|
#1
|
|||
|
|||
الزلفى
ومما ثبت ضرورة في الخارج أن تقدير المصالح والمفاسد قد تَنَالُهُ الحظوظ والأهواء ، فَتَتَحَكَّمُ في الحد ، إذ تطلب لذة أو كسبا مُعَجَّلًا ، فَتَتَأَوَّلُ لأجل ذلك من وجوه المصالح ما يَبْطُلُ ، أو هو المرجوح في مقابل آخر أرجح من الفساد الأعم ، فيكون من ذلك مصلحة خاصة لا تجاوز فِئَامًا تَقِلُّ ، وإنما احتكرت أسباب القوة والمال ، ولها من ذلك دعاية تُزَيِّفُ الوجدان ، فلا ينكر الناظر أن ثم مصلحة ، ولو لم تجاوز حَدَّ المادة فلا مرجع من خارجها يجاوز ، على ما تقدم في مواضع من نظر قد رَجَّحَ المحال الذاتي من مقال الحلول والاتحاد ، إن الحسي أو المعنوي ، فليس ثَمَّ معنى يجاوز المادة فيحكم فيها بِحُسْنٍ أو قُبْحٍ ، وذلك مما عُدِنَ في النفس جُمَلًا رَئِيسَةً لَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الْبَيَانَ المفصَّل ، فَثَمَّ رِكْزٌ أول في العقل وبه يميز الحسن من القبح ، وإن لم يجزئ ذلك في تشريع يجاوز ، فذلك ما لا يَنْصَحُ إلا أن يكون ثم مرجع من خارج المادة والحس والعقل يجاوز ، فَيَسْلَمُ مِمَّا لم تَسْلَمْ منه العقول والنفوس فَلَهَا ما لها من الأهواء والحظوظ ، فَوَجَبَ ضرورةً رَدُّهَا إلى مرجعٍ من خارج يجاوز ، فهو يصدق في الخبر ويعدل في الحكم ، وذلك يقين يجزم ، لا جرم وجب مبدأ النظر جدال الجاحد المنكر للإلهيات والنبوات ، أن يثبت الأصل الأول ، من ربوبية بها التقدير والإيجاد المتقن وما تلا من التدبير المحكم ، ولازمها في القياس المصرح ، ألوهية التشريع والحكم بما يَنْزِلُ من الخبر والأمر ، فالأول مَنَاطُ الصدقِ ، والثاني مَنَاطُ العدل ، وبهما تَنْصَحُ المحالُّ كافة ، الجنان واللسان والأركان ، ولا تنفك تطلب واسطة بها البلاغ والبيان ، فيكون من ذلك واسطة بين الحق والخلق ، لا واسطة الشفاعة التي تَذَرَّعَ بها من أشرك ، فـ : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ، فَثَمَّ من ذلك قصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، وذلك آكد في الإثبات ، ولو دعوى تَبْطُلُ ، فهي مما ظنوه حقا ، أو حصل لهم من الشهوة ما اقْتَرَنَ بالشبهة ، فَثَمَّ من المصالح والمكاسب ما لأجله تأول أولئك شركهم الذي يقبح في كُلِّ حكومةٍ تَعْدِلُ ، إِنِ النَّقْلَ المصحَّحَ أو العقلَ المصرَّح ، فَحَصَلَ من ذلك باعث تأويل يصدر عن مرجع ذاتي لا يُجَاوِزُ ، مرجع الملأ الذي يحكم وَيَتَحَكَّمُ إِذِ احْتَكَرَ من أسبابِ القوَّةِ والمالِ والدعاية ما به يأطر الجمع الكثير على جادة لا تَنْصَحُ له ، وإن زعم الملأ ضدا ، فما يَرَوْنَ إلا رَأْيَ رَشَادٍ يَهْدِي الجمع ، وإن أضله في الأولى وأهلكه في الآخرة ، فذلك القبيح الذي يُدْرِكُ كُلُّ عاقلٍ قُبْحَهُ ، وهو ما ألجأ الملأ أن يقترحوا من وجوه التعليل ما يلطف ، ولا يخلو ، مع ذلك ، من تكلف وَتَنَطُّعٍ ، فإن ضعف الرأي يَفْتَقِرُ إلى زخرف من القول يُزَيِّنُ ، كما المحدَثة في الدين ، فبطلانها ظاهر لدى كلِّ ذِي عقلٍ إِنْ تَجَرَّدَ فِي القصدِ ، ونظر في الأمر نظر الاعتبار والتدبر ، فلا يكون واحدا من قطيعٍ يُسَاقُ ، فَثَمَّ صوت الجمع الذي يُزْعِجُ ، فيسد ذرائع التفكر ، ولو خلا العاقل فَتَفَكَّرَ ، فليس إلا المثنى أو الفرادى ، كما آي من الذكر قد نصح ، فـ : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ، فيكون من ذلك ما يَسْلَمُ من المؤثِّر الذي يُفْسِدُ ، فَثَمَّ دعاية الملأ التي تُزَخْرِفُ ، وهي ، لو تدبر الناظر ، تستر القياس الناصح بِغَرِيزَةٍ تُحَرِّكُهَا بواعث المادة ، فلا معنى يجاوز فيكون من النظر السالم من الشبهة والشهوة ، وهما ، كما تقدم ، بَاعِثَا كلِّ محدثَةٍ ، فَثَمَّ رَغَبَ النَّفْسِ فِيمَا عُجِّلَ من اللذَّةِ والكسبِ ، وذلك باعثٌ أول يَحْجِبُ العقلَ ، فالشهوةُ ، وَإِنْ أَفْسَدَتْ قُوَّةَ العملِ ابتداءً ، وهي القوة الإرادية التي تُرَجِّحُ ، ولا تكون إلا بعد أولى من العلم تُقَدِّرُ ، فَثَمَّ من الشهوة ما يحمل صاحبها أَنْ يَتَأَوَّلَ من الذرائع ما يُحَسِّنُ القبيح ، وذلك فساد في قوة العلم والتصور ، فيكون من شهوة النفس باعث يُفْسِدُ نَظَرَ العقلِ المحكم ، فَيَفْسَدُ بما طرأ من الشبهة ، فاجتمع لديه من السوأة ما يفجع : فساد القوة العملية الإرادية بالشهوة ، وفساد القوة العلمية