ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية

ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية (https://www.ahlalloghah.com/index.php)
-   حلقة النحو والتصريف وأصولهما (https://www.ahlalloghah.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   عبد القاهر الجرجاني نحويا (https://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=191)

أبو عبد الله 12-06-2008 03:24 PM

عبد القاهر الجرجاني نحويا
 
عرف الباحثون عبدَ القاهر الجرجاني بلاغيا ، وشهدوا له بالسبق وأقروا له بالتفوق ، وهو المعروف في كتب الأقدمين بـ(عبد القاهر النحوي) وقد ترك عبد القاهر في النحو ىثارا طيبة ، ضاع منها ما ضاع ، وبقي منها ما بقي .
ومما بقي من تراثه كتابه (المقتصد) الذي شرح فيه كتاب أبي علي الفارسي المسمى :(الإيضاح العضدي) . و(الإيضاح) مختصر في النحو ألفه أبو عليّ لعضد الدولة البويهي فكأنه استصغره ، فألف أبو علي كتابا آخر سماه : التكملة . ومن العلماء من يعد الإيضاح والتكملةكتابا واحدا ، ومنهم من يعدهما كتابين . والراجح انهما كتاب واحد ؛ لأن الشراح وشراح الشولهد قد رأوا أنهما كتاب واحد . ومن هؤلاء الشراح عبد القاهر الجرجاني الذي شرح (الإيضاح) والتكملة في كتاب (المغني) الذي يقع في ثلاثين مجلدا ، ولم يصل إلينا شيء منه ، ثم اختصره في كتابه (المقتصد) .
وقد اتسم منهج عبد القاهر في كتابه المقتصد بمميزات ، أبرزها :
1- أنه سار على الترتيب الذي وضعه أبو علي في كتابه (الإيضاح) .
2- انه كان "كثيرا ما يقف من الفارسي موقف المناصر له المؤيد لأقواله ، بل كان يرى أبا علي في منزلة لا يصل إليها غيره من العلماء "
3- ومن الملامح البارزة في منهج عبد القاهر عنايته بقضية الأصالة والفرعية ، وبلغ من عنايته بها أن جعلها هدفا من أهداف تأليفه كتاب المقتصد .
ولو أن باحثا عكف على كتاب المقتصد ، ليدرس قضية الأصالة والفرعية في النحو العربي ، مستمدا أصول بحثه من القواعد التي نثرها عبد القاهر لكان في ذلك خير كثير إن شاء الله
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

خليل التطواني 03-07-2008 10:52 PM

رد: عبد القاهر الجرجاني نحويا
 
http://www.ahlalloghah.com/clear.gif هذه أولى مشاركاتي معكم أحببت أن تكون معكم ومع عبد القاهر الجرجاني
والذي أود أن أشير إليه في هذا الباب أن كتابيه المشهورين في البلاغة وهما دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة, يشهدان له باتساع علمه بالنحو ولقد أقام بناء البلاغة على أساس النحو
خالص التحية

