ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 05-10-2024, 10:41 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 44
افتراضي جمال الجدال وجلال الجلاد

وَمِمَّا تَقَرَّرَ في نصوص الوحي المحكم ، وهو مما يواطئ قياس الحكمة أن يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ، مما تقرر من ذلك ما كان أولا من مقام الدعوة إلى الحق ، فـ : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فالجمال فيه يغلب ، وثم بَعْدُ من الجلال ما يشرع ، إن في الجلاد الذي يُدَافِعُ الخصم تارة ثم يَطْلُبُ أخرى أن يكون الحق هو الظاهر الذي يحكم بشرعة العدل ، وإن لم يُكْرِهْ أَحَدًا من الخلق أَنْ يَقْبَلَ ، وهو ، مع ذلك ، لا ينفك يعفو في مواضع العفو ، فيتألف بذلك القلب ، وهو ما اسْتَوْجَبَ قاعدة من الحكمة تَلْطُفُ ، فهي قاضية في دقيق من الشأن ، فَثَمَّ الحكم الذي حُرِّرَ مناطه ، كما حُكْمُ الأسير ، وهو مما اختلط فيه الجلال بالجمال ، وكان من ذلك ما دَقَّ وَلَطُفَ ، وإن كان ثم أصول في الباب تَنْصَحُ ، فهي نص في الحكم ، إن المن أو الفداء أو القتل ، فكان من ذلك ما نص عليه الوحي في آي قد تواتر ، فـ : (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) ، وهو ما يواطئ آخر من آي التوبة ، فـ : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فَثَمَّ نَفْيٌ الكينونةِ حِكَايَةَ المبالغَةِ ، وَثَمَّ من اللام في "لِنَبِيٍّ" ما يحكي الاختصاص ، فلا يليق ذلك بِنَبِيٍّ ، وهو ما حُدَّ حَدَّ المصدر المؤول "أَنْ يَكُونَ" ، فلا يخلو من إطناب في المبنى يحكي آخر يعدل في المعنى ، فما كان اتخاذ الأسرى لائقا بِنَبِيٍّ ، فَثَمَّ عموم في النفي إذ تسلط على المصدر الكامن في الفعل ، وثم آخر قد يجري مجرى العموم نَصًّا ، فإن تقدير الاتخاذ للأسرى ، مما يجري مجرى الإضافة لفظا ، على تقدير : ما كان له اتخاذٌ الأسرى ، فالفعل "اتَّخَذَ" مما يتعدى إلى معمول واحد تارة ، كما في هذا الموضع ، وإلى اثنين في آخر ، كما في قوله : (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) ، فَثَمَّ إضافة تَتَنَاوَلُ اللفظ ، فلا يستفيد اللفظ تعريفا ، فهي في تأويل النكرة ، وهي في سياق النفي في الآي آنف الذكر : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) ، هي فِي هَذَا السياقِ تحكي العموم ، وهو مَا خُصَّ بَعْدُ بالغايةِ : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، فلا يكون ذلك حتى يثخن في الخصم ، فَيَسْتَحِرَّ فيه القتل الذي يُضْعِفُ الشوكةَ وَيُفْنِي النُّخْبَةَ التي تُخْشَى ، فهم رءوس القوم أولي الشدة والبأس ، فالقتل في الحرب هو الأصل ، وَإِنْ غَايَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إلى تَالٍ بَعْدَ وضعِ الأوزارِ ، وحصول القرار ، فيكون شد الوثاق لمن بَقِيَ ، فالغاية لا تُرَادُ لذاتِها ، وليس القتل هو الأصل الذي لأجله بعث الرسل ، عليهم السلام ، وإنما بعثوا بالسيف ليعبد الله ، جل وعلا ، وحده في الأرض ، ولا يكون ذلك ، بَدَاهَةً ، إلا أن يعبده الخلق ، فإذا أُفْنُوا فمن يعبده ؟! ، وإنما السيف غاية بها مناجزة الطاغوت الذي يحول دون بلوغِ الحقِّ الخلقَ ، فإذا زَالَ ، فقد حصلت غاية أولى تَنْصَحُ ، مع أخرى تَقْرِنُ ، أن يكون الوحي هو الْحَكَمَ فِي الأرضِ ، فَلَا يُكْرِهُ الخلقَ أن يدخلوا في مِلَّتِهِ ، وإنما يَدْخُلُ الجمعُ في حكومته ، وذلك حتم لازم في أمة ، فلا بد من شرع يحكم ، الوحيِ المنزَّل أو الوضعِ المحدَث ، وليس ثم أمة بلا شريعة ، فـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، فثم شرعة ومنهاج ، وبها امتازت الأمم مِنْ بَعْضٍ ، ولا يُسَلِّمُ كُلٌّ لآخر ، فإن لم يناجِز الحقُّ الباطلَ ، فالباطل يُنَاجِزُهُ ، و : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فكلٌّ يعتقد في حكومته العدلَ المطلق الذي يَرُومُ له في الخلق عموما ، فتلك رسالة قد تَحَمَّلَهَا في الفكر والأخلاق والسياسة ، وآخر من الأحكام التي تأطر ، ولها مبادئ من الكليات تجمل ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ شِرْعَةً تُفَصِّلُ ، فذلك منهاج يروم له عموما ، فالتدافع سَنَنٌ كَوْنِيٌّ يَنْفُذُ ، فَلَئِنْ قَعَدَ أَتْبَاعُ الوحيِ الناصح فلم يناجزوا ، فالخصم لهم يُنَاجِزُ ، والتاريخ بذا شاهد ، فذلك السنن الكوني النافذ ، وإنما امتاز كلٌّ في أخلاق السياسة والحرب ، وما يأطر من حكومات الإباحة والحظر ، وما كان من تأويل ذلك تَصْدِيقًا وَامْتِثَالًا ، فَلَئِنْ كان التدافع حتما لازما ، فالخصوم يمتازون بما تَحَمَّلُوا من الدين والمذهب ، وما تَأَوَّلُوا من حكوماته في السلم والحرب ، وما يكون من فضيلة العدل التي تُحْمَدُ في كلِّ أمة ، آمنت أو جحدت ، فذلك مما به الملك يُسْتَبْقَى ، ولو على قاعدةِ وَضْعٍ لا تجاوز هذا العالم المحدَث ، والوحي بِذَا أحق ، فَقَدْ جاء بما يُصْلِحُ الخلق في الأولى والآخرة ، في الدين والدنيا ، فَجَاوَزَ بذلك عاجلا من المعاش يَفْنَى ، وبه تأويلُ الغايةِ التي أجمع عليها العقلاء كافة : سعادة في الأولى ونجاة في الآخرة ، فلا ينفك يُدَافَعُ من أهل الباطل إن لم يُدَافِعْ ، وإنما امتاز كلٌّ بِمَا شُرِعَ من الحكم وَسُلِكَ من المنهاجِ ، إِنْ في السلم أو في الحرب ، والتاريخ ، كما تقدم ، دليل من خارج يرجح في دعوى كُلٍّ ، أصدق أم كذب ، وهو تأويل يصدق ما كان من شريعة تحكم ، إن الكليات المجملة أو أخرى من الجزئيات تُفَصِّلُ ، فالتاريخُ تأويلُ كلٍّ بما سُطِرَ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ في الخارج ، ومنه تأويل الجلال في الإثخان ، ولا يخلو من الجمال ، فلا إساءة بمثلة أو نحوه ، فـ : "إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ" ، وهو ما يجري مجرى الشرط الذي يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ ، إن في الوجود أو في العدم ، مع دلالة ظرفية في "إِذَا" ـ فهي تحكي الكثرة ، وذلك آكد في تَقْرِيرِ الشرعة ، فذلك حكم قد اطَّرَدَ ، إلا أن يكون ذلك جزاء سيئة بمثلها ، وإن شُرِعَ الفضل ، أيضا ، فـ : (إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ الشرط الذي يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ ، على تفصيل قد تَقَدَّمَ ، وليس ثم من المؤكد ما يزيد ، فلا يستفاد منه إلا أول من التشريع ، فذلك العدل والجلال فيه أغلب ، وثم شطر آخر يقاسم ، فـ : (صبرتم) ، وهو ما زِيدَ فيه توكيد يحض ، فَثَمَّ لام توطئ لقسم أول قد تقدم ، فتلك لام "لَئِنْ" ، وثم أخرى هي لام الجواب في قوله : (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ، وهي ، أيضا ، دليل على القسم المتقدم ، فَدَلَّ اثْنَانِ قَدْ تَأَخَّرَا على أول من القسم قَدْ تَقَدَّمَ ، وَكَانَ من كلٍّ ما يجري مجرى التوكيد ، فهو خير من الأول ، وشرطه أن يكون عن عزة لا ذلة ، فيكون بعد التمكن ، وحصول الظفر بالخصم في موضع العز ، واضرب له المثل بما كان يوم الفتح من العفو ، فذلك الفضل ، والجمال فيه أغلب ، ولكلٍّ محله الذي ينصح ، فلا يكون الجمال في موضع الجلال ، وإلا أضر ، لا جرم كان العتاب لصاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم والجمع الذي قاتل في بدر : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، فأخبر بِالنَّفْيِ أَوَّلًا ، فـ : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، وَأَرَادَ بِهِ الإنشاءَ بالنهي ، فَلَا تَتَّخِذُوا الأسرى حتى تُثْخِنُوا في الأرض ، وهو ما يجري ، كما يقول بَعْضُ مَنْ أَعْرَبَ ، مجرى الاستعارة لدى البيانيين ، إذ اسْتُعِيرَ الخبرُ للإنشاء ، ولو من باب التلازم ، فلازم النفي في الخبر : نهي في الحكم ، وهو ما انصرف ، بادي النظر ، إلى التحريم ، كما الأمر ينصرف إلى الإيجاب ، وكلاهما من الظاهر الذي يُسْتَصْحَبُ ، رَاجِحًا أول في النظر يَثْبُتُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ ضِدًّا مَرْجُوحًا فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إلا بالدليل المرجِّح ، وإلا سلك الناظر جادة الظاهر الراجح ، فهي أصل أول يستصحب ، حتى يكون ثم من القرينة المعتبرة ما يُرَجِّحُ ضِدًّا ، فلا يجزئ في ذلك دعوى تُجَرَّدُ في الذهن ، فهي تطلب دليلا من خارج أخص ، وهو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فالدعوى من الجائز ، إِنِ المساوِي أو المرجوحَ كما المؤول في مقابل الظاهر ، فهو المرجوح أولا لدى الناظر ، وهو مع ذلك جائز يحتمل ، فلا يجزئ الاحتمال المحض ، وتلك دعوى تُجَرَّدُ فِي الذهن ، لا يجزئ في إثبات أخص ، فذلك تَالٍ في الاستدلال إذ يَطْلُبُ الدليلَ من خارج ، فشرط الدعوى أن تكون ابتداء من الجائز لا المحال الممتنع لذاته ، وأن يكون ثم دليل أخص ، وهو ، كما تقدم ، في محل النِّزَاعِ النصُّ ، فَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى المجردة دَلِيلًا يُرَجِّحُ ، إذ تفتقر إلى دليل يسبق ، وهو ما يفتح ذرائع التسلسل في مقدمات الاستدلال ، فلا يَسْلَمُ النظر إلا إذا انْتَهَى إلى مقدماتِ ضرورةٍ يُسَلِّمُ بها الخصوم كافة ، فلا يكون منها جائز هو ، في نفسه ، المحتمِل ، فلا بد من أول من المقدمات هو الضروري لدى الخصوم كافة ، وإن لم يكن الضروري عند غير ، كما التواتر الخاص لدى أهل الصنعة أو الفن ، فَثَمَّ مقدمات ضرورة عندهم لا عند غيرهم ، ومحل الشاهد هو رجوع الاستدلال إلى مقدماتِ ضَرُورَةٍ أولى تَنْصَحُ ، وليست الدعوى من ذلك في شيء يُؤْبَهُ ، فهي الجائز الذي يطلب مقدمة استدلال من خارج ، فليست تجزئ في نفسها دليلا ، وإنما تطلب الدليل من خارج ، وإلا كان التَّحَكُّمُ المحض ، دَوْرًا يَبْطُلُ فِي العقلِ ، إذ يُصَادِرُ على المطلوب ، ويستدل بصورة الخلاف على الخصوم ، إِلْزَامًا لهم بما لا يَلْزَمُ ، وذلك مما يقدح في القياس المصرَّح ، فَوَجَبَ من الدليل ما يجاوز ، وإلا وَجَبَ المصيرُ إلى الظاهر الذي يَتَبَادَرُ ، وإن ظَنًّا ، فهو الظن الراجح المعتبر ، كما اصطلاح الأصول والنظر المتأخر ، فَلَيْسَ الظن الذي يُذَمُّ فلا يُغْنِي شيئا من الحق ، فالظن في الأصول ما رَجَحَ في مقابل ضد هو المؤول المرجوح ، ودلالته ، كما تقدم ، دلالة الظاهر المستصحب ، فَأَجْزَأَ فِي الاستدلالِ حَتَّى يكونَ ثم قرينة معتبرة تَصْرِفُ ، فكان من الأصل المستصحب مبدأَ النظرِ في النهي : أن يفيد التحريم والحظر ، كما في الآي آنف الذكر ، فـ : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، فَاسْتُعِيرَ النَّفْيُ لِلنَّهْيِ ، وذلك ، من وجه آخر ، مما به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ المجازَ في الوحيِ واللِّسَانِ ، فمنه الاستعارة في البيان ، وهي ما يجري مجرى الإفراد تارة ، والتركيب أخرى ، كما في هذا الموضع ، إذ اسْتُعِيرَ الخبر للإنشاء ، ومن يَنْفِي المجاز في اللِّسَانِ والوحيِ ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ ذلك إلى أول من النطق ، وهو ما اشتهر من العرف ، فتداوله الجمع الناطق حتى صار العرف الغالب ، وبه قضاء يَنْفُذُ قَطْعًا في أول من حقيقة لسان تطلق ، فَيَقْضِي فِيهَا قَضَاءَ المحكَمِ في المتشابِه ، فَثَمَّ النفي الذي أفاد التحريم ، بادي النظر ، فذلك الظاهر الراجح الذي اسْتُصْحِبَ ، وَلَيْسَ ثَمَّ قَرِينَةٌ لِضِدٍّ تُرَجِّحُ ، بل