي أجزاء الجزور.
فإن كان الذي خرج في المرة الأولى الحلس مثلا -وله أربعة حظوظ- ثم خرج في المرة الثانية المسبل -وله ستة حظوظ- فقد ذهبت أجزاء الجزور العشرة، فيقطعون الإفاضة وينتهي الميسر، ويغرم ثمنَ الناقة أصحابُـهم الخمسة، وهم صاحب الفذ وصاحب التوأم وصاحب الرقيب وصاحب النافس وصاحب المعلى، فأما هذان الفائزان فإنهما لا يأخذان هذا اللحم ليأكلاه، ولو كان كذلك لكان قمارا محضا لا خير فيه ولا نفع، وليس الميسر كذلك، بل الميسر فيه منافع كما في الآية الكريمة، وذلك أن هذين الفائزين يطعمان الفقراء والمساكين والضيفان لحم هذه الناقة، فهذه هي منافع الميسر، وأما الخمسة الغارمون فيقسمون ثمن الناقة على 18 ويحتمل كل واحد منهم بقدر حظ قدحه، وذلك أن الحظوظ كلها 28، لأن:
1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7 = 28
فإذا كان الحلس -وله أربعة حظوظ- والمسبل -وله ستة حظوظ- قد خرجا من الحساب بعشرة الحظوظ التي معهما، فإنه يبقى مع الآخرين 18، لأن:
1 + 2 + 3 + 5 + 7 = 18
وهي عدد الحظوظ التي مع الخمسة الغارمين، فيقسمون ثمن الناقة على 18، فلو كان ثمنها مثلا 1800 درهم، فإنهم يقسمونه على 18 ويكون كل جزء منها 100 درهم، فيغرم كل امرئ منهم بقدر قدحه، فأما الفذ الذي في قدحه علامة واحدة فيغرم جزءا واحدًا وهو 100 درهم، وأما التوأم الذي له حظان فيغرم جزأين وذلك 200 درهم، وهكذا، ويغرم صاحب المعلَّى الذي له سبعة حظوظ سبعة أجزاء وذلك 700 درهم، ويكون مجموعها هكذا:
100 + 200 + 300 + 500 + 700 = 1800 درهم