التصورية بالشبهة ، ففسدت المحال كَافَّةً ، وهو ما يَطَّرِدُ وَيَكْثُرُ ، بل ويكاد يكون يقينا يجزم ، فَثَمَّ من الاستقراء في الباب ما أبان عن وجه من الاقتران يَطَّرِدُ ، اقتران الفساد الباطن فكرةً بالفساد الظاهر حركةً ، فيكون من ذلك فساد القوى جميعا ، العلم بما طَرَأَ من الشبهة ، والعمل بما طَرَأَ من الشهوة ، وأيهما حصل أولا فهو للآخر جالب ، فصاحب الشبهة ، وَقَدْ فَسَدَ تَصَوُّرُهُ ، فلا يكاد يَسْلَمُ من فسادِ القولِ والعملِ ، فيكون من طلب الشهوة تال يصدق الشبهة ، وصاحب الشهوة وقد فسد عمله ، فلا يكاد يسلم من وسواس يفسد التصور إذ المحل قد ضَعُفَ ، فالمرض يسارع إليه ، وليس ثم سياج يحوط العقل ، فالجوارح جنده التي تصدر عن أمره ، من وجه ، وهي ، من آخر ، جنده الذي عنه يدفع ، فيكون من تزكية الجوارح بما نصح من القول والعمل ، يكون من ذلك ما يصون الاعتقاد من الشبهة المفسدة ، وَإِنْ عِيبَ من حال المتعبِّد الناسك أن يزيد ويغلو ، فيكون من العلم قليل لا يدفع شبهات الوسواس ، فالتنسك والاعتزال ، وإن كان خلاف الأصل ، فقد يُصْلِحُ بَعْضَ الخلقِ ، فلا تنصح فكرتهم ولا تنفع حركتهم إلا في عزلة تحفظ النفس من العوارض ، فهي الصوارف التي تشغله بما تُزَيِّنُ من الصور ، فإذا خَلَا فقد سَلِمَ له المحل من الشاغل ، وشرطه أولا أَنْ يَتَفَقَّهَ ، فَيَتَضَلَّعَ من الحق ، إِنْ عِلْمًا أو عَمَلًا ، فيكون من ذلك ما يشغل المحل بالحق ، فلا يجد الباطل محلا شاغرا فيشغله ، لا جرم اشترط المحققون : الفقه قبل العزلة ، فمن أراد العزلة فَلْيَتَفَقَّهْ ، وإلا كان خطؤه أكثر من صوابه ، وكان من الوسواس ما يُفْسِدُ ، فَهُوَ يُزَيِّنُ له من دعاوى الولاية ما اشتهر في أرباب الرياضة الذين غلوا في الباب ، ولم تخل الحال ، لو تدبر الناظر ، من هوى وحظ ، به يطلب الجاه والرياسة في قلوب الخلق ، أو النفس قد مالت إلى البطالة ، فلا تسعى في سبب دين أو دنيا ، فلا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر خشيةَ اللومِ ، ولا تسعى في كسبِ معاشٍ ، مع ما يُزَيِّنُ الوسواس من القعود برسم الولاية التي يحصل بها العلم بلا سبب ، فيكون من ذلك بطالة وكسل ، فلا اشتغال بِنَافِعٍ من علمٍ أو عملٍ ، بل قد عَدَّهُ أهل الطريق المحدَث عورةً تُسْتَرُ ! ، لما رأى بَعْضٌ فِي يَدِ سالك محبرةً بها يدون العلم الذي يعصم من الوسواس ، فتلك منقصة لدى بَعْضٍ ، فمن طلب العلم من الورق فلا حظ له من الخرق ، خرق الأولياء التي تُوَرَّثُ ، فَيُلْبِسُهَا السلفُ الخلفَ ، ويكون من ذلك ولاية بها العلم يحصل بلا معلم ، وهو ما فتح ذرائع لدعاوى تجوز اكتساب النبوة ، فهي صنعة أرضية ، رِيَاضِيَّةٌ أو فَلْسَفِيَّةٌ ، أو هي الجامعة لكلٍّ ، كما المتأخرون من أهل الطريق ، وقد جمعوا الرياضة الغالية والفلسفة الباطلة ، وَكُلٌّ عن الذات يصدر ، فلا مرجع من خارجٍ يُجَاوِزُ ، فَلَيْسَ ثم مرجع من خارج العقل ، فما الوحي الذي نَزَلَ إلا من سماءِ العقلِ قد صَدَرَ ، إذ حصلت الفكرة في العقل بما كان من رياضةٍ بها المحل يَصْفُو ، وَنَظَرٌ يَتَحَكَّمُ في مسائل الغيب ، وهي مما جاوز العقل والحس ، فَلَيْسَ مِنَ العقلِ ، كما تقدم في مواضع ، ليس منه في باب الغيب إلا التجويز المحض ، وهو ما لا يجزئ في إثباتٍ ولا نَفْيٍ ، فذلك مما يَطْلُبُ من الدليل آخرَ أَخَصَّ ، فذلك دليل الخبر الذي يصدق ، فهو يرجح في الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا يكون من الدعوى ما يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم المحض ، تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، فالدعوى التي تُثْبِتُ من الغيب ما جَاوَزَ العقل والحس ، فَتَخُوضُ في مسائل الخلق الأول ، وما يكون بعد من دار تعقب ..... إلخ ، تلك الدعوى قد جاوزت الحد ، فخالفت عن قياس العقل المصرح الذي يمنع الترجيح بلا مرجِّح ، فالدعوى في نفسها من الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فَكَيْفَ تُرَجِّحُ في باب الغيب الإثباتَ الذي يَزِيدُ ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا تَطْلُبُ الدليلَ المرجِّح الذي يُثْبِتُ ، فلا تعطي ما تَفْقِدُ ، وإلا كان التسلسل في الاستدلال ، فجائز يرجح في جائز ، وهو ما لا يستقيم في القياس الناصح ، بل ثم مرجع من خارج ، وهو