ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية

ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية (https://www.ahlalloghah.com/index.php)
-   حلقة فقه اللغة ومعانيها (https://www.ahlalloghah.com/forumdisplay.php?f=5)
-   -   « اللغة » اشتقاقها، ودلالتها (https://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=3531)

فيصل المنصور 16-11-2010 02:22 AM

« اللغة » اشتقاقها، ودلالتها
 
«اللُّغةُ» اشتِقاقُها، ودَِلالتُها

اختلفت كلمةُ الناس في لفظ (اللغة) من جهة اشتقاقها، ودلالتها اختلافًا طويلاً. وقد دعاني هذا إلى أن أنتحيَها، وأضطلِعَ ببحثِها، ومعالجتِها. ورأيتُ أن يكونَ التأتِّي إليها من خلال تحقيقِ مادَّتها على مَنهجٍ لي كنتُ اختططتُه من قبلُ، ثمَّ بيانِ صلتِها بالمادَّة، وكيفَ تفرَّعت منها.

1- تحقيق المادَّة:
للَّام، والغين، والواو أصول ثلاثة:
الأصلُ الأوَّل: (معنويٌّ)
وهو: سقوطُ القيمةِ.

=تصاريفُه:
(اللغْو) اسمُ عينٍ جامِدٌ. وهو في الأصلِ مصدرٌ لم يشتَقَّ منه فِعلٌ، ثمَّ تنوسِيَ أصلُه، فاشتَقُّوا منه بعدَ أن صارَ اسمَ عينٍ، فقالُوا: لغَا يلغُو، ولغَا يلغَى (لأنَّ ثانيَ الأصولِ فيها الغينُ، وهي من حروفِ الحلْقِ)، ولغِيَ يلغَى (من بابِ نصَرَ، وفتَحَ، وفرِحَ): إذا أتَى باللغوِ. وهو على غيرِ الغالبِ من معاني (فعَل)، لأن الغالبَ أن يكونَ المعنَى (عرضَ له اللغوُ، وهو سقوطُ القيمة). وهذا ليس بمرادٍ هنا، وإنما المرادُ أنَّه (أتَى بما سقطت قيمتُه)، لا أنَّه (سقطت قيمتُه هو)، ألا ترَى أنك تقولُ في نظائرِه مثَلاً: (فسَد الشيءُ): إذا عرضَ له التغيُّر إلى الأسوأ. ولا تريدُ أنه أتَى بما عرضَ له التغيُّر إلى الأسوأ.
والمصدرُ (اللَّغْو)، وهو لـ(لغَا). و(اللَّغَا). وهو لـ(لغِيَ). و(الملغاة). والثلاثة قياسٌ. و(اللَّغوَى) على غيرِ قياس.
وقالُوا: (لاغٍ)، قالَ تعالَى: ((لا تسمعُ فيها لاغيةً)) [الغاشية: 11]. و(لاغية) بمعنَى (آتيةٍ باللَّغْو)، لأنَّها اسمُ فاعلٍ من (لغَا) : إذا أتَى باللغْو. والتاء فيها للمبالغةِ. وتكونُ المبالغةُ راجعةً إلى النفي، كما في قولِه تعالَى: ((وما ربُّك بظلامٍ للعبيدِ)) [فصلت: 46]، وقوله: ((ليس لها من دون الله كاشِفةٌ)) [النجم: 58]. ويُحتمَلُ فيها أيضًا ثلاثةُ وجوهٍ أخَرُ، أحدُها أن تكونَ التاءُ للتأنيثِ على تقدير الموصوف مؤنَّثًا، كأنَّه قالَ: (شَفةً لاغيةً)، أو (نفْسًا لاغيةً). وهو وجهٌ مَقبولٌ، وإن كان دونَ الأوَّلِ. والثاني أن تكون (لاغية) مصدرًا كـ(العافية)، و(العاقبة). وهذا لم يثبت أصلاً، لأنَّ كلَّ ما ادَّعَوا فيه المصدريَّة من هذا البِناءِ محتمِلٌ البقاءَ على الأصلِ، فلا يُحمَل عليه. والثالث أن يكونَ بناءُ (فاعلٍ) هنا للنسبِ، وليس جاريًا على الفعلِ. وذلكَ أنَّه لما طالَ عليهم استِعمالُ (اللَّغْو) اسمَ عينٍ، اشتقُّوا منه، فقالُوا: (لاغٍ)، أي: ذو لغوٍ. كما قالُوا: (دارعٌ) نسبةً إلى (الدرع)، و(تامر) نسبةً إلى التمر، و(لابِنٌ) نِسبةً إلى (اللَّبَن). وهذه النِّسبةُ لم نجدها تصِحُّ في غير اسمِ العين. ويشهَد لهذا الوجهِ الحديثُ: (والحَمولة المائرة لهم لاغيةٌ)، أي: مُلغَاة. فإن (لاغية) في هذا الموضعِ لا تحتمِل غيرَ النسبِ. وإذا صحَّ ثبوتُها بهذا المعنَى في هذا الموضع، جازَ أن تكونَ واردةً في غيرِه.
وقالوا: ألغاه يُلغِيه إلغاءًا، إذا أسقطَ قيمتَه.
واستلغَاه: طلبَ منه أن يلغُو (على القياس).
والملاغاة: المهازَلةُ. وذلكَ أنَّ الهَزْل ضربٌ من اللَّغْو. وقد يأتي بِناءُ (فاعلَ) في المعنَى الذي يكثُر فيه المقابلةُ، وإن لم تقعْ، كما قالَوا: (شاتَمَه) للبادئ بالشتم، وإن لم يقابله المشتومُ بالمثلِ. وكذلكَ (الملاغاة)، ألا تَرى أنَّ الرجلَ قد يهازِلُ صاحبَه، ثمَّ لا يقعُ منه ذلكَ موقِعَه، ولا يصيبُ لديه موضِعَه. فهذا بيانٌ لهذه المسألة، أردنا لكَ أن تحيطَ بصورتِها، وتأنَسَ إليها.

