كم أحسن الشيخ أبو أنيس

[صالح العَمْري]

طال ما كنتُ أستحسنُ جوابات شيخنا أبي أنس محمد بن إبراهيم المجد المالكي في حلقة النحو، فقد غبر حقبةً وهو المعلِّم بها.
وقد هجس في نفسي الشعر قبل قليل فتقلبت في الفراش ولم أستطع النوم، وأنا منقطع عن نظمه منذ زمن طويل، ولا أدري كيف اعتلج في خاطري فقد كنتُ أريد النوم وما خطر ببالي أن أقول شعرا، لكنه ألظّ بذهني وما تركني أنام حتى نظمتُ هذه الأبيات في شيخنا أبي أنس:

كم أحسنَ الشيخُ أَبو أُنَيسِ
نِعْمَ الفتى للسمْع أو للقَيْسِ

أي نعم الفتى للسماع وللقياس، والسمع والقيس مصدران، سمِع سمْعا وقاس قَيسًا.

إذا انبرى لـ (ليتَ) أو لـ (ليسِ)
ماسَتْ من البهجة أيَّ مَيْسِ
مما ترى من حِذقه والكَيْسِ

يريد أنه إذا انبرى لمسائل النحو أحسن فيها وأجاد.

لا تستغيث منه وَيلي وَيْسي

أي لا يعبث بالنحو فتستغيث منه مسائل النحو قائلة: ويلي وويسي، وويسي في المعنى قريبة من ويلي.

لا في تُوَيْتِـرٍ ولا في فَيْسِ

أي لا يقع منه هذا الفساد كما يقع من بعض من في تويتر والفيس بوك.

كمَنْ يجيءُ لاحنًا بالـحَيسِ

أي لا تستغيث منه كما تستغيث من النحوي اللحّانة الذي يجيء في كلامه بالخلط والفساد، والـحَيْس في اللغة الخلط.

أُمِّ الرُّبَيْسِ وابنِها الرُّبَيْسِ

أُمُّ الرُّبَيس: الداهية، أي هذا اللحانة يجيء بالخلط الذي هو داهيةٌ ومصيبة كبيرة، وأما الرُّبَيس فلا يوجد شيء اسمه الرُّبَيس، وإنما هذا على طريقة الشعراء في التمليح، كأن الشاعر هنا ادّعى أنه ما دام وُجد شيء يقال له أمّ الربيس فإنه ينبغي أن يوجد لها ابن يقال لها الرُّبَيْس، وهذا مسلك سلكه بعض الشعراء، قال أبو العلاء:

وأبو جعدةٍ ذؤالةُ مَن جَعْدَةُ لا زال حاملا تتريحا
وابن عِرْسٍ عرفتُه وبَرِيحٍ ثم عِرْسًا جهلتُه وبَرِيحا

ذؤالة هو الذئب وكنيته أبو جعدة، وابنُ عِرْس دويبّة معروفة، وابن بَرِيح هو الجهد والتعب، تقول: لقيتُ من هذا الأمر ابنَ بَرِيح، أي لقيتُ منه بَرْحًا ومشقة.
وعلى كل حال فما دامت أمّ الربيس هي الداهية فلنا أن ندّعيَ تظرُّفًا أن الرُّبَيس هي الدويهية الصغيرة تصغير تحقير لا تصغير تعظيم.

حتى يقالَ ما لهذا التَّيسِ

أي: ليس كمن يكثر لحنه ويفحش حتى يقول عنه الناس: ما لهذا التيس لا يكاد يقيم لسانه؟!
وقولنا: ليس كمن يفعل كذا وليس كمن شأنه كذا، من أساليب العرب في المدح، لأنهم يرون أن الضدَّ يُظهر حسنَه الضِّدُّ، وبضدها تتميز الأشياء.

وهم كثيرٌ كعَديدِ الطّيْسِ

هذا مأخوذ من شاهد نحوي:

عددتُّ قومي كعَديدِ الطَّيْسِ إذ ذهب القومُ الكرامُ ليسي

كعديد الطيس: أي كعدد الرمل والتراب، والمراد أن هؤلاء اللحانين كثير كعدد التراب.

لا بل فصيحٌ كأبي نُوَيْسِ

أي ليس شيخُنا أبو أنس مثلَ أولئك بل هو فصيح كأبي نُواس، وهو الشاعر المعروف، وتغيير الاسم أو الكنية أو اللقب في الشعر شيء تفعله العرب كثيرا، كقوله:

جدلاء محكمة من نسج سَلَّام

وقوله:

ونسج سُلَيمٍ كل قضاء ذائلِ

والمراد في الموضعين نسج سليمان، وشواهده كثيرة.