الموجِب المجاوز من خارج الدعوى المجوِّزة ، ذلك المرجع هو المرجِّح في إثبات الدعوى ، وصيرورتِها من الواجب المثبَتِ ، لا لذاتِهِ ، فهي ابتداء من الجائز المحتمل ، وإنما وجبت لغير بما كان من موجِب من خارج يرجح ، وليس ثم في الغيب مرجح معتبر إلا ما كان من الخبر المصدق ، خبر الوحي المجاوز من خارج ، فالعقل والحس ليسا يَسْتَقِلَّانِ بِدَرَكِ الغيبِ المطلق ، بل والنسبي في هذا العالم لا يدركه كثير لم تحصل له الآلة ، فذلك جهل لا يُحْتَجُّ به على العلم ، فالجهل بالشيء لا يستلزم عدمه ، كما أن تجويز الشيء التجويزَ المحضَ بلا دليل من خارج يثبت ، كما أن هذا التجويز المحض لا يلزم منه وجود الشيء في نَفْسِ الأمرِ ، بل لا ينفك يطلب الدليل المرجح من خارج ، إن في إيجاده من العدم ، فيكون من تقديره أول في الأزل ، فذلك المقدور المغيب في علمٍ مُحِيطٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وبه إيجاد يزيد ، وهو تصديق ما كان من التقدير الأول ، فلا يجزئ التجويز العقلي المحض في باب الغيب ، فَلَيْسَ كُلُّ ما يتصوره العقل من الجائزات المحتملات ، ليس كله يثبت في الخارج ، وليس كله يَنْتَفِي في الخارج ، فلا يطيق في الباب إلا التجويز ، وهو مَا اسْتَوْجَبَ ضرورةً آخرَ من خارجٍ ، وبه الترجيح الذي يُوجِدُ وجودًا أخص في الخارج ، فذلك وجود الفعل الذي يصدق أولا من وجود القوة في العلم المحيط المستغرِق ، فلا يكون إيجاب بلا موجِب ، ولا يكون إيجاد بلا موجِد ، فإما الدليل على الدعوى ، وإما البقاء على أصل أول يُسْتَصْحَبُ ، وهو الأصل العدمي ، وإن لم يُحِلْ أو يمنع ، فالباب جائز لا محال يمتنع لذاته ، فالأخير مما اسْتُصْحِبُ منه العدم أَبَدًا ، فليس له وجود في الخارج يزيد ، بل وليس له أول في العقل يُتَصَوَّرُ ، فليس منه إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وأما الجائز فهو الطالب لمرجِّح من خارج أخص إِنْ فِي الإيجادِ ، أو في الإثباتِ لوجودٍ قد حَصَلَ بالفعل ، فليس كل ما يُوجَدُ فالحس له يُدْرِكُ ، بل ثم من الموجودات بالفعل ما لا يدرك بالحس ، وليس للعقل فيه إلا التجويز المحض ، فَلَا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي ، ولا يُسَارِعُ بِتَرْجِيحِ طرفٍ على آخر ، فيكون من ذلك التحكم الذي يخالف عن قياس العقل المصرَّح ، وإنما التوقف ، وهو ما به يُسْتَصْحَبُ عدمٌ هو الأول ، فالذمة به تَبْرَأُ في إثباتٍ خبريٍّ ، فلا يكون ذلك إلا من مرجِع خارجي يجاوز ، وذلك أصل قد عَمَّ الغيوب كَافَّةً ، النسبيةَ والمطلقةَ ، ففي النسبية التي يشهد العقل والحس منها بعضا من هذا العالم المحدَث ، ففي الغيوب النسبية يَتَوَقَّفُ مَنْ لم يشهد ، فليس له من الآلة ما يَعْضِدُ ، فلا يثبت ولا ينفي ، حتى يكون ثم دليل من خارج يجاوز فَيَأْتِيهِ خَبَرُ مَنْ حصلت له الآلة فحصل من ذلك شهود لما كان من الغيب ، وهو النسبِيُّ ، فلم يكن به إيجاد من عدم ، بل قد وُجِدَ قَبْلًا وجودَ الفعلِ المصدِّق لما كان من وجودِ قُوَّةٍ أول ، فذلك التقدير الذي ثَبَتَ في الأزل ، فالعلم بالغيب النسبي من هذا العالم المحدث ، ذلك العلم : علم الانكشاف والظهور ، لا الوجود بعد العدم ، فقد وُجِدَ قَبْلًا ، وإنما كان من التجريب والبحث ما صَيَّرَهُ شهادةً بَعْدَ غيبٍ ، فكان من ذلك دليلٌ يُثْبِتُ الجنسَ ، جنسَ الغيبِ ، فإن من يَتَبَجَّحُ بالآلة أنها قد كشفت ، فلا ينفك يأتيه منها ما يُبْطِلُ دعوى العلم الذي استغنى فلا يطلب من المرجع ما يجاوز الذات ، فلا زالت الآلة في مواضع تخطئ ، فلا يحصل بها يقين يجزم ، ولا تنفك كل يوم تكشف جديدا ، فمن تدبر وجد ما يعلم قليلا وما يجهل كثيرا ، فليس يطيق ابتداء ، كما يقول بعض من حقق ، ليس يطيق تَصَوُّرَ هذا الكون المحدث ، ليحكم عليه بَعْدُ بِإِثْبَاتٍ أو بِنَفْيٍ بما حصل له من آلة تحد ، فَلَيْسَ لها من الطاقة والوسع ما به تُدْرِكُ كُلَّ غيبٍ ، بل ما أدركت من الغيب النسبي ، فليست به تقطع ، وإنما غالب علومها ظنونٌ تَرْجُحُ ، وهي وإن أَجْزَأَتْ فِي الاستدلال ، إلا أنها لا تَبْلُغُ يَقِينًا يجزم ، فاحتمال الخطأ معتبر ، بل قد حصل بالفعل ، فَثَمَّ من جنس الغيب ما يُجَرِّدُ الذهن ، وله في الخارج آحاد تصدق ، فَثَمَّ الغيب النسبي ، كما تقدم في التجريب والبحث ، وثم آخر هو المطلق فلا