=وجوه استعماله:
وقد سمَّوا بـ(اللَّغْو) ساقطَ القيمةِ على سبيلِ المجاز المرسَلِ، ذي العَلاقةِ التلازميَّة، لأنَّ (اللَّغْو) في الحقيقةِ معنًى، وهم وسمُوا بهِ ما قامَ به هذا المعنَى، كمثلِ تسميتِكَ الشيءَ الفاسِدَ فسادًا. ويجُوز أن يكونَ من بابِ الاستِعارةِ، حيثُ لم يَرضَوا أن يجعلُوا هذه الأشياءَ متلبِّسَةً بـ(اللَّغو)، حتى جعلُوها هي اللغوَ نفسَه إيغالاً في المبالغةِ، والتوكيدِ، كما قالُوا: (هو عَدْلٌ، ورِضًا). ثمَّ تُنُوسِيَ الاستِعمالُ الحقيقيُّ للكلمةِ، وحلَّ الاستِعمالُ المجازيُّ مكانَه، وأصبحَ حقيقةً عرفيَّةً.

=ومن وجوهِ استعمالِه على هذا النحوِ إطلاقُه على:
1-ما لا خيرَ فيه، ولا نفعَ من الكلامِ. ومنه قولُه تعالَى: ((والذين هم عن اللغوِ معرِضون)) [المؤمنون: 3]، وقولُه: ((لا يسمعون فيها لغوًا إلا سلامًا)) [مريم: 62].
2-ما لم ينعقِد عليه القلبُ من الأيمانِ. ومنه قول الله تعالَى: ((لا يؤاخذكم الله باللغوِ في أيمانِكم)) [البقرة: 225].
3-أولاد البهائم ما عدا أولادَ الإبِلِ. وذلكَ أنَّها إذا بِيعت أمَّهاتهنَّ، تبِعنَهنَّ بلا ثَمَنٍ.
4-ما لا يُعدُّ من أولادِ الإبِل في الدِّيَة، قالَ ذو الرمةِ:
ويهلِك بينَها المرَئيُّ لغوًا *** كما ألغيتَ في الدِّية الحُوارا

=وقد استعملُوه على سبيلِ المجازِ:
1-فسمَّوا به أصواتَ البهائمِ، وخاصَّةً الطيورَ، لأنَّهم لا يَفهمونَ عنها، ولا يفقَهونَ معانيَ أصواتِها، فشبَّهوها بما لا قيمةَ له، ولا نفعَ على جهةِ الاستعارةِ التصريحيَّةِ، وإن كانت في نفسِها ذاتَ نفعٍ لمن يَفهَم منطِقَها من أبناء أمَّتِها. قالَ ثعلبةُ بنُ صُعيرٍ المازنيُّ:
باكرتُهم بسِباءٍ جَونٍ ذارعٍ *** قبلَ الصَّباح، وقبلَ لَغْوِ الطائرِ
2-وقالوا: (اللَّغْو)، و(اللغَا)، و(اللغْوَى). وهي مصادر. ثمَّ أطلقُوها على لازِمِها، كإطلاقها على ما لا خيرَ فيه من الكلامِ. وهو مجازٌ مرسَل، عَلاقتُه التلازميَّة. وهو مذهبٌ شائعٌ في كلامِهم. ومنه قولُ العجَّاج:
* عن اللَّغَا، ورفَثِ التكلُّمِ*

الأصلُ الثاني: (مَعْنويٌّ)
وهو: لزُومُ الشيءِ، واللهَج به.

=تصاريفه:
يقالَ: لغِيَ، ولغَا يلغَى (على مِثال فرِحَ، وفتَحَ) لغًا.

=وجوه استعماله:
من وجوه استِعماله، وكلُّها حقيقةٌ، قولُهم:
1-لغِيَ بالماء.
2-لغِيَ بالشَّراب.
3-لغِيَ بالكلامِ.

=التفريعاتُ الاشتقاقيَّة لهذا الأصل:
خصَّصتِ العربُ بعضَ أفرادِ (اللَّغَا)، وهي لزومُ الكلامِ خاصَّةً، بمصدرٍ لا يشرَكها فيه غيرُها، وهو (اللُّغَة). وذلكَ ما نسمِّيه (التخصيصَ بالوضع)، أي: تخصيصَ بعضِ ما يجُوز دخولُه تحتَ لفظٍ من الألفاظِ بلفظٍ خاصٍّ به، مقصورٍ عليه، ينفصِل به عن غيرِه. وهو طريقٌ مستَتِبٌّ مُعمَلٌ. وفيه ما يؤذِنك ببَراعةِ العربيَّة، ولُطفِ اشتقاقِها، وانفساحِ مطارحِها. ونظيرُ هذا قولُهم: (أثامٌ)، و(إثامٌ) لعقوبةِ الإثمِ، فأفردوها بمصدرٍ معَ أنَّ عقوبةَ الإثمِ من مَّا يشتمِلُ عليه (الإثْمُ) من طريقِ المجازِ. ثمَّ إنهم تصرَّفوا بـ(اللغة) متصرَّفًا آخرَ، فركِبوا بها سبيلَ المجازِ، حيثُ خرجُوا بها من دلالتِها على الحدَث إلى أن سمَّوا بها الألفاظَ المتكلَّمَ بها من طريقِ المَجاز المرسَل ذي العَلاقةِ التلازمية. وذلك أنَّهم ذكرُوا (اللغة) وهي في الأصل دالة على الحدثِ، وأرادوا بها لازِمَها، وهو الكلامُ. وليس هذا بمستنكَرٍ في مذهبِهم، ألا ترى أنَّ معنَى (اللفظ) إخراجُ الشيءِ من الفمِ، وقد سمَّوا به الملفوظَ على هذا النحوِ. ومثلُه (القولُ) أيضًا. فأمسَى معنَى (اللغة) ما يلزَمه الإنسانُ من أصواتٍ، وألفاظٍ، ودلالةٍ يقعُ بها التفاهمُ بينَه، وبينَ قومِه. وقد تراهم بنَوا اشتِقاقَها بالنظر إلى أبْيَنِ صفاتِها، وهو اللزومُ، من حيثُ كانت (اللغة) من الأشياء التي تَجري مجرَى العاداتِ التي تختصُّ امرأ دونَ امرئٍ، وقومًا دونَ قومٍ، ولا تنفكُّ عن صاحبِها، أو تزايلُه.

