|
|
الانضمام | الوصايا | محظورات الملتقى | المذاكرة | مشاركات اليوم | اجعل الحلَقات كافّة محضورة |
|
أدوات الحديث | طرائق الاستماع إلى الحديث |
#1
|
|||
|
|||
هذه السيرة النبوية البشعة لمحمد أسد بك!
هذه السيرة النبوية البشعة لمحمد أسد بك!
د. إبراهيم عوض قبيل سفرى إلى الدوحة فى بداية القرن الحالى للعمل أستاذا للأدب العربى فى جامعة قطر وقع فى يدى كتاب فى السيرة النبوية مترجم إلى الفرنسية عنوانه "Mahomet 571- 632" (Mohammed Essad Bey, Mahomet 571- 632, Payot, Paris, 1948) أهدانيه زميل لى قائلا إنه لمحمد أسد (ليوپولد ڤايس سابقا) الصحفى الألمانى الذى اعتنق الإسلام، فأخذته شاكرا مبتهجا لحصولى على هذا الكتاب الجديد للكاتب الألمانى الذى بدأتْ معرفتى بمؤلفاته مع سبعينات القرن الماضى ثم نمت مع الزمن. لكنى، مع شدة اهتمامى بذلك المستشرق الذى ترك دينه اليهودى وبلده ولغته ومهنته الصحفية فى منتصف عشرينات القرن المنصرم ليعيش بين ظَهْرانَىِ المسلمين، ومع حرصى على تتبع كل ما كتب، لم أسمع مجرد سماع أن له كتابا فى التأريخ لحياة الرسول وتحليل شخصيته عليه السلام. ومن ثم أحسست، حين أخذت الكتاب المذكور من زميلى فى القاهرة، أننى قد عثرت على كنز. وقد أخذت الكتاب معى إلى الدوحة بنية ترجمته وكتابة دراسة عنه هناك. وما إن وصلت إلى الدوحة وتسلمت عملى بالجامعة وتنفست من مشاغل الأيام الأولى حتى أخرجت الكتاب كرة أخرى وأخذت أقرؤه بادئا مباشرة من طفولة الرسول تاركا الفصل الخاص ببلاد العرب وتاريخها وجغرافيتها وأهلها وعاداتها وتقاليدها إلى ما بعد الانتهاء من السيرة نفسها. وإذا بى أكتشف أن مؤلف الكتاب، وإن أثنى فى بعض الأحيان على الرسول ثناء مستطابا، لا يصدر فى ذلك عن حب حقيقى لمحمد ودينه ولا يكاد يغادر شيئا فى حياته أو فى حياة أصحابه دون أن يحاول تشويهه. وهنا عدت مرة أخرى إلى اسم المؤلف، وهو مكتوب على النحو التالى: "Mohammed Essad Bey". وركبتنى الحيرة والوساوس: ترى أهذا الكتاب هو فعلا لمحمد أسد، الذى نعرفه؟ ثم تراكمت غيوم الحيرة وتكأكأت الأسئلة والافتراضات: أيمكن أن يكون ثمة محمد أسد آخر غير الذى نعرفه؟ إن وجود لقب "بك" فى آخر الاسم من شأنه أن يقوى طرح هذا السؤال، إذ لم أسمع قط أو أقرأ اسم محمد أسد مقرونا بهذه الكلمة. بل إن هجاء كلمة "محمد أسد" هنا مختلف عن الطريقة التى تُكْتَب بها على كتبه الإنجليزية حيث تظهر هكذا: "Muhammad Asad". بل لقد تساءلت: ألا يمكن أن يكون المؤلف شخصا عربيا؟ والواقع أن بعضهم قد قالها، إذ وجدت د. محمد التونجى السورى (مترجم كتاب كونستانس جورجيو الوزير الرومانى الأسبق عن سيرة الرسول ) يقول فى أحد هوامش ترجمته لذلك الكتاب تعريفا بـ"أسد بك"، إنه المحقق العربى المعروف ناصر الدين الأسد. وبغض النظر عن أن المقصود بـ"أسد بك" هو محمد أسد لا ناصر الدين الأسد، فضلا عن أن المؤلف الأردنى ليست له أية مؤلفات فى السيرة النبوية، فإن مؤلف الكتاب يتحدث عن نفسه بوصفه أوربيا، إذ يقول: "نحن الغربيين" أو "عندنا فى أوربا"... إلخ. وهكذا عدنا إلى المربع الأول من جديد. ولقد قلبت مكتبة جامعة قطر بقسميها العربى والأجنبى، فلم أترك كتابا أو معجما أو موسوعة مما حسبت أنه يمكن أن يمدنى بشىء عن محمد أسد يجلو عمايتى وينير بصيرتى فى هذه القضية، فلم أجد إلا تلك الإشارة العارضة وأُخْرَيَيْن مثلها فى كتاب جورجيو. وقد أشرنا آنفا إلى أن المسمى: "محمد أسد بك"، وإن انطلق فى ظاهر كلامه من أنه مسلم، فإن ما قاله لا ينبئ عن أن صاحبه يكن حبا للرسول الكريم ولصحابته الأطهار ودينه العظيم رغم ثنائه المستطاب على الإسلام ونبيه بين الحين والحين. والشواهد على ما نقول كثيرة، وإلى القارئ بعضا منها: فعند حديثه عن زواج الرسول من خديجة لا يورد سوى الرواية الضعيفة التى لا يصدقها العقل والتى يزعم ملفقها أن أباها لم يكن راضيا عن هذه الزيجة مما ألجأها إلى أن تسقيه خمرا حتى تحصل على موافقته وهو سكران (ص61). كذلك يدعى أن الرسول فى الجاهلية كان يشارك قومه فى طقوسهم الوثنية ويكن للأصنام احتراما شديدا ويقدم لها القرابين كلما وُلِد له ولد. بل لقد سمى أحد أولاده: "عبد مناف" (ص63- 64). وبالمثل يتقول على الرسول زاعما أنه كان يقرأ مع الحنفاء الكتب القديمة، وأن ورقة هو الذى عرّفه التوراة والإنجيل وأنبياء بنى إسرائيل. وعندما كان يتلو سورة "النجم" عقب نزولها عليه