فإن خرج في المرة الأولى النافس مثلا وله خمسة حظوظ ثم خرج المعلى وله سبعة حظوظ، صار ذلك اثني عشر حظا، والجزور عشرة أجزاء فقط، فيأخذ صاحب المعلَّى سبعة أجزاء، وهذا هو الذي يُراد بقول الناس: فلان له القِدح المعَلَّى، لأنه أكثر القداح حظا، ويأخذ صاحب النافس ثلاثة أجزاء، ويبقى له جزآن لم يحصلهما، فيغرم الخاسرون ثمن جزئين من أجزاء الناقة يؤدونه إلى صاحب النافس إضافة إلى ما يغرمونه من ثمن الناقة الأولى التي ضربوا بالقداح عليها.
فهذا هو حاصل الميسر الذي تفتخر به العرب في أشعارها، وإنما شرحناه لعظم فائدته في فهم شعر العرب عامة ولأن البيت الذي فيه (سُودٌ مَغارِفُنا) أراد به صاحبه الميسر.
فإذا انتهى ميسرهم وحُصّلت أجزاء الجزور أوقدوا نيرانهم ونصبوا قدورهم واجتمع عليهم الـهُلّاك والضعفة وذوو الضر والأرامل والأيتام والأضياف والجيران وغيرهم، فيبيتون يطبخون ويَقرون حتى يخصب الناس، وقد ذكر ابن قتيبة أن الميسر أكثر ما يكون في الليل.
فإذا فهمتَ هذا من قوله: (المطعمون إذا هبّت شآميةً) فافهم ما في قوله: (وخير نادٍ رآه الناس نادينا) وذلك أنهم قد اجتمعوا في ناديهم وبرزوا للمعتفين ورحبوا بهم وأدنوهم إليهم ونحروا جزورهم ونصبوا قدورهم وأوقدوا عليها وقعدوا للناس يلاطفونهم ويمازحونهم حتى نضج ما في قدورهم ثم قاموا إليها يغرفون ما فيها بمغارفهم ويوزعونه على المحتاجين منهم ومساكينهم فيتناهبونه ويتقسّمونه، فتخيل الآن مقامهم عند قدورهم بمغارفهم يغرفون وقد أحاط بهم الأرامل والأيتام والضعفاء من كل ناحية وهم يغرفون بمغارفهم التي اسودت من طول الغَرف بها على الأيام ويُلقونه ذات اليمين وذات الشمال للمتناهبين.
فإذا تصورت ما في هذين الشطرين فانظر إلى حسن موقع (سُودٌ مغارفنا نُـهبَى مراجلنا) بعدهما، وانظر إلى موقع (شُعثٌ مَقادِمُنا) و(بِيضٌ مَعارِفُنا) و(بِيضٌ مَفارِقُنا).
وإذا كانت مراجلهم نُـهبَى وكان المساكين يتناهبون ما فيها فكيف تظنهم يتناهبونه؟ أتُراهم يدخلون أيديهم في القدور الحارة ويأكلون منها أم يكون ذلك بالمغارف؟ وإذا كان ذلك بالمغارف أترى أن هذا الجواد صاحب الميسر يعطيهم المغارف ويقول اغرفوا بها أم يكون هو الذي يغرف لهم ويخدمهم ويقسمه بينهم؟ لا شك أنه يغرف لهم بنفسه هذا الطعام الذي يتناهبونه، فإذا كان كذلك فإنك لن تجد مع قوله (نُهبَى مراجلُنا) شيئا أحسن ولا أوفق ولا أليق من (سُودٌ مَغارِفُنا)، والمغارف أحقّ شيء بالذكر في هذا الموضع مع تناهب ما في المراجل، لأن تناهب المراجل المذكور لا يكون إلا مما تخرجه هذه المغارف، فهؤلاء يغرفون بمغارفهم السود وهؤلاء يتناهبون، وأما (المفارق) و(المعارف) و(المقادم) فأرى ذكرها هنا مقتًا لا خير فيه.
فإذا أبصرتَ ما في ثلاثة الأشطار التي فسرناها فإن الشطر الرابع وهو قوله (نأسو بأموالنا آثار أيدينا) متمم لها وجزء منها، وليس كما فسره به من شرحوا الحماسة، فإني رأيتُ الشروح التي وقفتُ عليها مجمعة على أن معنى (نأسو) هنا: نصلح ونداوي، وأن معنى البيت كله: أننا إذا أصبنا في قوم دمًا لم يطمعوا في القود والاقتصاص منا لعزتنا ومنعتنا بل نعطيهم الدية في ذلك من أموالنا.
وهذا معنى جيد في ذاته، ولكنه لا يصلح في هذا الموضع الذي هو في صفة الميسر، وليس لذكر الديات هنا مدخل ولا مسوغ.
وعندي تفسيران لهذا يناسبان موضع هذا الشطر وما وصفناه من أمر الميسر.
فأما الأول فمبني على أن (نأسو) هنا معناه نصلح ونداوي، ويكون المقصود بالأموال أثمان الجزور التي غرموها في الميسر، والمقصود أنهم يصلحون بما يبذلونه في الميسر ما كان قبله من آثار أيديهم في من يكون بينهم وبينه شر وخلاف، وقد يكون الشر بينهم وبين بعض أبناء حيهم وما أكثر ذلك في أحياء العرب، وقد يكون بينهم وبين غيرهم من الأحياء المجاورة لهم، فربما جاء إلى الجزور في هذا الجدب والشدة صبيانُ خصمِهم وأيتامُهم ونسوتُهم وضعفتُهم فيعطونهم ويحسنون إليهم ويمحون بذلك ما كان من آثار أيديهم إن كانوا أصابوا دمًا في خصمهم أو نالوه بجراحة أو نحو ذلك.
وهذا أضعف التفسيرين على أنه أجود في هذا الموضع مما قاله شارحو الحماسة.
وقد يقال هنا:
إذا كان الأمر على ما وصفتَ من شأن الميسر فينبغي أن يكون الشاعر إما غانما وإما غارما، فإن كان غانمًا وأصاب ما أصاب من لحم الجزور وطبخه للناس فإنه حينئذ لم يدفع مالًا لأن الغرم صار على غيره، فكيف يقول (نأسو بأموالنا) وهو لم يدفع شيئا من ثمنها؟ وإن كان غرم فقد دفع المال ولم يحصل له شيء من الجزور فكيف يفتخر بأنه بات يطبخ ويغرف من مرجله للمعتفين؟ فليس يجتمع للرجل -على ما جاء في صفة الميسر- الأمران أن يأخذ حظا من الجزور وأن يدفع مالًا فيها، فكيف يقول: (سود مغارفنا نهبى مراجلنا) ثم يقول: (نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وهذا اعتراض جيد، وجوابه:
أن الشاعر لم يتكلم عن نفسه ولم يقل أنا أطبخ للضيفان وأدفع ثمن الجزور، وإنما يتكلم عن فعله وفعل من معه ويفتخر بفعلهم كلهم، وهؤلاء الذين معه ليسوا أعداء أو غرباء بل هم من أصدقائه ومن ذويه ومن خاصته ومن أقربائه وجميعهم في الغالب من قومه، وقد مشى هو إليهم ومشى بعضهم إلى بعض وتشاوروا واتفقوا على أمر الميسر ليُنعشوا به الهلاك، فهو يفتخر بفعلهم كلهم لا بفعله وحده، بل قد ييسر من ييسر منهم في بعض الأوقات ولا يكون هو معهم، فالرجل يفخر بقومه لا بنفسه، ألا تراه يقول: (المطعمون إذا ...) ولم يقل: (أنا المطعم)، فإذا كان الأمر كذلك فإن هؤلاء الذين مشوا في أمر الميسر سواء أكانوا سبعة أم أقل من ذلك قد اجتمع في مجموعهم الأمران جميعًا، أعني طبخ اللحام في القدور ودفع ثمن الجزور، لأن بعضهم أخذ اللحمان وطبخ وأطعم وبعضهم غرم ثمنها، وهو يفخر بهم كلهم، وكلهم أرادوا خيرا وأصابوه سواء ظفرت قداحهم أو خابت، وتسمية خيبة قداحهم وحملهم ثمن الجزور غرما تجوز في الكلام، ولو كانوا هم يعدّونه غرما ويخافون منه ما دخلوا في الميسر أصلا وليسوا مجبرين عليه، بل لا يعدون أنفسهم خاسرين وإنما يفخرون بفعلهم هذا وأنهم حملوا ثمن الجزور التي أُنعش بها الضعفة والمساكين، فهو يفخر بهؤلاء كلهم لِـما انتدبوا إليه من هذا الأمر فمنهم من صارت له اللُّحمان وجشم عناء الطبخ ومنهم من حمل الثمن، وهذا قلته تنزلًا على اعتبار أن الغارمين لا يكونون مع الفائزين في الطبخ وتقسيم الطعام، وإلا فإن الغارمين الذين يحملون ثمن الجزور يكونون مع إخوانهم في طبخهم وعند قدورهم يعينونهم ويطبخون معهم ويغرفون للمعتفين، فهم جماعة أمرهم واحد ومقصدهم واحد وهو إطعام الفقراء والمساكين، فهم شركاء في طبخهم وفي إطعام ضيوفهم وفي أمرهم كله، وإنما الميسر شيء يشبه القرعة، فكأنهم قوم اتفقوا على إطعام الناس وقالوا نجعل قرعة من تكون عليه يحمل ثمن الجزور، فأمرهم واحد وقصدهم واحد وضيفهم واحد، وكلهم يرى نفسه قد أطعم وقرى حمل شيئا من ثمن الجزور أو لم يحمل.
ثم إن الذي يغرم اليوم قد يغنم غدًا ثم يغرم ثم يغنم، فمرة تكون من نصيبه اللُّحمان ومرة يحمل الأثمان، والشاعر يصف دأبهم وديدنهم هذا على السنين في كل مرة يُـمحل فيها الناس ويُسنِتون، فهم دائما يطبخون للمعتفين ويدفعون الأثمان على مر السنين، وليس يتكلم عن يوم واحد من الدهر غنم فيه هذا أو غرم فيه ذاك.
فهذا جواب الاعتراض.
وأما الوجه الثاني في البيت وهو أجودها في تقديري فقد بنيتُه على أن (نأسو) ليس معناها هنا نصلح، وهذا شيء لم أر أحدًا منهم ذكره، أعني تفسير (نأسو) خاصة، وأما تفسير الشطر كله فكلا التفسيرين اللذين اقترحتهما لم يذكرهما أحد في ما رأيت.
وإنما معنى (نأسو) هنا: نجعلها أُسوتها، أي نسوّيها بها، فلا يكون لواحدة منهما فضل على أختها.