=تصاريفه:
قالوا: (لُغَة). وأصلُها (لُغْوَة)، ثمَّ حُذِفت الواو منها كما حُذِفت في (قُلَة)، و(بُرَة)، و(ثُبَة)، وغيرِها، وفُتِحت الغينُ لمناسبة التاء. وتُجمَع على (لغات)، و(لُغًا)، و(لُغِينَ)، والثلاثةُ قياس.

الأصل الثالث: (معنَوِيٌّ)
وهو: الميلُ.

=وجوه استعماله:
1-لغَا فلان عن الطريق. (حقيقة)
2-لغَا فلان عن الصواب. (مجاز)

=تصاريفه:
يقالُ: لغَا عنه يلغو (من باب نصر). وقياس المصدر (اللغو). ولم يُسمَع.
وهذا الأصل تفرَّد به ابن الأعرابيِّ (ت 231 هـ). وفي «اللسان»: (التهذيب: لغَا فلان عن الطريق، وعن الصواب: إذا مالَ عنه. قالَه ابن الأعرابيِّ)([1]). بيدَ أنَّا إذا رجعنا إلى «التهذيب»، وجدنا هذا المعنَى غُفْلاً من النِّسبة إلى راوٍ. وذلكَ يوحِي بسقطٍ في المطبوع. وتصديقُ ذلكَ أن أبا منصورٍ الجواليقيَّ (ت 539 هـ) حكَى أيضًا في «شرح أدب الكاتب»([2]) ذلكَ الكلامَ عينَه عن ابن الأعرابيِّ. وابنُ الأعرابيِّ ثِقةٌ عَدْلٌ لا يضرُّه تفرُّدُه إذا عرِيَتْ رِوايتُه من المغامزِ، والرِّيَب.
وقد أثبتَ ابن فارسٍ (ت 395 هـ) من هذه الأصول الأوَّلَ، والثانيَ، ولم يُثبت الثالثَ([1]). ولا مريةَ من ثبوتِه كما هو ظاهرٌ.

2- تعليقات على المادَّة:
1-ذكرَ صاحبُ «العين»([1]) أن (لغَا) في قوله صلى الله عليه وسلَّم: (من قالَ في الجمعة والإمام يخطب: صه. فقد لغاَ) بمعنَى (تكلَّمَ). وهذا قولٌ مردودٌ، فإنَّ (لغَا) لا تكونُ بهذا المعنَى. وقد سُقنا من البيانِ ما يقطَع أنَّ (اللغو) لا يجيء بمعنَى (الكلامِ) عامَّةً. وإنما يأتي بمعنَى (الكلام الساقط المطَّرَح)، إذْ كانَ الكلامُ داخلاً في عمومِ (الشيءِ الساقط المطَّرَح)، فهو يصدُقُ عليه كما يصدُق علَى أولادِ البهائم ما عدَا الإبِلَ، وغيرِها. فانبغَى إذن أن يقيَّدَ هذا التفسيرُ بلفظِ (تكلَّمَ بالباطلِ)، أو نحوِه.
2-زعمَ النضر بن شُمَيلٍ (ت 204 هـ) في «غريب الحديث» (وهو مفقودٌ) كما نقلَ عنه أبو منصور الأزهريُّ (ت 370 هـ) في «التهذيب»([1]) في قوله صلى الله عليه وسلم: (من تكلّم يوم الجمعة والإمام يَخطبُ فقد لغَا) أن تفسير (لغا): خابَ. قالَ: وألغيتُه: خيَّبتُه.
قلتُ:
وهذا لا يسوغُ إلا علَى أن يُحملَ على تفسير اللفظِ بمسبَّبه، لأنَّ من تكلَّمَ بالباطلِ، خابَ.
3-ذكرَ أبو عَمْر الشيبانيُّ (ت 213 هـ) في «الجيم»([3]) أن (اللَّغَا): الصوتُ بلغةِ أهل الحجاز. وهذا قولُ منكَرٍ. وذلكَ من جهةِ مخالفتِه الاشتِقاقَ، لأنَّ اللغوَ يشمَل المطَّرحَ الساقطَ، أو ما شُبِّه به، وليس كلُّ صوتٍ يكونُ كذلك. وإنما الثابتُ الذي تنصرُه الشواهدُ إطلاقُه على أصواتِ الحيَوان، والطَّير. وعلَى أنَّ هذا القولَ من مَّا تفرَّدَ به أبو عَمْرٍ، لم يواطئْه عليه غيرُه من الرُّواة.
4-قالَ أبو منصور الأزهريُّ في «تهذيبه»([1]): (وقالَ أبو سعيد: إذا أردتَّ أن تنتفعَ بالأعراب، فاستلغِهم).
قلتُ:
أبو سعيدٍ هذا هو الضرير البغداديُّ (ت بعد 250 هـ). وليس عبدَ الملكِ بنَ قُريبٍ الأصمعيَّ (ت 216 هـ). وذلكَ أنَّ من دأب أبي منصور في كتابه أن يسمِّيَه (الأصمعيَّ)، ويسمِّيَ (الضريرَ) (أبا سعيدٍ). وقولُه: (استلغِهم) بمعنَى (اطلب لغتَهم). وعلَى أنَّ هذا علَى شرعةٍ من القياسِ تغني عن تطلُّب السَّماع، فإنَّه من كلامِ أبي سعيدٍ، ولم يُحكَ عن فصحاء العربِ الذين يُحتَجُّ بهم. فلذلك لم نذكره في أصلِ الكلامِ، إذْ كان غرضنا قصْرًا على جمع المسموع، وتشقيقه، والاحتجاج له.
5-وردَ في بعض المعاجم ألفاظٌ أُخَرُ غيرُ هذه، كـ(اللَّغَاة) بمعنَى (الصوت)، و(لغا ثريدتَه) إذا روَّاها بالدَّسَم، و(يلغُو) بمعنَى (ينطِق بعامَّةٍ). بيدَ أنَّها لم تُنْمَ إلى راوٍ أُمَنَة موثوق، وبعضُها لم يُنصَّ على سَماعِه عن العرب. فلذلك أسقطنا ذِكْرَها.