آلة له تدرك ، إذ لم يشهده الناظر ، وليس ثم خبر صدق عمن شهده بالحس الظاهر ، وليس ثم منه ما يحدث فَيَتَنَاوَلُهُ الحسُّ بالسبرِ والتقسيمِ ، ويعالج من أعيانه وأحواله ما به العلم يَثْبُتُ ، وَلَوْ ظَنًّا يَرْجُحُ ، وَافْتِقَارُ العقلِ إلى الدليل المثبِت في الغيب المطلق أَوْلَى من افْتِقَارِهِ في الغيب النسبي ، فالنسبي ، من هذا الوجه ، دليل يشهد لآخر يُرَادُ لِذَاتِهِ ، فالنسبي يجري مجرى الوسائل ، والمطلق يجري مجرى المقاصد ، فكان من دليل الغيب النسبي شاهد لآخر هو المراد لِذَاتِهِ ، وهو ما جاءت به النبوات ، فذلك مما لا تُطِيقُهُ العقولُ ولا الحواسُّ ، فلا يطيق العقل منه إلا التجويز المحض ، وهو أول في الاستدلال يَنْصَحُ ، ولكنه ليس في الإثبات الأخص يجزئ ، فلا ينفك يطلب الدليل الخبري المجاوز ، دليل الصدق الَّذِي يجزئ ، فليس منه الدعوى التي تطلق ، فهي ، كما تقدم في موضع ، مِمَّا يَطْلُبُ الدليل الأخص ، مرجِّحا من خارج فِي جَائِزٍ ، وإلا كان التَّوَقُّفُ ، وَإِنْ فِي جائزٍ يحتمل ، فالاحتمال المجرَّد ليس بِدَلِيلٍ ، وإن كان مبدأَ الاستدلالِ ، أَلَّا يكونَ الأمر بادي النظر مُحَالًا ذَاتِيًّا يمتنع ، فَلَا يَتَصَوَّرُهُ العقلُ أَوَّلًا ، ولو الجائزَ المجرَّد في الذهن فلا دليل يَقْضِي بإثباتٍ ولا بِنَفْيٍ ، فَلَا يَتَصَوَّرُ العقلُ المحالَ الممتنِعَ لذاته مبدأَ النظرِ ، ليكونَ بَعْدُ الحكمُ الذي يزيد ، فهو فرع عن التصور ، كما يقول النظار ، والمحال الممتنع لذاته ، ليس بشيء ، ولو الجائز المتصوَّر في الذهنِ ، فليس منه إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فلا وجود له في الخارج يثبت ، فليس إلا العدم ، والعدم ليس بشيء ، فلا يُنَاطُ بِهِ حكم ، وإنما يُنَاطُ الحكم بالشيء ، إن الموجودَ بالفعلِ أو الموجودَ بالقوة ، فلما يأت بعد تأويله في الخارج ، وهو ، مبدأَ النظرِ ، الجائزُ ، وإن كان من الغيب الذي يحار العقل والحس في دَرَكِ حقيقتِه في الخارج ، فَهِيَ مما يجاوز المدارك ، فلا يُحِيلُهُ العقلُ ، فَلَيْسَ المحالَ الممتنع لذاته ، وإنما يحار في الحقيقة والكيف ، لا جرم كان من الرحمة الربانية العظمى أَلَّا تُكَلَّفَ النُّفُوسُ مَا لَا تُطِيقُ ، فَتُؤْمِنَ بمحالٍ ذاتيٍّ يمتنع ، فليس ذلك مما نَزَلَ به الوحي ، فَأَوْقَعَ الخلقَ في الحرج ، أن يصدقوا بمحال ذاتي يمتنع ! ، كما أديان مبدَّلة ومذاهب محدَثة قد ألجأت أصحابها أَنْ يَتَحَكَّمُوا في اقتراحِ محالاتٍ ذاتية تمتنع ، كما القول بحدَث بلا محدِث ، وصدور هذا العالم عن مادة أولى تَقْدُمُ ، قد وُجِدَتْ بلا مُوجِدٍ ، فَثَبَتَ لها وصف الأولية المطلق ، ثم كان من الحياة ما حصل بلا مُحْيٍ ، ومن الحركةِ والانقسامِ تَرْجِيحًا بلا مرجِّح في الفعل ، وليس ثم إلا العشواء والخبط ، فحصل منها هذا العالم المتقَن المحكَم ، وليس يصدر من ذلك الفرض المحال ، لو سُلِّمَ به في الجدال ، ليس يحصل منه شيء ، ولو المعيبَ الناقصَ ، فكيف بهذا الوجود الذي عالج الناظر منه ولا يَزَالُ ، آيًا قد أُحْكِمَتْ إِنْ في الأنفسِ أو في الآفاق ؟! ، فليس بِذَا يأتي الوحي ، فذلك المحال الممتنع لذاته ، وإنما أتى في الغيبيات بما يَجُوزُ في العقل ، وهو بَعْدُ يَحَارُ في الحقيقة والكيف ، وليس عدم العلم بها علما بالعدم ، بل العقل قد نصح ابتداءً في الحكم بالتجويز ، وليس يطيق بَعْدُ ما يزيد من دَرَكِ الحقيقة في الخارج ، فهو ما يَطْلُبُ دليلا يجاوز ، فلا يجزئ فيه الدعوى المجردة من الدليل ، فيكون من ذلك محض التجويز ، فذلك مما احتمل ، وليس احتمالُ الإثباتِ بِأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ من احتمال النفي ، بل الإثبات يَطْلُبُ دَلِيلًا من خارج أخص ، فليس إلا الخبر المجاوز للعقل والحس ، فهو يُرَجِّحُ في الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فَيُرَجِّحُ الإثباتَ الذي يواطئ أولا من القياس ، ولو التجويز المحض ، على التفصيل آنف الذكر ، فلا يكون من الدعوى المجردة دَلِيلٌ ، فهي جائز يطلب المرجِّح المثبِت من خارج ، فكيف يصير منها دليل مُثْبِتٌ ، وهي ابتداء تطلب أولا يُثْبِتُ ، فلا يكون من ذلك إلا التسلسل الذي يطلب أولا لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، مَرْجِعًا من خارج يجاوز ، فَثَمَّ الوحي