بل ناعتينَ الخبزَ في أُلَّيسِ

لما وصَفَه بأنه فصيح كأبي نُواس وكان أبو نواس معدودًا في الشعراء المحدَثين أراد أن يزيد في وصف منزلته من الفصاحة، فشبّهه بالعرب الأقحاح أصحاب وقعة أُلَّيْس، وخبرها أن بعض الأعراب الأقحاح من المسلمين لما غنموا ما غنموا في وقعة أُلَّيْس وجدوا في معسكر الفرس رُقاقًا أي خبزًا أبيض رقيقًا فجعلوا يقولون: ما هذه الرّقاع البيض؟ ظنوها رِقاعًا من الجلد، وإنما ذلك لكونهم من أهل البوادي البعيدة عن المدن. على أن أبا نواس من قدماء الشعراء المحدَثين وهو قريب جدًّا من زمن الفصاحة.

[صالح العَمْري]

بل ناعتينَ الخبزَ في أُلَّيسِ

كنتُ أجد في هذا ثقلا ولا أدري لماذا، ثم بدا لي أنه بسبب اجتماع اللام والنون في (بل ناعتين)، فأحسن منها أن يقال: (بل واصِفينَ)، ومعناهما واحد.
فإن أمكن تغييره كان أجود.

[محمد البلالي]

اللهم بارك ، وما أظن أن هناك ثقلا في ( بل ناعتين ) فالإدغام يخلصه من الثقل ، وهما وإن كان معناهما واحدا إلا أن ( ناعتين ) أحسنُ وقعا على الأذن ، وأنتم أدرى بارك اللهُ فيكم .

[صالح العَمْري]

أحسنت يا أخا اليمن، وصدقت، نعم، (ناعتين) أعذب موقعا وألطف موضعا.

[محمد بن إبراهيم]

أستاذنا الحبيب، وشاعرنا الأريب أبا حيان،
شكرَ اللهُ لكَ حسنَ ظنِّكَ بأخيِّكَ، وأراكَ قد بالغتَ يا شيخَنَا، وما أنا إلا متعلمٌ محبٌّ للعلمِ وأهلِه، وقد صرفتنا صوارفُ الحياةِ عن كثيرٍ من الخيرِ، وبقيتْ شجرةُ هذا الملتقى الطيبِ أهله نستظلُّ بظلِّها، وأنتم القوم الحقيقون بقول الشاعر:

هواجِرُ الأيامِ في ظلالِكمْ أصائِلُ
والناسُ أنتم وسواكُمْ باقِرٌ وجامِلُ

بارك الله فيكم أبا حيان، وجزاكم عني خيرا، وغفر لي ولكم.

[محمد بن إبراهيم]

وأقول لكم: يا أستاذنا الوديد، لعل الكلماتِ لم تسعفني لأشكركم على جميل نظمكم وحسن ثنائكم، وإني-وإن لم أكن أهلا لهذا الثناء-لأعلم أن ذلك من حسن ظنك بأخيك الضعيف، وما لي يدان ببيان كبيانك لأترجم لك عن سروري وابتهاجي لأني خطرت ببالك، ولكن حسبي أني أحبك في الله، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه وفي جنته فضلا منه ورحمة إنه سبحانه خير مسؤول وأعظم مأمول.

[صالح العَمْري]

بارك الله فيك يا أبا أنس، وأحبك الله الذي أحببتني فيه، وأرجو أن لا يغضب أنس من تسميته أُنيسا :)
وقولي إن النحويين اللحانين كثير كعدد الرمل والتراب هو من تكاذيب الشعراء، ولم أر نحويين كهذا العدد لحانين، بل لا أكاد أذكر أنني رأيتُ نحويًّا واحدًا لحانة في كتابته، أما في الكلام فاللحن كثير وكلنا يلحن.
لكن يقع في الكتابة شيء آخر لعل الأبيات أشارت إليه وهو البعد عن البيان والسقوط في حمأة كلام الأعاجم المترجم، وهو شيء نبهتُ له قديما، فإن المشتغلين بعلوم العربية يتفاوتون تفاوتا عظيما في القرب والبعد من أساليب العرب وطرائقها في الكلام، فبعضهم يكاد يكون أعجمي العقل واللسان والقلم، لكنه في مسلاخ عربي، فيأتي بكلام يشبه كلام العرب في أصواته وحروفه ولكنه مترجم من كلام الأعاجم، فكأن جثمان كلامه عربي وروحه أعجمية، وهذا هو الذي دمّر الأدب واللغة وعلوم العربية تدميرا، ونكّل به تنكيلا.

[محمد بن إبراهيم]

وبارك فيكم أبا حيان،
وأما أنسٌ، فقد أنِس باسمه مصغرا كما سمّاه عمه حفظه الله، ولكنه لا يرى أباه شيخا لأن الشيخ عنده له هيئة وزي معينان لا يفارقهما حسب ظنه، وليس أبوه كذلك، وكذا ليس هو ممن يدِب دبيبا والحمد لله :)