3- ذِكْرُ رواةِ الأصل الثاني:
قد علِمتَ أنَّ (اللغة) مشتقَّةٌ من قولِهم: (لغِيَ بالشيءِ) إذا أولِع به. وسنذكرُ لكَ من عرَفْنا من العلماءِ المتقدِّمين الذين روَوا هذا المعنَى، ونعزو ذلك إلى كتبهم، أو كتب من نقلَ عنهم، استيثاقًا في الحجَّة، وإتمامًا للمنفعة. واقتصرنا على هذا الأصل، إذْ كانَ هو الأصلَ الذي اشتُقَّت منه (اللغة).
فقد روَى هذا الفعلَ عن العرب أبو الحسن الكسائيُّ (ت 189 هـ) كما حكَى عنه أبو عبيدٍ (ت 224 هـ) في «الغريب المصنف»([4])، ورواه تلميذه أبو زكرياءَ الفراءُ (ت 207 هـ) كما حكَى عنه الوزير المغربي (ت 418 هـ) في «أدب الخواص»([5])، وأبو عَمْرٍ الشيبانيُّ في «الجيم»([6])، وأبو الحسنِ الأخفشُ (ت 215 هـ) في «معانيه»([7])، وأبو مِسحل الأعرابيُّ (ت بعد المئتين) في «نوادره»([8])، وابنُ الأعرابيِّ كما حكَى عنه الوزير في «أدب الخواص»([5])، وابنُ السكيت (ت 244 هـ) في «إصلاح المنطق»([9])، وأبو سعيدٍ الضريرُ كما حكَى عنه أبو منصورٍ في «التهذيب»([10]).

4- زعمٌ داحضٌ:
زعمَ بعض المحدثين كحسن ظاظا (ت 1420 هـ)، وغيرِه أنَّ (اللغة) كلمةٌ يونانيةُ المنبِت، أصلُها logos ([11]). وهذا باطلٌ، فإنَّ لهذه الكلمةِ وجهًا من الاشتِقاقِ في العربيَّة يَجوزُ أن تُرَدَّ إليه. ولا يوجب تقارب اللفظينِ في المعنَى أن يكون أحدهما أصلاً للآخر، ألا ترَى أن (سَبِطًا) ليس أصلاً لـ(سِبَطْر)، و(دَمِثًا) ليس أصلاً لـ(دِمَثْر)، وإن كانَ بمعناه([12]). فإذا كان هذا بين ألفاظِ اللغة الواحدة، فكيفَ إذا كانَ ذلك بين ألفاظ اللغةِ، واللغاتِ الأخرَى.
وقد كنتُ ذهبتُ هذا المذهبَ زمنًا لخفاء وجه اشتِقاقِها، وقلَّة تعاورِها بينَهم، ثمَّ فُتِحتْ لي مسارِبُ من النظر ردَّتني إلى الصواب إن شاء الله.
وقد حكَى هذه الكلمةَ عن العربِ فريقٌ من العلماءِ هم أكثرُ من أن نحيطَ بهم، ونستقصيَ ذِكْرَهم، من أولهم صاحبُ «العين»([1]).
فإن قِيلَ:
فما لنا لم نجدها في كلام من يُحتَجُّ به من العرب؟
قلتُ:
بلَى. قد وُجِدت في شواهدَ من الشِّعرِ، والنثرِ. فمن الشِّعر قولُ ذي الرمةِ:
من الطنابير يَزهَى صوتَه ثمِلٌ *** في لحنِه عن لغات العُربِ تعجيمُ
ومن النثرِ قولُهم: (سمعتُ لُغاتَهم)، روَى ذلك الكسائيُّ كما حكَى عنه الوزير المغربي في «أدب الخواص»([13])، والفراءُ في «معانيه»([14]) عن أبي الجرَّاح.