دقي جلول 08-12-2008 12:03 PM

دقــي جلـول
جامعة ابن خلدون -تيارت
الروافـد النحـويـة لعبد القاهر الجرجاني
شهد النحو العربي قبل عبد القاهر الجرجاني تطورا لافتا، مع وضع سيبويه لمصنفه الشهير"الكتاب"، لتتوالى بعده المؤلفات، وتتعدد الموسوعات، آخذة جل اهتمام الدارسين، غير أن الشيء الذي ميزها في هذا الصدد أنها تصب كلها في مصب واحد، و هو العناية بالإعراب و البناء، وقد بلغت درجة هذه العناية مبلغ الزهد فيه، وهو ما أشار إليه الجرجاني في كتابه: "دلائل الإعجاز " بقوله: "و أما النحو فظننته ضربا من التكلّف، و بابا من التعسّف، و شيئا لا يستند إلى أصل و لا يعتمد على عقل، و أن ما زاد منه على معرفة الرفع و النصب، و ما يتصل بذلك تجده في المبادئ، فهو فصل لا يجُدي نفـعا و لا تحصل منـه فائـدة ") (.
فهو على هذا يعيب على الذين أساءوا الاعتقاد بالنحو، إذ كانوا لا يرون له فضلا إلا في معرفة الرفع و النصب و الجر، و ما إلى ذلك. وعليه وجب تجاوز هذه القواعد التي لا تستند إلى أي أصل وصناعة، فالنحو قبل كل هذا قواعد مضبوطة، تحتاج إلى منطق سليم، ورؤية ثاقبة، وصناعة لا يجيدها إلا الحذّاق، يعتمد الجديد، وهو ما تمّ على يديه، إذ أكد على وضع الألفاظ في المقام الذي يليق بها، إضافة إلى أنه ألزمها أن تخضع لقواعد النحو، وهو عين ما أكده من خلال فكرة النظم، المستندة أصلا على معرفة أصول النحو.
إن ما توصل إليه الجرجاني في كتاب "دلائل الإعجاز" لم يكن إلا نتاج اطلاعه الواسع على بحوث سابقيه في مجال البحث النحوي، خاصة أستاذه أبو علي الفارسي* و صاحب الكتاب سيبويه.
إن المطلع على ما جاء في كتاب" دلائل الإعجاز"يلمس بصمات الشيخين بادية للعيان بين دفتي الكتاب، و إذا ذكرنا أبا علي الفارسي، فلا ريب أننا نعني به إمامه وأستاذه الأول الذي تتلمذ عليه و قدمه على سائر النحاة، فقد كان "الفارسي" شخصية ذائعة الصيت في أوساط النحويين خاصة تلك التي تهتم بعلمي التصريف، و القراءات.
سار عبد القاهر على نهج أستاذه، حينما وضع الكثير من المصنفات النحوية ؛لعل أشهرها كتابه: "العوامل المائة "، و هو مختصر يشرح فيه مجمل آرائه في مقدمة الكتاب نفسه، إذ يقول:" فاعلم أنه لابد لكل طالب معرفة الإعراب من معرفة مائة شيء، ستون منها تسمى عاملا، و ثلاثون منها تسمى معمولا، وعشرة منها تسمى عاملا، و إعرابا، فأبيّن لك بإذن الله تعالى هذه الثلاثة على طريقة الإيجاز في ثلاثة أبواب:
- الباب الأول: في العـامل.
- الباب الثانـي: في المعمـول.
- الباب الثالث: في الإعراب"( ).
ولقد بلغت شدة ولع الجرجاني بالكتاب أن أفرد له شروحا عدة عميمة الفائدة، وإذا كان هذا حال الجرجاني فإن دارسين آخرين رأوا رأيا آخر، ومنهم القفطي الذي قال عنه: "و هو مقتصد من مثلـه على ما سمـاه لم يأت فـي الإيضاح بشيء له مقدار، و لما تبرّع في التكملة لم يقصد بنسبته إلى ما عهد منه، فلو شاء لأطال، و ذكر أن عبد القـاهر أتمّـه في شهر رمضان سنة أربع و خمسين و أربعمائة، و قرأه عليه من أوّله إلى آخره قراءة ضبط وتحصيل أحمد بن محمد الشجري"( ).
إن تأثير أبي علي الفارسي كان واضحا في كتاب: " دلائل الإعجاز " ويظهر ذلك جليا في نقل الجرجاني لكثير من القضايا التي جاءت بين دفتي الكتاب، إذ نجده يستشهد به كثيرا في بعض من مواضع الكتاب، كقوله في شرح مقصود (إنما): "يقصد بها "ما و" إلا ") (. ولعل من أهم الشواهد النقلية عن تأثير الفارسي على الجرجاني ما ملخـصّه:
أولا: استدلاله به في تأكيد الخبر المقدم الوارد في جملة البيت الشعري: "كراي كـراكا" حينما استدل بها عبد القاهر في كتاب" دلائل الإعجاز "على تقديم الخبر ؛إذ يرى أن كلمة "كـراي"ينبغي أن تكون خبرا مقدّما، الأصل فيها: "كـراي كـراكا "،لأنها عرف الاستعمال، وهو ما وقف عنده أبو علي الفارسي في كتابه: "الإغفال" لما جعل الأول خيرا مقدما، وفي هذا السياق يقول عبد القاهر: " و اعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين، فيجعل مبتدأ و خبر إلا أشكل الأمر عليك فيه، فلم تعلم أن المقدم، خبر حتى ترجع إلى المعنى و تحسن التدبّر. أنشد الشيخ أبو علي الفارسي في التذكرة) (.
نَـمْ وَ إِن"ْ لَمْ أَنَـمْ كـراي كـراكا
ثم قال: ينبغي أن يكون "كـراي "خبرا مقدما، و يكون الأصل "كـراك كراي " نم و إن لم أنم، فنؤمك نومي كما تقول: قم و إن جلست فقيامك قيامي، هذا هو عرف الاستعمال في النحو") ( . يرى عبد القاهر أن "كـراي " خبر مقدم، و يكون الأصل "كـراك كـراي " لأنه عرف الاستعمال. وكان ابن تاويت محقق كتاب دلائل الإعجاز قد أشار إلى قضية تأثير أبي علي الفارسي في كتاب دلائل الإعجاز بقوله: " إن كتاب الدلائل فيه ثمرات أبي علي الفارسي، ما اقتطف من شجرة اجتهاده، و دؤوبه على علم اللغة أكثر من سبعين عاما") (. إلى ذلك نجد أن عبد القاهر يستشهد بالآراء التي ساقاها أستاذه في كتابه "الإغفال") (. والذي كان له أهمية خاصة عند الجرجاني ، من خلال الشواهد الشعرية التي استدل بها في "دلائله ".
و من النحويين أيضا الذين تأثر بهم عبد القاهر الجرجاني نجد "ابن جـني" الذي ظهرت بعض بصماتـه في " الدلائـل" خاصة، فـي ذلك الباب الذي يتعلق باللفـظ و المعـنى، إذ أفرد له جانبا هامّا من صفحات كتابه، ويعـلّق جودت فخر الدين بهذا الخصوص قائلا( ): "من الممكن أن يكون عبد القاهر قد أفاد من بحوث بعض النحويين فيما يتعلق بالمعنى و معنى المعنى، و بالأخص ابن جني الذي عقـد في كتابه ( الخصائص ) "بابا في إيراد المعنى بغير اللفظ المعتاد"( ) ، و "بابا في الرد على من ادّعى من العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني "( )، يقول فيه: "فإذا رأيت العرب قد أصلحوا الألفاظ و حسّنوها، وحموا حواشيها، و هذّبوها، و صقلوا غروبها، فلا ترينّ أن العناية إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمـة منهم للمعاني، و تنويـه بها و تشريـف منها، و نظير ذلك إصلاح الوعاء و تحصينه، وتزكيته، و تقديسه، و إنما المبغى بذلك منهم الاحتياط للموعي عليه، و جواره بما يعطي بشرا، و لا يعر جوهره،كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه من كدرة اللفظ وسوء العبارة عنه"( ).
و من الأعلام البارزة أيضا و التي عُدّت رافدا فكريا لعبد القاهر الجرجاني، إمام النحاة وعلمها الشامخ أبو بشر عمر بن عثمان و المعروف "بسيبويه" صاحب الكتاب الأشهر. الذي لا يزال مرجعا أساسا في كل الدراسات اللغوية إلى اليوم، قال عنه المازني (ت 249هـ) " من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد سيبويه فليستح مما أقدم عليه") ( ، وقال عنه ابن جني: "لقـد خطب (جمع) بكتابـه و هو ألف ورقة علما مبكرا، و وصفا متجاوزا لما يسمع و يرى") (، و لا غرابة في مثل هذه الآراء فهو بحق موسوعة لغوية، ولقد صدق حين سماه " قرآن النحو" وتكفي شهادة السيوطي حين قال: "أعلم الناس بالنحو بعد الخليل، و ألف كتابه الذي سماه قرآن النحو، وعقد أبوابه بلفظه و لفظ الخليل") (.