المنزَّل ، وهو المرجع المجاوز من خارج الذات المحدثة فلا تخلو من أعراضِ النَّقْصِ والحاجةِ والفقرِ والهوى والحظ ، وهي بواعث المخالفة التي تصرح ، فلا يُكَنِّي صاحبها بل عصيانه ظاهر لا يتأول ، فإن لم يكن التصريح الذي يُظْهِرُ ، فَثَمَّ التأويل الذي يَبْطُنُ ، وهو عن ذات أرضية يصدر ، فَلَا تَسْلَمُ لَا فِي علمٍ ولا في عملٍ ، لا في تصور ولا في حكم ، لا في إثبات غيب أو حكم على شهادة ، لا تَسْلَمُ من الهوى والحظ المحدَث ، وإن تأولت له ما يُزَخْرِفُ وَيُزَيِّنُ ، كما تقدم من دعاية الملإ ، وقد جمعت الشهوة والشبهة ، فَكَانَ من حظ النفس في آلهة لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ ، وهي ذريعة بها الملأ يحكم ، فهم السدنة المقدمون ، وهم المرجع الذي عنه تصدر حكومات الأمر والنهي بما حصل في النفوس من تَصَوُّرِ الحسنِ والقبحِ ، وذلك ، أيضا ، من المجمل الذي يطلب الدليل المبيِّن ، فإن في النفس قوة بها درك الحكمة ، حكمة الأمر والنهي ، ففيها من قوى التحسين والتقبيح ما أُجْمِلَ ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب الدليل المبيِّن ، كما العقل في باب الغيب يُجَوِّزُ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الدليلَ المثبِت ، فافتقار العقل إلى الوحي ، إن في الخبر أو في الحكم ، ذلك ، لو تدبر الناظر ، من أَنْفَعِ المطالب ، أن يشتغل العقل في تَقْرِيرِ أدلة الربوبية والألوهية ، فثم الاقتران الذي يلزم ، وثم من أول من فعل الربوبية ما يعالج الحسُّ آثارَه ، والفطرة له تَنْصَحُ ، ضرورةً أولى في النفس تَثْبُتُ ، وأخرى من مقدماتِ العقلِ ، فَهِيَ ضرورةٌ من العلم بها يَتَوَسَّلُ العقلُ إلى نَظَرِيٍّ يَزِيدُ ، فَثَمَّ منها ما يُثْبِتُ ضرورةً وجودَ الخالقِ الأول ، وله من العلم ما به يُقَدِّرُ ، ومن الإرادة ما به يُخَصِّصُ وَيُرَجِّحُ ، وهو ما يُفْضِي إلى ملزومٍ في الباب يُلْجِئُ ، فَمَنْ خَلَقَ ، فَهُوَ ، بداهةً ، من يحكم ، إذ هو الأعلم بما يُصْلِحُ خَلْقَهُ ، وذلك ما احتج به الوحي استفهاما ينكر ويوبخ : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فاستنطق الخصم بالحجة ، فَبَلَى يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، لا جَرَمَ كان من القبيل الجاحد أَنْ سَدَّ الذرائع ، فأنكر الفطرة الأولى ، إن في الحس أو في المعنى ، فذلك ما يلجئه ضرورة أن يثبت الفاطر الأول ، ولا يكون ذلك إلا بِعِلْمٍ يُقَدِّرُ ، وآحاد من الإرادةِ بَعْدُ تُرَجِّحُ ، ومن فطر فهو يعلم مَنْ فَطَرَ ، فَوَحْدَهُ مَنْ يُنْزِلُ له من الأحكام ما يُصْلِحُ ، فإذ كان من الخالق أول قد ثَبَتَ ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يُصْلِحُ هَذَا الخلق من الخبر والحكم ، فيكون من ذلك ما به المحال كَافَّةً تَنْصَحُ ، مَا بَطَنَ فالخبر له يَصْدُقُ ، وما ظهر فالحكم فيه يَعْدِلُ ، وهو ما لا يكون ضرورة إلا عن مَرْجِعٍ من خارج يجاوز الذات بما يعرض لها من الحظوظ والأهواء ، وما ثَبَتَ لها وصفِ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، من النقص والافتقار ، ولو إلى الموجِد الأوَّل الذي يُخْرِجُهَا مِنَ العدمِ إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فَافْتِقَارُهَا إِلَى المرجِع المجاوِزِ من خارجٍ : وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ سَبَبًا مِنْ خَارِجٍ يَنْصَحُ ، إِنْ فِي الخبرِ أو فِي الحكمِ ، وإن رُكِزَ في العقلِ مبدأَ الأمرِ : قوى ضرورية تُجَوِّزُ فِي الخبرياتِ ، فلا تَزِيدُ في الباب إثباتًا أو نَفْيًا أَخَصَّ ، فذلك ما يطلب المرجِّح من خَبَرِ الوحيِ المجاوزِ من خارج ، وأخرى في الحكميات بما كان أولا من تحسين وتقبيح هو المجمل ، فلا ينفك يطلب آخر من خارج يُفَصِّلُ ، فالعقل يُدْرِكُ من حكمةِ الأمرِ والنهي ما أُجْمِلَ في الوجدان من مواضع الحسن والقبح الضرورية ، فتلك مبادئ ومقدمات لا تَطْلُبُ دَلِيلًا من خارج ، بل هي رِكْزٌ ، فذلك وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو ما يكون مقدماتٍ لِتَالٍ من النَّظَرِيِّ المركَّبِ ، فالمبدأ : مقدمات ضرورية بسيطة لَا تَنْفَكُّ تَتَرَاكَبُ على مثالٍ من النظر أخص ، وبه حصول العلم النظري الذي لا يثبت مَبْدَأَ الأمرِ ، بل يطلب نظرا يسبق وهو الأخصُّ .