5- من النظائر المستعملة:
ليس خافيًا أنَّ (اللغة) وإنْ كانت مستعمَلةً في كلامِ العربِ الأوَّلِ، فإنَّ ذلكَ على قلَّةٍ. وكانُوا يستعمِلونَ مكانَها كلمتينِ أخريينِ، هما (اللِّسان). ومنه قولُه تعالَى: ((بلِسانٍ عربيٍّ مبينٍ)) [الشعراء: 195]، و(اللَّحْن). وقد رواها الأصمعيُّ، وأبو زيدٍ كما حكَى عنهما أبو بكرٍ الأنباريُّ في «الزاهر»([15])، وعنه نقلَ تلميذه أبو علي القالي في «أماليه»([16])، ورواها أيضًا ابن قتيبة في «غريب الحديث»([17]). ومنه قولُ الراجز:
*تراطنَ الزنجِ بلحنِ الأزنجِ*([18])
ومِن اللُّغويِّين مَن يحتجُّ لذلكَ بمثلِ قولِ الشاعرِ:
باتا على غُصْن بانٍ في ذُرا فنَنٍ *** يردِّدان لحونًا ذاتَ ألوانِ
ويزعمُ أن (اللحون) في هذا البيت بمعنَى (اللغات). وليس هذا بيقينٍ، فقد يجوزُ أن يكونَ معناها (الأنغام). وهو معنًى صحيحٌ ثابِتٌ، ومحتمَلٌ في هذا الموضع.

____________________

([1]) مادة لغو.

([2]) ص 32.

([3]) 3/ 194.

([4]) 1/ 254.

([5]) ص 117.

([6]) 3 / 194 .

([7]) 1/ 174.

([8]) ص 254.

([9]) ص 205.

([10]) مادة لعو (بالعين المهملة).

([11]) اللسان والإنسان له ص 121.

([12]) راجع كتابي (رسالة في مسألة كل عام وأنتم بخير) ص 20.

([13]) ص 125.

([14]) 2/ 93.

([15]) 1/ 417.

([16]) 1/ 5.

([17]) 2/ 61.

([18]) قولُه: (بلحن) صُحِّف في جميع ما وقفت عليه من كتبٍ، كالمحكم (وهو أصل التصحيف)، واللسان، والتاج، إلى (بزجل)، و(برحل). وقد أقامَه على الصواب أبو عمر الزاهد (ت 345 هـ) في كتابه (العشرات في غريب اللغة) ص 132 روايةً عن المفضل الضبي (ت 178هـ) من طريق ثعلب (ت 291 هـ) عن ابن الأعرابي. وذلك في معرِض حديثه عن (اللحن).

،،،،،،،،،

صالح العَمْري 16-11-2010 03:51 AM

أحسنت جزاك الله خيرا
وأريد أن أخبرك أنني قرأت قبل أيام كلامك في التعقيب على السيد صقر، وكنت قرأته قديما ولكنني قرأته قبل أيام في المجلس العلمي ولم أكن قرأته فيه من قبل، وقرأت رد الرجل المسمى بالواحدي فساءني كلامه جدا وعجبت من هؤلاء المتعصبة عجبا عظيما، ومن سمع كلامهم عن بعض المحققين رحمهم الله ظنهم يتكلمون عن الخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي، فنعوذ بالله من حال أهل التعصب, وأنا لا أقول هذا الكلام تعصبا لك ولا تزلفا إليك فليس بيني وبينك ما يوجب ذلك، وإنما أريد أن أقول لك كلاما لعلك أعرف به مني، ولكن الذكرى تنفع، وهو أن تعرض عن أهل التهريج والتعصب والحسد وتمضي فيما أنت عليه وتستعين بالله تعالى وتتحلى بخلق العلماء، وربما كان موضع هذا الكلام في المجلس العلمي لكنني لست عضوا عندهم ولم أستطع أن أكتم هذا في نفسي, وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.
اقتباس:

وكانُوا يستعمِلونَ مكانَها كلمتينِ أخريينِ، هما (اللِّسان). ومنه قولُه تعالَى: ((بلِسانٍ عربيٍّ مبينٍ)) [الشعراء: 195]، و(اللَّحْن). وقد رواها الأصمعيُّ، وأبو زيدٍ كما حكَى عنهما أبو بكرٍ الأنباريُّ في «الزاهر»(
اقتباس:

[15])، وعنه نقلَ تلميذه أبو علي القالي في «أماليه»([16])، ورواها أيضًا ابن قتيبة في «غريب الحديث»([17]).


ومن ذلك: اللِّسن، حكى أبو عمرو كما في إصلاح المنطق: لكل قوم لِسن، أي لغة، والله أعلم.

فيصل المنصور 17-11-2010 04:27 AM

أخي الحبيب/ الكهلاني
أشكرُ لك هذه الإفادةَ. وأنا أزعُم أنَّ أصلَ مادَّة (لسن) حِسيٌّ، وهو (اللِّسان) الجارحةُ المعروفةُ. وقد أطلقُوه على (اللغةِ) مجازًا، ثمَّ فعلُوا به ما فعلُوا في (الأثام)، فخصُّوا بعضَ أفرادِ (اللِّسان)، وهي التي بمعنَى (اللغة)، بِبناءٍ مبتدَعٍ، وهو (اللِّسْن). وحاصِل هذا أنَّ (اللِّسان) أعمُّ من (اللِّسْن). وقد ذكرَ الفيروزباديُّ في (القاموس) أنَّ (اللِّسْن) يُطلَق أيضًا على الجارحة. وليس هذا بثبْتٍ.