القرينة تُرَجِّحُ الظاهرَ في هذا الموضع ، فَتَبْلُغُ بِهِ حَدَّ النص الذي يجزم ، وهو ، من وجه ، ما يجري ، أيضا ، مجرى التأويل في الاصطلاح المتأخر ، فثم منه الترجيح في أول يحتمل ، سواء أرجح المرجوح فصيره الراجح ، فذلك المؤول في اصطلاح الأصول الحادث ، أم رَجَّحَ الراجح ، مبدأ النظر ، فرجحانه كما في الظاهر لا يخلو من ضد محتمل ، ولو المرجوحَ الذي لا يتبادر مبدأ النظر ، فالقرينة قد ترجح الراجح فتزيده رُجْحَانًا ، كما في هذا الموضع ، فَيَصِيرُ منه نص في الباب يجزم ، فَثَمَّ من القرينة ما رجح أولا من التحريم في الآي آنف الذكر : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، فَثَمَّ من القرينة ما كَانَ من السياق إذ يحرم ، أو آخر من الخبر إذ : "قَالَ عُمَرُ: غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»" ، وَلَا يُعْرَضُ العذابُ ، بداهة ، في موضع نَهي لكراهةٍ ، وإنما نهي التحريم الذي يجزم ، فَثَمَّ من ذلك ما استصحب ظاهرا ، وشهد له السياق وآخر من الخبر ، وهو ما به إلى دلالة النص قد رَقَى ، فهو ظاهر أول يرجح فاستصحب أولا في استدلال يَنْصَحُ ، وإن احتمل ضدا هو المرجوح الموؤل ، أو آخر يَزِيدُ فِيهِ فَيَصِيرُ النَّصَّ الذي يقطع ، كما في هذا الموضع ، إذ احتف به سياق ينظم ، وآخر من الخبر يثبت ، فكان من ذلك تحريم أَنْ يُتَّخَذَ الأسرى ، وذلك تحريمٌ ، الجلالُ فيه يغلب ، وهو ما حَسُنَ مَبْدَأَ القتالِ حَتَّى تُكْسَرَ شَوْكَةُ الباطلِ ، ثم يكون آخر من اتخاذ الأسرى ، والجمال فيه يغلب ، وهو ما عوتب فيه صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إذ كان منه الجمال أولا ، فخالف عن الأولى من الجلال ، فكان من الوحي : العتابُ والاستدراكُ حكايةَ العصمة التي تَثْبُتُ لِأُمَّةٍ هي الشاهدة بما تحمل من الوحي الخاتم المحكم ، فلا يُقِرُّهَا الوحي على خلافِ الْأَوْلَى ، وَلَا يُقِرُّهَا ، من باب أولى ، على الباطل ، فَثَمَّ النهي الذي يحكي الجلال في القتال والقتل ، فحكم الأسير ، كما تقدم ، يَتَرَاوَحُ ، فَثَمَّ مِنْ نَظَرِ الاعتبارِ ما يَتَنَاوَلُ المرسل العام في باب المصالح ، فَثَمَّ شهادة الوحي بمناط قد ثبت ، وهو ما استوفى أجزاء القسمة ، فالقتل والإثخان في هذا الموضع ، والمن والفداء في آخر ، فـ : (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ، فكان من الإثخان أول يَجِلُّ في الحكم ، وهو ما اسْتُفِيدُ من النَّهْيِ ، وله دلالة تلازم في العقل ، فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الأمرَ بِضِدٍّ ، من الإثخان في الخصم ، فَشُرِعَ قَتْلُ الأسرى في مواضع تُعْتَبَرُ ، لا تحكُّمًا بِهَوًى أو بِحَظٍّ ، وإنما نَظَرًا يَدِقُّ في الحكم ، فالمناط منصوص ، كما تقدم من النصوص ، وإنما الحاكم يجتهد فِي تحقيقِ المناطِ في الخارج بما يُوَاطِئُ مَقَاصِدَ الوحيِ النَّازِلِ ، فكان من ذلك جلالٌ مَبْدَأَ الأمرِ حتى يكون الإثخان في الأرض ، وتلك الغاية التي خُصِّصَ بها العموم صدر الآية ، ولا تخلو ، كما يقول أهل الشأن ، من استعارة أخرى في النطق ، فالإثخان حكاية الشدة في الجملة ، أو هو مما يحكي دما يَسِيلُ وَيَغْلُظُ ، فاستعير له من الكثافة والثخانة ما يعدل ، فالمراد إيلام الخصم ، وَكَسْرُ الشَّوْكَةِ فِي الحربِ ، وتلك الغاية التي بها تخصيص العموم صدرَ الآية ، وهو مما يجري مجرى التخصيص المتصل ، فمنه التخصيص بالغاية التي تَقْرِنَ العام المخصوص في اللفظ ، فكان من ذلك ما شُرِعَ مِنْ قَتْلِ الأسيرِ ، وهو ما تأوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مواضع ، ولو ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فكان من قَتْلِ النَّضْرِ وابنِ أَبِي مُعَيْط ما صَدَّقَ الحكم ، فَأَبَانَ عَنْ جَوَازِ القتلِ ، وإن غَلَبَ العفوُ ، وَكَذَا الحال يوم الفتح ، إِذْ أَهْدَرَ دماءَ قَوْمٍ ، فَقَتَلَ منهم بَعْضًا ، ولو تَعَلَّقَ بأستارِ الكعبةِ ، إذ فَحُشَ جُرْمُهُ ، فَتَرَجَّحَ قَتْلُهُ ، فكلُّ أولئك مما يحرر مناط الجلال في القتل ، ولو لم يطرد من فعل صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو غاية لا وسيلة ، وبه كَسْرُ شَوْكَةِ خصومِ الشريعة ، فَإِذَا كُسِرَتْ فلا غاية في الحرب والقتال والقتل ، لا غاية في نَفْسِهَا تَثْبُتُ ، وإنما شُرِعَتْ إذ بها مقاصد الوحي تُحْفَظُ ، وأولها حفظ الدين المنزل ، فلأجله قد شُرِعَ الجمالُ دعوةً إِلَى الحق ، وجدالًا فِي النُّطْقِ ، كَمَا تَقَدَّمَ من مواضع الجدال الذي يحسن ، وَعُدَّتُهُ الحجة والبرهان ، ولأجل الدين آخر من الجلال قد شُرِعَ ، كما الجلاد في الحرب والإثخان في الخصم حتى تُكْسَرَ شَوْكَتُهُ وَيَضْعُفَ بَأْسُهُ فَلَا يَنْهَضُ لِقِتَالٍ بَعْدُ ، وَعُدَّتُهُ السيف والسنان ، وبهما ، الجدال والجلاد ، بهما قسمة الباب تكمل ، كتابا يهدي وسيفا يَنْصُرُ ، فمن السيف أول قد أُبِيحَ بَعْدَ حظر ، فكان من ذلك الإذن ، ثُمَّ آخر يُوجِبُ الدَّفْعَ ، ثُمَّ ثالث يوجب الطلب ، كما سيف الوحي الخاتم إذ بُعِثَ به صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين يدي الساعة حتى يُعْبَدَ الله ، جل وعلا ، وحده ، وإن لم يكن من ذلك إكراه يلجئ ، فَلَيْسَ القتال ، كما تقدم ، غاية تُرَادُ لذاتِها ، بل تلك الوسيلة أن يَظْهَرَ الحقُّ وَيَبْلُغَ الخلقَ وَتُحْكَمَ بِهِ الأرض عدلا قد شهد به الخصم ، وَصَدَّقَهُ التاريخ بما رَوَى وَكَتَبَ ، فكان من ذلك الجلال الذي يغلب في القتال ، ومنه ما تقدم من مناط الإثخان ، فـ : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، وهو ما أطنب في حده اسْتِئْنَافًا يَعْقُبُ ، ومادة العتاب فيه تَظْهَرُ ، فـ : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وهو ما حُكِيَ مُضَارِعًا وقد انْقَضَى قَبْلَ التَّنَزُّلِ ، فلا يخلو من استحضارِ صورةٍ قَدِ انْقَضَتْ ، فَذَلِكَ آكدُ فِي تَقْرِيرِ المعنى ، وَثَمَّ آخر يَتَنَاوَلُ الجمع كافة ، فدلالة الضمير في "تُرِيدُونَ" تجاوز الجمع المخاطب ، فَذَلِكَ حُكْمٌ قَدِ اتَّصَلَ زَمَنُهُ ، فَاسْتَغْرَقَ الحاضرَ والمستقبلَ ، فَتِلْكَ دلالة المضارع في اللسان المفصِح ، كما استقرأه أهل الشأن ، فكان من ذلك جُمَلٌ مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ قد سَبَرَهَا النحاة ، فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا الأصل الجامع في مدلول المضارع : حكاية الحال والاستقبال ، فَثَمَّ من ذلك عموم يجاوز الجمع الأول من أهل بدر ، فهو يَتَنَاوَلُ كُلَّ جيلٍ يَعْقُبُ ، ولو المعدومَ الذي لِمَّا يُخْلَقْ ، فالخطاب قد تَنَاوَلَهُ قُوَّةً ، وإن لم يَتَنَاوَلْهُ بالفعلِ حَتَّى يُوجَدَ فِي الخارجِ ، ويكون منه مناطُ تكليفٍ بالوحيِ النازلِ ، فَيَجْرِي الخطاب ، من هذا الوجه ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عام ، فخاطب جيلا واحدا ، وهو فَرْدٌ من أَفْرَادِ عام يجاوز ، وَأَرَادَ الأجيال كَافَّةً بما تَقَرَّرَ من قرينة العموم في خطاب التكليف المنزَّل ، فَثَمَّ فَرْدٌ واحدٌ من العام ، وثم مدلول يجاوز فهو يستغرق الآحاد كافة ، فاستغرق الأجيال كُلَّهَا ، فَيَجْرِي ، من هذا الوجه ، مجرى المجاز عند من يُثْبِتُ ، فذلك مجاز الخصوصية إذ أَطْلَقَ الخاص وَأَرَادَ العام الذي يَسْتَغْرِقُ ، وَمَنْ يُنْكِرُ المجازَ ، فهو ، كما تقدم في مواضع ، لا ينفك يجري ذلك مجرى العرف المشتَهِر الذي اسْتَقَرَّ في النُّطْقِ ، فَثَبَتَ حقيقةً في الباب أخص ، فَهِيَ تَقْضِي في أول من اللسان أعم ، قضاءَ المحكمِ في المتشابه ، فَتَرْجُحُ من هذا الوجه رُجْحَانَ حَقِيقَةٍ لأخرى ، لا حقيقةٍ لمجازٍ ، وَثَمَّ آخر من المدلول يجاوز ، فذلك التَّغْلِيبُ ، وَإِنِ اسْتَدْرَكَ مَنِ اسْتَدْرَكَ ، وله حَظٌّ من النَّظَرِ يُعْتَبَرُ ، أَنَّ القتال لا يَتَنَاوَلُ الجمعَ المؤنَّثَ ، بَادِيَ الحكمِ ، فَلَسْنَ يَدْخُلْنَ في واو الجمع في "تُرِيدُونَ" ، دخول التغليب ، وَإِنِ اطَّرَدَ فِي التَّنْزِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَرِينَةِ العمومِ في خطابِ التكليفِ حَتَّى صار هو الظاهر الراجح ، وإن خالف عن أول من اللسان الناصح ، أَنَّ الْوَاوَ نَصٌّ فِي جمع الذكور حَصْرًا ، فَثَمَّ من عُرْفِ الوحيِ مَا زَادَ فِي المدلولِ ، فَهُوَ ظاهرٌ تَالٍ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ إِذْ زَادَ فِي مدلوله الجمعَ المؤنَّث ، فصار هو المشتَهِر الذي يَقْضِي في أَوَّلٍ من اللسان ، فحقيقة العرف الأخص قَاضِيَةٌ فِي آخر من اللسان أعم ، فَاسْتُصْحِبَ التَّغْلِيبُ ، وَهُوَ بَعْدُ لَا يَنْفَكُّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ الذي يَرْدُّهُ إِلَى أصل أول في اللسان ، فلا يُجَاوِزُ وضعَه الأول ، وهو مدلول الجمع المذكر ، فذلك ما افْتَقَرَ إلى قرينةٍ تُرَجِّحُ ، وبها العدول عن حقيقة العرف التي تظهر إلى أخرى من اللسان هي المؤول في خطاب الشريعة الأخص ، وإن كانت الظاهر في حقيقة اللسان المجرد ، فالعرف في الباب يُقَدَّمُ ، إِنْ عُرْفَ الشَّرْعِ ، أو آخر مما تَدَاوَلَهُ الجمعُ في النطقِ ، فَصَارَ المشتهِر في الاستعمال ، وَقُدِّمَ على اللسان في الاستدلال ، فَاسْتُصْحِبَ التَّغْلِيبُ فِي خطابِ التشريعِ حَتَّى يكون ثَمَّ قرينة تُرَجِّحُ ضِدًّا من المؤول ، وهو رَدُّ الْوَاوِ إِلَى أصل أول في اللسان يَثْبُتُ ، وهو الجمع المذكر ، فَكَانَ من القرينة في هذا الموضع مَا رَجَّحَ ، وَهُوَ اختصاص الرجال بواجب القتال ، فَلَيْسَ على النساء منه شيء ، وإنما عليهن جهاد لا قتال فيه ، فـ : "عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ" ، فَكَانَ من العتاب ما تقدم أَنْ : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وهو ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج على حد المقابلة بين شطرين ، وَثَمَّ من الأول فعلية : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) ، وهي مَئِنَّةُ الحدوثِ والتجددِ ، وثم من الآخر اسمية : (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وهي مئنة الثبوت والاستمرار ، وذلك آكد في الإثبات ، فإرادة الله ، جل وعلا ، بداهة ، تَرْجُحُ ، كما قِيلَ في الكلمة ، فـ : (جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) ، فَكَانَ من الجعل أول قد حُدَّ حَدَّ الفعلِ ، فَصَيَّرَ كَلِمَةَ الذين كفروا السفلى ، ثم اسْتَأْنَفَ عَلَى حَدِّ الاسمية ثُبُوتًا وَاسْتِمْرَارًا ، فَكَلِمَةُ اللهِ ، جل وعلا ، هي العليا ، وهو ما أُكِّدَ ، أيضا ، بضميرِ الفصلِ ، وهو مَئِنَّةٌ مِنَ التوكيدِ والحصرِ ، وكذا تعريف الجزأين "كلمة الله" ، و "العليا" ، وهو ، مِنْ وَجْهٍ آخرَ ، مِمَّا يَجْرِي مجرى المقابلة بَيْنَ شطرين وبهما استيفاءٌ لأجزاء القسمةِ ، مع آخر من طباق الإيجاب بين كلمة الذين كفروا في حَدٍّ ، وكلمة الله ، جل وعلا ، في آخر ، وهو مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الطباقِ باللازمِ ، فالصريح منه يكون بين كلمة الذين كفروا وكلمة الذين آمنوا ، وكلمة الذين آمنوا هي ، بداهةً ، كلمة الله ، جل وعلا ، فذلك مرادُه الشَّرْعِيُّ الذي خوطب به الجمع المكلَّف أن يصدق ويمتثل ، وَذَلِكَ وجه التلازم في الطباق ، وكذا آخر من طباق الإيجاب بين السفلى والعليا .