والشاهد أَنَّ العقلَ يُدْرِكُ من حكمةِ الأمرِ والنهي ما أُجْمِلَ في الوجدان من مواضع الحسن والقبح الضرورية ، ولكنه لا ينشئ الحكم ، فالوحي إذ رفده بما جاوز من الدليل ، فَهُوَ يُنْشِئُ الحكم ، وليس له يَكْشِفُ ، كما زَعَمَ مَنْ غَلَا فِي بابِ التحسينِ والتقبيحِ العقليِّ ، وهو ، كما يقول بعض مَنْ حَقَّقَ ، مما أفضى إلى إنكار مسائل من النسخ ، كما النسخ قبل التمكن من الفعل ، ومنه نَسْخُ أمرِ الذَّبْحِ في آي من محكم الذكر ، فـ : (نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم) ، فليس ذلك عندهم يثبت ، إذ لا حكمة تَنْشَأُ من الأمر نفسه ، وإنما الأمر كاشف لِمَا كان أولا من حُسْنٍ وَقُبْحٍ في العقل . والوحي ، مع ذلك ، لا يأتي بِضِدٍّ ، فيكون من ذلك ما يَبْتَلِي العقل بما يخالف عن قوى الحسن والقبح الضرورية ، فيجوز من ذلك أن يُحَسِّنَ الشرك والظلم فيأمر بهما ، ويقبح التوحيد والعدل فَيَنْهَى عنهما ..... إلخ . فجاء الوحي بجادة عدل تَتَوَسَّطُ ، فَلَمْ يَغْلُ في البابِ ولم يَجْفُ ، فَأَثْبَتَ مِنْ قوى الحسن والقبح ما حصل في العقل أولا ، وهو ، مع ذلك ، لا يجزئ في الإثبات ، فلا يكون إلا بدليل من خارج يُفَصِّلُ مَا كَانَ من إجمالٍ أول في العقل المصرَّح ، فَكَمَا الجائز في العقل يطلب دليل الوحي المثبِت من خارج ، فكذا المجمل من الحسن والقبيح فهو يطلب دليل الوحي المبيِّن من خارج ، فحصل من ذلك دليل يَنْصَحُ ، وبه حاجة العقل والنفس إلى النبوات تَثْبُتُ ، مَرْجِعًا من خَارِجٍ يجاوز ، فَهُوَ يَرْفِدُ النَّفْسَ بما لا يُكْتَسَبُ بِالدَّرْسِ ، فَثَمَّ مِنَ الخبرِ والحكمِ ما تحمله الرسل ، عليهم السلام ، فذلك الاصطفاء وهبا ، فلا ينال بالرياضة أو النظر كَسْبًا ، كَمَا غَلَا مَنْ غَلَا مِنْ أهلِ الرياضةِ والفلسفةِ ، فَصَيَّرُوا النبوات من جملة الصناعات ، فليس إلا العقل أو الوجدان مَرْجِعًا من الذات لا يجاوز ، وبه تحصل صورة الملَك في الخارج ، فهو يَنْطِقُ بما قَامَ بالعقل والنفس ، فَلَيْسَ ثَمَّ مرجِع يجاوز من خارج في نَفْسِ الأمرِ ، وذلك الجفاء الذي جاوز الحد ، وله آخر أقبح قد جَاوَزَ ، بِمَا كَانَ مِنْ مقالِ حلولٍ واتحادٍ محدَثٍ ، وهو ، أيضا ، ما وَقَعَ لِبَعْضٍ من أهل الرياضة والفلسفة ، فَثَمَّ حلول المعنى في المادة ، فليس ثم حقيقة في الخارج تجاوز الحس ، فلا مرجع من خارجٍ يجاوزه ، فصار الجسد أصلا ، وصارت الحواس عنه فرعا ، فهي أدلة العلم حصرا ، وهو ما بِهِ نَزْعَةُ التجسيم في الإلهيات قد ذاعت ، فعمت بها البلوى ، فهي الوسائط بين الحق والخلق ، وبها الزُّلْفَى والقرب ، كما كان من مقال الفيض ، وهو ما اقترحت الحكمة الإشراقية الأولى ، فالعالم فَيْضٌ من العقل الفعال الذي صدر عن عقول أخرى تَسْبِقُ ، والكواكب مُثُلٌ لها في الخارج ، وذلك جنس من المعنى المحدث ، معنى الفيض ، قد جاوز الخلق إلى آخر من الخبر والحكم ، فكان من تأويله ما يقدح في التوحيد كله ، توحيد الخلق وآخر من الشرع الحكم ، فما الوحي إلا فَيْضٌ يَفِيضُ من العقل الكلي على آخر جزئي ، وهو عقل الإنسان ، فلا واسطة بَيْنَهُمَا ، وإنما الاجتهاد في الرياضة والزهد سبيل الكشف والعلم ، وبه زوال حُجُبٍ من الغيب تَحُولُ دون حصول العلم بلا معلِّم أو واسطة من ملَك أو نبي مرسَل ، فيكون من الرياضة ما به السالك يَبْلُغُ مرادَه ، فلا تكليف بشرعٍ يجاوز ، وقد بَلَغَ السالك باطنا من الحقيقة فسقط ظاهر الشريعة ، وكان من ذلك حلول واتحاد ، فثم عين واحدة لا يمتاز فيها خالق من مخلوق ، معنى من حس ، فليس إلا الحس ، كما تقدم ، مصدر المعرفة الأوحد إذ ليس ثم في هذا العالم ما يجاوز المادة المحدثة التي يتناولها الحس ، ومنها الوسائط آنفة الذكر ، وسائط الكواكب ، فهي مُثُلُ الآلهة التي تدبر ، وهي بالحس تُدْرَكُ ، كما الأوثان في الأرض ، فهي وسائط بين الحق والخلق ، وتلك وَسَائِطُ بَاطِلٍ لا تَثْبُتُ ، لا أخرى