قال في اللسان: "وَالْقَوْمُ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الأَمر أَي حالُهم فِيهِ وَاحِدَةٌ...ويقال: أَسَوْتُ فلاناً بفلان إِذَا جَعَلْته أُسْوته؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لأَبي مُوسَى: آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهك ومَجْلِسك وعَدْلِك، أَي سَوِّ بَينَهم واجْعل كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إسْوة خَصْمه".
فكأن الشاعر يقول: نأسو آثارَ أيدينا بآثار أموالنا، أي نسوّيها بها فلا يكون لها فضل عليها.
وقد عرفنا آثار أموالهم وهي ما يغرمونه في الميسر، فما آثار أيديهم؟
فأقول: آثار أيديهم هي ما ينحرونه هم من إبلهم لضيفانهم وغيرهم في الخصب وفي الجدب ويكون ذلك في كل حين، وأما الميسر فقد ذكر ابن قتيبة أنه لا يكون إلا في الجدب في الشتاء ولا يكون في الصيف.
فالمقصود بآثار أيديهم أن الرجل منهم له إبل هي ملك له دون غيره، وله بيت يغشاه الضيفان والمساكين يقصدونه هو دون غيره، فإذا غشي الرجل في بيته أحد من هؤلاء أو سمع صوت مستنبح حول بيته قام إلى إبله واعتام خيرها فعرقبها بسيفه ونحرها وقرى ضيفه منها، وشطر ما تراه من افتخارهم بالجود والقِرى يريدون به هذا وشطره يريدون به الميسر، وهذا الضرب الذي هو آثار أيديهم كثير جدًّا في الشعر، ومنه قول عمرو بن الأهتم:
ومُستَنبِحٍ بَعدَ الهُدوءِ دَعوتُهُ * وقَد حانَ مِن نَجم الشِّتاءِ خُفوقُ
يُعالِجُ عِرنينًا مِنَ الليلِ بارِدًا * تَلُفُّ رياحٌ ثَوبَهُ وَبُروقُ
أَضفتُ فَلم أُفحش عَلَيهِ ولم أَقُل * لِأَحرِمَه إِنَّ المَكانَ مَضيقُ
وقُمتُ إِلى البَركِ الهَواجِدِ فَاتَّقَت * مَقاحيدُ كُومٌ كالـمَجادِلِ رُوقُ
بِأَدماءَ مِرباعِ النِّتاجِ كَأَنَّها * إِذا عَرَضَت دونَ العِشارِ فَنيقُ
بِضَربَةِ ساقٍ أَو بِنَجلاءَ ثَرَّةٍ * لَها مِن أَمام الـمَنكِبَين فَتيقُ
إلى آخر أبياته، وأنت ترى أن هذا المستنبح الطارئ المفاجئ الذي قد يجيء بعد نوم الناس وهدأتهم لا يكاد يجتمع له الناس للميسر والضرب بالقداح، ومتى يشتري هؤلاء ناقة ومتى تتمّ عِدَّة هؤلاء الأيسار الذين يأخذون القداح ومتى ومتى؟ وليست هذه سبيل الميسر، وإنما الميسر قِرًى عام يُبذَل للناس في نادي القوم إذا عم الناسَ الجوعُ والضر، وأما هذه التي في أبيات عمرو بن الأهتم فضيافة خاصة، وإنما وصف الشاعر هذا النوع بقوله (آثار أيدينا) لأنه يقوم بنفسه إلى إبله فيعتام منها ثم يضربها بسيفه ضربة تعرقبها ثم يطعنها في منحرها طعنة نجلاء، ثم لا يدفع في ذلك مالًا ولا ثمنا لأحد لأن هذه إبله وهو المالك لها، وأما الميسر الذي وصفه بأنه (آثار أموالهم) فإن الرجل لا ينحر فيه من إبله وإنما يذهب الأيسار كما وصفنا فيشترون ناقة، وذكر ابن قتيبة أنهم يحضرون جازرًا يجزرها، فالرجل منهم حينئذ لا ينحر ولا يعرقب ولا يصنع شيئا من هذا وإنما يغرم مالًا يدفعه بقدر حظ قِدحه، فهذا هو الفرق بين (آثار أيديهم) و(آثار أموالهم)، فالرجل لما ذكر ميسرهم في هذه الأبيات قال بعدها: نأسو آثارَ أيدينا بآثار أموالنا، أي نجعلها أسوتها ونسوّيها بها فلا يكون لإحداهما فضل على الأخرى، ومعناه: أنه كانت لأيديهم آثار كثيرة في عَبط إبلهم ونحرها للضيفان على طول الشهور ثم هذه التي يصفها الآن في البيتين هي آثار أموالهم في ميسرهم في الشتاء، فقد لحقت بآثار أيديهم وتساوى الطرفان لا شفّ لأحدهما على صاحبه.
واعلم أنك قد تنكر (سُودٌ مَغارفُنا) وتميل إلى (بيض مفارقنا) من غير أن يكون لك حجة فيها، وإنما هو الإلف حسب، فإنك إن كنتَ حفظتَ هذه المقطوعة قديمًا وجرى هذا البيت على لسانك كثيرًا كما جاء في رواية الحماسة (بيض مفارقنا) نبا سمعك عن (سُودٌ مَغارِفُنا)، وليست الحجة في الإلف ولا في التعود، فإنك لو كنتَ حفظتَها أول مرة (سود مغارفنا) لأنكر سمعك الآن (بيضٌ مفارقنا).
هذا وليست الصور التي رسمناها في تفسير البيتين أباطيل من الأوهام لا وجود لها، بل هي موجودة في شعر العرب لمن تأمله وموجودة في حياتهم، وأقرب شيء تراه من ذلك ما في معلقة لبيد، فإن فيها ما يشابه بعض ما ذكرنا وصورنا، قال لبيد:
وجَزورِ أَيسارٍ دَعَوتُ لِحَتفِها * بِمَغالِقٍ مُتَشابِهٍ أَجسامُها
أَدعو بِهِنَّ لِعاقِرٍ أَو مُطفِلٍ * بُذِلَت لِجِيرانِ الجَميعِ لِحامُها
(بمغالق متشابه أجسامها): يريد بها القداح التي يضربون بها، ففي هذين البيتين ذكر ضربهم على الجزور بالقداح وبذلهم لحمها لجيرانهم.
فَالضَّيفُ والجارُ الجَنيبُ كَأَنَّما * هَبَطا تَبالَةَ مُخصِبًا أَهضامُها
وفي هذا البيت ذكر من يغشاهم من الغرباء من ضيف عابر أو جار مجاور، والجنيب: الغريب.
تَأوي إِلى الأَطنابِ كُلُّ رَذِيَّةٍ * مِثلِ البَلِيَّةِ قالِصٍ أَهدامُها
وفي هذا البيت ذكر من يغشاهم من النساء الضعيفات المعدمات، قال ابن الأنباري: "الرذية المرأة التي قد أرذلها أهلها، أي ألقوها". وقالص أهدامها: أي تقطعت ملابسها وأخلاقها التي عليها حتى قلصت وانحسرت، والأهدام جمع هِدم وهو البالي من الثياب.
وَيُكَلِّلونَ إِذا الرِّياحُ تَناوَحَت * خُلُجًا تُمَدُّ شَوارِعَا أَيتامُها
وفي هذا البيت تشبيه جفانهم التي يقرون فيها لعظهما بالخلج جمع خليج، وفيه بيان مَن الذي يأكل منها ويشرع فيها وهم الأيتام.
وجاء الفرزدق بهذه الصور واضحة جلية فتأملها وخص بالتأمل ما بين الأقواس، وذلك في قوله من قصيدة فاخرة:
وقَد عَلِمَ (الجيرانُ) أَنَّ (قُدورَنا) * ضَوامِنُ لِلأَرزاقِ (والريحُ زَفزَفُ)
ريح زفزف: شديدة.
نُعَجِّلُ لِلضيفانِ في (المَحلِ) بِالقِرى * قُدورًا بِمَعبوطٍ تُمَدُّ (وتُغرَفُ)
تُفَرَّغُ في شيزى كَأَنَّ جِفانَها * حِياضُ الجِبا مِنها مِلاءٌ وَنُصَّفُ
تَرى (حَولَهُنَّ) (المُعتَفينَ) كَأَنَّهُم * عَلى صَنَمٍ في الجاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
(قُعودًا) وفوقَ القاعِدينَ شُطورُهُم * (قيامًا) وأَيديهِم جُموسٌ ونُطَّفُ
(جُمُوسٌ) معناه قد جَمَسَ عليها الوَدَك أي جمد، وليست (جُمُوسٌ) جمعَ (جِـمْس) الذي هو ضرب من السيارات :) :)، (ونُطَّف): أي ينطف منها الودك أي يقطر ويسيل، ومعنى البيت في ما أرى: أن هؤلاء المعتفين قد أحاطوا بالجفنة فصاروا حلقة دائرة، فمنهم قعودٌ وهم الأدنون إلى الجفنة، قعود عليها يأكلون منها، وخلف هؤلاء القاعدين على الجفنة صفٌّ قيام ينتظرون نوبتهم، فصار يُرى من هؤلاء القيام شطورُهم أي أنصاف أجسامهم لأن النصف الأسفل من القائم يغطيه الرجل القاعد أمامه فلا يُرى منه إلا شطره الأعلى، فتُرى شطورُ هؤلاء القيام فوق القاعدين، وأما الأيدي الجموس والنطّف فبيانها أن الرجل منهم يدخل يده في الجفنة ويخرجها تنطف وتقطر فإذا وضع اللقمة في فمه وانتظر قليلا للمضغ والبلع جمس الودك على يده فورًا من شدة البرد، وهذا كالذي أنشدناه من قول الراعي:
فباتت تعدّ النجم في مستحيرة * سريع بأيدي الآكلين جمودُها
فمعنى (وأيديهم جموس ونطف) أن بعضهم يكون يمضغ الطعام وقد جمس الودك على يده وبعضهم تكون أيديهم خارجة من الجفنة تنطف ولـمّا يجمس الودك عليها، والضمير في أيديهم عائد على القعود، وأما القيام فليست أيديهم جموسا ولا نطفا، وإنما هم قيام ينتظرون أن يقوم القاعدون فيقعدوا مكانهم على الجفنة.
وجاءت الصور التي شرحناها أيضًا في أبيات الأفوه الأودي التي أنشدناها قبل:
فينا لثعلبة بن عوف جفنةٌ * يأوي إليها في الشتاء الجُوَّعُ
ومذانبٌ ما تُستعار وجَونَةٌ * سوداءُ عند نَشيجها ما تُرفَعُ
والمذانب: المغارف كما ذكرنا.
وكأنما فيها المذانبُ خِلفةً * وَذَمُ الدلاء على قليب تُنزَع
مَن كان يشتو والأرامل حوله * يُروي بآنية الصريف ويُشبِعُ
ويريد بقوله (مَن كان يشتو): ثعلبة بن عوف المذكور.
وأشباه ذلك في الشعر كثير.
وقد فرغتُ مما أردتُّ بيانه في قوله (بِيضٌ مَفارِقُنا)، والله أعلم.