نرى محمد أسد بك يضيف الجملتين التاليتين اللتين تمدح الأصنام: "إنهن الغرانيق العُلَا وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى". ولكى تكون تلك الدعوى مقبولة فإن محمد أسد بك يعزو ذلك الصنيع من الرسول إلى أنه بشر، والله يريد له أن يرتكب خطيئة من كل نوع من أنواع الخطايا التى يجترحها البشر (ص114). ومن تخاريفه المضحكة أيضا قوله إن الصلاة تسقط عن المسلم أثناء سفره أو إقامته فى بلد غريب، وإن الفروض الظاهرية فى الإسلام لا تشكل شرطا أساسيا للنجاة، بل يمكن إهمالها والحصول مع ذلك على الغفران الإلهى. وهو يتخذ من هذا دليلا على ما يتميز به الإسلام من واقعية. ويجرى فى هذا المضمار زعمه أن الإسلام لا يغلق باب الخلاص فى وجه أتباع الديانات الأخرى. ألا يقول القرآن: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون"؟ ومن أجل تمرير هذه الفرية يسارع إلى التظاهر بالثناء على الإسلام قائلا إنه الدين الوحيد الذى يبدى هذا الضرب من التسامح (ص135). كما زعم أنه، بدخول النبى المدينة، قد صار القرآن والسيف هما اللذين يحكمان العالم (ص133)، وأنه عليه السلام قد جعل الحرب سبيلا إلى إقامة الدولة الإلهية، وأن خضوع اليهود والمنافقين لسلطانه إنما تم تحت تهديد السلاح (ص159)، وأنه كان يعرف جيدا أن أيا من الشعوب الأخرى لن يصغى طوعا إلى كلامه. ومن ثم كان لا بد من اصطناع القوة والخوض فى أوحال مستنقع السياسة بغية هداية الناس وحماية بيوت الله من بِيَعٍ وصلوات ومساجد، وهو مستنقع يعج بالاغتيالات والجرائم ونقض العهود، وأنه قد اقترف كثيرا من الآثام، فأراق الدماء واستخدم الوحشية والدهاء، وإن كان (كعادته فى تلطيف دعاواه بالكلام المعسول الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع) قد عقّب قائلا إن أحدا من البشر لم يخرج من ذلك المستنقع بقلب أنقى من قلب محمد (ص159- 160). وهى كلمة تحتمل تأويلين، فإلى جانب المعنى الظاهرى هناك معنى آخر بعيد أرجح أن يكون هو المقصود. ومُفَادُه أن النبى لم يكن فى قلبه ندم ولا أسف على شىء مما اقترفه فى دنيا الحكم والسياسة! ويشطح أسد شطحة أخرى فيزعم أن الإسلام تحول على أيدى المهاجرين إلى مهنة، إذ لم يكن أمامهم من مورد رزق سوى الحرب والعدوان على الآخرين (ص161). وهوينظر إلى الجهاد فى سبيل الله على أنه مجرد مساومة تجارية بين الرسول والصحابة فى المدينة، فهم يصرون على الحصول على أجورهم ناجزة فى الدنيا قبل الآخرة، فلا يجد النبى مناصا من النزول على ما يبتغون (ص163). وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بعد ذلك إن سكان المدينة الذين لم يكونوا قد دخلوا الإسلام بعد ما إن رَأَوْا غنائم بدر حتى جَثَوْا على رُكَبِهم واعتنقوا الإسلام فى الحال. وهو زعم كاذب، كما هو واضح، لكل من يعرف طرفا من مغازى رسول الله وأصحابه. بل إنه ليزعم أيضا أن الرسول قد حول المدينة، عقب انتصاره فى هذه الغزوة، إلى دولة بوليسية يُؤْخَذ فيها الناس بالظِّنَّة ويجرى التنصت على كل ما يتفوهون به فى الشوارع ويعاقَبون دون هوادة (ص177). ومع هذا فإن الحق يقتضينا أن نذكر قوله عن رسول الله إنه كان متسامحا إلى أبعد مدى مع من يخطئون فى حقه، أما مع الذين يعتدون على عمله من قرآن وإسلام فإنه لم يكن يعرف سوى التنكيل والوحشية والخداع والانتقام والاستبداد وسفك الدماء حتى لو كان الأمر مجرد تهكم خفيف لا ضرر منه، إذ لم يكن يتذوق الدعابة، ومن ثم لم يكن مستعدا لأى تفاهم مع الشعراء الذين يسخرون منه (ص179). وهو يصوره فى صورة المعتدى دائما، فهو يبعث بالسرايا والغزوات هنا وهناك للحصول على الغنائم من جهة ولكيلا يخلد المسلمون إلى الراحة من جهة أخرى فيَنْسَوُا القتال. ثم يضيف أنه كان خبيرا فى فن إغراء الناس وسحبهم خلفه وأن الغنائم كانت تكفل له إخلاص المهاجرين والأنصار على الدوام (ص192- 193). وهو فى أثناء ذلك كله يتكلم عن النبى بوصفه صاحب الإسلام، فهو الذى يحلل ويحرم، وهو الذى يفكر فى هذه المشكلة أو تلك ويصدر فيها التشريع المطلوب (ص195). وفى موضع آخر من الكتاب يقول إنه، من أحكام الرسول وفتاواه وقوانينه ومراسيمه، قد تشكّل الفقه الإسلامى فى دولة المدينة (ص271). وعن النساء فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام يقول مؤلف الكتاب إن العدد الذى كان متزوجا به (وهو عنده أربع عشرة زوجة) لم يكن يجيزه الإسلام. ثم يمضى مفتريا