هي الحق الذي يَنْصَحُ ، وسائط النبوات التي تخبر بالصدق وتحكم بالعدل ، فكان مِنْهَا الملَك الموكَل بالوحيِ ، والرسول البشري الذي يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ ، وذلك أصل في الباب يَطَّرِدُ ، وهو ما استوجب الاستفصال إذ احتمل ، فَلَا يُطْلَقُ القولُ بإثباتِ الواسطة بَيْنَ الحقِّ والخلقِ ، ولا يطلق ضدٍّ من النفي ، وإنما وَجَبَ التَّوَقُّفُ ، إذ ثَمَّ منه ما يثبت ، وهو واسطة النبوات التي تَنْزِلُ بالخبر والحكم ، وثم آخر يُنْفَى من وسائط الشرك ، إذ تذرعت بِالزُّلْفَى والقرب ، فكان منها القصر آنف الذكر ، فـ : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ، وَثَمَّ مِنَ الزُّلْفَى ما حُدَّ حَدَّ المصدر المعنوي ، فالزلفى حكاية القربى ، فَتَقْدِيرُ الكلام على المصدر اللفظي : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله قربى ، فَثَمَّ من ذلك توكيد بالمصدر المعنوي ، وثم من حمله على الحال ، وهي ، أيضا ، المؤكِّدة ، لا جرم حُدَّتْ حَدَّ المصدر ، فذلك آكد في الدلالة ، فتقدير الكلام على الاشتقاق : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله مُتَزَلِّفِينَ بهم إليه ، وَكِلَا الوجهينِ ينصح في الاستدلالِ ، وإن كان من التوكيد بالمصدر ما يجري مجرى النَّصِّ ، فهو مَئِنَّةُ ثُبُوتٍ قَدِ استقر ، لا كما الحالية ، فإنها مما يعرض ويزول ، وَلَيْسَ من ذلك إلا دعوى تَبْطُلُ ، وهي ما تحمل الملأُ وِزْرَهُ ، وإن لم يسلم الأتباع ، فقد تَبَرَّأَ التابع من المتبوع ، فالملأ في كل جيل خصومُ الوحيِ والنبوة ، إذ بها بطلان دينهم الذي يحكم ، فليس الصنم الذي لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ، إلا صورة بها الذريعة إلى حُكْمٍ مِنَ الأرضِ هو المحدَث ، حُكْمِ الملإِ الذي تَأَلَّهَ بما استجمع من أسباب القوة والمال ، وما زَخْرَفَ مِنَ الدِّعَايَةِ وَزَيَّنَ ، فَسَحَرَ الأعين وأفسد المدارك ، فلا تميز الحقَّ مِنَ الباطلِ ، وَكَانَ من ذلك ما اسْتُنْسِخَ لَدَى جِيلٍ قد تأخر ، فأبطن ما لم يظهر ، فَثَمَّ عقل جامع قد صُنِعَ عَلَى مُكْثٍ أن يختار ما يُوَاطِئُ الهوى والحظ ، فالملأ يستبد بالأمر على قاعدة المستبد العادل الذي يصوغ الفكرة ويؤطر الحركة ، فوحده من يعلم وينصح ، وليس الخلق إلا قطيعا يُسَاقُ ، ولو إلى الحتوف والمهالك ، وذلك باطن يُظْهِرُ الملأُ ضدَّه من حرية بها الجمع يختار ، ولو على قاعدة التأطير ، فلا خيار إلا من اختار الملأ ، المستبد العادل ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما لا يخلو من حق ، فالاستبداد ، كما يقول بعض من حقق ، ليس مما يُذَمُّ أو يُمْدَحُ لذاتِه ، وإن لَحِقَهُ مِنَ الذَّمِّ في الجيل المتأخر ما اشْتُهِرَ في آدابِ السياسة المحدَثة ، وإنما يحكي الانفراد بالرأي ، وهو ما يجب ضرورةً في أيِّ جمعٍ ، وإن كان ثم شورى تَنْصَحُ ، فلا بد من واحد بالحكم يستبد ، فحصل من ذلك مثال في السياسة والحكم يَنْصَحُ ، فليس الاستبداد كله يُذَمُّ في حكومات الخلق ، فمنه ما يُذَمُّ إن صدر عن قاعدة طغيان يجاوز الحد ، فيكون من ذلك تأله في الحكم ، لا يُرِي الجمع إلا ما يَرَى ، وليس له من الدليل ما يجاوز ، فدليل الصحة أن رأى من ذلك رَأْيًا ، فَصَيَّرَهُ دِينًا وَحُكْمًا ، فلا يُطْلَبُ له الدليل من خارج ، بل ثم مرجع من الحكم لا يجاوز ذات الطاغوت ، فذلك استبداد يُذَمُّ ، وثم آخر من حكومات الأرض لا يُذَمُّ ، وهو ضروري في أي جمع ، أن يكون ثم واحد عنه يصدر الحكم ، فيصدق فيه أنه المستبد الذي انفرد ، وإلا ما كان من الحكم شيء ، فالشورى تَنْصَحُ ، ولا بد من واحد يناط به الأمر ، فَعَنْهُ يَصْدُرُ إِذْ تَحَمَّلَ من وصف الحاكم ما لم يتحمل غَيْرٌ . ومن المستبدِّ آخر يجاوز ، فهو مرجع التصور والحكم الأعلى بما كان من شِرْعَةٍ تَسُوسُ الخلقَ ، فلا يكون الحاكم فيها واحدا من الخلق ، إن