فكذا يقال في الإرادة التي كانت منهم ، فَلَمْ تُوَاطِئْ مُرَادَ الشَّرْعِ المنزَّل إذ : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) ، وهو ما حُدَّ فعلية إذ يَعْرِضُ ، فليس يدوم ويثبت ، فإن من حال القوم عدالة تَنْصَحُ ، وهو ما دل عليه النص المتواتر من الآي والخبر حتى صار من قواطع العلوم والمعارف ، بل هو ، لو تدبر الناظر ، ما لا يَكْمُلُ الدين إلا به ، أصلا أو فرعا ، فَصِدْقُ المنقولِ فرع عن عَدَالَةِ النَّاقِلِ ألا يَكْذِبَ ، وإن احتملَ الخطأَ ، فليس يثبت بالتجويز المحض ، بل استقراء الأخبار والآثار ، وما كان من نقل التنزيل المتواتر ، ذلك مما يقطع أن الشريعة قد نُقِلَتْ كَامِلَةًّ برسم الصحة ، مع آخر من اللسان قد حفظ ، فحفظه ، لو تدبر الناظر ، من حفظ الوحي الذي به قد نَزَلَ ، فحفظ منه بيان المفردات في المعاجم ، ووجوه من الاشتقاق الزائد ، وثالث من قواعد النظم المركب ، ورابع من بَيَانٍ يَلْطُفُ ، وهو ، كما تقدم ، في مواضع ، عرف في الدلالة قد استقر ، فاشتهر من المنظوم والمأثور ، وله في الباب حكم يقضي في ظاهر من حقائق اللسان المجرد ، فَثَمَّ دلالة إفرادية في المعجم ، وثم أخرى تَرْكِيبِيَّةٌ في المنطق الذي يفيد معنى يحسن السكوت عليه بما سلك أهل اللسان من جادة محكمة ، وهي المفصِحة في اللَّفْظِ ، المبيِّنَةُ في المعنى ، إِنِ المفردَ أو المركَّبَ بما تَقَدَّمَ من عُرْفٍ قد اشْتُهِرَ ، وهو العمدة في بَيَانِ مقاصد الوحي وأحكامه ، فالجيل الأول هو الأفصح ، ولسانه هو لسان الوحي المنزل ، والجيل الأول هو الأحفظ ، فذلك وصف العرب بما نصح من الحوافظ ، وهو الأعلم إذ شهد من قرائن التَّنْزِيلِ ما به عقل المراد الأخص ، وإن بَلَغَ الجيل التالي بصحيح من النقل وفصيح من اللفظ ، فثم من فقه الجيل الأول فقهُ من باشر الأمر ، فهو أعلم بما دق من حقائقه وأوصافه ، والجيل الأول ، مع ذلك ، الأنصح ، وآي ذلك ما بَاشَرَ من الفتح لِيُبَلِّغَ رسالة السماء إلى أهل الأرض كَافَّةً ، فَأُخْرِجَتِ الأمة الخاتمة للناس كافة ، أن يهدوها سبيل الحق وأن يحكموا فيها بالعدل ، فكان لهذا الجيل خاصة من العدالة نص يجزم ، وهو ما تواتر ، إن لفظا أو معنى ، فإن من شرط النَّقْلِ ما تحرى ، وحصل به يقين يجزم أو ظن يرجح ، فَلَيْسَ يُرَدُّ بالاحتمال المحض ، تخرصا في القول ، فلا دليل إلا دعوى تُشَكِّكُ ، دون دليل من خارج يثبت ، فكان من ذلك أصل أول يستصحب في نَقَلَةِ الوحي وما تَحَمَّلُوا من الآي والحبر ، فثم من ذلك ما استوجب عدالة الناقل ، وإلا لم يُؤْمَنِ المنقولُ ، وَثَمَّ منه ما اسْتَوْجَبَ منه الحفظ لِمَا نُقِلَ ، والفقه لِمَا يُفْتِي به بما استقر من قانون الاستنباط ، فاستوجب ذلك فصاحة في النطق ، وعدالة في الوصف ، وليست عدالته في الحد تَعْدِلُ العصمة في القول والفعل ، بل ذلك مِمَّا رُفِعَ بِرَفْعِ النُّبُوَّةِ من الأرض ، فلهم من ذلك عصمة المجموع لا الجميع ، وبه نصح الإجماع أصلا ثالثا من أصول الاستدلال المحكم ، فوصفهم في المجموع : العصمة ، ووصفهم في الآحاد : العدالة ، وإن لم يكن منها عصمة تَثْبُتُ ، فما يكون من النقص فهو عارض يطرأ ، فليس الأصل الذي استقر من حالهم ، مع أوبة إلى الحق يسرع صاحبها ، فيتذكر ويبصر ، فـ : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) ، فَحُدَّتْ إرادتهم للدنيا في الآي آنف الذكر : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) ، حُدَّتْ فعلا يَعْرِضُ لا وصفا يطرد ، وكان من المضارعة ما به استحضار الصورة ، وذلك آكد في التَّنْفِيرِ من حالٍ ليست تواطئ حكومة الوحي المنزلة ، فهي ما حُدَّ بَعْدًا حد الاسمية : (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وهو قَسِيمُ الأوَّلِ ، وبهما اكتملت المقابلة بين شطرين بهما المعنى يكمل على حد التضاد ، وبضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، فكان من الشطر الثاني اسمية تُثْبِتُ ، فـ : (اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، وتلك إرادة تشريع يحكم ، فذللك المراد في كلامه المنزل ، بما استقر من عرف النطق المفهِم ، فسلوك جادة مخصوصة منه بما استقر في الاستعمال المشتهِر ، ذلك دليلُ إرادةٍ لمعنى بعينه ، فلا يحصل إلا بسلوك هذه الجادة المحكمة في النطق ، إن في المفرد أو في الجمع ، إن في الإفرادِ أو في التَّرْكِيبِ ، لا جرم كان من الحداثة ، كما تقدم في مواضع ، مذهبُ تَفْكِيكٍ يَبُتُّ الصلة بَيْنَ النصوص وأول من المأثور الذي جَرَى على مِثَالٍ مخصوص ، وهو دليلُ الْبَيَانِ المفصِح بما اسْتَقَرَّ مِنْ عُرْفِ النُّطْقِ المفهِم ، فلا يسلم هذا التفكيك إلا أن يُجَرَّدَ النَّصُّ من المدلول ، إن في المعجم المفرد أو في السياق المركب ، فَيَشْغَرُ من المعنى ، ولازمه نَفْيِ إرادةٍ أولى لِلْمُتَكَلِّمِ ، فَلَمْ يَسْلُكْ من جَادَّةِ النُّطْقِ إِلَّا صوتا قد جُرِّدَ من المعنى ، فهو الدالة بلا مدلول ، اللفظ بلا معنى معقول ، فَيَطْلُبُ الشاغرُ منه شاغلا ، وهو ما يَقْتَرِحُ العقل ، إن المفرد أو المجموع ، بما استقر من عرف محدَث ، فَثَمَّ بِنْيَةٌ من النطق جديدة ! ، وصاحبها يتحكم فَيُجَاوِزُ بها في الاستدلال ، فهي حجة في جيلها بما استقر من عرفها الحاكم في تأويل نصوصها ، لا أن تكون الحجة المجاوزة التي تفسر ما حدث قَبْلَهَا من الكلام ! ، فكيف يُحْكَمُ بمعدوم زَمَنَ التَّكَلُّمِ عَلَى موجود قد نطق به الجمع فَأَجْزَأَ ، وإنما يَقْضِي في كلامِه بما استقر من عرفه أولا ، وذلك مما اطرد فَعَمَّ النصوص كافة ، إِنِ الرِّسَالِيَّةَ المنزَّلة ، أو أخرى من النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لِلْحَدَاثَةِ مذهبُها إلا أن تحكم بموت الناطق الأول ، ولو الربَّ المهيمنَ ، جل وعلا ، وذلك ما أُلْزِمَتْ به فَالْتَزَمَتْ في مواضع ، فلم يَبْقَ في الخارج إلا النص بلا مدلول يجاوز جيله ، فهو تاريخ يُؤْثَرُ ، وليس بعد يُؤَثِّرُ في الاستدلال ، فقد طُوِيَ في كفن القائل الأول الذي مات وَانْقَضَى أمرُه كُلُّهُ ، ومنه عُرْفُ لِسَانِهِ فِي النُّطْقِ ، فَشَغَرَ كلامه من المدلول ، فهو دوال ورموز مجردة لا تَنْفَكُّ تطلب المادة المضمَّنَة ، فكل يُضَمِّنُ الرَّمْزَ ما يُوَاطِئُ الهوى والحظ ، أو آخر من بِنْيَةٍ محدَثَةٍ ليست في الباب المحكمةَ ، بل العرف الذي استقر ، وبه قد ورد النص ، ذلك هو المحكم الذي يقضي فيها ، فهي المحدثة المتشابهة .
فحصل من الإرادة ما تقدم ، وبه مقابلة قد استوفت أجزاء القسمة : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) ، فتلك إرادة العبد ، و : (اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ، فتلك إرادة الرب ، جل وعلا ، إرادة الشرع المحكم بما استقر من عرف الوحي المنزل ، وثم من الطباق إيجابا ما يزيد في الدلالة ، وَبِضِدِّهَا تَتَمَايَزُ الأشياءُ ، فدنيا وآخرة ، فلا يخلو السياق من العتاب ، كما تقدم ، وهو مَا اسْتُؤْنِفَ فِي السياقِ المفهِم ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إِنَّ السياق يحتمل زيادة من الإنشاء ، على تقدير الاستفهام : أتريدون عرض الدنيا فالله ، جل وعلا ، يريد الآخرة ، فذلك استفهام ينكر ويعاتب ، وبه زيادة في الدلالة ، وقد يجاب إن ذلك مما لا يَلْزَمُ ، فَالْمَعْنَى قد حصل أولا بالمذكور ، وإنما يصار إلى المحذوف إذا تَعَذَّرَ حملانُ الكلامِ على المذكور ، فَيُقَدَّرُ ما به الكلام يجزئ في حصول معنى تام يُفْهِمُ ، فلا يصار إلى المحذوف إلا ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، إذ قد خالف عن الأصل الأول وهو الذكر ، وإنما اضطر الناظر إلى الحذف ، فلا بد من دليل على المحذوف ، والأصل فِيهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الذِّكْرِ ، فيكون منه مرجع قَدِ اسْتَقَرَّ فِي الذِّهْنِ ، وبه الحكم على تال يَعْقبُ في السياق من المحذوف المقدَّر ، وليس ثم حاجة ، كما تقدم ، تُلْجِئُ ، وإن قِيلَ ، من وجه آخر ، إن تلك زيادة في المعنى تنصح ، فهي تؤكد ما كان أولا من العتاب .

ومن ثم كان الختام الذي يجري مجرى التعقيب بالعطف في قوله : (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، ولا يخلو من دلالة تعليل في الحكم ، فما كان حكم الإثخان في الأرض إلا حكاية عِزَّةٍ في الوصف ، وذلك الجلال الذي يَتَبَادَرُ فِي مواضع الشدة ، وأخرى من الحكمة ، وبها الاستدراك الذي يَنْفِي المتوَهَّم من النَّقْصِ ، فطرد الجلال في كل حال ليس من الحكمة ، بل ثم مواضع تطلب الرِّفْقَ وَاللِّينَ ، كما أن طرد الجمال في كل حال لا يحمد ، بل ثم مواضع تطلب جلالا يزجر ، وذلك مدلول الحكمة الناصح أن يوضع كُلُّ حكمٍ في المحل الذي يواطئ ، فيوضع الجلال في مواضعه ، ويوضع الجمال في أخرى تلائمه ، فحسن الختام بوصف العزة والحكمة ، جلالا وجمالا ، وبهما الكمال المطلق يثبت ، فهما كالمثال لعام يستغرق ، فالجلال يتناول العزة وأخرى من الجبروت والقهر والكبرياء ..... إلخ ، والجمال يستغرق الحكمة وأخرى من الرحمة والمغفرة والتوبة ...... إلخ ، فَذُكِرَ كُلٌّ مِثَالًا لعمومه الذي يستغرق ، وليس له ، كما تقدم ، يخصص ، وإنما له يبين ويظهر ، والعزة ، من وجه آخر ، مما يدخل في عموم من المعنى يجاوز وهو المجد ، كما الحكمة تدخل في آخر من الحمد ، فقد استجمع اسْمَا الحميدِ المجيدِ : أجناس الوصف كَافَّةً ، فالحميد قد استجمع وجوه الجمال ، والمجيد قد استجمع وجوه الجلال ، فَهُمَا عَامَّانِ في الباب قد اسْتَغْرَقَا آحادَ كُلٍّ ، وبهما حصول الكمال المطلق ، وهو ، بداهة ، وصف الرب المهيمن ، جل وعلا ، أَزَلًا وَأَبَدًا ، فَثَمَّ من ذلك أولية وآخرية كلاهما في الوصف يُطْلَقُ ، ومن ذلك العزة والحكمة محلُّ شاهدٍ في الآية ، وهو ما حسن في الإطناب ختاما إذ يواطئ ما تَقَدَّمَ من حكومة الإثخان في الأرض في موضع يشرع فيه القتل ، وإن غاية لا وسيلة ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو ، بداهة ، ما لا يَعُمُّ في المدلول كُلَّ أَحَدٍ ، بل ذلك مما شرع في حق المقاتل خاصة ، فلم يشرع من ذلك قتل صغير أو امرأة أو شيخ أو ناسك قد تجرد وَاعْتَزَلَ ...... إلخ من وصايا قد أُثِرَتْ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعن خلفائِه المهديين ، م ، ولهم سنة تسلك ، فهي مما شهد له صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" ، فَكَانَ من ذلك اسم الفعل الذي يَحُضُّ ، فذلك ما يضاهي من المدلول الأمر أن : "الْزَمُوا" ، وهو ما يدل ، بادي النظر ، على إيجاب هو الأصل في الأمر بما تَقَدَّمَ في مواضع من الاستقراء والاستنباط ، فَثَمَّ من ذلك ما أَفَادَ من مدلول الأمر أولا يَحْكِي الإيجاب ، وَإِنْ ظَاهِرًا يُسْتَصْحَبُ ، فلا ينفك يحتمل آخر ، وإن المرجوحَ الذي لا يتبادر ، فَثَمَّ الاحتمال الذي يطلب الدليل المرجِّح ، وَإِلَّا وَجَبَ استصحابُ الأصلِ الأوَّلِ ، كما في هذا الموضع ، فإن اتِّبَاعَ السنة ، وهي من الوحي المنزل ، ذلك ، بداهة ، الْفَرْضُ المؤَكَّدُ ، وهو ما تَوَاتَرَ من أدلته في الآي والخبر ما يَنْصَحُ ، فأفاد الأمر : الإيجابَ الظاهرَ ، وكان من قرينة السياق ، وأخرى في مواضع من الوحي آيا وخبرا ، كان من أولئك ما صَيَّرَ الظاهرَ في هذا الموضع نَصًّا لا يحتمل ، فطاعة الوحي تَصْدِيقًا وَامْتِثَالًا هو الفرض الناجز قَطْعًا ، وبه التوحيد يَثْبُتُ ، توحيدُ العبادةِ ، وهو مئنة الطاعة والانقياد ، ولا يكون إلا بالتصديق والامتثال ، فَحَصَلَ من ذلك جملة قرائن قد صَيَّرَتِ الأمرَ في هذا الموضع نَصًّا ، مع ما أَفَادَ اسم الفعل المنقول من الجار والمجرور "عَلَيْكُمْ" ، وهو آخر يَشْهَدُ لِنَظَرِيَّةِ السياقِ ، فَهِيَ التي تعين مراد المتكلم بما استقر من العرف المشتهر في النُّطْقِ ، فإن الجار والمجرور "عَلَيْكُمْ" في قوله : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، ليس في المدلول يضاهي آخر في قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، وما كان في هذا الموضع ، فـ : "عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" ، فَثَمَّ لفظ واحد في النطق والكتب ، ودلالته مما يختلف باختلاف السياق والنظم ، فَيَجْرِي من ذلك مجرى القرينة المرجحة من خارج في حد التأويل في الاصطلاح المتأخر ، فَثَمَّ ظاهر أول هو الظرف جارا ومجرورا ، فَيَحْكِي من دلالة "عَلَى" الاستعلاء والتمكن ، وأخرى من دلالة الخطاب الذي تَنَاوَلَ الجمع المذكر وضعا أول في اللسان المفهِم ، وَذَلِكَ مَا احْتَمَلَ آخر لَا يَتَبَادَرُ من اسم الفعل الآمر ، على تَقْدِيرِ "الْزَمُوا" ، وهو ما تَنَاوَلَ الجيل الأول ، فهو أول من خوطب بذلك ، ودلالته ، من وجه آخر ، مما يجاوز المخاطب الأول لقرينة العموم في خطاب التكليف المنزل ، فاستغرق طباق الأمة كَافَّةً ، مَنْ حَضَرَ وَمَنْ غَابَ ، مَنْ وُجِدَ زَمَنَ الخطابِ والمعدوم الذي لَمَّا يُوجَدْ بعد ، الجمع المذكر الذي دل عليه الضمير في "عَلَيْكُمْ" بِالنَّظَرِ في أصل الوضع الأول ، وآخر هو المؤنث ، فَثَمَّ آخر من قرينةِ التَّغْلِيبِ ، وهو ، أيضا ، مما اطرد في التَّنْزِيلِ وفي الخبر المنقول عن صاحب الشرع المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فَثَمَّ ظاهر من "عَلَيْكُمْ" وهو الجار والمجرور ، وآخر هو المؤول المرجوح ، اسم الفعل الآمر على تقدير "الْزَمُوا" ، فلا يَتَبَادَرُ مبدأَ الاستدلال ، وثم من القرينة في هذا السياق ، فـ : "عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" ، ما رَجَحَّ المرجوح الذي لا يتبادر ، وهو دلالة اسم الفعل الآمر على تأويل : "الْزَمُوا" ، فجرى ، من هذا الوجه ، مجرى التأويل في الاصطلاح المتأخر ، وبه قد يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، وَمَنْ يُنْكِرُ ، فَهُوَ عَلَى أَصْلٍ أَوَّل لَهُ يُسْتَصْحَبُ ، أن ذلك مما عُهِدَ فِي اللِّسَانِ واشتهر فجرى مجرى العرف الظاهر المتبادر ، فحقيقة العرف الأخص قاضية في أولى من اللسان أعم ، بل ثم من وضع المعجم الأول ما نص على اسم الفعل المنقول ، إن من الجار والمجرور كما "عَلَيْكُمْ" في السياق آنف الذكر ، أو من الظرف كما في "دُونَكَ" على تأويل : خذ ، ومنه قولك : دُونَكَ الكتاب ، أَيْ : خُذْهُ ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ ذلك خروج عن الأصل ، بل ذلك مما ثَبَتَ بأصل الوضع ، فأسماء الأفعال مما يَتَنَاوَلُهُ درس النحو تَنَاوُلَ الأصولِ لا الفروعِ التي تُسْتَثْنَى مما استعماله يَقِلُّ أَوْ يَنْدُرُ .