الأكاذيب قائلا إن النساء اللاتى كن يَحْظَيْن بحب الرسول أو يميل إليهن كن أكثر من ذلك كثيرا. بل إنه ليزعم أن الآية الأولى من سورة "التحريم" تعطيه الحق فى أن يستمتع، إذا أراد، بأى عدد آخر من الزوجات فوق أولئك الأربع عشرة، وأنه ظل إلى آخر حياته يحب النساء ويعجب بالجميلات منهن ويكرمهن ويداعبهن ويأخذهن بالأحضان، ودافعه إلى ذلك رغبته الحارقة فى أن ينجب ولدا يرثه فى عمله ورئاسته للدولة الإلهية ويكمل ما بدأه هو (ص211- 212)، وإن كان قد عاد فقال إن زيجاته عليه السلام لم تكن كلها زيجات حب بل كان بعضها لأغراض سياسية بغية الحفاظ على الدولة وتماسكها، وإنه كان يلتزم العدل الصارم بين زوجاته، وكذلك تجاه رعيته (ص216- 217). وفى حادثة الإفك نراه يجترئ على الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق زاعما أن الرسول عليه السلام قد انشغل فى غزوة بنى المصطلق بشغب المنافقين عليه وبالمرأة الجديدة التى غنمها من غزوة المريسيع مما جعله يهمل عائشة، وأنها رضى الله عنها وأرضاها قد طلعت على الجيش مع الصباح برفقة صفوان الشاب الوسيم وعلى وجهها علائم الحبور، وأن جميع أفراد الجيش أخذوا يتغامزون تهكما بروايتها عن تخلفها بسبب عِقْدها الذى فقدته وعثور صفوان عليها بالمصادفة وحيدة فى الصحراء، نابزا إياها بـ"بنت أبى بكر التى أفسدها التدليل" (ص221). وكان قد وصفها قبلا بأنها أستاذة فى فن المؤامرات (ص214). أما حفصة رضى الله عنها فقد ادعى أنها قبيحة كبيرة السن، ولهذا لم يستطع عمر أن يعثر لها على زوج، إلا أن الرسول طلب يدها وتزوجها (ص215). وبالنسبة لزينب بنت جحش يردد المؤلف المغرم بالإساءة إلى الرسول والإسلام أنه كان يكن لها عاطفة رمانسية عميقة، وأنه عندما رآها قد وقع مفتونا بجمالها ووقارها وتقواها، فكان يحب الاختلاف إلى بيتها والحديث معها، وأن زيدا زوجها حين لحظ ذلك قد صارحه بأنه سوف يطلقها حتى يمكنه الاقتران بها ما دام يحبها كل هذا الحب. ثم يختم كلامه عنها بقوله إنها كانت بارّة بالفقراء وإنها عاشت بعده فقيرة على عكس زوجاته الأخريات اللاتى يدَّعى أن خلفاءه عليه السلام قد أغرقوهن بالذهب (ص215). وعلى نفس الشاكلة يسىء المؤلف إلى الصحابة رضوان الله عليهم إساءات بالغة منها مثلا قوله إن عمر كان يشتغل بتهريب البضائع فى الجاهلية. ولا ندرى لماذا كان يفعل ذلك، إذ مبلغ علمنا أنه لم تكن هناك جمارك فى مكة! كما يعزو إسلامه إلى رغبته فى إحداث دوى لنفسه فى مكة بعد فشله فى مشروعاته السابقة كلها وعدم إحرازه أى مجد أو ثروة. ولا يكتفى بذلك بل يدعى عليه أنه كان يضرب زوجات الرسول بالعصا. وجريا على وتيرة المستشرقين والمبشرين يشبّه دوره فى تاريخ الإسلام بما صنعه بولس فى النصرانية (ص211- 212). ويجعل أبا بكر ينادى النبى عليه السلام بـ"يا محمد" بدلا من "يا رسول الله" (ص132). ومن إساءاته الشنيعة للصحابة أيضا دعواه الحمقاء بأن الرسول عليه السلام كان يكن لعمه العباس احتقارا هائلا لتأخره فى اعتناق الإسلام (ص159)، وكذلك تحامله الوقح على حسان بن ثابت، إذ يصفه بالقبح وفتور الموهبة الشعرية، زاعما أن شعره يقوم على سب الناس جميعا وأن النبى ضربه بالعصا ذات يوم لطول لسانه فحقدها عليه. ولأنه كان جبانا رعديدا، كما يصفه، لم يستطع أن يواجهه صراحة، فنظم قصيدة فى السر يهجوه بها، ثم لما علم أنها بلغت مسامع الرسول فر إلى بلد آخر، لكن بعض أصحاب النبى استطاع أن يلحق به وضربه بالسيف، فأخذ ينظم القصائد يشكو فيها حاله إلى أهل المدينة طالبا منهم القِصَاص. ثم انتهى به الأمر إلى التحقق من شدة سطوة الرسول ونفوذ سلطانه ورسوخه، فشرع يتردد عليه بصحبة بعض أقاربه من ذوى المكانة فى يثرب بغية السماح له بمقابلته . بيد أن النبى لم يأذن له، إذ كان عليه السلام يكره الشعراء لأنهم يقولون ما لا يفعلون. لكن حين أخذ شعراء مكة يهجونه عَدَل عن موقفه، وقرر السماح لحسان بالمثول بين يديه لإنشاد شعره. ومع هذا فقد وجده أضعف من شعر القرشيين وأقل موهبة، فما كان منه إلا أن لمس لسان الشاعر اليثربى بطَرَف عصاه، وعلى الفور تغير الحال وصار هجاؤه مرا أليما (ص230- 231). وكأن هذا وغيره ليس كافيا فى نظر المؤلف لتشويه صورة الصحابة الكرام، فنراه يكتب فى موضع آخر أن المهاجرين والأنصار قد أصبحوا بعد قليل طبقة أرستقراطية طفيلية فارغة ذات مطالب مسرفة تثقل كاهن الخزانة العامة، وأن النبى عليه السلام كان