وبالرجوع إلى محتـوى الكتاب، فإن سيبويه تعرض فيه لمسائل كثيرة في قواعد اللغة و الأدب بغية تفسير القرآن، وفهم أشعار العرب، والوقوف على أسرار اللغة وتراكيبها، فناقش فـيه موضوعـات علم المعـاني كالحـذف، والتقديم و التأخير، الفصل والوصل، و القصر، وهي الأبواب التي يشترك فيها مع عبد القاهر في كتاب: دلائل الإعجاز، فكانت صلة القرابة شديدة بينهما؛ مما حدا بالشيخ إلى الاستدلال ببعض منها، والمخالفة في البعض الآخر منـها، ومثال على ذلك باب التقـديم والتأخـير الذي أولاه سيبـويه اهتماما وعنـاية في التراكيب من المسـائل التي لم يستحسنها الشيخ؛ وهو ما علق عليه في كتابه بقوله:"و اعلم أن لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل، غير العناية و الاهتمام، فقال صاحب الكتاب و هو يذكر الفاعل و المفعول: كأنهم يقدمون بيانه أهم لهم، و هم بشأنه أعني، و إن كانا جميعا ويهمـانهم و يعنيانهم و لم يذكر في ذلك مثالا"( ). فعبد القاهر الجرجاني في هذا يعاتب سيبويه عتابا لطيفا، و يحدد عليه ما ينبغي أن يشير إليه، فيعقّب على هذه المسألة قائلا: "و لتخيّلهم ذلك قد صغر أمـر التقديم و التأخير في نفوسهم، و هوّنوا الخطب فيه، حتى أنك لترى أكثرهم يرى تتبـعه و النظر فيه ضربا من التكلف، و لم تر ظنا أزرى على صحبه من هذا و شبهه") (، كما يؤاخذه أيضا على عدم تقديم أمثله كافية في هذا الباب، و بالمقابل ينقل عنه بعض الفقرات التي استدل بها الجرجاني في كتاب "الدلائل" نذكر منها النقاط التالية:
أولا : : نقـل عنه عبارة فـي كتابه والتي افتتح بها سيبويه كتابه في أول سطر منه "هذا علم الكلم من العربية") )، كما أخذ عنه سحر بلاغة التقديم ) (.
يرى كثير من الباحثين أن لسيبويه الفضل في تقـديم سر هـذا اللون البلاغـي، على اعتبار أن من سبقه لم يقف على هذه الأسرار البلاغية، ذلك أن "العلماء قبله كانوا يعرفون التقديم و التأخير و لكنهم لم يقفوا على أسراره البلاغية، هذا يونس بن حبيب (ت183هـ) الذي روى عنه سيبويه كثيرا من مسائل الكتاب يعرف التقديم ويذكره حين يعرض لجواب الشرط بعد الاستفهام، فيقول:"إن تأتيني أتيك بالرفع و يقول: هو في نية التقديم و تقريره أآتيك إن تأتيني") (، و معنى ذلك أنه يعالج التقديم و التأخير في الكلام بلفت النظر إلى سره البلاغي") (.
و إن كان الجرجاني استمد فكرة سيبويه إلا أنه لم يقاسمه إياها حتى نهايتها إذ يقول في هذا الشأن: " اعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية و الاهتمام، قال صاحب الكتاب و هو يذكر الفاعل و المفعول:" كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم بشأنه اعني، و أن كنا جميعا يهمانهم و يعنيانهم "و لم يذكر في ذلك مثالا") (.
ثانيا: نقل عنه بعض من الشواهد في باب الحذف) (، و نعني بها تلك الأبيات الشعرية والتعليقات المصاحبة لها كقول الشاعر:
إِعْتَادَ قَلْبُكِ مِن لَيلَى عَوَائِدُهُ **** وَهَاجُ أَهوَائكِ المَسْكُونَة الطَّلَل
رَبْعٌ قواءٌ أَذَاعَ المُعصِرَات بِهِ **** وَ كًلّ حَيْرَان جَارَ مَاؤُهُ خَضِلُ( (
فالحذف لا يكون مطلقا، و إنما يكون إذا كان المخاطب عالما به، و في الموضوع ذاته ينقل الشيخ عن سيبويه بعض أدوات الحذف، و فيها "يقرر عبد القاهر أن الحذف لا يكون إلا عن دليل حالي أو مقالي، فالدليل الحالي هو ما كان منسوبا إلى الحال أو الصفة التي يكون عليها المخاطب حين توجه إليه العبارة المستعملة على " الحذف " عليه ، والدليل المقالي هو الذي تشمل عباراته على حال المحذوف") (.
ثالثـا: استعار من سيبويه كثيرا من المصطلحات و مثال على ذلك مصطلح "الكلم") ( الذي استعمله سيبويه أول مـرة كبديل لمـعنى "الكلام" و كان يـخصّ به الكثيـر.