فَأَفَادَ اسْمُ الفعلِ المنقول من الجار والمجرور "عَلَيْكُمْ" ، أَفَادَ الإيجابَ في هذا السياق ، فـ : "عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" ، مَعَ آخر يَلْطُفُ في الدلالة وهو الملازمة ، فذلك آكد في الإيجاب والفرض ، وهو واجب الوقت في كُلِّ حَالٍ ، فلا تخلو من حكومة وحي ، وإن إباحةً هي في الأشياء الأصلُ ، فَثَمَّ من دلالة الأمر في هذا السياق ما حكى أولا من الإيجاب ، وقد زِيدَ فِيهِ آخر من الْحَضِّ أَنْ يَلْتَزِمَ المأمورُ الأمرَ ، وتلك دلالة قبول وانقياد يزيد على الفعل المحض ، فلا يخلو من دلالة التسليم ، كما في قوله : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .
فَحَصَلَ من دلالة الاسم "عَلَيْكُمْ" : دلالة الإيجاب وأخرى من الْحَضِّ ، وبه يَسْتَأْنِسُ ، من وجه ، من يُجَوِّزُ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، وَإِنِ اسْتَدْرَكَ مَنِ اسْتَدْرَكَ ، إذ يقول : إِنَّ الأمرَ ليس المشترك بين جملة معان ، وإن احتملها ، إذ ثم ظاهر أول يُسْتَصْحَبُ ، وهو الإيجاب ، فَثَمَّ من ذلك الفرض ، وهو ما عَمَّ سُنَّةَ صاحبِ الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصلا ، وسنة الخلفاء تَبَعًا ، وما صارت الحجة إلا أَنْ نَصَّ عليها صاحب الشرعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فَشَهِدَ لها بالاعتبار ، وهي ما استوجب آخر من الاحتراز ألا تخالف في آحاد الفتوى ما أُحْكِمَ من نصوص الشرعة ، إن آيا أو خبرا ، فلا تخلو فتوى من واحد من الخلفاء المهديين أن تخطئ الصواب ، وإلا كانت أعيانهم معصومة ، وذلك ما انْتَفَى ضرورةً ، وإنما سُنَّتُهُمُ المتبوعة ما بِهِ قد أَفْتَوا ، ولم يُعْلَمِ المعارض المعتبر ، فليس ثم خلاف لَأَوَّلٍ من النَّصِّ ، وليس ثم تَالٍ من الخلاف المعتبر ، بل الفتوى قد اشتهرت ، وحصل من الإجماع ما يسهل ضبطه في جيلهم ، لا سيما أبي بكر وعمر ، ما ، لا جرم كان من الأمر بالاقتداء ما به قد خُصَّا ، فـ : "اقتدوا باللَّذَينِ مِن بعدي : أبي بكرٍ وعُمرَ" ، على كلام في إسناده ، وإن رَجَحَ فيه الحسن لشواهده ، على تفصيل في ذلك ، وإن كانت سنة الخلفاء المهديين تزيد عليهما ، فَاخْتُصَّا بذلك إذ سُنَّتُهُمْ آكد في الاعتبار ، فقد سَهُلَ في خلافتهم انعقاد الإجماع القاطع ، فأهله في المدينة قد استقروا ، فَجَمَعَتْهُمْ محلة واحدة ، وكان من استقراء أقوالهم ما يمكن ، إن إجماع التصريح أو آخر يسكت ، وليس ثم بداهة في هذا الجيل ما يخشى من كتمان الحق أو خشية البأس ، فيكون السكوت تقية ، فذلك ما لم يكن في المدينة ، وشوكة الإسلام قد صَلُبَتْ ، والجيل قد عُدِّلَ ، فلا يُجْمِعُ على باطل ، ولا يكون منه تواطؤ في كتمان الحق ، كما زَعَمَ مَنْ زَعَمَ من المحدِثة في الدين ، ولم يكن له من الدليل إلا صورة الخلاف أن ذلك قَدْ حدث ! ، وهو ما لا يُسَلِّمُ به الخصم فلا ينفك يطلب الدليل من خارج ، لا أن يكون هو الدعوى والدليل في آن واحد ! ، فذلك التحكم المحض ترجيحا بلا مُرَجِّحٍ ، ولازم قولهم بطلانُ الدين كافة ، لدخول الاحتمال ، احتمال الكتمان ، في كل آي أو خبر .
فحصل من ذلك سنة لهم تكافئ في الحد : عصمة الإجماع الذي انعقد في جيلهم ، فَلَيْسَتْ سُنَّةُ الخلفاءِ : كُلَّ قَوْلٍ قاله واحد منهم في موضع فتيا ، فلا ينفك كلٌّ يخفى عليه من الحق شيء ، ولو يَسِيرًا ، وإلا كانت أعيانهم الأعيان المعصومة ، وذلك ، بداهة ، مما يخالف عن الشرعة المنقولة ، فقد أَثْبَتَتْ لهم العدالة آحادا ، فلا يكذبون ، وَأَثْبَتَتْ لهم العصمة جماعة ، فإجماع الأمة عَامَّةً قَدْ عُصِمَ ، إن في مواضع التصريح ، فما أجمعوا عليه فهو الحق ، أو في مواضع الخلاف ، فلا يجمعون على قول ، وهو خلاف الحق في نفس الأمر ، فحصل من ذلك ما استوجب الاتباع ، وإن فرعا عن أول من سنة صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لا جرم قُدِّمَتْ سُنَّتُهُ في الذكر في الخبر آنف الذكر : "فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" ، وهم له تَبَعٌ ، فَحُجَّتُهْمْ مِنْ حُجَّتِهِ ، وَسُنَّتُهُمْ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، تأويل في الخارج ينصح لما كان من الدين المنزَّل ، لا سيما مواضع الاجتهاد في الفقة والسياسة والحرب ، فإن سنتهم لم تَزِدْ في الاعتقاد والعبادات شَيْئًا ، وإنما كان الاجتهاد فِيمَا جَدَّ من نَوَازِلَ ، فحصل من سُنَّتِهِمْ مَا تأول الوحي إذ صَدَّقُوا القولَ بالفعلِ ، فَلَوْلَا أن شَهِدَ لهم بالاعتبار ما اعْتُبِرَتْ سُنَّتُهُمْ ، كما أَنَّ الكتاب المنزل والسنة الخبرية قد شهدا للإجماع بالعصمة ، فلولاهما ما كان حجة ، والكتاب ، من وجه آخر ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، قد شهد للسنة أنها الحجة ، فـ : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، فهو أصل الأصول ، وهو أول في الاستدلال ، وهو مناط الحجة لما تلا من أصول الشرعة .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #2  
قديم 29-10-2024, 02:34 AM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 44
افتراضي

وَثَمَّ من العموم في الآي آنف الذكر ما تَنَاوَلَ كُلَّ نَبِيٍّ ، فذلك مما يجري مجرى النص في الباب ، إذ ثَمَّ نكرة في سياقِ النَّفْيِ في قوله : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فما كان تلك سنة تجري في فعل أي نبي يُقَاتِلُ ، فالجلال أول غالب ، ثم الجمال في اتخاذ الأسرى بعد الإثخان في الأرض ، وهو ما يَزِيدُ فِي دلالةِ النُّبُوَّةِ ، فَهِيَ أَوَّلًا تَحْمِلُ الكتابَ الهادي الذي يدل على الحق ، وَيُبِينُ عن أدلته المعتبرة ، إن نقلا صحيحا أو عقلا صريحا ، بما به الحجة تقام على الخلق ، مع إرادة أولى تنصح ، فهي تَرُومُ الخير للخلق كافة ، فكان من خطابها في الدعوة جمال يُرَغِّبُ ، وَتَلَطُّفٌ فِي القول يُقَرِّبُ ، ولو خوطب بها كبار الطواغيت الذين بغوا في الأرض بغير الحق ، فكان من الأمر الموجب ، ولا يخلو من دلالة إرشاد ونصح أن : (قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، فَثَمَّ أمر قد اخْتُصَّا به ، فذلك سياق قَصَصٍ لا يجاوز بالنظر في ألفاظه ، وإن كان من عموم المعنى ما يعتبر ، كما المأمون العباسي بِهِ قَدِ اسْتَدَلَّ على من أَغْلَظَ له في النصح ، فقد بَعَثَ الله ، جل وعلا ، من هو خير من الواعظ إلى من هو شر من الموعوظ ، وأمره ، مع ذلك ، أن يَلِينَ له في القول ، لعله يتذكر أو يخشى فَيَهْتَدِي إلى الحق تصديقا وامتثالا ، وهو ما يجاوز ، كما تقدم في مواضع ، هداية البيان والإرشاد ، فهي مما يحصل لكل مخاطَب ، وهي شَرْطٌ أول في قِيَامِ حُجَّةٍ تُعْتَبَرُ ، وبعدها آخر يَزِيدُ ، فَهُوَ يَرُومُ النُّصْحَ والخيرَ لمن يخاطِب ، وذلك معنى يجاوز موسى وهارون ، عليهما السلام ، وإن لم يَتَنَاوَلْهُ اللفظُ الأخصُّ ، أَنْ : (قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، فاللفظ أَمْرٌ ، وهو من الخاص ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، فلا يجري مجرى العموم بالنظر في عوارض الألفاظ ، وإنما عم بآخر يجاوز ، فهو يتناول المعنى ، لِينًا في القول ، فهو مما يحسن في مواضع الجمال دعوةً إلى الحق ، فذلك جمال الكتاب الهادي الذي نَزَلَ بالحق خبرا وحكما ، مع آخر من اللِّينِ والرِّفْقِ ، فكان من ذلك وصف يُقَيِّدُ ، إذ وُطِّئَ له بالمصدر "قَوْلًا" في قوله : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، فَثَمَّ قائل ، وثم مخاطَب ، وثم واسطة من لام التبليغ في "لَهُ" ، ولا تخلو من دلالة الاختصاص ، فهو المخاطَب خطابَ المواجهة الأول ، فَثَمَّ عموم يجاوزه إلى قَوْمِهِ ، فَهُمْ له تَبَعٌ بما استخفهم فأطاعوه ، ولم يكن ثم رجل رَشِيدٌ يُنْكِرُ ، وإن كان ثم مؤمن يَكْتُمُ ، فَتَلَطَّفَ فِي النصحِ ، فذلك ، كما تقدم ، الجمال الذي يغلب في مقام الدعوة إلى الحق ، وإن لم يخل في مواضع من جلال يزجر المجادَل ، إذا تَعَدَّى وجاوز الحد ، فكان من مؤمن آل فرعون جمال يَتَلَطَّفُ فِي القولِ ، وذلك مقام لا يخلو من تَرَخُّصٍ ، لا جرم فُضِّلَ عليه الصديق ، ، إذ عَزَمَ ، كما أُثِرَ عن علي ، ، إذ خطب فقال : "مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ، فَقَالُوا : أَنْتَ ، قَالَ : أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا أَنْصَفْتُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ فَهَذَا يَجَؤُهُ وَهَذَا يَتَلَقَّاهُ ، وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ تَجْعَلُ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيَدْفَعُ هَذَا ، وَيَقُولُ : وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ بَكَى عَلِيٌّ ، ثُمَّ قَالَ : أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ أَفْضَلُ أَمْ أَبُو بَكْرٍ فَسَكَتَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : وَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْهُ ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَهَذَا يُعْلِنُ بِإيمَانِهِ" .
فَثَمَّ الجمال ، وهو محل الشاهد ، فهو المستصحب حالا تغلب في مقام دعوة تُبَيِّنُ وَتُرْشِدُ ، وهو ما أُمِرَ به موسى وهارون ، عليهما السلام ، فـ : (قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، وذلك مما أُطْنِبَ في حدِّه بما تَقَدَّمَ من المصدر الموطئ ، فمناط الفائدة وصفُ اللينِ ، وثم تَالٍ من الإطناب بالعلة ، ولا يخلو من دلالة الرجاء ، لا الافتقار إلى اهتداءِ مُهْتَدٍ ، فالله ، جل وعلا ، غني عن الخلق ، فـ : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، فلا يرضاه لهم إذ أحسن إليهم بما كان من إيجادٍ من العدم ، وتسوية في الخلق ، وإبانة عن الشرع ، فَثَمَّ استصلاح الأبدان بما أجرى من سَنَنِ الخلق والرَّزق والتدبير ، وَثَمَّ استصلاح الأديان بما أجرى من سَنَنِ الشرع ، فَخَلَقَ الخلقَ وأحسنَ إليهم في الدين والدنيا ، وأعظم المنن ما كان من إرسال الرسل ، عليهم السلام ، بالهدى ودين الحق ، فلا يفتقر ، جل وعلا ، إلى أحد من خلقه ، وإنما بُعِثَتِ الرَّسُلُ ، عليهم السلام ، بالهداية الناصحة ، وثم من العلة ما أطنب في الآية ، فـ : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، فهي حكاية رجاء أول بالنظر في وضع اللسان المحكم ، فكان من قياسه وضع "لَعَلَّ" حكاية الرجاء الذي يتناول الجائز ، لا التَّمَنِّي الذي يَتَنَاوَلُ المحَالَ الممتنع لذاته ، فإيمان فرعون ليس من المحال لذاته ، فلا تكليف به يثبت ، وإنما هو مبدأ النظر جائز ، وإن لحقه وصف المحال ، فهو المحال لغيره بما كان من قرينة علم تقدير أول ، وليس ذلك مما يناط به التكليف ، فهو مما انْفَرَدَ الله ، جل وعلا ، بِعِلْمِهِ ، فذلك مما لا يناط به تكليف ، إذ شرطه العلم ، ومن ذا يعلم مآل العبد إيمانا أو كفرا ؟! ، لا جرم جاز تعليق الإيمان بالمشيئة بالنظر في العاقبة فلا يعلمها إلا الله ، جل وعلا ، وليست مناط تكليف ، وليس ينصح بها الاحتجاج على العصيان والكفر ، فلئن وصف إيمان فرعون أنه المحال الممتنع ، فليس المحال الممتنع لذاته مبدأَ النظر ، وإلا ما توجه التكليف أَنْ يُؤْمِنَ ، وما توجه آخر إلى موسى وهارون ، عليهما السلام ، أن يقولا له القول اللين ، فَلَا يَنْفَعُهُ وقد سَبَقَ فِي العلمِ أنه لا يُؤْمِنُ ، فذلك زَمَنَ الخطاب ليس يعلم ، فهو من الغيب الذي اخْتُصَّ به الرب ، جل وعلا ، فلا يعلم العاقبة إلا هو ، فتوجه الخطاب بما يواطئ الحال التي تُعْلَمُ لا المآل الذي لا يعلمه إلا الله ، جل وعلا ، فذلك ، كما تقدم ، مما لا يتوجه به تكليف .