الطماح 21-11-2010 01:39 AM

أخي الفاضل فيصل أتعجب كثيرا منك, لأول مرة قرأت لك في ملحق الجزيرة فكان الإعجاب بك, إلى أن وجدتك في هذا المنتدى, أطال الله عمرك وغمرك بالعافية.

محمد الراضي 21-11-2010 01:45 AM

السلام عليكم .
عائد لـ قراءة ما طرحته أخي الكريم .

فيصل المنصور 27-11-2010 09:18 PM

أخي الكريم/ الطماح
يسرُّني قراءة مثلِك لما أكتبُ.
وفقك الله.

فيصل المنصور 02-01-2011 02:28 PM

اقتباس:

وتكونُ المبالغةُ راجعةً إلى النفي، كما في قولِه تعالَى: ((وما ربُّك بظلامٍ للعبيدِ)) [فصلت: 46]، وقوله: ((ليس لها من دون الله كاشِفةٌ)) [النجم: 58].
قلتُ:
ومثله أيضًا قوله تعالَى: ((وما بدَّلُوا تبديلاً)) لا يراد توكيدُ التبديلِ، لأنه لو كان كذلكَ، لجازَ أن يكونوا بدَّلوا قليلاً، وإنما يُرادُ توكيدُ نفي التبديلِ.

اقتباس:

خصَّصتِ العربُ بعضَ أفرادِ (اللَّغَا)، وهي لزومُ الكلامِ خاصَّةً، بمصدرٍ لا يشرَكها فيه غيرُها، وهو (اللُّغَة). وذلكَ ما نسمِّيه (التخصيصَ بالوضع)، أي: تخصيصَ بعضِ ما يجُوز دخولُه تحتَ لفظٍ من الألفاظِ بلفظٍ خاصٍّ به، مقصورٍ عليه، ينفصِل به عن غيرِه. وهو طريقٌ مستَتِبٌّ مُعمَلٌ. وفيه ما يؤذِنك ببَراعةِ العربيَّة، ولُطفِ اشتقاقِها، وانفساحِ مطارحِها. ونظيرُ هذا قولُهم: (أثامٌ)، و(إثامٌ) لعقوبةِ الإثمِ، فأفردوها بمصدرٍ معَ أنَّ عقوبةَ الإثمِ من مَّا يشتمِلُ عليه (الإثْمُ) من طريقِ المجازِ. ثمَّ إنهم تصرَّفوا بـ(اللغة) متصرَّفًا آخرَ، فركِبوا بها سبيلَ المجازِ، حيثُ خرجُوا بها من دلالتِها على الحدَث إلى أن سمَّوا بها الألفاظَ المتكلَّمَ بها من طريقِ المَجاز المرسَل ذي العَلاقةِ التلازمية. وذلك أنَّهم ذكرُوا (اللغة) وهي في الأصل دالة على الحدثِ، وأرادوا بها لازِمَها، وهو الكلامُ. وليس هذا بمستنكَرٍ في مذهبِهم.
اقتباس:

وأنا أزعُم أنَّ أصلَ مادَّة (لسن) حِسيٌّ، وهو (اللِّسان) الجارحةُ المعروفةُ. وقد أطلقُوه على (اللغةِ) مجازًا، ثمَّ فعلُوا به ما فعلُوا في (الأثام)، فخصُّوا بعضَ أفرادِ (اللِّسان)، وهي التي بمعنَى (اللغة)، بِبناءٍ مبتدَعٍ، وهو (اللِّسْن). وحاصِل هذا أنَّ (اللِّسان) أعمُّ من (اللِّسْن).
قلتُ:
ومثالٌ ثالثٌ يزيدُ المسألةَ بيانًا. وذلكَ قولُهم: (الحَسَك)، فإنَّه في اللغة (نباتٌ ذو شَوكٍ). ويدخُلُ فيه (الحِقدُ) على سبيلِ الاستِعارة. ثم إنهم عمَدوا إلى بعضِ أفرادِه، وهو (الحِقْدُ)، فآثَروه بِأبنية أخرَى خاصّةٍ، وهي (الحسيكة)، و(الحسَكة)، و(الحُساكة). فإذا قلتَ: (في صدرِه عليَّ حسيكةٌ، وحسَكة، وحُساكة)، لم يكن ذلك إلا (الحِقدَ، ونحوَه)، ولم يَجُز أن يُطلَق على ذلك النباتِ ذي الشوك، وإن كان هو الأصلَ في الاشتِقاقِ. وهذه المسألة تخبِرك كيفَ تتناسَل ألفاظُ العربيَّة، وكيفَ يتفرع بعضُها من بعض.

صالح العَمْري 02-01-2011 03:53 PM

نِعْمَ ما قُلتَ يا أَبا قُصَيّ، كلامُك مُقنع وحُجَّتُك قويّة، باركَ اللهُ لك وزادَك مِن فضلِه.
لكن كيف تصنَع بالحسَكة يا أبا قُصَيّ؟ أليست واحدةَ الحَسَك ذي الشوك؟

فيصل المنصور 02-01-2011 09:19 PM

بلَى، بارك الله فيك. ذلكَ غَفلةٌ منِّي.
أشكر لك تنبيهَك.

عايش الزور 06-02-2011 10:09 AM

أحسنت وجزاك الله خير على ماقدمته هنا ..
تحياتي لك وللجميع هنا

أبو سهل 17-04-2011 02:10 PM

ومن طريف ما يؤثر عند العامة في ( اللغة ) مما يرد إلى الأصل الأول الذي ذكره أبو قصي قول بدوي كان عندنا في الحي وقد سألته قبل أيام عن شيء كان أنكره في خلق الناقة فقال للذي جهله : هذه لغاة فاسدة . وكان هذا البدوي عاش في البادية أربعين عامًا وفي الحاضرة أكثر من خمسين عامًا . وعنده من غريب اللغة العامية التي أصلها فصيح شيء كثير .