صالح العَمْري 15-05-2018 10:16 AM

وبحساب الـجُمَّل:
(تاريخها {غَلِطَتْ} في شهر شَعبانِ)
أي في شعبان 1439، (غَلِطَتْ) = 1439.

محمد بن عبد الحي 15-05-2018 12:10 PM

أجل، قد (غلِطَتْ) نُسَخٌ، فأصلحَ غلَطَها أبو حيَّانَ .
ألا إنَّ هذا ابنُ عمِّي فلْيُرِني امرؤٌ ابنَ عمِّه !

صالح العَمْري 16-05-2018 01:29 PM

نعم الأخ وابن العَمّ أنت يا أبا ثابت، وبارك الله لكم في شهر رمضان، ووفقكم فيه إلى كل خير، وتقبل منكم، وأعتق رقابكم ورقاب آبائكم وأمهاتكم وأهليكم أجمعين من النار، اللهم آمين.
اقتباس:

على أن في نفسي شيئا من (قباب)، ولكن ليس صوابها (قيان) كما زعما، وإنما أخشى أنه أراد تشبيهها بالخيل لا بالقِباب، كما في قول عمرو بن أحمر في صفة القدور وقد شبهها بالخيل:
إذا ركدت حول البيوت كأنما ترى الآل يجري عن قنابل صُيَّم
وقد شرحنا هذا البيت من قبل في حديث (التشبيه المعكوس)، وبيّنّا وجه الشبه بين القدور والخيل، ووجدتُّ في الموسوعة الشعرية بيتًا يشبهه أيضا، وهو قول حسان بن ثابت:
إِذا اِغبَرَّ آفاقُ السَماءِ وَأَمحَلَت كَأَنَّ عَلَيها ثَوبَ عَصبٍ مُسَهَّما
حَسِبتَ قُدورَ الصادِ حَولَ بُيوتِنا قَنابِلَ دُهماً في المَحَلَّةِ صُيَّما
ووجدتُّ في (التذكرة الحمدونية) في باب (نعت القدور) بيتًا يشبه هذين أيضًا، قال ربيع بن أصرم بن خارجة العنبري:
وسمحاء تستوفي الجزورَ نصبتُها * فجاءت كأجلاد الحصان المقيَّدِ
تستوفي الجزور: أي توضع فيها الجزور كاملة لا يُستَثنَى شيء منها، وهذا يدل على ضخامة القدر، فما أضخم القدر التي تسع ناقة كاملة.
ولا أدري ما معنى سمحاء هنا، ولعل صوابها: سحماء، أي سوداء، ويؤكده أن البيت في (المؤتلف والمختلف) للآمدي هكذا:
وسحماء تستوفي الجزورَ نصبتُها * لأضيافنا مثل الحصان المقيَّدِ
فالصواب في البيت إن شاء الله هو سحماء أي سوداء.
وأما سمحاء في غير هذا الموضع فبعض المعاصرين ينكرونها، جاء في (معجم الصواب اللغوي):
"- سَمْحاء
الجذر: س م ح
مثال: الديانة السَّمْحاء
الرأي: مرفوضة عند الأكثرين
السبب: لأنه ليس في اللغة «أَسْمَح» حتى نقول في مؤنثه «سَمْحاء».
الصواب والرتبة: -الدِّيانة السَّمْحة [فصيحة]-الدِّيانة السَّمْحاء [مقبولة]
التعليق: الصفة الواردة من باب «فَعُل يَفْعُل» مثل «سَمُح» لا تأتي على أفعل وفعلاء، وإنما على «فَعْل» للمذكر، و «فَعْلة» للمؤنث، فيقال: سَمْح وسَمْحَة. ويبدو أن المعاصرين قاسوا «سَمْحَاء» على نظائرها: عجفاء، وسمراء، وحمقاء، ورعناء، وخرقاء، دون اعتبار لشكل المذكر. وقد وردت «سمحاء» في معجم اللغة العربية المعاصرة المكتوبة، واستخدمها الأخطل الصغير في شعره
".
هكذا وجدتُّه في الشاملة، على أن سمحاء جاءت في بعض الكتب القديمة، ففي كتاب (الخيل) لأبي عبيدة:
"وقال أبو زبيد الطائي في القرن وهو القران في الكعبين:
كل سمحاء كالقناة قرون * وطويل القرا هزيم الذكاء"
وفي اللسان:
"سنطح: التَّهْذِيبُ: السِّنْطاحُ مِنَ النُّوقِ الرَّحِيبةُ الفَرْج؛ وَقَالَ:
يَتْبَعْنَ سَمْحاءَ مِنَ السَّرادِحِ * عَيْهَلَةً حَرْفاً مِنَ السَّناطِحِ"
وجدتُّ هذا كله في الشاملة، والله أعلم.
والذي يعنيني هو تشبيهه قِدره بالحصان المقيّد، في قوله: (فجاءت كأجلاد الحصان المقيّد)، وجعله الحصان مقيدًا هو كقول عمرو بن أحمر: (قنابل صيّم)، وذكرنا في حديث (التشبيه المعكوس) أن الصيّم هي القائمة في أماكنها التي لا تذهب وتجيء، وكقول حسان: (قنابل دهما في المحلة صيّما)، فإن يك ظني صادقًا فإن مسكينًا إنما قال:
(كأن قدور قومي كل يوم * جياد الترك ملبسة الجلال)
فإن كان كذلك فإن (قباب الترك) تحريف قديم غبر في كتب الأدب كلها قرونًا طويلة ولم يسلم منه كتاب من الكتب التي روت أبيات مسكين، والله أعلم.

د:إبراهيم المحمدى الشناوى 18-05-2018 11:09 PM

لو كان لي سلطان أعطيتك الدكتوراة الفخرية

بارك الله فيك وفي علمك ونفع بك
.............

رجاء: تقسيم المشاركة حتى يمكن قراءتها في أوقات متفاوتة وحتى لا نترك منها شيئا بسبب طولها
وجزاكم الله خيرا

صالح العَمْري 19-05-2018 11:10 PM

بارك الله فيكم يا أستاذنا الكريم، وأحسن مثوبتكم.
كنتُ أسمع بالدكتوراة الفخرية ولا أدري ما هي، فلما قرأتُ كلامكم بحثتُ عنها وعرفتُها، فهذه فائدة أتتنا من جنابكم.
وأقول وأرجو أن لا يزعجك هذا وأن لا ترى فيه ردًّا لهديتك:) :
ما أزهدني في الدكتوراة الفخرية وغير الفخرية!
وقد كنتُ في بعض الأوقات قديمًا أؤثر أن تظهر الفائدة والعلم على يدي، وليس هذا في الحقيقة مذمومًا، ثم انتقلتُ عن هذا وتساوى عندي أن تظهر الفائدة على يديّ وعلى يدي غيري، ثم انتقلتُ عن هذا وأصبح ظهور الفائدة على يد غيري أحبّ إلي من ظهورها على يدي، وأصبحتُ أوثر الراحة والانقطاع، ولو أني أرى أحدًا يكتبُ في بعض هذه الأمور ويأتي على ما في نفسي منها ما كتبتُ فيها حرفًا واحدًا، ولعددتُّ وجود هذا الكاتب مغنمًا لي باردًا، إلا أن أكتب شيئا للتسلية والترويح عن النفس فإني أجد بعض الأحيان في الكتابة راحة، وإنما الذي يشئزني الآن إلى الكتابة على كره مني وتثاقل أني أرى كنوزًا وذخائر في شعر العرب إنما ألمّ بها الناس إلمامًا وأطافوا بها ولم يُستنبَث منها إلا القليل، فأجدني أندفع حينا وأفتر أحيانًا.
وشكر الله لكم، وأسأل الله لي ولكم التوفيق.

صالح العَمْري 21-05-2018 08:49 PM

اقتباس:

وقد مشى هو إليهم ومشى بعضهم إلى بعض وتشاوروا واتفقوا على أمر الميسر ليُنعشوا به الهلاك، فهو يفتخر بفعلهم كلهم لا بفعله وحده، بل قد ييسر من ييسر منهم في بعض الأوقات ولا يكون هو معهم، فالرجل يفخر بقومه لا بنفسه، ألا تراه يقول: (المطعمون إذا ...) ولم يقل: (أنا المطعم)، فإذا كان الأمر كذلك فإن هؤلاء الذين مشوا في أمر الميسر سواء أكانوا سبعة أم أقل من ذلك قد اجتمع في مجموعهم الأمران جميعًا، أعني طبخ اللحام في القدور ودفع ثمن الجزور، لأن بعضهم أخذ اللحمان وطبخ وأطعم وبعضهم غرم ثمنها، وهو يفخر بهم كلهم، وكلهم أرادوا خيرا وأصابوه سواء ظفرت قداحهم أو خابت، وتسمية خيبة قداحهم وحملهم ثمن الجزور غرما تجوز في الكلام، ولو كانوا هم يعدّونه غرما ويخافون منه ما دخلوا في الميسر أصلا وليسوا مجبرين عليه، بل لا يعدون أنفسهم خاسرين وإنما يفخرون بفعلهم هذا وأنهم حملوا ثمن الجزور التي أُنعش بها الضعفة والمساكين، فهو يفخر بهؤلاء كلهم لِـما انتدبوا إليه من هذا الأمر فمنهم من صارت له اللُّحمان وجشم عناء الطبخ ومنهم من حمل الثمن،
الفصيح فيهما:
ليَنعَشوا، نُعِش.
والذي استعملتُه صحيح أيضا، قال اللبلي في (تحفة المجد الصريح):
"قال ابن درستويه: والعامة تقول: أنعشه بالألف، وهو خطأ.
قال أبو جعفر: وكذا قال ابن دريد في الجمهرة: لا يُلتفت إلى أنعشه، فهو كلام العامة، ولم يقله أحد.
وحكى أيضا يعقوب في الإصلاح إنكاره عن الأصمعي، وأنكره أيضا الجوهري في الصحاح.
وحكى ابن سيدة في المحكم وصاحب الجامع وابن القطّاع أنه يقال: نعشه الله وأنعشه، وأنشد صاحب الجامع:
وأنعشني منه بسيب مفعّم
وحكى المطرّز في شرحه عن ثعلب عن سلمة عن الفراء أنه قال: كلام العرب الفصحاء: نعشه، بغير ألف، قال: وقد سمعنا: أنعشه، بالألف، قال: والأولى أفصح، وحكاها أيضا أبو عبيد في المصنّف عن الكسائي".
والله أعلم.