فكان الأمر أَنْ يَقُولَا له القول اللين ، ولو سبق في العلم الأول أنه لا يؤمن ، فذلك مما لا يحتج به المخلوق ، فإن الاحتجاج إنما يَنْصَحُ إذا كان بما يَعْلَمُ صاحبه لا بما لا يَعْلَمُ ، فالأمر منه دعوى لا تَزِيدُ على الجواز المحض ، فلا يقطع أنه لا يؤمن ، فقد سبق في العلم الأول ذلك ! ، فتلك دعوى هي الجائز في الحد ، وهو ما أَجْزَأَ فِي رَدِّهِ آخر يُضَاهِي في القدر وَيُضَادُّ في الوصف ، فما يدريه لعله يؤمن ؟! ، فإيمانه أو كفره ، كلاهما من الجائز بالنظر في حقه ، فليس بالمحال الممتنع لذاته ليبطل التكليف ويصح احتجاج الجاحد المنكر بالقدر ، أنه قد وجبت له الهلكة ، فلا يؤمن ، فما ينفع خطاب من لا يؤمن ؟! ، فذلك ، كما تقدم ، مما لا يعلمه خلق ، فهو من علم الغيب الذي انفرد به الرَّبُّ ، جل وعلا ، وهو من أخص صفاته ، صفة العلم المحيط المستغرِق بما كان من قديم في الأزل قد ثَبَتَ ، وبه المقادير كَافَّةً قد كُتِبَتْ ، فذلك علم التقدير الأول الذي تناول المقدورات كافة ، ومنها أمر الإيمان والكفر ، والرِّزق ، والأجل ...... إلخ ، فلا يعلم ذلك أحد ، لا ملك مقرَّب ولا نبي مرسَل ، فلا يدخل في حد الاستثناء في قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) ، فإن ذلك من الاستثناء الذي يخالف عن الأصلِ ، فَيُقَدَّرُ ضرورةً تُقَدَّرُ بالقدرِ ، فلا يجاوزها الناظر ، فَيَزِيدَ في الحد ، ويكون من ذلك الغلو في المخلوق أنه يعلم الغيب المطلق الذي اسْتَأْثَرَ به الرَّبُّ ، جل وعلا ، فلا أحد يعلم العاقبة إلا الله ، جل وعلا ، لا جرم بَطَلَ احتجاج الكفار والعصاة بالقدر ، فتلك جبرية بها استبيح الكفر ، وآخر من الفحش ، فكانت الإباحية التي تصدر عن دعاوى الجبر ، وآخر يغلو في الخلق ، على قاعدة تأويل باطن يَنْقُضُ ظواهر النصوص ، إِنِ الخبريةَ أو الإنشائيةَ ، فَانْتَهَى بِهِ ذلك إلى مذاهب باطنية قد عمت بها البلوى في كل جيل ، فهي تفسد الأديان إذ تُفْسِدُ اللِّسَانَ ، وهو آلة الفهم والفقه ، وتال من البيان أخص بما لَطُفَ من عُرْفِ النطقِ المشتهِر ، فَثَمَّ مذاهب قد انْشَعَبَتْ ، حتى عَسُرَ استقصاؤها ، وهي في كل جِيلٍ تَقْتَرِحُ من الاسم ما يُزَخْرِفُ ، والأصل واحد ، وهو الوسواس الخاسر الذي أقسم بالعزة لَيُغْوِيَنَّ الخلق كافَّةً إلا من آمن وأصلح ، فَتَوَعَّدَ آدَمَ وَبَنِيهِ ، فكان من وسواسه ما يُوحِي به إلى أوليائه أن يجادلوا ، فـ : (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، ومن جدالهم ما أحدثوا من مذاهب باطنية في التأويل ، وَغَايَتُهَا جميعا بَتَّ الصلة بين الحق ، جل وعلا ، والخلق ، أن تبطل النبوات ، فمن جاحد يُنْكِرُ تَصْرِيحًا فلا يُكَنِّي ، فهو يجحد الأصل من أَوَّلٍ قد خلق الخلق بالعلم والإرادة ، فليس الخلق عند المنكِر الجاحد إلا الخبط مبدأَ الأمرِ ، وليس إلا مَادَّةً تَقَدَّمَ في الأزل ، قد وُجِدَتْ بلا موجِد أول ، فخالف عن مقدمات الضرورة في النظر ، أَلَّا محدَث بلا محدِث ، فليس من أمره إلا العلة المادية التي تَقْرِنُ العلة الفاعلية ، وهو ، أيضا ، مما يخالف عن القياس المصرح والنظر المجرد وآخر يُشَاهِدُ من سَنَنِ الخلقِ ما أُحْكِمَ ، فالعلة بداهة تسبق المعلول ، والفاعل الذي خلق المادة يسبق المفعول المحدَث من مادة أولى قد أوجدها ، مع آخر أخص من خلق قد تَرَاكَبَ ، فكان منه إتقانٌ فِي الماهياتِ وإحكامٌ في السنن الجاريات ، ولو وَاحِدًا فِي الحدِّ يَبْسُطُ كَمَا خلية واحدة تُفْرَدُ ، فلا يُتَصَوَّرُ منه الخلق التام إلا دَفْعَةً ، فالقول بما اقْتَرَحَ بَعْضٌ يجحد الخلق الأول ، أَنَّ ثَمَّ تسلسلا في فعلٍ بسيطٍ ذِي خطواتٍ قَدْ أَفْضَتْ إِلَى هذا الخلق المركَّب المتقَن ، وما جرت عليه عُضَيَّاتُهُ مِنْ سَنَنٍ محكَم ، ذلك القول ، كما يقول أهل الشأن ، فَرْضٌ محضٌ ، لا يكون إلا تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم الذي يقترح المحال الممتنع لذاته ، وهو ما تناوله التجريب والبحث ، وهو الأصل في مذاهب تجحد الخبر المجاوز ، فَخُصُومَتُهَا لِلنُّبُوَّاتِ قد استحكمت ، فلا تُسَلِّمُ إلا بما تَشْهَدُ بالحسِّ ، وهي ، مع ذلك ، تقترح أولا من الغيب ، وليس منه إلا الفرض المحض ، فلا دليل من الحس بما يعالج من السنن المطرد في الخلق ، وليس ثم مثال يصدق ، ولو واحدا في الخارج يحدُث ، أو آخر في التجريب والبحث يُقْصَدُ ، ولا أَثَرَ ، ولو دَارِسًا في الأرض ، يشهد ، مع حصول الْغَرَضِ وَتَوَافُرِ الهمم التي تطلب من الدليل ما يثبت ، ولو تكلفت له من التأويل ما تكلفت ، فَضَاهَتْ في تأويلاتها لما تشابه من آثار في الأرض ، وقد ثبت بطلانها في الحد ، فلا دليل منها يشهد ، فَضَاهَتْ في تأويلاتها تأويلات الباطنية لنصوص الرسالة السماوية ، إذ اقْتَرَحَتِ المحالَ الممتنع لذاته ، فلا يصدق فيه ، بادي النظر ، أنه جائز يحتمل ، ولو فُرِضَ أنه الجائز ، فذلك من الغيب المطلق ، فلم يشهده أحد ، وتلك حجة تَلْزَمُ مُنْكِرَ الغيب ما لا تَلْزَمُ المقرَّ المصدِّق ، فالجائز من الغيب ، لا ينفك يطلب الدليل الخبري ، إذ لم يشهده أحد فيحكي ما كان ، ولم يكن له نظير يعقب في الحال ، فليس إلا الخبر المصدَّق ، وبه يصير الجائز مبدأ النظر في العقل المجرد ، به يصير واجبا لا لذاته ، وإنما لغير بما احتف به من قرينة الإثبات ، وكذا الجائز المعدوم قبل الخلق ، فَلَيْسَ إلا التقدير في الغيب ، وذلك أول قبل الإيجاد ، وهو ما يواطئ القياس المصرح ، إذ لا يخبط ذو العقل من البشر المحدَث ، لا يخبط عشواء في الفعل ، بل لا ينفك يطلب أولا من التقدير قَبْلَ إيجادٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ تصور أول قَبْلَ حُكْمٍ تَالٍ يَعْقُبُ ، وذلك ، كما تقدم ، قياس العقل المصرح ، وبه يحمد صاحب العلم والحكمة إذ يُقَدِّرُ قَبْلَ الخطوِ ، ويجتهد أن يُتْقِنَ الفعل ، وإن في أمر يحقر في هذا العالم المحدَث ، كمطعوم يُؤْكَلُ ، فكيف بهذا العالم المتقن المحكم الذي عالج البحث والنظر من آيه ما يُعْجِزُ ؟! ، فثم قياس أولى في الباب ينصح ، إذ الثناء والمدح في حق الخالق الأول ، جل وعلا ، أَوْجَبُ في النظر ، إذ قد دَلَّ الأثر من هذا العالم المتقَن المحكَم على المؤثِّر الأول ، وهو الخالق المتقِن المحكِم ، جل وعلا ، فَلَهُ من ذلك وصف العلم الذي يُقَدِّرُ ، وآخر من الإرادة يُخَصِّصُ وَيُرَجِّحُ ، وذلك مما ثبت بالعقل المصرَّح ، ولو لم يكن ثم وحي مُنَزَّلٌ ، فَثَمَّ من العلم ضروري أول ، وتلك مقدمات أولى في الاستدلال ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، وما أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ ، فلا بد له من علم تقدير أول ، قد تَنَاوَلَ من وجوه الإتقان والإحكام ما عَمَّ فاستغرق ، وهو الجائز الذي يطلب الموجِب من خارج ، فلا يكون الإيجاب بِذَاتٍ مجرَّدة من الوصف فاعلة بالطبع اضطِّرَارًا ، وإنما الإيجاب بوصفِ الفعلِ ، إرادةً تُرَجِّحُ ، فهي تخرج المقدور الأول من العدم إلى الوجود المصدِّق ، فَجَحَدَ مَنْ جَحَدَ الخلقَ الأولَ ، وأنكر الضروري من العلم ، أن ثم خالقا قد قَدَّرَ وَأَوْجَدَ ، فَلَهُ من العلم ما أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، وله من الإرادة ما خَصَّصَ وَرَجَّحَ ، فَثَمَّ من أنكر ذلك المعلوم الضروري الأول ، فَجَحَدَ النبواتِ تَبَعًا ، فهي فَرْعٌ عن إثبات الإله الأول ، إذ هِيَ من كَلِمَاتِهِ التي ثَبَتَتْ في الأزلِ ، ولها من الآحاد بَعْدُ ما يحدث بما كان من وحي به رُوحُ القدسِ ، عليه السلام ، يَتَنَزَّلُ على قلوب الرسل من البشر ، وهي تصديق ما كان من وصفٍ أَوَّلَ يَقْدُمُ ، قِدَمَ النوعِ ، فآحاده في الخارج تصدق ، وَمَرَدُّ كُلٍّ إلى علم أول قد أحاط فاستغرق .
وثم من أثبت الخالق الأول ، وجحد النبوات إذ لم يعالج منها إلا المبدَّل المحرف ، فأثبت إلها في السماء ، قد خَلَقَ ، وَتَرَكَ الأرض لأهلها ! ، فلا مرجِعَ من خارج يجاوز في الشَّرْعِ ، إن الخبرَ أو الحكمَ ، فَاسْتَبْدَلَ فرض التطور بِقِصَّةِ الخلق الأول ، واستبدل الهوى والحظ بما أُحْكِمَ من الأمر والنهي ، وانتهت الحال إلى كتاب محدَث لا يصيب من الحق إلا كليات مجملة ، وَهِيَ ، لو تدبر الناظر ، شاهدة بما أنكر من المرجعِ المجاوِز ، فمن رَكَزَهَا فِي النَّفْسِ ضرورةً هو من أَبَانَ عنها بوحي يُفَصِّلُ ، فمن خَلَقَ العقل الصريح هو من رَفَدَهُ بَعْدُ بالوحي الصحيح الذي صَدَّقَ مقدماتِ الضرورةِ في الإثبات والنفي ، وَفَصَّلَ ما أُجْمِلَ منها في النفس ، وَقَوَّمَ ما اعوج بما كان من شرك محدَث قد عم فاستغرق : شرك الخلق وآخر في الشرع ، وهو ما قدح في مرجع الوحي ، فكان إنكار النبوات ، إذ لم يعالج الناظر منها كلمات تصح ، وإنما تناولها الأحبار بالتأويل الباطن ، وَسَوَّغُوا بها الملك الجائر ، فعظمت الجناية في إفساد الديانة والسياسة ، وهما قَرِينَانِ في القسمة ، فلا سياسة تعدل إلا والمرجع وحي يصدق إذ جاوز الخلق بما جبلوا عليه من الهوى والحظ ، فَحَكَمَ من خارج حكومةَ العدل الناصح ، وَصَدَقَ في الخبر إذ حَكَى الخلق الأول ، وأبان عن تَالٍ من المآل يَعْقُبُ ، وَنَصَّ على الغاية ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وأبان عن نصوص الديانة ، فـ : (أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، فذلك ذكر النبوات المحكمة ، فأخبارها تَصْدُقُ ، وأحكامها تَعْدِلُ ، وكلٌّ من الهوى والحظ قد سَلِمَ ، إذ المرجع من خارج قد جاوز ، فعظمت جناية الجيل الأول من الأحبار والملوك ، إذ تَأَوَّلُوا ألفاظ الوحي بما يواطئ الهوى والحظ ، فاتخذوه ذريعة إلى ضد ، أَنْ يَضِلَّ الخلق في الشِّرْعَةِ ، وأن يُظْلَمُوا في القسمةِ ، فلا دين ولا دنيا ! ، وَقُضِيَ كُلُّ ذلك باسم النبوة ، فَنَفَّرَ الأحبارُ والملوكُ الخلقَ من الحق ، وهو ما اطرد في كل جيل ، وآيه ما يعالج الناظر في هذا الجيل ، ولو في بلادٍ قد نَزَلَتْ فِيهَا النُّبُوَّاتِ واشتهر ذكرها ، وإن كان ثم عصمة للذكر الخاتم قد ثبتت ، وهي ، لو تدبر الناظر ـ المنة العظمى على هذه الأمة إذ حُفِظَ كتابها الهادي ، إن آيا أو خبرا ، وَحُفِظَ لسانها ، فهو آلة البيان والفقه الذي يجاوز أولا من المعنى الأول ، فكان من ذلك عصمة للذكر أَنْ يُبَدَّلَ أو يُحَرَّفَ ، وأخرى للأمة الخاتمة فلا تُجْمِعُ على بَاطِلٍ ، لا في أصلٍ ولا في فَرْعٍ ، لا في منصوص ولا في معقول ، مع طائفة من أهل الحق تُنْصَرُ أبدا ، فلا تَزَالَ ظاهرة بالحق ، في نفس الأمر ، وبها قيام الحجة على الخلق ، فهي قائمة لله ، جل وعلا ، بحجة الوحي ، إن في العلم أو في العمل ، إن في الدعوة بالكتاب الهادي أو في القتال بالحديد الناصح ، فجدالٌ الجمالُ عليه غالب وجلادٌ الجلالُ عليه غالب .... إلخ ، فحصل منها كفاية في وظائف الديانة ، فذلك مما اختصت به الأمة الخاتمة ، وإن لم تخل في كلِّ جيلٍ من أحبار سوءٍ وملوك جورٍ ، لا سيما في الجيل المتأخر ، إذ عطل الوحي والعدل كافة ، فلا وحي به مناط الحكم يحرر ، ولا عدل به في النَّوَازِلِ يحقق .

فَنَفَّرَ أحبارُ السوءِ وملوكُ الجورِ ، نَفَّرُوا الخلقَ من الحق ، وَفَتَنُوهُمْ بِضِدٍّ أَنْ يَجْحَدُوا النُّبُوَّاتِ ، وإن صَدَّقُوا بالإلهيات ، ولو في الجملة ، فَقَدْ أبطلوا منها وصفَ العلمِ ، وآخر من الحكمِ ، فَلَيْسَ إلا الخالق المجرَّد من الوصف ، على تَفَاوُتٍ في التعطيل ، وثم من جَرَّدَهُ في الذهن فلا يجاوز ، فهو المطلق بشرط إطلاقه ، وليس له في الخارج وجود يصدق ، فَلَيْسَ إلا العدم ، وليس ثم من الحكم ما يَقْضِي في خصومات الخلق ، وليس ثم نبوات تَتَنَزَّلُ بِكَلِمَاتِ صدقٍ وعدلٍ ، وبها الفصل في خصومات الخبر والحكم .