فيصل المنصور 18-04-2011 01:33 PM

بوركتَ يا أبا سهلٍ.
ولعلَّك تتنفع به قبلَ أن يسبِقك إليه الأجلُ. وقد أذكرَني هذا قولَ ابن جني في (خصائصه) ما معناه: (ولو عُلِم أنَّ أهل بلدٍ باقونَ على فصاحتهم، لوجب الأخذ عنهم) يريدُ في أيِّ زمانٍ كانَ.

أبو راكان فهد 29-06-2011 03:21 AM

السلام عليكم
إجابة أبي قصي الأخيرة تقودني إلي سؤاله عن عصر الاحتجاج و ما رأيه فيه ؟

فيصل المنصور 30-06-2011 02:40 PM

وعليكم السلام.
الذي عليه جمهورُ العلماءِ أنَّ عصر الاحتجاجِ ينقطِع في الحاضرةِ عند منتصَف القرن الثاني. وآخِر شاعر يستشهَد بشعرِه إبراهيم بن هَرْمة. وأمَّا في الباديةِ (والمراد باديةُ الجزيرة)، فيمتدُّ الاحتجاجُ حتَّى منتصفِ القرن الرابعِ. وقد احتجَّ أبو منصور الأزهري (ت 370 هـ) في (تهذيب اللغة)، وأبو نصر الجوهري (ت نحو 400 هـ) في (الصحاح) بكلامِِ أعراب نجدٍ، والحِجاز الذين كانُوا في زمنِهم، وتلقَّى العلماءُ ذلك بالرِّضا، والقَبول.
ولا يحتجُّ بكلامِ أحدٍ بعد هذا العصر كالشافعيِّ (ت 204 هـ)، وأبي نواسٍ (ت 198 هـ)، وأبي تمَّام (ت 231 هـ)، والبحتري (ت 284 هـ)، والمتنبي (ت 354 هـ)، وغيرهم.
هذا قولُ الجمهورِ، وهو رأيي الذي أعتقِده. وإنما ذكرتُ مقالةَ ابن جني في المنازعة السابقة استئناسًا. ولم أرِد أنَّه قد يُحتَجُّ بأعرابِ هذا الزمانِ. ولا يَخفَى عليك أنَّ اللغةَ لم تدرس كلُّها، وإنما بقِيَ منها شيءٌ كثيرٌ. فإذا وقعتْ لصاحب اللُّغة ألفاظٌ فصيحةٌ في كلامِ العامَّة، أمكنَه أن يستخرجَ منها جملةً من الفوائدِ، واللطائفِ، واستهدَى بها إلى معرفةِ أصولِ التطوُّرِ، وتحقيقِ عللِ العربِ، لأنَّ العللَ جلُّها طبيعيّة، وليست وضعيَّة، فمهما انحرفت الألسنُ، واضطربت المقاييس، فإنَّ العللَ تكادُ تكونُ ثابتةً لا تتبدَّلُ، ولا تحولُ. وذلك كعلَّة الاستخفاف، وقياس الشبه، والتوهُّم، ونحوها.