صالح العَمْري 12-06-2018 06:36 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
وما دمتَ قد عرفتَ صفة الميسر فسأطلعك على موضع تتايع بعض العلماء بالخطأ فيه.
قال التبريزي في شرح المعلقات عند قول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتَّلِ
قال: "وقيل: معناه أن هذا مثل لأعشار الجزور، وهي تُقسَم على عشرة أنصباء، ثم يُجال عليها بالسهام، التي هي: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى، فالفذ له نصيب إذا فاز، والتوأم له نصيبان، والرقيب له ثلاثة أنصباء، والحلس له أربعة، والنافس له خمسة، والمسبل له ستة، والمعلى له سبعة، فقوله (بسهميك) يريد: المعلى وله سبعة أنصباء والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فأراد أنك ذهبتِ بقلبي أجمع.
...
وأجود هذه الوجوه أن يكون أراد بالسهمين المعلى والرقيب، لأنه جعل بكاءها سبب لغلبتها على قلبه، فكأنها حين بكت فاز سهماها، شبهها باليَسَر -وهو المقامر- إذا استولى (بعد حين) على أعشار الجزور، وذلك أنه لا يُستولى على الجزور كلها بأقل من سهمين
".
وهذا الذي لونته بالأحمر قد جاء هكذا في نشرة المنيرية وفي نشرة العلامة محيي الدين عبد الحميد وفي نشرة العلامة محمد الخضر حسين وفي نشرة العلامة فخر الدين قباوة، وهو خطأ محض، ولا وجه له البتة، والصواب: (بقِدحَين)، أي: بسهمين، وانظر إلى ما وضعتُ تحته خطوطًا من ذكر السهمين في الكلام الذي قبلها والذي بعدها، يريد بذلك التبريزي قول امرئ القيس: (لتضربي * بسهميك في أعشار)، فالقِدحان أو السهمان هما الرقيب والمعلى، ولعل منشأ الوهم من كون التبريزي سماها في المواضع كلها سهامًا -لأنه يفسر قول امرئ القيس (بسهمين)- إلا في هذا الموضع فقد سماها قداحًا، فخفي هذا الموضع لأجل ذلك، ولا فرق بين تسميتها سهامًا وتسميتها قداحًا، وقد ذكرنا في حديثنا في شرح صفة الميسر أن القِداح هي أعواد النبل أي أعواد السهام.
والله أعلم.

صالح العَمْري 19-09-2018 04:17 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 2 -
المقطوعة رقم: 33، 207

في الحماسة الكبرى لأبي تمام مقطوعة لحريث بن عناب الطائي ثم النبهاني -ونبهان هو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيئ- يقول في آخر بيت منها:
لكل بني عمرو بن عوف رباعةٌ * وخيرهم في الخير والشر بُـحتُـرُ
هكذا رواه المرزوقي والتبريزي، وفيه خطأ في الاسم الثاني.
وروى الشنتمري: (لكل بني عوف بن كعب)، فأخطأ في الموضعين كليهما، قال: وعوف بن كعب قبيلة وبحتر حي من طيئ. وكأن كلامه يوحي أن عوف بن كعب هؤلاء ليسوا من طيئ، مع أن الشاعر قال: وخيرهم، أي وخير بني عوف بن كعب هؤلاء بنو بحتر، فينبغي أن يكون هؤلاء أيضا من طيئ.
وفي بعض الروايات: (لكل بني عوف بن عمرو)، وهو خطأ في الموضعين أيضًا.
وفي بعضها: (لكل بني عوذ بن عوف)، وهو خطأ في الموضعين أيضا.
وفي بعضها: (لكل بني عمرو بن كعب)، وهو خطأ في الموضع الثاني.
ولم أر أحدًا تبين ما فيه أو فطن لاضطرابه على أن القضية سهلة يسيرة، ولا يحتاج الناظر فيها إلا إلى معرفة نسب بني بحتر، فإذا عرفتَ نسب بني بحتر تبين لك الأمر، وبحتر هو بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ، فإذا كان كذلك فإنه ينبغي أن يكون البيت هكذا:
لكل بني عمرو بن غَوثٍ رباعةٌ * وخيرهم في الخير والشر بُـحتُـرُ
و(غوث) و(عوف) متشابهتان في الرسم، فمن هنا حصل التحريف في رواية المرزوقي والتبريزي، وأما الروايات الأخرى فقد اضطربت كثيرًا.
وقد كنت أعلم أن هذا الذي ذكرتُه هو الصواب وأعجب من تظاهرهم على الخطأ، ثم وجدتُّه في الأغاني:
لكل بني عمرو بن غَوثٍ رباعةٌ
وهو الصواب كما ذكرنا.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن بيت آخر في الحماسة وهو لشاعر نبهاني أيضا وهو أنيف بن حكيم الطائي ثم النبهاني إذ يقول:
جمعنا لكم من حي عوف ومالك * كتائب يردي المقرفين نكالُـها
هكذا في كثير من روايات الحماسة، وفي بعضها:
من حي عوف بن مالك
ولست أخطئ هذه ولا تلك، ولكن في (منتهى الطلب) رواية جيدة، وما أشبهها بالصواب، فقد أنشد ابن المبارك القصيدة كاملة، وأنشد هذا البيت فيها هكذا:
جمعنا لهم من عمرو غَوثٍ ومالك
وعمرو غوثٍ هو عمرو بن الغوث بن طيئ، وهو المقصود في بيت حريث بن عناب الذي أنشدناه أولا وهو المقصود أيضا في هذا البيت، وحريث بن عناب نبهاني وهذا الشاعر أنيف بن حكيم نبهاني أيضًا، وقد ذكرنا في أول الحديث أن نبهان هو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيئ، فكأن (غوثًا) هنا أيضًا قد حُرّف إلى (عوف).
فأما البيت الذي أنشدناه أولا لحريث بن عناب فلا أشك أن روايات الحماسة له لا تصح وقد ذكرناه لنصحح الخطأ، وأما بيت أنيف بن حكيم فلا أجزم بخطأ روايتهم لهم وإنما ذكرتُه لأني أرى رواية (منتهى الطلب) أشبه بالصواب، ولأن فيها شاهدًا على إضافة اسم الرجل إلى اسم أبيه، وأكثر ما رأيتهم ينشدونه شاهدًا لهذه المسألة قول المتنبي:
لله ما فعل الصوارمُ والقنا * في عمرِو حابِ وضبَّةَ الأغنامِ
أراد: عمرو بن حابس، فحذف (ابن)، وأضاف عمرًا إلى حابس، بعد ترخيمه لغير نداء.
وانظر في هذا الحديث:
http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=1153
وكذلك أنيف بن حكيم في قوله:
جمعنا لهم من عمرو غَوثٍ ومالك
أراد: (من عمرو بن غوثٍ)، فحذف (ابن) وأضافه إلى اسم أبيه.
والاستشهاد بقول أنيف بن حكيم أولى من الاستشهاد ببيت المتنبي لتقدم زمن أنيف.
والله أعلم.