وَصَارَ بَعْضٌ إلى آخر إذ أجرى الوحي مجرى الرَّمْزِ الذي يحتمل على قاعدة من التأويل الباطن ، فلا مدلول أول يَسْتَقِرُّ ، ولو الضروريَّ من المعجم المفرد والنحو المركَّب ، فَاضطَّرَبَ اللسان وفسد بما أحدث التأويل الباطن من معان لا دليل عليها ولا شاهد إلا مَرْجِعًا من الذات لا يجاوز ، فليس إلا الهوى والحظ ، ولو تَكَلَّفَ لَهُ صاحبُه جَحْدَ المعلومِ الضروريِّ من النطقِ ، فَفَسَدَ اللسانُ ، وذلك ، كما تقدم ، أَوَّلٌ فِي فسادِ الأديانِ ، فليست إلا كلماتٍ تُنْظَمُ في سِلْكٍ من السياق المرَّكب ، وبها حصول المعنى الذي أَرَادَهُ المتكلِّم ، فلا ينفك يَطْلُبُ من عُرْفِ النُّطْقِ مَا يُبَيِّنُ ، وذلك ما جَاءَ الوحيُ عَلَى مِثَالِهِ من كلامِ الجيلِ الأوَّلِ ، إذ شَهِدَ ما لم يَشْهَدْ تَالٍ يَعْقُبُ ، فشهد من التَّنْزِيلِ ما به التَّفْسِيرُ ، فَلَهُ من ذلك عُرْفُ لِسَانٍ قد نَصَحَ ، وتال من شهود الوحي نُجُومًا تَتَنَزَّلُ ، فَلَهُ من ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، عقل المعنى الأخص ، فهو يجاوز ما يَتَبَادَرُ من اللفظ ، لا جرم كان لسانه هو الحاكم في التأويل ، فَلَا يُفَسَّرُ الكتاب إلا بعرف الجيل الأول الذي نَزَلَ عليه ، وهو ما تَنَاوَلَ وجوهًا من الدلالة تَتَرَاوَحُ ، فَثَمَّ دلالة المعجم وأخرى من الاشتقاق تزيد ، وثالثة من النحو بها المعنى الأول يحصل ، ورابعة من البيان بها المعنى الثَّانِي يَلْطُفُ ، على مثالٍ من النظمِ أو النَّثْرِ أول ، فلا يقترح المتأخر من بِنْيَةِ لسانِه جَدِيدًا بِهِ يَحْكُمُ فِي قديمٍ أول قد ثَبَتَ ، فيكون المرجع من ذات المتأخر بما يواطئ ذوق المتكلم ، فهو يقترح من التأويل ما يُوَاطِئُ هَوَاهُ وَحَظَّهُ ، ولو أَتَى بالإبطال عَلَى عُرْفِ النُّطْقِ الأول ، فَجَحَدَ المعلومَ الضروريَّ من المعجم المفرد والنحو المركب ، فَتِلْكَ جِنَايَةُ تأويلٍ بَعْدَ آخر ، فقد تأوله الأحبار والملوك أولا فَأَفْسَدُوا الدِّينَ والدنيا ، وظلموا الخلق بما أحدثوا في كتابِ الشريعةِ والحكمِ ، فجاء جيل يعقب ، ولم يكن ثم رائد من الوحي يصدق ، فإنهم قد خَرَجُوا عن حكومة الدين المبدل ليدخلوا في أخرى من الوضع المحدَث الذي انقطعت صلته بالسماء ، فلم يكن من حسن القصد وسداد الرأي أَنْ يَنْظُرُوا في الوحي المحكم ، فهو عند خصم قد استحكمت خصومته من لدن نَزَلَ الكتاب المهيمِن وَبُعِثَ نَبِيُّهُ المصدَّق صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَثَمَّ خصومة من تاريخ وحاضر ومستقبل ، فـ : (لَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) ، فذلك عموم قد جاوز زَمَنَ التَّنَزُّلِ الأول ، ، فكان من المضارعة ما استقبل ، فتلك سنة جارية في كل جيل ، مع هوى وحظ حادث ، فهو يروم الانعتاق من كل قَيْدٍ ، صَحَّ أو فسد ، فكان خروجهم عن جنس الدين المطلق لا عن فرد منه هو المبدَّل المحرَّف طلبا لآخر هو المحكم ، فَتَأَوَّلُوا كما تأول الأحبار والملوك ، وإن جَاوَزُوا الحدَّ ، فَطَغَوا في الباب ، وَصَيَّرُوا الكلام لَفْظًا بلا معنى ، فَهُوَ الرَّمْزُ الباطنُ ، فَكَانَ مِنْ ذلك كِتَابٌ محرَّف ، وآخر من سيفِ جائرٍ يَحْكُمُ ، وهو ما قد جَاءَتِ النبوات بضده ، كِتَابًا يَهْدٍي بالحق ، وسيفا يَنْصُرُ بالحد ، فذلك الكتاب الهادي بالجمال ، ولا يكمل إلا أن يُشْفَعَ بآخر من الحديد الناصر بالجلال ، وله سنة تطرد في النبوات كافة ، فكان من موسى ، عليه السلام ، وهو المبعوث بالجلال ، كان منه جمال يَتَلَطَّفُ في دعوة فرعون وهو الطاغوت الذي جاوز الحد ، فادعى رُبُوبِيَّةً في التدبيرِ ، وَألُوهِيَّةً في التشريعِ ، فَاسْتَكْبَرَ هو وجنوده في الأرض بِغَيْرِ الحقِّ ، كما في آي من الذكر يَصْدُقُ ، فـ : (اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) ، فَثَمَّ من الماضوية في "اسْتَكْبَرَ" مَا بِهِ تسجيلُ الجنايةِ ، وَثَمَّ من زيادةٍ في الحدِّ مَا وَاطَأَ أَوَّلًا قد اطرد في الاشتقاق ، فَزِيدَتِ الألف والسين والتاء حِكَايَةَ الطلب والقصد ، فلا عذر بتأويل أو جهل ، بل ثم من الحجة ما نصح بآيات تُبَيِّنُ ، وَثَمَّ من التوكيد بالضمير "هُوَ" مَا بِهِ إِثْبَاتُ الجنايةِ ، ولا يخلو من آخر به استصلاح اللفظ ، إذ لم يَسُغِ العطفُ عَلَى الضمير المرفوع بلا فاصل ، فَثَمَّ مِنْهُ أول قد اسْتَتَرَ في العامل "اسْتَكْبَرَ" ، فلا يعطف عليه إلا بِفَاصِلٍ ، فكان منه التوكيد بالضمير المظهر لأول من الضمير قد اسْتَتَرَ ، وإن جاز العطف بلا فاصل ، فهو قليلٌ لا يَطَّرِدُ ، وإن كان فَصِيحًا يَثْبُتُ .
وثم من الإطناب ما استغرق أجزاء القسمة ، الطاغوت والجنود ، فَكُلٌّ قَدْ ظَلَمَ ، لَا جَرَمَ كُلٌّ قد هلك ، فـ : (أَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ، وَكُلٌّ قَدْ ذُمَّ في الوصف ، فـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) ، فَثَمَّ من ذلك التوكيد بِالنَّاسِخِ "إِنَّ" ، وثم آخر قد أطنب فَتَنَاوَلَ أجزاء القسمة ، الملك والوزير والجند ، وذلك مثال الحكم الذي استغرق ، لا سيما في نظم ذات هرم يَتَدَرَّجُ من رأسٍ يدق إلى قواعد تَتَّسِعُ حتى تَنْتَهِيَ إلى قاعدة من الجند ، فهم أداة بها يتأول الطاغوت حكومته في الخارج ، فَكُلٌّ في الجناية شريك ، وإن على تفاوت ، من يَأْمُرُ ومن يُبَاشِرُ ، وله من الذم نصيب ، وَتَالٍ من العذاب الأليم ، وإن تَفَاوَتُوا في الحدِّ ، فهم في الذم والعذاب شرك ، وَثَمَّ من الخبرِ مَا أَطْنَبَ ، فَحُدَّ حَدَّ الجملة إذ : (كَانُوا خَاطِئِينَ) ، وهي مما حُكِيَ مَاضِيًا يَثْبُتُ ، ولا ينفك يحكي دلالة أخص ، ديمومة الوصف ، وذلك آكد في الذم من القول في غَيْرِ التَّنْزِيلِ : إن فرعون وهامان وجنودهما أَخْطَئُوا ، وثم من التوكيد ، أيضا ، ما يجري مجرى التَّكْرَارِ ، تِكْرَارِ الإسنادِ ، إذ الْوَاوُ فِي "كَانُوا" رِبَاطٌ بَيْنَ الاسمِ "فِرْعَوْنَ" وما عُطِفَ عليه من ذكر هامان والجند ، فالواو رِبَاطٌ بينهم وبين الخبرِ ، فَكَانَ من مدلولِه مَا عَادَ عَلَى مَعْطُوفَاتٍ تَقْتَرِنُ ، فأطنب في ذكرهم استيفاء لأجزاء القسمة وتسجيلا للجناية ، فلا يسلم مِنْهَا آمِرٌ أو مأمورٌ ، فَلِكُلٍّ حظه من الوصف المذموم ، فَأَطْنَبَ ثُمَّ أجمل في الضمير ذي المرجع المبيَّن الذي تَقَدَّمَ ، فأطنب في ذكر فرعون وهامان والجند ، ثم أجمل في الضمير في "كَانُوا" ، وكان من ذلك تكرار في الإسناد يزيد في الدلالة ، فكل أولئك مما به تسجيل الجناية ، وهو ما أُبِينَ عنه في موضع آخر ، كما تقدم من قوله : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) ، فكان من الجناية استكبار في الأرض ، وهو ما قُيِّدَ بالحال "بِغَيْرِ الْحَقِّ" ، وهي ، كما يقول أهل الشأن ، وصف يكشف ، فلا مفهوم له يثبت ، إذ لا يكون الاستكبار في الأرض بِحَقٍّ ، وكان من ذلك فساد في العمل ، وآخر في العلم ، إذ : (ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) ، فَجَحَدُوا البعثَ ، وَكَانَ مِنْهُمْ ظَنٌّ يَعْدِلُ اليقين ، وذلك من سوء النظر والتقدير ، فَحُكِيَ مَاضِيًا ، وبه ، أيضا ، إثبات الجناية ، وذلك من الظن الذي اسْتُعْمِلَ فِي اليَّقِينِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، فَمِنْهُ ظَنٌّ يحسن إذ يُثْبِتُ البعثَ ، وآخر يقبح إذ يُنْكِرُ ، وذلك ما انْتَهَى إِلَيْهِ التأويل الباطن في كلِّ جيلٍ ، فإنكار الدار الآخرة قَاسِمٌ رَئِيسٌ يجمع كُلَّ تأويل باطن ، فلا آخرة إليها المرد ، وإنما حياة بلا بعث ، فكان من ذلك ظن فرعون وهامان والجند ، فـ : (ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) ، والظن ، من هذا الوجه ، مما يجري مجرى الأضداد ، إذ يحكي الْيَقِينَ ، كما في هذا الموضع ، صَحَّ الاعتقاد أو فَسَدَ ، ويحكي ضده ، كما في قوله : (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) ، فَدَخَلَهُ الإجمال من هذا الوجه ، وهو ما استوجب قَرِينَةً من خارج تُبَيِّنُ ، فكان من ذلك سياق قد تَرَاكَبَ ، فَدَلَّ على مراد المتكلِّم ، إذ لا يحصل ذلك بِدَالَّةٍ من الكلام تُفْرَدُ ، وإن كان ثم معنى أول يثبت ، فهو المجرد في معجم النطق ، فلا ينفك يطلب سياقا يَرْفِدُ ، وبه حصول معنى تام يُفْهِمُ ، فَحَسُنَ السكوتُ عَلَيْهِ ، فَثَمَّ مِنَ السياقِ قَرِينَةٌ تَزِيدُ في البيان ، لا سيما المجمل من الألفاظ ، كما الأضداد ، ومنها الظن آنف الذكر ، فإنه مما احتمل في الدلالة ضِدَّيْنِ ، فَبَلَغَ في الإجمال كلَّ مبلَغ ، فلا ينفك يفتقر إلى قرينة من خارج تُرَجِّحُ ، فَرَجَّحَ السياقُ في موضعٍ : اليقينَ ، ورجح في آخر ضِدَّه ، وحصل من كلٍّ معنى صحيح يَنْصَحُ ، وهو مما يحسن السكوت عليه ، وثم آخر من الظن قد حدث في الاصطلاح المتأخر ، وهو ما يَعْدِلُ في المدلولِ ظاهرا أول يُسْتَصْحَبُ ، إذ ثَمَّ ضد مرجوح لا يظهر ، فالظن في الاصطلاح المتأخر غالب لا قاطع ، وَإِنْ أَجْزَأَ كُلٌّ في الاستدلال الناصح ، وإن على تَفَاوَتٍ ، فالنص الذي يُفِيدُ معنى واحدا لا يحتمل : ذو دلالة في النظر تَقْطَعُ ، والظاهر دونه إذ يفيد معنى يَرْجُحُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ ضِدًّا هو المرجوح ، فدلالة الظاهر تَغْلِبُ ، وهي ، أيضا ، مما في الاستدلال يجزئ ، وَإِنْ دُونَ يَقِينٍ يَقْطَعُ ، لَا جَرَمَ رَجَحَ النصُّ الظاهرَ إذا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ الجمع ، كما آخر في الرواية يَعْدِلُ في الحدِّ ، فَثَمَّ من المتواتر ما يَقْطَعُ ، وثم آحادٌ تفيد من الظن ما يغلب ، وهو الظن المعتبر في الباب إذ اسْتَوْفَى شرط الصحة في الاصطلاح أو آخر دونه من الحسن ، أو ثالث من الضعيف المنجبر الذي تَقَوَّى بآخر ، فحصل من ذلك ما يجزئ في الاستدلال ، ولو أدنى ما يكون في الباب ، فكل أولئك من آحادٍ تُفِيدُ الظن الغالب ، وهو ما أَجْزَأَ في الاستدلال ، وإن احتمل ضدا من الخطإِ ، فلا يثبت بالاحتمال المجرد ، بل ثم ظاهر يَرْجُحُ ، بما كان من نظر أخص ، فتلك قرينة من خارج ، وهي عن أصل أول ناقل ، فالأصل في الأخبار : التَّوَقُّفُ ، إلا أن يكون من مدلولها بادي النظر ما يخالف عن مقدمات الضرورة في العقل المصرَّح ، وهو ما استوجب نَظَرًا أَخَصَّ ، فإن من الأخبار ما يحار فيه العقل ، فلا يحيله ، بادي الرأي ، فَلَا يُسَوَّى بين الْمُحَارِ وَالْمُحَالِ ، إِنْ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا يَرُومُ القدح في الأخبار على قاعدةٍ من الهوى والذوق لا تجاوز الحسَّ المحدَث ، إذ قد صار المرجعَ المحكَم ! ، وإن نَقُصَ في الحد فلا يجاوز المدَارِكَ الْمَرْكُوزَةَ في أصلِ الخلقةِ ، ولو فِي الغيبِ النسبيِّ الذي يَتَنَاوَلُهُ التجريب والبحث ، فَلَيْسَ كُلَّ ما يحار العقل والحس في حَدِّهِ مُحَالًا في النظر لا يَثْبُتُ ، بل ثم من الموجودِ فِي الخارجِ ما يَحَارُ العقلُ والحسُّ فِي دَرَكِهِ ، وإن ثَبَتَ في نَفْسِ الأمرِ ، فهو مُحَارٌ لا مُحَالٌ ، وليس من المحار ، مع ذلك ، إلا جائز أول في النظر ، فلا ينفك يطلب دليلا من خارج أخص ، وليس في بَابِ الغيبِ دَلِيلٌ يَنْصَحُ إلا الخبر المصدق ، لَا جَرَمَ كان من ذلك أول في النظر يُجَوِّزُ ، وهو بَعْدٌ يَتَوَقَّفُ ، فلا يُرَجِّحُ في الخارج بلا مرجِّح ، وإلا كان التحكم المحض في دعوى بلا دليل من خارج ، فَأَجْزَأَ في رَدِّها أخرى تُضَاهِي فِي القدرِ وَتُضَادُّ فِي الوصفِ ، فلا دعوى تُقْبَلُ إلا بِبَيِّنَةٍ من خارج تَشْهَدُ ، فهي الدليل المرجِّح من خارجٍ ، وهي قَدْرٌ يزيد على الجائز ، إذ يُرَجِّحُ وجها ، فَيَصِيرُ الجائز واجبا في الخارج يَثْبُتُ ، وإن لغيرٍ بما احتف به من قرينةِ ترجيحٍ ، وهي ، كما تقدم ، دليل يجاوز الدعوى المجردة ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بها وهي صورة الخلاف ، وإلا صُودِرَ على المطلوب ، وكان من ذلك دور يَبْطُلُ ، وهو ما يخالف عن النظر المحكَم ، فَثَمَّ من الخبر أول به يَسْلَمُ من وصفِ المحال الممتنِع ، وإن حَارَ العقل والحس في دَرَكِهِ ، فكان من الخبر دليل يثبت من خارج ، فَأَوَّلُ الاستدلالِ في أخبارِ الغيبِ : التجويز المحض ، وليس يجزئ ، كما تقدم ، حتى يكون ثم دليل من خارج أخص ، وهو في محل النِّزَاعِ النص ، وليس يجزئ منه في الغيب إلا الخبر المصدَّق ، فذلك تَالٍ في الاستدلال المحقق ، فَثَمَّ خَبَرٌ من خارج يجاوز ، وهو ما اسْتَوْجَبَ نَظَرًا أخص ، أَنْ يَسْتَوْفِيَ الخبرُ شَرْطَ الصحة في الاصطلاح ، فتلك قَرَائِنُ تزيد ، وبها حصول ظَنٍّ يَرْجُحُ ، وذلك ظاهر أول يُسْتَصْحَبُ فِي خبرِ الآحادِ ، إذ تُفِيدُ ابتداءً : الظن الراجح ، وهو ما أَجْزَأَ فِي الاستدلالِ ، فذلك الظاهر المستصحَب حتى يكون ثم دليل من خارج يُرَجِّحُ ضدا ، فلا يكون التضعيف بالاحتمال المجرد ، كما أول من التصحيح قد تَقَدَّمَ ، فقد صح الخبر بما كان من بحث ونظر قد استوفى الشرط ، فَثَبَتَ الوصفُ ، وصفُ الصحةِ ، ظاهرًا أَوَّلَ يُسْتَصْحَبُ إذ يُفِيدُ من ذلك ظَنًّا يَغْلِبُ ، وهو ما أجزأ في الاستدلال إذ رَجَحَ في الدلالة حتى يكون ثم دليل ناقل عن الأصل الذي ثَبَتَ بالاستدلال الأخص لا بالتجويز المحض ، فَلَوْ كان بالتجويز المحض لَأَجْزَأَ في رَدِّهِ آخر على ضِدٍّ ، فدعوى في مقابل دعوى ، ولا دليل لكلٍّ من خارج يجاوز ، فيكون منه الأخص ، وهو في محل النِّزَاعِ : النَّصُّ ، فَاسْتَوَيَا وَتَسَاقَطَا ، كما يقول النظار ، لا كَأُخْرَى من الدعوى ، كما دعوى الصحة في النَّقْلِ ، فقد احتف بها من القرينة ما يُرَجِّحُ ، فكان من ذلك ظن يغلب ، وهو ما أَجْزَأَ أَوَّلًا مِنْ ظَاهِرٍ يَسْتَصْحِبُ ، وهو ما به الصحة تَثْبُتُ ، إِذِ استوفى الخبرُ الشرطَ المقرَّرَ في الاصطلاحِ المحرَّر ، فَثَمَّ ظاهر يَرْجُحُ ، وهو ما أجزأ في الاستدلال ، ولو ظَنًّا يغلب لا يقينا يقطع كما المتواتر ، فالآحاد يجزئ في الاستدلال كما المتواتر ، وإن تَرَاجَحَا في الوصفِ ، فذلك ما يفيد الناظر حَالَ التعارضِ وَتَعَذُّرِ الجمعِ ، والظن ، مع ذلك ، مما يقبل الاعتضاد من خارج ، فالظنون الراجحة إذا اجتمعت حَصَلَ من ذلك علوم تَزِيدُ في الحد ، إِنِ النَّظَرِيَّ ، كما قال أهل الشأن في جمهرة عظمى من أخبار الصحيحين ، قد احتف بها من القرينة إجماعٌ قد تَتَبَّعَ وَأَلْزَمَ ، مع طرق في الباب تُجْمَعُ ، فكلُّ أولئك مما اعتضد في النظرِ ، فاجتمعت الظنون والطرق ، وأفادت بمجموعها ما لا تفيد بِانْفِرَادِهَا ، وحصل من ذلك علم نظري ، وهو ما استوفى شَرْطَهُ جملةٌ من أخبار الصحيح قد أجمع النقاد على صحتها ، بل وثم آخر يزيد أنها قد استوفت شرط التصنيف ، فقد اشترطت من الصحيح الأصح جُمْلَةً تجزئ في تَرَاجِمِ الأبوابِ ، لا آخر يزيد فهو يشترط الاستيفاء ، فاشترطوا الانْتِقَاءَ لا الاستقراء ، لا جرم استدرك بَعْضٌ ، وَإِنْ تَسَاهَلَ في الشرطِ ، فَقَدْ سَلِمَ له ، مع ذلك ، جملةٌ من الأخبار قد استوفت شرط الصحيحين ، فَأَلْزَمَ بِهَا الشيخين ، وليس ذلك لهما بلازم ، إذ لم يَشْتَرِطَا الاستقراءَ والجمعَ ، وإنما انْتَقَيَا من ذلك جملة ناصحة في بَيَانِ الشريعة النازلة ، فكان كتابهما الجامع ، كما اصطلح أهل الشأن في طرائق الجمع والتصنيف .