رابعا: استدل بكلام سيبويه في :"إن" تجيء لخبر لا يجهله المخاطب، و هذا الذي أشار إليه في كتابه بقوله: "مثال ذلك أن " صاحب الكتاب " قال في باب كان: "إذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده عندك، و إنما ينتظر الخبر فإذا قلت: حليما، فقد أعلمته مثل ما علمت و إذا قلت: كان حليما، فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة، و ذاك أنه إذا كان معلوما لا يكون مبتدأ من غير خبر، و لا خبر من غير مبتدأ كان معلوما أنك إذا قلت: كان زيد. فالمخاطب ينتظر الخبر، و إذا قلت: كان حليما، أنه ينتظر الاسم، فلم يقع إذا بعد "إنما"، و إلا شيء كان معلوماتي السامع من قبل أن ينتهي إليه) (. كما استشهد به أيضا في تقديم الاسم في مثل قوله: محمد قام تفيد التنبيه ) (.
خامسا: تعدت استفادته من صاحب الكتاب في تناول لمسألة خصائص النظم من خلال معنى النظم و ائتلاف الكلام، و ما يؤدي إلى صحته و فساده و حسنه و قبحه. مما جعل بعض الباحثين كأحمد المراغي إلى اعتباره واضع علم البلاغة العربية، ويستدل هؤلاء بطريقة تناول الدرس اللغوي في ذلك الوقت، إذ كانت العلوم متداخلة الكل يصب في بعضه البعض، فاللغة، والنحو، والبلاغة كلها كانت بمثابة روافد متعددة تصب في مجرى واحد هو: إثراء اللغة والمحافظة على سلامتها، وهذا الأمر ينطبق على كتاب سيبويه الذي لم يكن يتناول موضوعا واحدا بعينه، بل كان متناولاً لها جميعا، ومنظما لها في باب واحد، ولم يخطر على باله أن يفضل هذه العلوم عن بعضها البعض، أو يضع لها مصطلحا بعينه، ولذلك فإن سيبويه في إدراكه لتداخل هذه العلوم قد اهتدى إلى ربط النحو بالمعاني، فنفخ في النحو روحه، و تطور هذا الأمر إلى أقصى درجاته على يد عبد القاهر الجرجاني، ورغم المحاولات التي أرادت أن تشوّه عمل سيبويه كونه بدعوى أنه لم يذكر لها مصطلحات، أو لأنه لم يضع لها قوانين، كالمصطلحات والقوانين المتعارف عليها اليوم، إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال لجاحد أن يتنكر لجهود سيبويه التي قدمها لخدمة البلاغة العربية الأساس في بناء هذا العلم بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني: كالحذف والزيادة، والذكر والإضمار، والتقديم والتأخير، والاستفهام والقصر، والفصل والوصل، والمجاز العقلي، والتعريف والتنكير ومقتضى الحال، القلب، إلى جانب عرضه لتلك الصور التي تحدث فيها عن خروج الكلام وأساليبه ضمن إطار تأديته للمعنى وفق قوالب النظام اللغوي للعربية، كما تحدث عن أسرار التراكيب وتأليف الكلمات، وصوغ العبارات، وإبراز الفرق بين تعبير وآخر، مع الإشارة إلى أن اهتمامه لم يكن قاصرا على أواخر الكلمات، و بيان إعرابها و بنائها وإنما تجاوز ذلك إلى نظم الجملة والجمل.( ) وقد وافقـه في ذلك عدد من المهتمين بالدراسات البلاغية، وحجّتهم في ذلك حصيلة ما كتبه سيبويه نفسه في " الكتاب" لاسيما تلك الفقرة التي تدلل على معنى "ائتلاف الكلام" إذ يقول:"هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة، فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب، فأما المستقيم الحسن فقولك: آتيك أمس بآخره، فتقول: آتيك غدا، وسآتيك أمس، وأما المستقيم الكذب، فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه، وأما المستقيم القبيح، فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك قد زيد رأيت، وكي زيد يأتيك وأشباه هذا، وأما المحال الكذب، فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس"( ). ولقد حصر سيبويه مجال الكلام و أنواعه في مجالات خمس نعددها على النحو التالي: ( ).