صالح العَمْري 01-03-2019 09:51 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 3 -
المقطوعة رقم: 29
قال عمرو بن معدي كرب:
فجاشت إليَّ النفسُ أولَ مرةٍ * فرُدَّت على مكروهها فاستقرَّتِ
وهذا من الأبيات التي ظاهرها قريب وباطنها بعيد، ومن قرأه ظنّ أنه فهم كل ما فيه حَقَّ الفهم وقليلٌ مَن يعرف حقيقةَ ما فيه.
فنقول: إن عمرًا يصف أنه فَزِع في أول الأمر ثم وطّن نفسه على القتال وثبت، وهذا المعنى ظاهر، فإن أردتَّ معنى البيت فهذا هو معناه، وإن أردتَّ فهم كل شيء في البيت حقَّ الفهم فهذا أمر وراء ذلك.
والمقصود قوله: "جاشَت إليَّ النفس"، وما معناه وما حقيقته؟
وليس هذا من كلام عمرو خاصة وإنما هو شيء من كلام العرب، وأحسب أنك لا تكاد تجد إيضاحه إيضاحًا شافيًا.
فأقول: (جاشت نفسُ فلان) هو وصفٌ لشيء يعرفه الناسُ كلُّهم، وهو الشهقة التي تعتري المرء إذا فزع، وإن لم تجد تفسير (جاشَت) بهذه الشهقة.
فإن قيل: ما علاقة هذا بهذا؟
قلنا: مَثِّل الآن في نفسك حالَك إذا نابك فزعٌ مفاجئٌ كيف تجد أنك تسحب بفمك هواء كثيرا -بغير إرادتك- في هيئة سريعة قوية حتى يحدث ذلك صوتًا في صدرك، فهذا هو الشهيق، وهو شيء يفعله الإنسان لا إراديا إذا فَزِع.
فإذا عرفتَ هذا فاعرف علاقته بجيش النفس:
- أما الشهيقُ نفسُه فيعبرون به أحيانًا عن شدة الفزع، كالذي يروى أن عمر بن الخطاب سأل عمرو بن معدي كرب رضي الله عنهما في خبر طويل عن أجبن من رأى فقال: "خرجتُ مرة أريد الغارة، فبينما أنا أسير إذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس، وهو كأعظم ما يكون من الرجال خلقًا، وهو محتب بسيف. فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك، فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معدي كرب، فشهق شهقة فمات.
فهذا أجبن من رأيت يا أمير المؤمنين
".
والشاهد في ذكر شهقته.
وكالذي رواه في (البيان والتبيين) من خطبة أبي حمزة الخارجي، وفيها يصف أصحابه من الخوارج: "كلَّما مرّ أحدُهم بآيةٍ من ذكر الجنّة بكى شوقًا إليها، وإذا مَرّ بآية من ذكر النار شَهَقَ شَهقة كأنّ زفير جهنّم بين أذنيه".
ونحو هذا.
ثم إن هذا الشهيق يشتمل على أمرين، أحدهما: دخول الهواء ونزوله إلى الصدر كما ذكرنا في صفته، والثاني: شعور المرء أن شيئا يرتفع من جوفه إلى حلقه كأنه يريد أن يخرج، فإن مثّلتَ في نفسك الآن الشهيق شعرتَ بهذا وبهذا معًا.
- فأما بعضهم فعبّر عن الفزع بالشهيق كما في خبر الرجل الجبان وفي خطبة الخارجي.
- وأما بعضهم فعبّر عن الفزع بدخول الهواء إلى الصدر وامتلائه به، وهو أحد الشيئين اللذين يجدهما المرء في الشهيق كما ذكرنا.
فمن ها هنا قالوا للرجل إذا خاف وفزع: قد انتفخ سَحْرُه، أي انتفخت رئتُه، لامتلائها بالهواء كما ذكرنا، والسَّحْر: الرئة.
قال ابن السكيت في (إصلاح المنطق): "والسَحْر الرئة، يُقال للجبان: قد انتفخ سَحْرُه".
ومنه قول أبي جهل في غزوة بدر، وفي خبرها: "قال حكيم: فانطلقتُ حتى جئتُ أبا جهل، فوجدته قد نَثَل درعًا له من جرابها وهو يهيئها؛ فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، الذي قال، فقال: انتَفَخَ والله سَحْرُه حين رأى محمدًا وأصحابه".
ومنه قول جرير يهجو بني سَليط بن يربوع:
ألا ساء ما تُبلي سَليطٌ إذا رَبَت * جَواشنُها وازداد عَرضًا ظُهورُها
جَواشِنُها أي صُدُورُها، ورَبَت أي ارتفعت، يريد امتلاء رئاتهم بالهواء من الفزع، قال ابن قتيبة في تفسيره: "يقول: انتفخت سُحورُها فَرَبَت صدورُها وعَرُضَت ظُهورُها".
- وأما بعضهم فعبّر عن الفزع بالشعور الذي يجده المرء أن شيئا يرتفع من جوفه إلى حلقه كأنه يريد أن يخرج، وهو أحد الشيئين اللذين يجدهما المرء في الشهيق كما ذكرنا.
= فمنهم مَن جعل هذا الشيء الذي يُحَسُّ ارتفاعه هو الروح تريد أن تخرج، والروح تُسَمَّى نَفْسًا، فمن ها هنا قالوا: جاشت نفسُه، أي: ارتفعت روحُه، كأنها تريد أن تخرج، وجاشت: معناه ارتفعت، ومنه قولهم: جاشت القدرُ، أي ارتفع ما فيها لـمّا غلا، لأن الماء إذا غلا يرتفع، وهم يقولون: جاشت القِدر، ويقصدون جاش ما فيها، أي ارتفع، كما تقول: سال الوادي، وأنت تعني: سال الماء في الوادي.
قال في اللسان: "جاشَتْ نفسِي جَيْشًا وجَيشانًا: غَثَتْ أَو دارَتْ لِلْغَّثَيان ... وفي الحديث: جاؤوا بِلَحْم فتَجَيَّشَتْ أَنفُسُ أَصحابِه أَي غَثَتْ، وهو من الارتفاع،
كأَنَّ ما في بطونهم ارتفع إِلى حُلوقهم فحَصل الغَثْيُ
".
وقال: "فإن أردتَّ أنها ارتفعت [أي النفس] من حُزن أو فَزَع قلت: جَشَأَت".
والصحيح أنه يقال في ارتفاع النفس من الفَزَع: جاشت النفسُ وجَشَأَت النفس، وشاهد (جاشَت) بيت عمرو الذي في الحماسة، ويشهد له أيضًا قول عمرو بن الإطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي * وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * رويدك تُحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ * وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
فهذا يصف الفَزَع، وجمع بين جَشَأَت وجاشَت.
= ومنهم مَن جعل هذا الشيء الذي يُحَسُّ ارتفاعه هو القلب كأنه يريد أن يخرج، قال تأبط شرًا يرثي الشنفرى:
على الشنفرى ساري الغمام ورائحٌ * غزير الكلى أو صيّبُ الماء باكرُ
عليك جزاء مثل يومك بالجبا * وقد أُرعفت منك السيوف البواترُ
ويومك يوم العيكتين وعَطفةٌ * عَطَفْتَ وقد مَسَّ القُلوبَ الـحَناجرُ
يريد أن القلب قد ارتفع حتى بلغ الحنجرة ومَسَّها.
وقال الشنتمري في شرح بيت عمرو بن معدي كرب الذي في الحماسة: "جاشت النفس وجشأت إذا تقلقلت من موضعها ذعرًا، كما قال جل وعز: {وبلغت القلوب الحناجر".
فإذا نظرت إلى قوله: "إذا تقلقلت من موضعها ذعرًا" علمتَ لماذا كتبتُ ما كتبتُه اليوم، فإن هذه المسألة كانت تحتاج إلى مزيد إيضاح وبيان، وإلا فما هو موضع النفس الذي تتقلقل منه ذعرًا؟ وهل المقصود بالنفس الروح؟ فإن كان المقصود بالنفس الروح فهل يعرف أحد موضعها حتى يعلم أنها تقلقلت منه؟ ثم هل أراد بذكره للآية أن النفس هي القلب؟ وأنه هو الذي يجيش ويرتفع في قولهم جاشت نفسي؟
والعلماء الأولون يتكلمون بالكلام يعرفون هم معناه، لكن الناس في زماننا لا يفهمون منه ما كان يفهمه أولئك الأئمة، فالحاجة اليوم شديدة إلى إيضاح بعض هذه الأمور وتمييزها وتفصيلها حتى تستبين، على أن تبيينها شبه معدوم حتى في كتب المتقدمين.
وأقول: أما ارتفاع الروح في حال الشهيق عند الفزع فالله أعلم به، ومن ذكر من الشعراء أن نفسه جاشت أو جشأت وأراد بذلك روحه فقد تخيل أن الشيء الذي يحس ارتفاعه في تلك الحال هو الروح تريد أن تخرج.
وأما ارتفاع القلب في حال الفزع فهو حقيقة وليس شيئا متخيَّلا، ولو تمثلت شهيق الفزع في نفسك الآن تبيّن لك أن قلبك يرتفع من مكانه، وأما كونه يبلغ في ارتفاعه هذا إلى الحنجرة فإن أهل المعاني يقولون: المعنى: كادت القلوب تبلغ الحناجر.
قال ابن رشيق: "وقال: {وبلغت القلوب الحناجر}، والقول فيهما محمول على (كاد)، هكذا الحذاق من المفسرين".
وقال الآمدي في الموازنة: "وقال الله عز وجل: {وبلغت القلوب الحناجر}، أي: كادت".
ويحصل مثلُ هذا الشهيق في البكاء، وهو مثل شهيق الفزع تمامًا، ويحس المرء فيه ما يحسه هناك، ويقال فيه: جَشَأَت النفس، كما قال في اللسان لما ذكر أنه يقال في الحزن: جَشَأَت.
ويُقال فيه أيضًا: أجهشت النفسُ، وأجهشت معناه ارتفعت، مثل جاشت وجشأت،
ثم توسعوا فيه فقالوا: أجهش بالبكاء، وأصله: أجهشت نفسُه في البكاء، أي ارتفعت، وذلك في شهيق البكاء كما ذكرنا، ودليلُه قول لبيد:
قامت تشكَّى إليَّ النفسُ مجهشةً * وقد حملتُكِ سبعًا بعد سبعينا
فجعل الإجهاش للنفس، كأنه قال: تشكَّت إلي النفس مرتفعة، وهو الارتفاع الذي يحسه المرء في شهيق البكاء كما ذكرنا.
ويشهد له أيضًا قول مُدرك بن حصن الأسدي:
بكى جزعًا من أن يموت وأَجهَشَت * إليه الجِرِشَّى وارمَعَلَّ خَنِينُها
الجِرِشَّى: النفس، وأجهشت أي ارتفعت، قال القتبي في تفسيره في (كتاب المعاني الكبير): "أجهشت: ارتفعت، والجِرِشَّى: النفس".
ويدلّ عليه أيضًا قول الطرمّاح:
بانَ الخَليطُ بِسُحرَةٍ فَتَبَدَّدوا * والدارُ تُسعِفُ بِالخَليطِ وتُبعِدُ
هاجوا عَلَيك مِن الصَّبابَةِ لَوعَةً * بَرَدَ الغَليلُ وَحَرُّها لا يَبرُدُ
لَمّا رَأَيتُهُمُ حَزائِقَ أَجهَشَت * نَفسي وَقُلتُ لَهُم أَلا لا تَبعُدوا
والله أعلم.