فالظنون ، كما تقدم ، مما يجتمع ، فَتُفِيدُ بمجموعِها ما لا تفيد بآحادها ، فقد يكون من ذلك علم نظري أخص ، وهو ما لا يدركه إلا أهل الشأن ، فكان من ذلك تَوَاتُرٌ أَخَصُّ إذ لم يجاوزهم إلى غَيْرٍ ، وقد تَزِيدُ الظنون بما يكثر من الطرق حتى يَبْلُغَ الخبر حَدَّ التواتر العام الذي يَسْتَوِي فيه الخاص والعام ، فيكون من ذلك يقين يجزم ، والمبدأ منه ، كما تقدم ، ظن أول يَرْجُحُ ، فمبدأ المتواتر في النقل : آحادٌ تُفِيدُ الظنَّ ، فهي طرق تجتمع فتفيد باجتماعها ما لا تفيد بانفرادها ، فتلك قرائن تَتَكَاثَرُ ، وهي بعد تَتَعَاضَدُ حتى يحصل منها يقين جازم ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم الأدلة صحة وضعفا ، ووجوه الاستدلال : نصا وظاهرا ، فالظاهر ، أيضا ، مما يُفِيدُ ظَنًّا أول يَرْجُحُ ، وهو ما اسْتُصْحِبَ في الاستدلال حتى يكون ثم قرينة ترجح ضِدًّا هو المؤول ، وقد يكون من القرينة ما يُرَجِّحُ في الظاهر ، فَيَزِيدَ في حده حتى يكون نَصًّا في بابه يَقْطَعُ ، وهو ما اصطلح بَعْضٌ أنه الظاهر المركَّب ، فإن المبدأ منه ظاهر بَسِيطٌ يَرْجُحُ ، فإذا احتفت به القرينة المعتبرة ، إِنْ مِنَ السياقِ أو من خارجٍ ، فهو يَرْقَى في الدرجة ، وَيَصِيرُ النَّصَّ الذي يَقْطَعُ فِي الدلالة ، وإن كان المبدأ منه ظاهرا يَرْجُحُ ، فهو يفيد من الظن ما يَغْلِبُ مع احتمال ضِدٍّ مَرْجُوحٍ لا يظهر ، فذلك المؤول ، فإذا كان ثم قرينة من خارج تُرَجِّحُ المؤوَّل ، فذلك العدول عن الراجح إلى المرجوح ، لا تحكما يخالف عن صريح المعقول ، وإنما العدول بقرينة من خارج تُعْتَبَرُ ، وهو ، أيضا ، مما يَصْدُقُ فيه أنه الظاهر المركب ، فهو ظاهر أول بسيط ، قد احتفت به قرينة ترجيح ، فتارةً تُرَجِّحُ الظاهرَ وتزيد في مدلوله حتى تَنْتَهِيَ به إلى يَقِينٍ يَقْطَعُ ، فذلك ظاهر مركب من أول بسيطٍ ، وَتَالٍ من القرينة يُرَجِّحُ ، وأخرى قد تُرَجِّحُ ضدا من المؤول ، فيكون من ذلك ، أيضا ، ظاهر مركب ، فالظاهر المركب قد يستصحب الظاهر البسيط وعليه يَزِيدُ ، فَيَبْلُغُ به حد النص الذي يقطع ، وقد يعدل عنه إلى المؤول ، فيكون ثم قرينة ترجح ضدا ، فَتَأْتَلِفُ في الدلالة مع الظاهر البسيط ، ويكون من ذلك ، أيضا ، ظاهر مركب .
والمبدأ في كُلٍّ : ظاهر أول بسيط ، ودلالتُه دلالةُ الظنِّ الراجحِ ، وذلك ما يَرُدُّ عَجُزَ كلامٍ إلى صدرٍ أول ، فإن ذلك من الاصطلاح الحادث ، فليس الظن الأول الذي جاء عليه الوحي المنزل ، فَمِنْ عُرْفِ النطق الأول ، ما حَدَّ الظن حَدَّ الأضداد ، فأفاد الشك في موضع ، واليقين في آخر ، صح الاعتقاد ، كما في ظن الصفوة من جند طالوت ، فـ : (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) ، فلم يكن من ذلك ، بداهة ، شك أو ظن راجح في الاصطلاح المتأخر ، وإنما كان منهم يَقِينٌ يَقْطَعُ ، فَسَوَاءً أَصَحَّ الاعتقاد أم فسد ، كما ظن فرعون والجند ، إذ : (اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) ، فكان أول من الاستكبار قد أَفْسَدَ العمل ، ولو عَمَلَ الجنانِ الباطنِ ، ولا تَنْفَكُّ آثاره تَثْبُتُ ، إِنْ فِي فسادٍ في العمل ، ولو صورةَ الجسدِ إذ يختال ويمرح ، أو في فساد التصور إذ أَنْكَرَ صاحبُه البعثَ ، وهو ما حُدَّ ماضيا يُؤَكِّدُ ، وبه الجناية تَثْبُتُ ، فـ : (ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) ، وثم آخر من التوكيد بما كان من "ظَنَّ" ومدخوليه ، فقد سَدَّ مَسَدَّ المفعولين ، على تقدير : ظنوا عدم رجوعهم إلينا حقا ، فَلَا بَعْثَ بَعْدَ الموتِ يَثْبُتُ ، وثم ثالث يقدم ما حقه التأخير ، فالقياس في غير التنزيل المحكم : وظنوا أنهم لا يرجعون إلينا ، فَقَدَّم ما حَقَّهُ التأخيرُ من الظرف "إِلَيْنَا" ، وقد حُدَّ حَدَّ الجمع في الضمير حكاية التعظيم ، فذلك موضع جلال في الأخذ العادل ثم البعث الصادق ، فَقَدَّم ما حَقَّهُ التأخيرُ من الظرف "إِلَيْنَا" : حكايةَ الحصرِ والتوكيد ، وهو ما استوجب بَعْدُ من الجزاءِ ما حُكِيَ حِكَايَةَ ماضٍ يُؤَكِّدُ ، وبه الفاء قَدِ اقْتَرَنَتْ حكايةَ فَوْرٍ وتعقيبٍ ، في قوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ، وذلك آكد في الزجر ، إذ كان من العقاب ما وَقَعَ على حَدِّ الفور ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يُقَدَّرُ لِكُلِّ حَالٍ منه ما يُوَاطِئُ ، كَمَا في قول القائل : دخلت البصرة فبغداد ، فلم يدخلها ، بداهة ، إلا بَعْدَ سَفَرٍ يَطُولُ ، فالفورُ في هذا السياق دليل أَلَّا مدخول له بَعْدَ البصرةِ إلا بغداد ، وكذا ما كان من أخذهم بالعذاب ، فَثَمَّ فور وتعقيب يُقَدَّرُ بِقَدَرِهِ ، فلم يكن إلا بعد حين من المهلة ، وبه الاستدراج مكرا من رب العزة ، جل وعلا ، مكرَ العدلِ إذ مَكَرَ بمن مكر بأهلِ الحقِّ ، فكان من ذلك أَخْذُ جَلَالٍ قَدْ عَمَّ فرعون والجند ، فهم له أبدا تَبَعٌ ، إن في جناية تُقْتَرَفُ ، أو ذم يَثْبُتُ ، أو عقاب يُعجَّلُ أو يُؤَجَّلُ ، ومناط ذلك حكمة من الله ، جل وعلا ، تَغْلُبُ ، فَتَارَةً تَقْضِي بالتعجيل وأخرى تَقْضِي بِضِدٍّ من التأجيل ، فكان من العطف ما استوفى أجزاء القسمة ، فرعون وجنده ، وبه إطناب يحسن في مواضع الزَّجْرِ ، وهو ما قد عُطِفَ بلا فاصل في قوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ) ، إذ ثم من صناعة النحو ما جَوَّزَ العطف على الضمير المنصوب بلا فاصل ، لا كما المرفوع في سِبَاقٍ قد تقدم من قوله : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) ، فَحَسُنَ التوكيد في سياق الإثبات لجناية فرعون والجند ، وكان الأخذ بلا فاصل ، وهو آكد في الزجر ، وهو ما حَسُنَ لأجلِه إسناد الفعل إلى ضمير الجمع ، حكايةَ التعظيمِ ، وهو ما يواطئ مواضع الجلال ، كما الأخذ بالعذاب ، وثم آخر يحكي من الوصف كَثْرَةً ، فالأخذ قد استوجب أولا من التقدير المحكم ، وتال من الإرادة يُخَصِّصُ وَيُرَجِّحُ ، وثالثا من الغضب والأسف ، إذ كَفَرُوا وَاسْتَكْبَرُوا في الأرض بغير الحق ، فَثَمَّ من ذلك جملةُ صفاتٍ تَثْبُتُ ، فالإسناد إلى ضَمِيرِ الجمعِ يَتَنَاوَلُهَا ، وإن كان الموصوفُ فِي الخارج واحدًا ، فَثَمَّ حَقِيقَةُ الذاتِ القدسِيَّةِ ، وما يقوم بها من صفات الكمال المطلق ، إِنِ الجلالَ أو الجمالَ ، وهو ما اطرد في السياق ، فكان من ذلك حسن التلاؤم في اللفظ والمعنى ، فَثَمَّ إسناد إلى ضمير الجمع في قوله : (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ، وهو ، أيضا ، مما حُدَّ حَدَّ الْفَوْرِ والتعقيبِ ، وذلك ، كما تقدم ، آكد في الزجر ، ومن ثم كان الأمر أَنِ : (انْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ، وذلك نظر الاعتبار الذي يُسَوِّي بين المتماثلاتِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ المختلفاتِ ، فَمَنْ سلك جادتهم في الكفر نَالَهُ من الجزاء ما نالهم ، وإن الجنسَ ، فلا يلزم منه حصول العين ، بل قد يكون العذاب بآخر من الأعيان ، ولا يخلو من حكمة أن يكون لكلِّ قومٍ من العذاب ما يواطئ جِنَايَتَهُمْ ، فَثَمَّ نظر اعتبار قد اطرد وانعكس ، فمن وافقهم في الوصف ناله ما نالهم من الحكم ، ومن خالفهم فيه ناله ضِدٌّ فنَجَا إذ قد هَلَكُوا ، كما نجا موسى ، عليه السلام ، وقومه ، فكان من ذلك مِنَّةٌ تَعْظُمُ ، إذ : (فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ، فَكُلُّ أولئك مِنْ نَظَرِ الاعتبارِ ، وهو ما تَوَجَّهَ بالأمر في "انْظُرْ" ، فَذَلِكَ مَظِنَّةُ النصحِ والإرشادِ ، وإن لم يخل من آخر يُوجِبُ ، فذلك أصل في الأمر حتى يكون ثَمَّ من الدليل صارف ، وقد يكون من ذلك آخر هو الجامع ، فَيُفِيدُ الأمرُ الإيجابَ مبدأَ النظرِ ، وتاليا يَرْفِدُ ، فَلَا يخالف عن المدلول الأول ، كما في هذا الموضع ، فقد يجتمع الإيجاب والنصح والإرشاد ، فَلَا تَعَارَضَ ، بل ذلك مما يُثْرِي السياق الواحد بما تَعَدَّدَ من المعاني ، وبه ، كما تقدم في موضع ، يَسْتَأْنِسُ من يُجَوِّزُ العمومَ في دلالة اللفظ المشترك ، فيكون منه واحد ، وله من المدلول ما يَكْثُرُ ، والجمع بَيْنَهَا أو بَيْنَ بَعْضٍ مِنْهَا فِي سياقٍ واحدٍ ، ذلك من الجائز ، وبه رَفْدُ السياق الواحد بما تعدد من المعاني .