حنان 04-08-2011 01:58 PM


(اللّغة) في اصطلاح القدماء:
إنّ أنضج تعريفٍ وصل إلينا (للّغة) عند القدماء هو تعريف ابن جنّي (ت392هـ) إذ يقول :
" أصوات يُعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم " (الخصائص :1/33) .
نجد إن هذا التّعريف يضمّ مفردات لها القدرة على تشكيل الإطار العامّ لخصائص (اللّغة) ، هي (الأصوات ، القوم ، الأغراض ، التّعبير) :
1. الأصوات : وتعدّ البنية الأساسيّة للّغة ، وبها أخرج ما يُحتمَل أن نُطلق عليه (لغةً) من إشارات مُفهِمةٍ كلغة الإشارة ، ولغة الجسد وغيرهما ، فاللّغة التّي يحدّها ابن جنّي هي لغة صوتيّة ، وتكون اللّغة حينها عمليّة بايلوجيّة فسلجيّة . لكن هل هذا الصّوت هو مجرد صوتٍ منبعِث من الجهاز النّطقيّ عند المصوِّت، أم هو صوت منظّم؟ وإن كان منظّماً هل بالضّرورة أن يدلّ على معنىً ، أم يصحّ أن يكون مهملَ الاستعمال؟ وكيف نعرف إن هذا اللّفظ يدلّ على معنىً وذاك اللّفظ لا يدلّ على معنىً ؟ يُجيب ابن جنّي عن هذه التّساؤلات في التّعريف نفسه والتّي تتّضح لدينا عند معرفة المفردات (القوم ، الأغراض ، التّعبير) .
2. القوم : يذكر الخليل إن (القوم) تدلّ على الرّجال دون النّساء مستنداً إلى قوله تعالى " لا يسخر قوم من قوم ، عسى أن يكونوا خيرا منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " إذ فهم من قوله تعالى في الآية أن النّساء ليست من القوم (العين :5/231) ، ولكننا نستطيع أن نفسّر قوله بأن الأغلب يُطلق على الذّكور دون الإناث لأن الأصل التّذكير فأطلق العامّ وأراد به الخاصّ والعامّ ، وهذا ما قال به الجوهريّ : "وربما دخل النساء فيه على سبيل التّبع ، لان قوم كل نبي رجال ونساء " (الصّحاح 5/2016)، ولكن دلالة هذه الكلمة في الاستعمال تدلّ على الجنسين الذّكر والأنثى .
وهذه المفردة تشير إلى أن اللّغة تجري بين أفراد المجتمع الواحد على اختلاف جنسه ، وبين أكثر من شخصٍ واحد ، وبهذا تكون العمليّة اللّغويّة اجتماعيّة مستندة إلى طرفين رئيسّين هما : المتكلّم والسّامع ، أو الطّرف الباثّ والطّرف المستلِم ، سواء أكان المستلِم (السّامع) موجود بالحقيقة أم موجود بالافتراض ، مثال ذلك : الشّخص الذي يكتب مذكّراته الشّخصيّة ويَملي بها الأوراق ولا يريد أن يطّلع عليها أحد يكون المستلِم افتراضيّاً هو يكوّنه أو يخلقه ، وقد يأتي يوم يمتنع العذر الّذي من أجله أسرّ تلك المذكّرات فيظهر المستلِم .
كما تشير هذه المفردة إلى أن لكلّ قوم لغة خاصّة بهم دون غيرهم ، وإن سلّمنا بتعدّد اللّغات للأقوام المختلفين نسلّم بأن الألفاظ التّي يلفظها القوم المعيّنون هي ألفاظ منظّمة بقواعد موضوعة من قِبَلهم ، فهم يحدّدون المستعمل منها والمهمل ، ويضعون الألفاظ ويصطلحون أخرى بما يتلاءم مع متطلّبات مجتمعهم ، وبهذا أُجيبَ عن بعض التّساؤلات التّي طرحناها في مفردة (الأصوات) .
3. الأغراض : وتعني هذه المفردة لغويّاً القصد أو الهدف الذي يُرمى به ، ثم جعلت اسماً لكلّ غاية يُتحرّى إدراكها (يُنظَر : العين 4/364، وتاج العروس 10/ 107)، فهي مفردة ذات معنىً واسعٍ شاملٍ يضمّ في طيّاته الكثير من الدّلالات ، وكلّ الكائنات الحيّة تملك الأغراض مهما تبلغ نسبة بساطتها أو تعقيدها ، فبعض النّباتات تشعر بالخوف من الحيوانات التّي تودّ أكلها فيتكوّن غرض الحماية في داخلها ، والحيوانات أغراضها أوضح من أغراض النّباتات وأكثر تطوّراً ، فهل لنا أن نعدّ هذه الأغراض شبيهة الأغراض الإنسانيّة أم هناك فيصل في الموضوع ؟ الجواب : وان تشابهت الأغراض في مفهومها العامّ فالفيصل موجود ، إذ إن الأغراض الإنسانيّة مستندة إلى العقل المفكّر ؛ لذا نجدها متعدّدة ومعقّدة ، فمنها الماديّ المحسوس ويسمّى (الفكرة) كالشّجرة والماء والثّوب ، ومنها المعنويّ الذي لا يحسّ بالحواسّ الخمسة ويسمّى (الفكر) كالحقّ والباطل والحبّ والكره والمَيل .
4. التّعبير : هو الإبانة والتّفسير والكلام عما يجول في الذّهن والنّفس من أغراض يريد المتكلم إظهارها وبيانها (يُنظَر : تاج العروس 7/177) ، وهذه المفردة تُشير إلى الجانب النّفعيّ الوظيفيّ للّغة ، وتشير أيضاً إلى القصديّة والإراديّة والنّظاميّة في اللّغة .
بعد معرفة هذه المفردات يمكننا أن نبيّن جوانب العمليّة اللّغويّة بمنظار ابن جني وهي :
1. الجانب البايلوجيّ الفسلجيّ المتمثّل بـ(الأصوات) .
2. الجانب السيكولوجيّ الانفعاليّ المتمثّل بـ(الأغراض) .
3. المتكلِّم والمستمع بالحقيقة أو الافتراض، وهما القطبان الرّئيسان اللّذان تدور حولهما العمليّة اللّغويّة والمتمثّلان بـ(القوم) .
4. الوسط الفيزيائيّ النّاقل للرّسالة بين القطبَين باختلاف أشكاله .
ولو صُغنا تعريف ابن جنيّ للّغة بما فهمنا لأصبح :" اللّغة عمليّة بايلوجيّة فسلجيّة منظّمة (الأصوات) تدور بين المتكلّم والسّامع بوسطٍ فيزيائيٍّ ناقل للرّسالة (القوم) لإظهار وبيان الانفعال السيكولوجيّ للمتكلّم (الأغراض)" .
ومن العلماء المتأخّرين عن ابن جنّي والّذين عرّفوا اللّغة هم ابن سنان الخفاجيّ :" ما تواضع القوم عليه من الكلام " ، وابن الحاجب (ت646هـ) :" كل لفظ وضع لمعنى" ، والجدير بالملاحظة أن التّعريفَين كليهما يستندان إلى تعريف ابن جنّي ، ويوضّحان جزء منه كالتّواضع والاصطلاح أو المعنى واللّفظ ، فلم يأتيا بجديد .
مما تقدم تتّضح لنا معالم اللّغة وخصائصها ، وهي : إنسانيّة ، صوتيّة ، متعدّدة ، إراديّة ، قصديّة ، نفعيّة ، معبّرة عن الأفكار والفكر ، نظاميّة ، وضعيّة ، مكتسَبة ، اجتماعيّة ، مركّبة ، ممكنة التّعلم .


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 09:25 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