صالح العَمْري 19-04-2019 04:13 AM

عودًا حميدًا، بارك الله فيكم.
اقتباس:

ومرادنا نحن هو البيت السابع، بل مرادنا منه هو الجزء الأول الذي لوّنته بالأحمر، وهذا الموضع الذي هو كلمتين أكثر موضع إشكالًا في ديوان الحماسة، بل قد يكون أكثر موضع إشكالا في شعر العرب كله، وقد اختُلف فيه كثيرًا، حتى قال المظفر العلوي في «نضرة الإغريض»: "وقال بَشامةُ النّهشَلي وتُروَى لغيره:
بيضٌ مفارِقُنا تَغْلي مراجِلُنا نأسُو بأموالِنا آثارَ أيدينا
رأيتُ بخطّ الشيخ أبي زكريا التبريزي كتابًا قد خرّجَ فيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب ما يُوفي على مِئَتي وجْهٍ في قوله (بيضٌ مفارِقُنا) حسْبُ، وقد شيّد بناء تلك المعاني بأشعار عربية وألفاظ مقبولة".
وقال الصفدي في «نصرة الثائر»: "وكنتُ وقفتُ بالديار المصرية على جزء فيه كلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب على قول الشاعر:
بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وقد ذكر في قوله (بيض مفارقنا) مئتي وجه وثلاثة أوجه، في احتمال معنى هاتين اللفظتين".
فهل تراني مبالغًا إذ قلتُ إنه قد يكون أكثر موضع في شعر العرب إشكالًا، لكنا لم نقف على كتاب أبي عبد الله الخطيب، ولا نعرف الأوجه التي ذكرها
قد كنتُ -لما كتبتُ هذا الكلام- أحسب أن هذا الكتاب مفقود لا يُوجد اليوم، ثم علمتُ بعد ذلك أنه طُبع في هذه الأيام الأخيرة، ولم أظفر بالمطبوع إلى الآن، لكني وجدتُّ الليلة مخطوطة واضحة جدًّا لا تحتاج معها إلى مطبوعة، وقد نُشرت هذه المخطوطة في الشبكة منذ نحو 4 سنوات، وعلى ذلك فقد كنتُ أحسب -لما كتبتُ ما كتبتُه هنا- أن الكتاب مفقود، ولا بأس، والمخطوط واضح جدًّا كما ذكرتُ لك، ولعله أوضح من المطبوع، فدونك رابطه إن أحببتَ أن ترى الأوجه التي ذكرها الخطيب الإسكافي في تفسير هذا الموضع العجيب:
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=348865

