تحذيرُ الرَّفيق من مسائلِ التَّلفيق
الأستاذ نسيم بلعيد
من صفحته على الفيسبوك
--------------
•• يُقال: لَفَقَ الثوبَ يَلفِقُه لَفْقاً: إذا ضمَّ شُقَّةً الى أخرى فخاطَهما، والتلفيقُ مبالغةٌ منه، ومنه أُخِذ التَّلفيق في المسائِل، وهو تركيبُ قولٍ من مجموعِ قولَين أو أكثرَ في المسألةِ الواحدة، وهذا شبيهٌ بتداخُل اللغات المذكور في كتب التصريف، إلا أنه قبيحٌ غالباً؛ لِما يُؤدِّي إليه من انتفاءِ المناسبةِ أو فسادِ المسائلِ أو نحوِ ذلك، فينبغي للمصنِّف أو المُعلِّم أن يَحذَرَه كلَّ الحذرِ، ولنُمثِّل لِذلك بمسألتَين للمتأخِّرين؛ إحداهما نحويَّة، والأُخرى صَرفية؛ لِيتَّضحَ المراد ويَتبيَّنَ المقصود.
•• أما النحوية: فإنَّ النُّحاة اختَلفوا في ماهيَّة الإعراب وحقيقتِه، وانقسَموا على مذهبَين؛ أحدهما: أنه لَفظي، وهو اختيارُ ابن مالك، ونَسَبه إلى المُحقِّقين، وعليه جرى ابنُ هشام الذي حدَّه في «شرح القطر» بِقوله: (الإعراب أثرٌ ظَاهر، أو مُقدَّرٌ، يَجلبه العاملُ في آخِر الكلمة)، والثاني: أنَّه مَعنوي، والحركاتُ إنما هي دَلائلُ عليه، وهو قولُ سيبويه واختيارُ الأَعلَم وكثيرٍ مِن المتأخِّرين، وعليه جرى صاحبُ «الآجُروميةِ» في قوله: (الإعرابُ هو تغييرُ أواخرِ الكَلِم؛ لاختِلافِ العَوامل الداخِلة عليها لفظاً أو تَقديراً)، وهذا الخلافُ جارٍ في البناء أيضاً؛ فعلى أنه لفظي يُقال: (هو ما لَزِمَتْه الكلمةُ مِن شَبَه الإعراب لِغيرِ عامل)، وعلى أنه معنويٌّ يحدُّ بأنه: (لُزومُ آخِرِ الكلمة حركةً أو سكوناً لِغَير عامِل أوِ اعتِلال)، فالبناءُ يُقابلُ الإعراب على التقديرَين، ولِلطالبِ أن يأخذَ بأيِّ الطريقتين شاء، لَكنْ لِيَحذرْ مِن التلفيق عند تَعريفه لِلنوعين؛ بأن يُعرِّف أحدَهما على أنه لفظيٌّ ومُقابِلَه على أنه معنوي، كما فَعل الشيخ الغَلاييني في «جامع الدروس العربية» (1/18)؛ فإنه عرَّف الإعراب بالأثر، ثم عرَّف البناءَ بِاللزوم، وكذلك فَعَل من قبلُ ابنُ هشام في «شرح الشذور»، ومِن ثمَّ اعترَضه الشارحان الآخَران: الجوجريُّ والشيخ زكريَّا رحمهما الله في شرحَيهما بعدم مناسبةِ كلامه في البناء لِكلامِه في الإعراب. وانظُر فيهما - إن شئتَ - تَزدَدْ عِلماً.
•• وأما الصرفيةُ: فإنَّ التصريفيِّين جعلُوا أبواب الثلاثيِّ المجرَّد بالنظر للماضي والمضارع معاً ستةً، وهي: بابُ «نَصَرَ»، و«ضَرَبَ»، و«فَتَحَ»، و«عَلِمَ»، و«حَسُنَ»، و«حَسِبَ»، وهي مُرتَّبةٌ عند الجمهور على هذا الترتيب، وقدَّم بعضُهم بابَ «ضَرَبَ» على «نَصَرَ»، ومِن هؤلاء صاحبُ «المراح» الذي قدَّم أيضاً بابَ «عَلِمَ» على بابِ «فَتَحَ» ثم قال: (وتُسَمَّى الثلاثةُ الأُوَلُ دَعائمَ الأَبواب) أي: أصولَها، جمع «دِعامة» وهي عَمود البيت، فجاء الحملاويُّ
، فخالفَ جميع الصرفيِّين في «شذا العرف» حينَ رتَّب الأفعالَ على ترتيب الجمهور الذي ذكرتُه أوَّلاً، ثم أَخذ عبارةَ «المراح» كما هي فقال: (وتُسَمَّى الثلاثةُ الأُوَلُ دَعائمَ الأَبواب)، فلفَّق مِن القولَين قولاً ثالثاً لم يَذهب إليه – فيما أعلم - أحدٌ قبله، وتَبِعه عليه أُلوفٌ من الطُّلاب ممن جاء بعده، ذاهِلاً عن كونِ صاحب «المراح» إنما عَنَى بالأبواب الثلاثة في كلامه: «ضَرَبَ»، و«قَتَلَ»، و«عَلِمَ» الذي قَدَّمَه في الذِّكر على باب: «فَتَحَ» لِدخوله في الدَّعائم، خِلافاً لِما عليه الجمهور مِن تقديمِ باب «فَتَحَ» نَظراً إلى مُناسَبتِه لِلبابَين: الأولِ والثاني في كونِ عين ماضِيه مفتوحاً.
فانظُر - بارك الله فيك - إلى التَّلفيق بين الأَقوال وكيف يَجني على مَسائل العِلم.