وثم من المعمول ، معمول النظر في قوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ، ثم منه واحد ، وهو ما يصرفه إلى نَظَرِ الباصرةِ ، فذلك نظر الحس ، ولم يشاهد صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك شيئا ، فهو حدث قد مَضَى وَانْقَضَى ، فَاسْتُعِيرَ نَظَرُ الباصرةِ لِنَظَرِ الجنانِ إمعانا في الْبَيَانِ ، فَكَأَنَّ الأمر رَأْيُ عينٍ ، وذلك آكد في الاستدلال ، وقد يُقَالُ ، من وجه آخر ، إِنَّ النَّظَرَ مِمَّا احتمل ، فاحتمل نظر العلم الذي يَتَعَدَّى إلى معمولين ، فكان من الجملة "كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" ، ما سد مسدهما ، واحتمل نظر الباصرة ، فالجملة هي المفعول الذي عُلِّقَ الفعل عن العمل في لِفَظْهِ دونَ معناه بما كان من الاستفهام في "كَيْفَ" ، وهو ما يحكي الحال في إِعْرَابِهِ ، وله في الكلام صدارة ، لا جَرَمَ قُدِّمَ وهو خبر الناسخ ، فَقُدِّمَ على العامل وعلى الاسم ، وثم من زيادة "كَانَ" ما أَفَادَ زيادة في المبنى وهي تحكي أخرى تُضَاهِي في المعنى ، مع مدلول أخص ، وهو ديمومة الوصف ، فذلك آكد في الدلالة من القول في غير التنزيل المحكم ، فانظر كيف عاقبة الظالمين ؟ ، فاحتمل عامل النظر ، نَظَرَ الجنان الذي يَتَعَدَّى إلى معمولينِ ، وهو جَارٍ على الأصل ، فذلك نظر الاعتبار فيما مضى وانقضى من الحدث ، فاحتمل نَظَرَ الجنانِ ، من وجه ، وآخر من نظر العين الذي يَتَعَدَّى إلى معمولٍ واحدٍ ، وَنَظِيرُهُ ، كما يقول بعض من حقق ، عامل الرؤية في قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ، فَثَمَّ من حملها على رُؤْيَةِ الجنانِ ، فَتَعَدَّتْ إلى معمولين ، وهو ما سَدَّتِ الجملة "كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ" مسدهما مع تعليق في العمل قد تَقَدَّمَ ، فذلك التعليق بالاستفهام ، وثم من حملها على رؤية العيان ، فَتَعَدَّتْ إلى مفعول واحد ، وبه تقريب المدلول في سِيَاقٍ يُعْجِزُ ، إذ خرج عن المألوف في إهلاكهِم بالطير الأبابيل ، وهو ، أيضا ، مما قَرُبَ في الزمن إذ ولد المخاطَب الأول ، صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام الفيل ، ولكلٍّ حظ من النظر يعتبر ، وإن كان فِي رُؤْيَةِ العينِ مَعْنًى أَلْطَفُ ، إِذْ بِهِ اسْتِحْضَارُ مَا انْقَضَى من الحدث ، فَجَازَ كلٌّ بلا تعارض ولا تناقض ، إذ الجهة قد انفكت ، جهة الجنان وأخرى من العيان ، وبه ، أيضا ، يَسْتَأْنِسُ من يُجَوِّزُ العمومَ في دلالة اللفظ المشترك ، فذلك واحد في النطق قد احتمل أكثر من مدلول في المعنى ، وقد صَحَّ حملانه عَلَيْهَا جَمِيعًا ، أو عَلَى بَعْضٍ منها ، إذ السياق يحتمل ، بل ذلك مما يَنْصَحُ في الاستدلال ، إذ يُثْرِي السياق الواحد بجمل من المعاني تَتَعَاضَدُ .
وثم من الاشتقاق في اسم "الظَّالِمِينَ" في قوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ما يجري مجرى التَّعْلِيلِ ، فما كانت تلك عاقبتهم إلا أنهم قد ظلموا ، فلا تخلو دلالة "أل" في "الظَّالِمِينَ" ، أَنْ تَجْرِيَ ، من وجه ، مجرى بَيَانٍ أول لجنس المدخول ، وتال قد تَنَاوَلَ آحاده ، وإن كان من ذلك ، لو تدبر الناظر ، عمومٌ يَسْتَغْرِقُ ، وَثَمَّ من النظر المخصوص ما اقتصر على جمعٍ ظالم بعينه ، فرعون وجنده ، فليسوا الظالمين جميعا ، وإن كان جمعا منهم يَثْبُتُ ، ولهم من ذلك وصف أخص ، فَظُلْمُهُمْ قَدْ جَاوَزَ الحدَّ ، فَيَجْرِي اللفظ ، من هذا الوجه ، مجرى عام يُرَادُ به خاص ، وهو مما به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، فذلك مجاز العمومية إذ أطلق العام وأراد خاصا ، وهو قَبِيلٌ ظَالِمُ بِعَيْنِهِ ، لا الجمع كله ، ومن ينكر المجاز فهو ، أَبَدًا ، يَرُدُّ ذلك إلى عرف من اللسان أول ، وهو ما استقر فصار حقيقة في الباب أخص ، أو هو مِمَّا يرجح في "أل" عهدا أخص ، فذلك قَبِيلٌ ظَالِمٌ بِعَيْنِهِ ، ولا تخلو "أل" ، أيضا ، أن تجري مجرى عموم يتناول وجوه المعنى ، وهو ما يوجب صرفه إلى الظلم الأكبر الذي ينقض أصل الدين المحكم ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، الأصل المستصحب في باب الأسماء والأحكام ، فالأصل أن تُحْمَلَ على الجنس الأكبر حتى ترد قرينة تصرفه إلى آخر أصغر ، والقرينة في هذا الموضع قد رجحت الأصل ، فَظُلْمُهُمْ ، بداهة ، الظلم الأكبر الناقض لأصل الدين الجامع ، بل قد يُقَالُ إنهم قد استوفوا منه آخر أصغر ، إذ ظلموا باستضعاف طائفة من الخلق ، بتذبيح الأبناء واستحياء النساء ، فاستجمعوا من ذلك السوأتين ، وذلك آكد في الذم ، وهو ما يجري ، أيضا ، مجرى الاشتراك آنف الذكر ، وبه زيادة في المعنى تَنْصَحُ ، ولا تخلو "أل" من دلالة الوصل إذ اتصلت بالاسم المشتق ، اسم الفاعل "ظَالِمِينَ" ، فَتَأْوِيلُهَا في اللسان : فانظر كيف كان عاقبة الذين ظلموا ، فَثَمَّ تَعْلِيلٌ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ ، إذ يدور الحكم مع المعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو الظلم ، وذلك ، أيضا ، مما أُطْلِقَ عاملُه ، فانصرف ، كما تقدم ، إلى الجنس الأكبر الناقض لأصل الدين المحكم ، وإن احتمل آخر وهو حاصل في هذا الموضع ، فكان منهم جنس الظلم كله ، الأكبر والأصغر ، وحصل من "أل" ، من هذا الوجه ، جملة دلالات تختلف ، وليس ثم تعارض بل هي ، لو تدبر الناظر ، مما ائْتَلَفَ فَزَادَ في المدلول ، وكان من ذلك ، أيضا ، عموم في دلالة اللفظ المشترك .
ومن ثم كان الإطناب في الذم أَنْ : (جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ، وهو ، أيضا ، مما أُسْنِدَ عامله إلى ضمير الجمع في "جَعَلْنَاهُمْ" ، وبه ائْتِلَافُ السياقِ بما حَسُنَ من التلاؤم بين ألفاظه ، فاطرد الإسناد إلى ضمير الجمع ، حكاية التعظيم في سياق الجلال ، وآخر من تَعَدُّدِ الصفات لا الموصوف ، عَلَى تَفْصِيلٍ قد تَقَدَّمَ ، وثم من الإطناب في المعمول الثاني "أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" ما يجري مجرى زيادة في المبنى ، فهي تحكي أخرى تضاهي في المعنى ، وذلك آكد في الدلالة من القول في غير التنزيل المحكم : وجعلناهم أئمة داعين ، وثم من المضارعة في "يَدْعُونَ" ما اسْتُقْبِلَ فَلَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ ، ولا ينفك يحكي آخر من الحال ، فهو مما به استحضار الصورة ، وبه زيادة في الذم ، مع آخر من التهكم ، فَلَفْظُ الإمامة ، بادي النظر ، مما يُشْعِرُ بالتعظيمِ أن تكون الإمامة في الدين ، فكان منهم أُخْرَى عَلَى ضِدٍّ ، وكذا يقال في الهداية ، وهي مظنة الخير ، فكان منها ضد يدعو إلى النار ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن تلك ألفاظ يجردها الذهن ، ولها في الخارج آحاد تَتَقَاسَمُ مدلولها ، فالإمامة مما يُجَرَّدُ في الذهن ، حكايةَ التَّقَدُّمِ في الوصف فالجمع له يَتْبَعُ ، وهو مما احتمل الخيرَ تارةً والشرَّ أخرى ، فَأُجْمِلَ في دلالته ، من هذا الوجه ، حتى يكون ثم قرينة من خارج ترجح ، فهي تُبِينُ عن مرادِ المتكلم ، كما قد أبانت عنه في هذا الموضع ، وكما آخر من إمامة في الدين تَنْصَحُ في آي من الذكر قد أحكم ، فـ : (جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) ، وكذا الهداية مما يجري مجرى الجنس العام الذي يجرده الذهن ، فمنه هداية إلى الخير ، كما في الآي آنف الذكر : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) ، ومنه أخرى إلى الشر ، كما في قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) ، وصراط الجحيم ، بداهة ، شَرٌّ يَعْظُمُ ، بل ذلك شَرُّ مآلٍ يُهْدَى إليه الخلق ، فلا يكون من ذلك تهكم ولا استهزاء ، إنما بَيَانٌ لِلْمَآلِ وما حُدَّ من مقادير الجزاء على الأعمال .
وَقَدْ يَرْجُحُ وَجْهُ التَّهَكُّمِ إذ به زِيَادَةٌ في النكاية ، وليس يخالف عن الأول الذي يَتَنَاوَلُ الدالة مجرَّدة في الذهن ، وَيَتَنَاوَلُ آحادها مقيدةً في الخارج ، فَيُقَالُ ، من هذا الوجه ، إن الإمامة والهداية قد اسْتُعِيرَتْ في الشر تهكما واستهزاء ، وذلك مما به يستأنس من يُجَوِّزُ المجازَ في الوحي واللسان ، ومن يُنْكِرُ فهو على أصل أول يُسْتَصْحَبُ ، أن ذلك مما اطرد في العرف المشتهِر من الكلام المفصِح الذي يحتج بِنُطْقِهِ ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ من قسمة الأجناس في الذهن ، فَهِيَ حقيقة في كُلِّ تَالٍ في الخارج بما يكون من قَرِينَةِ السياقِ المركب ، فهي تصرف الجنس تارة إلى معنى ، وأخرى إلى غير ، بل وإلى ضد ، كما في هذا الموضع .
ومن ثم كان الإطناب في الذم بِبَيَانِ العاقبة يوم الحشر ، فـ : (يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) ، وهو مما عم إذ تسلط النفي على المصدر الكامن في "يُنْصَرُونَ" ، فلا ينصرون أَيَّ نَصْرٍ ، وثم آخر قد حُذِفَ فاعله مَئِنَّةَ عمومٍ ، فلا يَنْصُرُهم أَيُّ أحدٍ ، وذلك آكد في الذم ، فلا نصر ولا ناصر لهم .

وثم آخر يجري مجرى ما تقدم من الإسناد إلى ضمير الجمع في تال من الآي يُذَمُّ ، فـ : (أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) ، وهو ما حَسُنَ فِي موضعِ الجلالِ لَعْنَةً قد نُكِّرَتْ في اللفظِ ، وهي مئنة أول من نوعية تُبِينُ عَنِ الجنسِ المنكَّر ، وثم آخر من الدلالة يَرْفِدُ إذ تحكي من اللعنة ما يعظم ، وثم الإطناب بما يكون يوم الحشر ، فـ : (يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، وذلك مما حد اسمية في النطق ، وتلك حكاية توكيد ، إذ تحكي الثبوت والديمومة في وصف القبح ، وهو مما أُطْنِبَ في حدِّه ، فذلك آكد في الدلالة من القول في غير التنزيل المحكم : ويوم القيامة هم مقبوحون ، بل ثم من "مِنْ" ما يحكي بَيَانِ الجنس ، فكأنهم من معدنِ الْقُبْحِ قد اسْتُخْرِجُوا ، وذلك آكد في وصف يذم ، ولا تخلو "مِنْ" ، أيضا ، من دلالة ابتداء لغاية ، فابتداء وصفهم من الجنس المقبَّح ، وثم ثالث من دلالة التبغيض ، فهم قَبِيلٌ من المقبوحين ، فاجتمع في "مِنْ" ، من هذا الوجه ، معان ترفد السياق ، ولكلٍّ حَظٌّ من النظر والاعتبار ، فَحَسُنَ الجمع بَيْنَهَا ، وبه ، أيضا ، يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان .

وثم من دلالة "أل" في "الْمَقْبُوحِينَ" ما يجري مجرى بَيَانٍ أول لجنس المدخول ، مع آخر يستغرق الآحاد والوجوه ، وهو ، أيضا ، آكد في الذم ، ومن ثم كان شطر آخر يقاسم شطر الذم قسمة الوصف ، فكان من ذلك إيتاء موسى ، عليه السلام ، الكتاب ، فـ : (لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) ، وذلك موضع امتنان قد حَسُنَ فيه ، أيضا ، إسناد العامل إلى ضمير الجمع في "آتَيْنَا" .
ومع ما تقدم من الجلال في الإهلاك ، كان أول من الجمال في القول ، أن يَقُولَا له القولَ اللين ، فذلك جمال الكتاب الهادي إلى الحق ، وهو أول في الباب ، وإن لم يكمل إلا أن يَرْفِدَهُ آخر من سيف حديد ينصر ، فكان منهم القول اللين في آي قد تقدم أن : (قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) ، وهو ما أُرْدِفَ بالعلة ، فـ : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، وهي مِمَّا اسْتُعِيرَ مِنَ الرجاءِ ، على تقدير : لِيَتَذَكَّرَ أو يَخْشَى ، أو هو ، كما تقدم في موضع ، مما يجري على الأصل رجاءً ، لا رجاءَ المفتقر إلى الأمرِ ، بل هو المستغني فهو صاحب المنة والفضل ، وثم من دلالة "أو" في هذا الموضع ما يجري مجرى الواو ، فذلك من عطف التلازم إذ يحصل التذكر أولا ، ثم تكون الخشية بَعْدُ ، فهي المسبَّب بعد سَبَبِهِ ، وقد يجري ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مجرى الأصل ، إذ قد يحصل التذكير فَتُقَامُ الحجة وهي أول من الهداية يثبت : هداية البيان والإرشاد ، فقد يحصل التذكير بالحجة ، ولا تحصل الخشية ، فهي قدر يزيد من هداية التوفيق والإلهام فلا تحصل لكلٍّ ، خلافَ الْأُولَى فَهِيَ مِمَّا حَصَلَ لفرعون فَتَذَكَّرَ ، فَأُقِيمَتْ عليه الحجة ، ولم يخش إذ لم يوفق ويلهم ، ولم يكن له من السداد ما يَنْصَحُ في الفكرة والحركة .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
"المعذبون فى الأرض" لطه حسين بين ضعف البناء وجمال الأسلوب إبراهيم عوض حلقة البلاغة والنقد 0 22-10-2016 09:18 PM
وفي الثلث روعة وجمال أحمد البخاري حلقة الخط العربي 2 17-10-2014 09:05 PM
فتنة الدجال أم محمد حلقة العلوم الشرعية 0 18-12-2010 02:19 AM
الأضحية أحكام وآداب - أم عبد الله نجلاء الصالح أم محمد حلقة العلوم الشرعية 5 11-11-2010 11:11 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 06:37 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