صالح العَمْري 05-05-2019 01:05 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
- 4 -
المقطوعة رقم: 52
هذا موضع عجيب من أعجب ما رأيتُ منذ عرفتُ الشعر، وليس ينقضي عجبي منه، وما إخاله ينقضي، وذلك أن الرواة والكتب أصفقوا على مرّ القرون على خطأ صوابه دانٍ قريب، وأنا أقول إنه خطأ على تقديري أن الصواب هو ما أذكره، فلا تجزع من تخطئتي تلك الكتب كلها، وسترى ويكون لك الحكم في ما أذكر.
قال المرزوقي: "وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:
أرسل عبد الله إذ حان يومه * إلى قومه لا تَعْقِلُوا لهم دمي
الشعر لكبشة أخت عبد الله. والكلام بعثٌ وتهييجٌ. وإنما تكلمت به على أنه إخبارٌ عما فعله عبد الله وأقامه من الوصاة عند الوفاة، فتقول: راسل عبد الله بن معد يكرب لما دنا أجله قومه وذويه، بأن لا يعقلوا دمي. وإن كانت آمنةً من ميلهم إلى قبول الدية، فغلظت القول لتهتاج حميتهم. ويقال عقلت فلاناً، إذا أعطيت ديته. وجعل هذا المفعول الدم لأن المراد مفهوم، كأنه قال: لا تأخذوا بدل دمي عقلاً. ويقال عقلت عن فلانٍ، إذا غرمت عنه
دية جنايته أو أرشها.
ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً * وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم
الإفال: جمعٌ وواحده أفيل، وهي صغار الإبل، والأبكر: جمع البكر، وهو الفتى منها.
يقول: لا تأخذوا من قتلتي صغار الإبل وبكارتها، فتتركوني في قبرٍ مظلم بصعدة؛ وهو مكان باليمن. وإنما جعل قبره هكذا، لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره، فإن أهدر دمه أو قبلت ديته بقي قبره مظلماً. فإن قيل: لم ذكر الإفال والأبكر وما يؤدى في الديات لا يكون منهما؟ قلت: أراد تحقير الديات، وهذا كما يقول الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعةٍ خاز بها إنسانٌ: إنما أعطي خرقاً وفلوساً! وإن كانت الثياب المعطاة كسوةً فاخرةً، والمال الموفر جائزةً سنيةً. وانتصب وأترك بإضمار أن وهو جواب النهي بالواو".
وقد يكون في هذا الذي نقلته بعض الأخطاء فإني أنسخه نسخا ولا أكتبه.
فهذه هي رواية الحماسة المشهورة: "لا تعقلوا لهم دمي"، وهذا هو تفسيرها، والرواية كذلك عند النمري والتبريزي والشنتمري والفسوي والجواليقي وابن مرقد، هذه التي وقفت عليها فيها من روايات الحماسة، وأظنها رواية غيرهم أيضا، فإن الدكتور مصطفى عليان قد حقق الحماسة بترتيب الشنتمرى وعني كثيرا بإيراد جميع روايات الحماسة لكل بيت، وممن يثبت رواياتهم إذا اختلفت غير هؤلاء الذين ذكرتهم الجرجاني وابن العفيف والشيرازي، وهو لا يدع أن يثبت الروايات كلها في كل بيت، لكنه في هذا البيت لم يذكر روايةً غير رواية الشنتمري إلا رواية أشار إليها البياري وليست هي روايته، قال الدكتور عليان: "قال البياري: "ويروى: ألا تخلوا لهم دمي"".
وكلام البياري هذا أورده بتمامه محقق الشرح المنسوب لأبي العلاء وهو لابن مرقد، قال المحقق: "قال البياري: "ويروى ألا تخلوا لهم دمي، ويروى ألا تغلوا، وهي -زعموا- من إغلال الجازر وهو أن يترك في الإهاب بعض اللحم سرقة"".
وهذه الرواية التي بالغين هي رواية ابن الأعرابي والتفسير تفسيره، قال في الخزانة: "ورواه ابن الأعرابي: أن لا يغلوا لهم دمي، بالمثناة التحتية والغين المعجمة، وقال: الإغلال عند العرب: ترك القصاب بعض اللحم في الإهاب. والغلول: الخيانة في المغنم".
وهي كذلك رواية أبي محمد الأعرابي الأسود الغندجاني في ما سننقله من كلامه في ما بعد.
فهذه روايات الحماسة، وقد وقعت روايات أخرى في غير الحماسة سنوردها.
فأما رواية الحماسة فيضعفها ثلاثة أمور:
1 - الأول: أن كلام العرب: عقلت فلانًا، إذا أعطيت ديتَه، وليس: عقلت دمَ فلان، وهذا الذي أراد شارحو الحماسة توجيهه، كقول المرزوقي الذي نقلناه: "ويقال عقلت فلاناً، إذا أعطيت ديته. وجعل هذا المفعول الدم لأن المراد مفهوم"، وقد يَسُوغ كما ذكر أن يُتجوز في الكلام فيقال: عقلت دم فلان. لكن هذا الذي ذكرتُه وجه واحد من أوجه تضعيف هذه الرواية، فضمّه إلى كلامنا الآتي كله.
الثاني: أن الذي يقول: عقلتُ فلانًا، هو دافع الدية، وليس آخذها، فإن ولي المقتول إذا أخذ الدية لا يقول: عقلتُ فلانًا، فلا يسوغ على هذا أن يقول عبد الله لقومه: لا تعقلوا دمي، لأنهم هم الآخذون للدية ولا يسمى فعلهم عقلا، وهذا هو الذي أراد شارحو الحماسة توجيهه كقول المرزوقي في الكلام السابق: "كأنه قال: لا تأخذوا بدل دمي عقلاً".
وهذا الوجه الثاني الذي أوردته تضعيفًا لهذه الرواية لستُ أول من يورده، قال الأسود الغندجاني في كلامه الذي أشرت إليه من قبل متعقبا النمري: "هذا موضع المثل:
يسائل بالسماء وقد رآها * ويعيا وجهة الريح القبول
من لا يعرف أن العقل هو هو إعطاء الدية لا أخذها لا يتصدى لتفسير مثل هذا من الشعر العتيق، لأنك تقول: عقلت المقتول إذا دفعت ديته، ولا تقول: عقلته إذا أخذت ديته، وإنما وقع البيت في الكتاب فاسدًا، ففسره أبو عبد الله (على ما خيّلت وعلى عماها)، والصواب:
أرسل عبد الله إذ حان يومه * إلى قومه ألا تغلوا لهم دمي
أي: لا تدعوه لهم، بل اطلبوه، وهو من قولك: أغل الجازر: إذا ترك في الإهاب شيئا من اللحم
".
وهذه كما ترى هي رواية ابن الأعرابي وتفسيره، فهل الأسود الغندجاني يرويها عنه أو يرويها عن غيره من العلماء؟ لا أدري.
الثالث: أن هذا البيت قد رُوي بغير رواية الحماسة، وهذا يضعفها، ثم هؤلاء الذين رووه هم من القدماء، وأما شارحو الحماسة الذين رووا روايتها فأكثرهم متأخرون، فمن ذلك:
أ - رواية ابن الأعرابي التي ذكرنا، وهو عالم قديم، وقد توفي هو وأبو تمام في سنة واحدة.
ب - رواية البحتري وهو قديم أيضا وهو تلميذ أبي تمام ومعاصر له، فقد أنشد البحتري البيت في حماسته، وقد وقفت على ثلاث نشرات لحماسة البحتري، وقد جاء فيها البيت هكذا:
1 - طبعة لويس شيخو: (إلى قومه إِلَّا يَعَلُّوا لهم دمي).
2 - طبعة نبيل طريفي: (إلى قومه إلَّا يَعُلُّوا لهم دمي)
3 - طبعة هيئة أبو ظبي: (إلى قومه أَلَّا تَعَلُّوا لهم دمي)
ج - رواية الجاحظ، وهو قديم أيضا، توفي سنة 255ه، فقد أنشد البيت في الحيوان، وضبطه الشيخ هارون هكذا: (إلى قومه أَلَّا تَغُلُّوا لهم دمي)، وهي كرواية ابن الأعرابي، قال الشيخ هارون: "وفي (س): (ألا تقلوا محرفة)"، والجاحظ معاصر لابن الأعرابي فلا يلزم أن تكون روايته من طريق ابن الأعرابي، والجاحظ بصري وابن الأعرابي كوفي، فلعلها رويت عن غيره.
د - والقالي أيضا من القدماء وإن كان بعدهم، روى في الأمالي: (ألا تُخَلُّوا).
فترى أن رواية (لا تعقلوا) المشتهرة إنما هي رواية الحماسة، فالعلماء يروونها عن أبي تمام، وخبر تصنيف أبي تمام حماسته معروف مشهور، فإنه ألفها من خزانة كتب أقام فيها، فهو إنما جنى روايته من كتاب، فشارحو الحماسة كلهم ورواتها إنما يروون ما أثبته أبو تمام من الكتاب الذي وجد الأبيات فيه، والرواية من الكتب مظنة الخطأ والتحريف، ولذلك قال الغندجاني: "وإنما وقع البيت في الكتاب فاسدًا"، وأما العلماء المعاصرون لأبي تمام والمقاربون لزمنه فلم يرووا كروايته، بل رووا روايات يشبه بعضها بعضها وتخالف رواية أبي تمام مخالفة بيّنة.
فإن حاصل رسم الروايات التي ذكرناها هكذا:
(ألا تغلوا)، (ألا تعلوا) أو (ألا يعلوا)، (ألا تخلوا)، وذكر هارون أن في بعض نسخ الحيوان (ألا تقلوا).
وهذه تختلف في الرسم عن رواية أبي تمام بأمرين:
1 - الكلمة الأولى: ألا، بهمزة، ورواية أبي تمام: لا.
2 - بين اللام والتاء في هذه الروايات حرف واحد، واختلفوا في تعيينه، وبينهما في رواية أبي تمام حرفان: عين وقاف، تـ ـعـقـ ـلـوا.
فإذا ضعفنا رسم أبي تمام بالأوجه التي ذكرنا سابقا وملنا إلى رسم هؤلاء لكثرتهم وقدم روايتهم، فإنا ننظر في معانيها، أما:
- رواية العين، فلا تجد لها معنى سائغا، وقلبها كيف ما شئت، قال الدكتور طريفي: "وعلّه يعُلّه، إذا سقاه السقية الثانية، وأرادت دمها"، وهذا كلام رديء لا حاصل له، وهي أصلا لم ترد دمها وإنما أرادت دم عبد الله، وهي إنما حكت كلامه، فـ (دمي) من كلام عبد الله.
- رواية الغين، أرى فيها استكراها وتكلفا، وتفسير ابن الأعرابي بالجازر وأمرِه غريب، ولا يحفظ في الشعر غلّ دمه بهذا المعنى، ولذلك قال البياري: "ويروى ألا تغلوا، وهي -زعموا- من إغلال الجازر وهو أن يترك في الإهاب بعض اللحم سرقة".
- رواية الخاء، لها معنى مقبول، ولكنه غير مألوف، فهل تراهم في أشعارهم يقولون: خلّيت دم فلان، أي: لم أطلب به؟ وتأملها.
- القاف، لا معنى لها، وذكر هارون أنها تحريف.
فبقي أن يقال: أين الصواب إذن؟
فأقول: الصواب والله أعلم شيء قريب دانٍ لا أدري كيف لم يقترحه أحد أو يفطن له، وهو موافق لرسم هؤلاء الأكثرين، وهو إن شاء الله:
(إلى قومه أَلّا تَطُلُّوا لهم دمي)
وقد تحرفت في كتاب قديم جدًّا، ثم نقل العلماء منه.
يقال: طلّ دمَه إذا أهدره، وهذا معروف مشهور في اللغة.
وقد يقال:
نورد عليك هنا ما أوردته على (لا تعقلوا)، فقد زعمت أن الذي يعقل هو الجاني وليس أولياء المقتول، فينبغي هنا أيضا أن يكون الذي يطلّ هو الجاني لا أولياء المقتول.
فأقول: ليست هذه مثلها، فإن العقل هو دفع الدية، هذا معناه، فالذي يدفع الدية هو العاقل وليس الآخذ.
وأما طلُّ الدم فلا علاقة له بالجاني والمجني عليه، وإنما هو معنى، فمن حال دون حصول القَوَد الذي هو القصاص وحال دون حصول العقل وهو الدية فقد طلّ دم المقتول وأبطله وأذهبه هدرًا، فلو أن واليًا قال: دم فلان هدر، فقتله أحد من الناس، كان الوالي هو الذي طلّ دمه، ولو أن رجلًا قتل رجلًا ثم سعى أولياء المقتول بكل حيلة لقتله فلم يقدروا عليه كان القاتلُ حينئذ هو الذي طلّ دمه، والثالثة وهي التي تعنينا أنه لو قُتل رجلٌ فقعد أولياؤه عن الطلب بدمه وعن الطلب بديته لكانوا حينئذ هم الذين طلّوا دمه، وليس الذي طلّ دمَه القاتل ولا قوم القاتل، وإنما طلّ دمَه أولياؤه لأنهم لم يسعوا في طلبه أصلا ولعلهم لو طلبوه ما استطاع الجاني أن يمتنع منهم ويطلّ دمه.
فلذلك نهى عبد الله قومه أن يطلّوا دمه بالقعود التام عن الطلب به.
وإذا أردت وجها آخر يرجح لك هذه على رواية الحماسة فانظر إلى قوله في البيت الذي يليه:
ولا تأخذوا منهم إفالا وأبكرا * وأترك في بيت بصعدة مظلم
فإن مجيء هذا بعد قوله (لا تعقلوا لهم دمي) الذي معناه لا تأخذوا منهم الدية، يشبه التكرار، فقد قال أولا لا تأخذوا الدية، فلِمَ يقول مرة أخرى: ولا تأخذوا إفالا وأبكرا، ويعيد ما قاله؟
وأما المعنى على الوجه الذي اقترحناه فإنه نهاهم أولا عن طَلّ دمه بالقعود المطلق عن الطلب به، ثم قال: ولا تأخذوا منهم دية إفالا وأبكرا، فنهاهم عن شيئين مختلفين، وتدرج في هذا النهي، فإن الذي نهاهم عنه عبد الله أولا هو القعود المطلق عن الطلب بدمه على أي وجه يكون هذا الطلب، وذلك بأن يقعدوا عن قتل قاتله ويقعدوا عن طلب الدية، ويَطُلّون دمَه طلًّا هدرا، بلا قود وهو القصاص ولا عقل وهي الدية، ثم تـمّم ونهاهم عن الخلة الأخرى وهي أخذ الدية، لأن هذا غير داخل في نهيه الأول، لأنه نهى في الأول عن طلّ دمه، والذي يأخذ الدية في دم وليّه لم يطلّ دمه ولا أبطله هدرا، فعاد ونهاهم عن هذه الخطة أيضًا كما نهاهم عن الأولى.
وإذا تأملت هذا الذي ذكرناه تأمل منصف متأنّ تبيّن لك صحة ما ذكرتُه.
والله أعلم.


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 09:17 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