فالكلام على هذا يعتمد أساسا تأليف التركيب، وبناء الأسلوب، والتطابق مع الواقـع، فسيبويه يستهدف ائتلاف الكلام، والتمييز بين مختلف أنواعه، فهدفه نحوي خالص، ولو أن فريقا من الباحثين يحملون النص دلالة أخرى. كيف ذلك؟ إنهم ربطوا كلام سيبويه بمسألة "النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، وبالتدقيق في نظريته الشهيرة التي مفادها أن "النظم إنما هو توخي معاني النحو، ووضع الألفاظ موضعها الصحيح "( ). فلقد كانت نظرية "النظم" بهذا قاسما مشتركا بين سيبويه و الجرجاني، وإن اختلفت المسميات، وهي الرؤيـة التي ذهب إليها كل من إبراهيم مصطفى في كتابه" إحياء النحـو"( )، و علي ناصف النجدي في كتابه: " سيبويه إمام النحاة"( ). إذا يمكننا القول بأن لسيبويه فضلا كبير الأثر على الجرجاني في مسألة تناول موضوعات علم المعاني، فهو بحق كان رافدا هاما في تأليف "دلائـل الإعجاز".
وتأسيسا على ما سبق نخلص إلى أن عبد القاهر الجرجاني،، قد استفاد من جهود أئمة النحو السابقـين، الذين تركوا آثارهم عليه، الأمـر الذي ساهم في بلـورة نظريتـه على النظم، بدءا بسيبويه وانتهاءً بمن جاء بعده، إلى القرن الرابع الهجري، فلقد ارتدت بذلك الدراسة اللغوية ثوبا زاهيا بهيا يتمثّل فيما وجدناه عند أبي علي الفارسي، و تلميذه ابن جني، باعتبارهما من كبار النحاة، فقد ساهما بطريقة أو بأخرى في إرساء القواعد اللغوية، التي بفضلها استطاع عبد القاهر أن يُرسي دعائم نظرية للفكر اللغوي أساسها الفكر النحوي "فمنهج عبد القاهر هو منهج النحو، الذي لا يقف عند حدود الحكم، بالصحة والفساد، بل يمتدّ إلى البحث في العلائق التي تقيمها اللغة بين الكلمات، فوسّع بذلك أفق النحو، ليشمل كل ما يراعيه النظم من تقديم وتأخير، وما إليه من أسباب الجودة وعدمها، فيما يدخل ضمن باب علم المعاني( ) ، و من ثمّ كان الأساس عنده هو النحو، على أن يشمل هذا الأخير علم المعاني، و أن يتجاوز القواعد النحوية إلى الجودة الفنية.
دقي جلـول
مقتطف من مبحث رسالة ماجستير موسومة"منهج عبد القاهر الجرجاني في الدرس اللغوي" –جامعة تيارت-الجزائر


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 09:03 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