فَرْدًا يَسْتَبِدُّ ، أو مَلَأً يَتَحَكَّمُ ، فَكُلُّ أولئك مما لا يسلم من الهوى والحظ المحدث ، فليس يؤمن منه تصور أو حكم ، لا جرم افْتَقَرَ إلى آخر من خارج يجاوز ، فهو الْحَكَمُ الذي لا يُنَازَعُ ، وَحَيًا من السماء قد تَنَزَّلَ ، فقد سلم من الهوى والحظ المحدث ، فالعقل ، إِنِ المفردَ أو آخر يجمع ، لَا يَسْلَمُ مِنْ كُلِّ أولئك ، فلا ينفك يطلب الناصح من خارج ، لا جرم لم يجزئ إجماع في الحكم إلا أن يكون ثم مستند أول من الوحي ، كما قرر أهل الأصول والنظر ، فالإجماع ، من هذا الوجه ، دليل كاشف لما كان من مستند أول من الوحي ، وإن كان من آخر ، دَلِيلًا يُثْبِتُ ، فهو الأصل الثالث من أصول الشرع المحكم بعد الكتاب والسنة ، فحصل من الوحي ، وإن تَجَوُّزًا في الحد ، حصل منه المستبد الصادقُ في خبره ، العادلُ في حكمه إِذِ انْفَرَدَ من ذلك بالإنشاء الذي يستأنف ، فدليله مرجع يحكم لا كاشف يظهر ما كان أولا من حكومة العقل ، وهو مما تَفَاوَتَتْ فيه المذاهب ، كما استقرأ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَثَمَّ من جعل الحكمة في حكومة العقل حُسْنًا وَقُبْحًا ، فليس في الأمر المنزَّل حكمة ، وإنما هو الكاشف لما كان أولا من حكومة العقل فلا تفتقر إلى مُبَيِّنٍ من خارج فما الوحي إلا الكاشف ، وَثَمَّ من غلا في ضِدٍّ ، فالحكمة في الأمر المنزَّل حصرا ، وليس ثم من العقل مرجع حسن وقبح يُوَاطِئُ ، وَثَمَّ من سلك جادة العدل ، فَجَمَعَ الحقَّ من كلِّ طَرَفٍ ، فَثَمَّ حكمة في العقل تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ، وثم من الوحي ما يُصَدِّقُهَا ، من وجه ، وبيبن عما أُجْمِلَ منها ، من آخر ، فلا تستقل بالحكم ، وإن كان منها مقدمات أولى في الوجدان قد رُكِزَتْ ، وبها يدرك العقل ، وإن مجملا يطلب المبين من خارج ، فكان من ذلك مرجع من الوحي يجاوز ، فهو يصدق من وجه ، وهو يبين عما أُجْمِلَ ، من آخر ، وهو يُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ من حكومات العقل إذ لا تسلم من الهوى والحظ وما يطرأ من عارض يُفْسِدُ . فلا يستقل العقل لَا فِي خَبَرٍ ولا فِي حُكْمٍ ، وإن كان ثَمَّ مبادئ أولى تُعْتَبَرُ في التَّصَوُّرِ ، ولو التجويزَ المحضَ فلا ينفك يطلب الدليل المرجِّح ، وأخرى في الحكم ، كما قوى من الحسن والقبح قد أُجْمِلَتْ فِي النَّفْسِ فلا تنفك تطلب الدليل المبيِّن ، والوحي في كلٍّ ، الخبر والحكم ، رائد يَنْصَحُ بمعادن صدق وعدل ، فتلك كلمات الوحي التامة ، إذ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) ، ولا بد من الواسطة ، لا واسطة زُلْفَى تُقَرِّبُ ، وإنما أخرى تُبَلِّغُ وَتُبَيِّنُ ، فثم نفي لواحدة ، وإثبات لأخرى ، ولا تعارض إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت . ومنشأُ الشرك ، لو تدبر الناظر ، قياس غائب على شاهد ، ومنه الحلول والاتحاد المحدث ، فيكون من ذلك جفاء في حق الخالق ، جل وعلا ، وآخر يغلو في المخلوق المحدَث ، فقد صار هو المركز ، ذاتا لا تجاوز ، فكان منها مرجع تصور وحكم مطلق لا يطلب مرجعا من خارج يجاوز ، ومن القياس الفاسد آخر ، فهو يُنَزِّلُ الخالق الأعلى منزلة المخلوق الأدنى ، فكما ملوك الأرض يطلبون الشافع بين أيديهم ، فكذا الخالق الذي يَتَزَلَّفُ إليه الخلق بوسائط من الخلق ، وَإِنِ الكوكبَ والوثنَ الذي لا يَعْقِلُ ، فتلك الشفاعة المنفية ، خلاف أخرى قد ثَبَتَتْ ، كما استقرأ النُّظَّارُ آي الوحي وخبره ، فليس منها ما يكون كَرْهًا ، كما يحصل بين يدي الملوك في الأرض ، إذ يقبلون شفاعات كَرْهًا ، تَأَلُّفًا وُمَدَارَاةً لمن يخشون بأسه ، ولو من تابع يخلص ، فقد يكون منه بَعْدُ سَخْطَةٌ تُفْسِدُ الحال وَتُضْعِفُ الملْكَ ، لا جرم كان من الشفاعة المثْبَتَةِ ما شرطه الإذن ، وآخر من الرضا عن المشفوع له بين يدي الحق جل وعلا . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|