يتفهم هذا كله، إذ رأى من حقهم التعويض عن سنوات الحرمان العصيبة التى قاسَوْها معه ومن أجله (ص270- 271). فإذا انتقلنا إلى موقف ذلك المدعو: "محمد أسد بك" من اليهود المساكنين للنبى عليه السلام فى المدينة وكلامه عنهم ورأيه فيهم راعنا أنه، فى الوقت الذى أطلق قلمه بالغمز واللمز الدنس تارة، وبصريح القول النجس تارة أخرى فى حق الرسول وصحابته، قد اتخذ جانب اليهود على طول الخط مثنيا عليهم وعلى ذكائهم وعلمهم وتقواهم وشجاعتهم... إلخ. وهذا من الأشياء التى عضدت عندى أنه يهودى. وأول ما نبدأ به هو تلك القصة الفكاهية التى لا أدرى من أن استقاها، وملخصها أن النبى عليه الصلاة والسلام قد عطش أثناء هجرته إلى يثرب عطشا قاسيا لم يطفئه إلا يهودى اسمه نوروز مما كان من نتيجته أن أصبح المسلمون يحتفلون بعيد النوروز تخليدا لذكرى ذلك اليهودى النبيل (ص133). وهى، كما يرى القارئ، بداية لها مغزاها فى الدلالة على ما سوف يقوله المؤلف فى حق أولئك القوم، الذين بدا لى، فى ذلك الوقت قبل أن أعرف حقيقته، أنه واحد منهم، وإن اصطنع لنفسه اسما من أسماء المسلمين بل من أسماء النبى ذاته . فهو يزعم أن اليهود كانوا متعاطفين مع النبى قبل الهجرة، إذ كانوا يسمعون أنه يقول مثلهم بإله واحد، فضلا عن أن القرآن الكريم قد رفع أهل الكتاب مكانة عالية. ولهذا رحبوا به عند مقدمه إلى يثرب (ص147). أى أنه يجعل من اليهود الأساس الذى يقاس عليه الرسول فى صحة الإيمان والتوحيد. ثم يخطو خطوة أخرى قائلا إن اليهود، بما لهم من براعة فى الحجاج التلمودى، كانوا يفنِّدون الحجج التى يأتيهم بها محمد دون أية صعوبة، وإن دينهم متفوق على دينه، وإنه عليه السلام كان يخشى أن يبزغ من بين ظَهْرَانَيْهم نبى ينافسه كابن صياد، الذى كان بمستطاعه، حسبما يزعم الكاتب، أن يتنبأ بكل دقة بما فى عقل محمد، فما كان منه سوى أن اتهمه بتلبس الشيطان له. وهذا ما دعاه إلى إشهار الحرب عليهم واتهامهم بأنهم كانوا طوال تاريخهم دائمى التمرد على أنبيائهم (ص181- 182). وكان الرسول، كما يقول الكاتب الممالئ لليهود، يعرف أنهم غير متحابين، فبدأ بأضعف قبائلهم، وهم بنو قينقاع، مطمئنا إلى أن القبائل اليهودية الأخرى لن تهب لنصرتهم. وكان من السهل عليه اتخاذ أية ذريعة لضربهم بغية الحصول على الذهب والسلاح اللذين كانوا يمتلكونهما. وقد أبدى المؤلف أشد الأسف على مصير هؤلاء الأرجاس المناكيد (ص183- 184). ثم يمضى فى مزاعمه الوَقَاح قائلا إن اليهود عرضوا على الرسول مشاركته فى قتال المشركين فى أُحُد، لكنه رفض هذا العرض (ص187). ثم نجده بعد عدة صفحات يبدأ فاصلا من العزف على أوتار المديح لهم بالنبل والشجاعة باسطا أمرهم مع الرسول من وجهة نظر باطلة دون أن يشفع ذلك بأية تخطئة لهم مهما تفهت. ويضيف قائلا إنهم هم الذين وفروا للرسول الحماية والوطن بعد مغادرته مكة. ولا يفوته أن يخلع على حُيَىّ بن أَخْطَب عدو الله ورسوله صفات الإيمان والتقوى (ص198- 199). ومما له دلالته أنه قد بدأ الفصل الذى عقده لهذا الموضوع بعبارة من العهد القديم مؤداها أن الله إذا أحب قوما عاقبهم. وهو ما يعنى بكل جلاء أن ما نال اليهود على يد النبى إنما هو مظهر من مظاهر حب الله لهم لا غضبه عليهم. وحين يأتى الكلام إلى بنى قريظة ينبرى أسد بك فيسوق العذر لهم فى نقضهم العهد الذى كان بينهم وبين الرسول، مؤكدا أنه هو الذى بدأ بالنقض حين صنع ما صنع مع بنى قينقاع وبنى النضير. ثم يقول إن بنى قريظة رفضوا أن يشتركوا فى الهجوم على المسلمين احتراما للسبت، الذى تصادف أن كان هو بداية هجوم المشركين على المدينة. ثم يصف سعد بن معاذ، الصحابى الجليل الذى أصدر حكمه على بنى قريظة جَرَّاءَ خيانتِهم وغدرهم واشتراكهم مع الأحزاب فى التآمر على ضرب الرسول والمسلمين فى مقتل، بسرعة الغضب والرغبة فى سفك الدماء. كما يسم الحكم الذى أصدره بالبربرية والدموية قائلا إن اليهود كانوا يظنون أنه، رضى الله عنه، سوف يكون عادلا فى حكمه عليهم. وهى عبارة وراءها ما وراءها. أما الذين نُفِّذ فيهم حكم الإعدام ممن ظاهروا المشركين وخانوا عهدهم مع رسول الله والمسلمين فقد مدحهم بأنهم ماتوا ميتة بطولية شريفة، إذ رفضوا أن يخونوا دينهم ويتحولوا إلى الإسلام. ونراه هنا يزيد فى كلام الزبير بن باطا، اليهودى الذى قبل النبى شفاعة بعض الأنصار فيه فعفا عنه، العبارة التالية التى لم يوردها أى من كتب السيرة أو التاريخ: "إننى لا أقبل أن أكون مدينا بحياتى لرجل متعطش للدماء". وعند المؤلف الموالس مع اليهود الغادرين أن مأساتهم إنما تعود إلى كثرة مجادلتهم للرسول وإيثارهم لحرية الفكر على الطاعة العمياء التى كان يريدها منهم، فضلا عن كراهيته عليه السلام لوجودهم فى المدينة حيث لا ينبغى فى نظره أن يُسْمَع فيها أى صوت آخر غير صوت الله ورسوله (ص204- 207). ومما يتهم به هذا المنافقُ المتظاهرُ بالإسلام الرسولَ الكريمَ أنه كان يقرأ مع الحنفاء الكتب القديمة، وأنه قد تعرف إلى التوراة والإنجيل وأنبياء بنى إسرائيل على يد ورقة بن نوفل. ولو كان المؤلف مسلما ما ردد هذه الفرية الآثمة التى يصدّع بها كثير من أهل الاستشراق والتبشير أدمغتنا، إذ قد نفى عنه القرآن المجيد أن يكون قد عرف تلك الكتب بأى حال أو أن يكون قد علَّمه بشر. ومع ذلك فسننسى دفاع القرآن عنه ما دام غير مسلم ونعرض الملاحظات التالية: ترى لو كان هذا الزعم صحيحا فلماذا لم ينبر أحد من هؤلاء الحنفاء أو من أقربائهم ويقول هذا الذى يردده ذلك المؤلف وأمثاله؟ لقد تتبعت فى كتابى: "مصدر القرآن" أخبار هؤلاء الحنفاء، فألفيتهم إما أسلموا كورقة بن نَوْفَل أو ماتوا قبل البعثة وأسلم مِنْ بَعْدِهم أبناؤهم كزيد بن عمرو بن نُفَيْل أو كادوا أن يسلموا لكن العصبية القبلية قد حالت دون ذلك كأُمَيّة بن أبى الصَّلْت أو احتمَوْا بقوة أجنبية كعثمان بن الحويرث، الذى انحاز إلى الروم وطلب إليهم أن يولّوه مكة، لكن أهلها ردوه عن بلدهم ردا قبيحا. فمَنْ مِنْ هؤلاء يا ترى هو الذى قرأ مع رسولنا الكريم الكتب القديمة المزعومة؟ ومتى؟ وأين؟ وأمام مَنْ مِنَ الشهود؟ ولماذا لم يفتح أى منهم أو من أقربائهم أو معارفهم فمه بكلمة فى هذا السبيل؟ بل لماذا لم يحاول أى من هؤلاء الأساتذة أن يدعى هو النبوة ما دام ادعاؤها سهلا إلى هذا الحد؟ أما قول الكاتب المتخفى إنه قد وصل به الحال فى الفترة السابقة على البعثة أن أخذ يذرع الوديان ويصعد فى الجبال فى ثياب رثة وشعر أشعث وخطوات مضطربة بعدما كان يعيش فى جو أرستقراطى وملابس حريرية أنيقة، وإنه حين سمع أصوات الصخور وصراخها عند غار حراء سقط متشنجا وقد تجمع الزَّبَد على شفتيه، فليس إلا من بنيات الأوهام والخيالات الإبليسية، إذ لم يرد شىء من ذلك فى أى من المصادر التى تحدثت عن الرسول. والتاريخ لا يجوز أبدا أن يصاغ من لبنات الأوهام والخيالات الإبليسية بل من لبنات الواقع الصلبة التى نقلها إلينا من شاهدوها واستوثقنا من شهودهم إياها وصدقهم فى روايتها. ومن الواضح أن الكاتب الكذاب يرمى إلى اتهام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه قد خُولِطَ فى عقله، إذ لا يفعل هذا إلا شخص مضطرب العقل والنفس قد وقع فريسة للهلاوس والجنون، وإلا فما معنى أنه كان يسمع صراخ الصخور؟ ثم ماذا يقصد الكاتب من أنه عليه الصلاة والسلام قد سقط متشنجا وقد تجمع الزبد على شفتيه سوى القول بأنه كان مصابا بالصَّرْع، تلك التهمة القديمة التى ترجع إلى أيام الرومان والتى ما زال أوغاد المستشرقين يرددونها رغم ما هو معروف لكل من كلف نفسه استفتاء كتب الطب وعلم النفس ومتخصصيهما من أن مظاهر الوحى لا وشيجة البتة بينها وبين أعراض الصرع من قريب أو من بعيد؟ ونسأل: كيف يا ترى من الممكن أن يصاب الرسول بالتشنج آنذاك وتزبد شفتاه؟ لقد كان الرسول يعيش بمفرده فى الغار. ومعنى هذا أن أحدا لم يشاهده عندما حدث له ذلك. وهو نفسه لم يكن ليستطيع أن يعرف ماذا حدث له لأنه كان فاقد الوعى. ثم أليس عجيبا أن يقع له ذلك دون أن يصيب نفسه بضرر جراء اصطدام رأسه بالصخور مثلا أو عضه لسانه أو ما إلى هذا؟ أرأيت، أيها القارئ الكريم، كيف يرمى الواحد من صعاليك المستشرقين بالتهمة السخيفة المتهافتة والمناقضة للمنطق والتاريخ فى مثل هذه القضية الخطيرة باستخفاف ورقاعة تامين؟ وعلى من؟ على سيد البشر والأنبياء والمرسلين! وبالنسبة لدعوى الكاتب بأن النبى عليه السلام خالف التشريع القرآنى القاضى بعدم الزواج بأكثر من أربع فمن اللازم لفت النظر إلى أن هذا التحديد لم ينزل به الوحى إلا فى السنة الثامنة للهجرة بعد أن كان قد بنى بزوجاته جميعا، فلم يتخذ بعد ذلك أية زوجة أخرى. أى أنه عليه السلام لم يخرج على التشريع القرآنى فى هذا المجال على عكس ما يزعم هذا المستشرق السفيه، إذ التشريع المذكور لاحق لا سابق. وزيادة على ذلك لم يؤثَر عنه كلمة أو نظرة يشتم منها رائحة الطمع فى امرأة ليست له. ولست أعرف أى شيطان لعين وسوس لذلك الكاتب ما وسوس حين قال إن رسول الله كان لا يكف عن مداعبة النساء وأخذهن بالأحضان. إن الكاتب الأحمق لا يستطيع أن يميز بين ما ينبغى أن يلتزمه من يتحدث عن سيد الأنبياء من تبجيل وتعظيم وبين ما يثرثر به أى وغد لئيم عن المواخير ومرتاديها وعن الطريقة التى يتعامل بها الرجال والنساء فى المجتمعات الغربية التى لا تعرف حلالا ولاحراما ولا لياقة ولا عيبا. ترى لو كان عليه السلام على هذا النحو فى التدله فى حب النساء فلم حددهن أصلا بأربع؟ لقد نسبتُ إليه هذا التشريع لأن الذين يتهمونه بهذا إنما يتهمونه فى ذات الوقت بأنه هو صاحب القرآن ومخترع الإسلام. لو كان الرسولُ مؤلفَ القرآن لما أصدر هذا التشريع البتة، إذ كان التعدد بلا ضابط عرفا متبعا عند العرب. فلم يا ترى يضع نفسه فى هذا الموقف الحرج ما دام لا ينوى أن يطلق أيا من نسائه بعد صدور ذلك التشريع؟ وكل ما يمكن أن يقال فى هذا الصدد هو أنه عليه السلام لم يخفض عدد زوجاته بعد نزول تشريع التحديد. لكن السر فى هذا مفهوم لمن يريد بلوغ الحقيقة لا التشنيع على نبى الله، إذ أين ستذهب الزوجات اللاتى سيطلقهن، وقد حرَّم الله أن ينكحهن أحد بعده أبدا؟ ويتصل بهذا كذب المدعو: "أسد بك" على رسول الله فى أمر زينب بنت جحش حين زعم أنه كان يكن لها عاطفة رومانسية عميقة كما لو أنها كانت غريبة عليه فلم يرها إلا فى بيت زوجها ففُتِن بجمالها وصار يتردد عليها فى غياب زوجها مع أنها بنت عمته وليست غريبة عليه بحال، وهو الذى زوّجها بزيد رغم أنها وأهلها لم يكونوا موافقين على الزيجة بينما أصرت السماء على إتمام هذا الزواج. فلم بالله يتخذ محمد هذا المسار المعقد الملتوى ما دام يحبها ويفتتن بها ويحب التردد على بيتها فى غياب زوجها؟ بل لقد كان الرسول عليه السلام يكره تطليق زيد لها. أفلو كان متيما بها على هذا النحو أكان يزين له الإبقاء عليها فى ذمته؟ ثم من أين للإبليس مؤلف الكتاب بتردد الرسول على زينب فى غير وجود زوجها؟ إن هذا اتهام باطل لأنه لا سند له لا من رواية تاريخية ولا من شهادة شهود أخبروا الكاتب بما حصل. ولو أقررنا هذا الأسلوب فى الحكم على الناس ما بقى فوق ظهر الأرض برىء! إن ما يقوله أسد بك وَغَادَةٌ ما بعدها وَغَادَةٌ، فقد كانت رضى الله عنها، كما أكد هو بعظمة لسانه، تقية نقية تحب الفقراء والمساكين وتعطف عليهم. فكيف يمكن التقول عليها بمثل هذا الشكل الحقير؟ ثم إنها ابنةعم محمد كما قلنا، أى كانت معروفة له تماما منذ الصغر. فلو كانت عنده تجاهها هذه العاطفة فلماذا لم يتزوجها إذن وزوَّجها بدلا من ذلك زيدا، وكان زيد عبدا عتيقا، أما هى فمن أعز البيوتات القرشية؟ ومتى كان الرسول يتردد عليها أثناء مغيب زوجها عن البيت؟ إن كل ما ترويه الروايات أنه ذهب لزيد، الذى كان ابنه بالتبنى، فى أمر من الأمور فعلم من زينب أنه غير موجود، فاستدار من فوره راجعا. أما تصور أخلاق النبى على غرار أخلاق الرقعاء والمتبطلين وأزيار النساء الذين لا يتمتعون برجولة ولا شهامة ولا نخوة فينتهزون أول فرصة لغياب معارفهم أو جيرانهم عن المنزل ويترددون على الزوجة فأمر لا يقدم عليه سوى حاقد لئيم يظن بجهل وحطة أنه يستطيع تلطيخ سيد البشر بجرة قلم نجسة مثل أخلاقه. وهذا دليل على الحماقة التى تجاوزت كل الحدود لأن صورة النبى عليه السلام لا يمكن تلطيخها فعلا ولو أجمع على ذلك شياطين الأرض وأبالستها. ترى هل يمكن أن يسقط القمر من عليائه إن نبحه كلب؟ ومقطع الحق فى هذا أن الرسول قد تعرض لحرج اجتماعى شديد بزواجه بأمر القرآن من زينب. أى أن عقده عليها كان عبئا لا سببا للسرور، إذ كان يعلم مدى الصدمة التى سيسببها هذا الزواج للمجتمع العربى، الذى كان ينظر إلى الابن بالتبنى نظرته إلى الابن الحقيقى. فزواجه من زينب كان يعنى عند العرب زواجه بامرأة ابنه، فهو إذن أمر يبعث على الاستغراب والاستنكار. ومن هنا نفهم سر تباطئه، الذى أخذه عليه القرآن، إذ كان كتاب الله يريد وضع حد لتلك النظرة التى كانوا ينظرونها إلى ابن التبنى. وهذا معنى قوله له: "وتخشى الناسَ، واللهُ أحقُّ أن تخشاه". فذلك الزواج إذن كان تضحية من جانبه لا وطرا يشتهيه أو عاطفة رومانسية يشبعها. لكن متى كان أصحاب القلوب الغُلْف يفقهون؟ ولو كان الرسول كما يفترى عليه الكاتب السافل فلم كان يعدل بين زينب وغيرها من نسائه اللاتى لم يكن يحمل لهن مثل تلك العاطفة الرومانسية التى يفتريها عليه هذا السفيه؟ ولقد شهد الكذوب رغم هذا أنه كان يراعى فى معاملتهن العدل الصارم الذى لا يعرف الحيف. وقديما قيل: إذا كنتَ كَذُوبًا فكن ذَكُورًا! إلا أن كاتبنا الشرير يكذب كثيرا لكنه ليس من الذاكرين، فلهذا يقع فى المعاطب. وهذا من إخزاء الله له ولأشباهه، إذ من يتطاول على الرسول لا يوفقه الله للفلاح أبدا. ثم نأتى إلى حادثة الإفك، وما أدراك ما حادثة الإفك؟ إن الكاتب، كما قلت، ينطلق فى ظاهر كلامه من كونه مسلما، كما أن اسمه يدل فى الأقل على أنه يريد الاشتهار بين المسلمين بأنه على دينهم. ولو كان مسلما لكفاه تبرئة القرآن الكريم لعائشة رضى الله عنها، إذ من يتهمها فى شرفها بعد ذلك حتى ولو بأسلوب الهمز والغمز لا يمكن أن يكون بالوحى الذى ينزل على محمد من المؤمنين. ولكن ما دام قد فعلها فلمز أم المؤمنين وغمزها وتهكم بها وبروايتها عن الواقعة فلننهج نهجا آخر ونقول: ترى لو أن عائشة كانت كما يقول أكانت تفعلها مرة ثم لا تكررها بعد ذلك أبدا؟ لكننا ننظر فى سيرتها فلا نرى إلا طهرا، ولا نشم إلا عطرا. ثم لو كانت فعلتها وزوجها حى وينزل عليه الوحى فكيف لم تفعلها ثانية بعد أن مات وخلا لها الجو ولم يعد هناك وحى تخشاه؟ بل إن نزول الوحى بتبرئتها وهى غير بريئة لَحَرِىٌّ أن يشجعها على الانحراف لأنه سوف يكون دليلا ما بعده دليل على أن زوجها ليس بنبى، إذ الله لا يجهل ولا يكذب. ولكننا ننظر فنجد أنها عاشت بعده عشرات السنين دون أن تعلق بها ولو همسة ريبة رغم أنها كانت تتمتع لدن وفاته بالشباب والجمال والذكاء والحيوية، نزولا على حكم القرآن بألا زواج لأحد من زوجاته من بعده أبدا. فكيف تلزم نفسها بهذا الحرمان الخطير إن كانت قد ارتكبت خطأ بما يعنى أن تبرئة القرآن لها تبرئة كاذبة أو على الأقل: خاطئة، ومن ثم فنبوة زوجها نبوة زائفة؟ ولا ننس أنها كانت شديدة الغيرة على النبى الكريم . فهل هذا صنيع امرأة يمكن أن تفكر مجرد تفكير فى خيانة الزوج؟ وكيف ظل صفوان، الذى اتهمها به المنافقون وتابعهم فى ذلك سفلة المستشرقين والمبشرين، يؤمن بمحمد ويخلص له ويحبه ويجاهد فى سبيل الله بعد ذلك، وبخاصة بعد أن نزل الوحى بتبرئته هو وعائشة بما يعنى، لو كان الخطأ قد وقع منهما، أن محمدا يكذب ويخترع من عنده ما يريد من أوحاء؟ ولقد ربأ بعض المستشرقين بأنفسهم عن ترديد هذا الاتهام السافل واستعفّوا أن يخوضوا مع الخائضين فى عرض عائشة سليلة البيت البكرى الشريف، ومنهم على سبيل المثال وليام موير كاتب سيرة النبى العظيم. إن مصيبة المفترين من المستشرقين والمبشرين أنهم، حين يكتبون عن عائشة وأمثالها من ذوات الفضل السامى، لا يستطيعون التمييز بينها وبين أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم. وهو خطأ منهجى فادح قبل أن يكون سقطة أخلاقية، إذ كيف نقيس سيدة كريمة تربت على تقديس العرض والشرف أكثر من تقديسها للحياة ذاتها إلى المرأة الغربية التى لا يزيد أمر العرض فى معظم الأحيان لديها عن قطعة من اللادن تمضغها برهة ثم تبصقها على الأرض دون أية مبالاة؟ وعلى نفس المنوال يردد الكاتب ما يقوله أمثاله من حقدة المستشرقين والمبشرين من أنه قد مدح اللات والعزى ومناة أثناء قراءته سورة "النجم" عند إعلانها على الكفار لأول مرة. ولقد أفاض علماء الإسلام قديما وحديثا فى تفنيد الرواية السخيفة التى أوردت ذلك، وبينوا تهافت سندها وما إلى هذا، وانتهَوْا إلى أنها من صنع بعض الزنادقة. والواقع أنه يكفى أن يقرأ المسلم فى أول تلك السورة قوله عن رسوله الكريم: "وما ينطق عن الهوى إِنْ هو إلا وَحْىٌ يُوحَى" كى يرمى هذه الرواية دُبْرَ أذنه بل تحت قدمه، إذ لو كان الرسول قد نطق فعلا جملتى "إنهن الغرانيقُ العُلَا وإنّ شفاعتَهنّ لتُرْتَجَى" لكان قد نطق عن الهوى، إذ تقول تلك الرواية المزعومة إنه كان يهوَى أن يقارب قومه حتى لا ينفروا منه ومن دعوته. كذلك لو نطق الرسول بهاتين الجملتين فكيف تركه ربه فلم يأخذ منه باليمين ولم يقطع منه الوتين حسبما جاء فى سورة "الحاقة": "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل لأخذْنا منه باليمين ثم لقطَعْنا منه الوَتِين"؟ هذا بالنسبة للمسلم، أما من فى قلوبهم مرض من نفاق أو كفر فإننا نقول لهم إن السورة كلها من أولها إلى آخرها هجوم صاعق على الأوثان وعابديها. فبالله كيف يُتَصَوَّر أن يكون هناك مدح للأوثان فى غمرة هذا الهجوم المدمدم عليها والتسفيه العنيف لعابديها؟ ثم إن الجملتين المذكورتين تثبتان الشفاعة لهذه الأوثان دون تعليق ذلك على مشيئة الله سبحانه، وهو ما لم تفعله الآيات القرآنية مع أى كائن آخر بما في ذلك الرسل والملائكة أنفسهم. فكيف يصح قبول هذا، وبخاصة إذا عرفنا أنه قد جاء فى تضاعيف السورة قوله عن تلك الأوثان: "إِنْ هى إلا أسماءٌ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"؟ وهل يظن أحد أن المشركين، لو كان الرسول قد نطق فعلا هاتين الجملتين، كانوا ليفلتوا هذه الفرصة من أيديهم دون أن يقيموا الدنيا ويقعدوها، وهم الذين لم يكونوا يَعِفّون عن أية وسيلة لمحاربته والتشنيع عليه وعلى دينه مهما حَقُرَتْ وأمعنتْ فى الضلال؟ ثم لقد كان الرسول طَوَالَ سنوات الدعوة نموذجا فذا فى صلابة الاستمساك بالوحدانية، فكيف يصح أن يدور فى خاطر أحد أن هذه الصلابة قد لانت فى تلك الواقعة؟ وزيادة على ذلك فإن التحليل الأسلوبى لهاتين الجملتين ينفى نفيا قاطعا أن تكونا من نسيج القرآن الكريم. لقد بدأت الآيات التى تتحدث عن الأوثان الثلاثة فى سورة "النجم" هكذا: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى". ومن ينظر فى السياق الذى ورد فيه تركيب "أفرأيتم" فى المواضع الإحدى والعشرين فى القرآن، وكلها فى خطاب الكفار، سوف يجد أنه لم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل أتى فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم والتقريع والتهديد وما أشبه، فكيف يمكن أن يشذ هذا التركيب فى سورة "النجم" ويجىء فى سياق مراضاة الكفار ومدح آلهتهم؟ ثم إن كلمة "ترتجى" غريبة عن الأسلوب القرآنى، إذ ليس فيه فعل من أفعال الرجاء على صيغة "افتعل". أما على الرواية الأخرى التى استعملت كلمة "تُرْتَضَى" بدلا من "ترتجى" فالرد على ذلك هو أن هذا الفعل لم يستعمل فى القرآن قط واقعا على الشفاعة، وإنما يستخدم مع الشفاعة الأفعال التالية: "تنفع، تُغْنِى، تَمْلِك". كذلك لم يرد ضمير الشفاعة فى القرآن نائب فاعل قط كما هو الحال فى الجملة المذكورة. وبهذا نغلق هذا الباب نهائيا أمام كل جهول يحسب أنه يستطيع أن يجد مغمزا فى كتاب الله أو فى رسول الله. وبالنسبة لليهود فإن ما قاله الكاتب من أنه كان، وهو فى مكة لا يزال، يعرف أن اليهود موحدون مثله (ص125) هو كلام عارٍ عن الصحة جملة وتفصيلا. وحسبنا أن نقرأ قصة موسى وبنى إسرائيل فى الوحى المكى لنعرف أن القرآن قد دمغهم منذ ذلك الوقت المبكر بالارتداد عن الوحدانية وعبادة الأوثان والعصيان وانتهاك حرمة السبت كلما سنحت لهم فرصة. نقرأ ذلك فى سورة "الأنعام" و"الأعراف" و"الإسراء" و"طه". إن المستشرق الكذاب يريد أن يقول إن الرسول، بعدما كان يثنى على اليهود لما هم عليه من توحيد ودين صحيح، عاد فانقلب عليهم لا لشىء إلا لأنهم لم يؤمنوا به، وهم لم يؤمنوا به لأنهم أَلْفَوْا دينهم أفضل من دينه، فلم يشاؤوا أن يفرّطوا فيما بأيديهم. هذا هو حل الشفرة الخبيثة! أما قوله بعد ذلك إن اليهود هم الذين كانوا يحمون النبى عليه السلام فتأتأة أطفال لا قيمة لها. إن التاريخ لا يُخْتَرَع اختراعا كما يحاول أن يفعل المؤلف استهزاء منه بعقول قرائه. ثم متى بالله كان اليهود يعرفون معنى الإنسانية على هذا النحو؟ وإذا كانوا لم يحموا نبيهم موسى بل تركوه يواجه الجبارين وحدهم قائلين له: "اذهب أنت وربك فقاتلا. إنا ها هنا قاعدون"، أما هم فأعلنوا أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة ما دام أولئك الجبارون فيها، فمن أين يا ترى واتت اليهودَ الشجاعةُ والمروءةُ والشهامةُ مع نبى غير نبيهم، نبى يؤكد قرآنه أنهم انحرفوا وضلوا عن سواء السبيل وكفروا بما نزل على موسى نفسه؟ ثم ممن حمى اليهود محمدا؟ لقد هاجر عليه السلام بناء على اتفاق العَقَبة مع الأنصار، الذى ينص على أن يؤمنوا به ويحموه هو ودينه من أى خطر. فما دخل اليهود فى ذلك؟ ثم إن اليهود قد عالنوه بالعداوة منذ اللحظات الأولى. وفوق ذلك فقد بان غدرهم سريعا لم يتلكأ، إذ لما طالبهم الرسول عليه السلام بالاشتراك فى دفع إحدى الديات حسبما تنص معاهدة الصحيفة بين طوائف مواطنى المدينة تمثلت استجابتهم فى محاولة قتله وهو جالس إلى سور حصن من حصونهم بالتخطيط لرمى رحى من فوق السور على رأسه. ثم مرة أخرى تعرضوا لامرأة مسلمة كانت تشترى شيئا من سوقهم، فكشفوا سوأتها وفضحوها وأخذوا يتصايحون استهزاء بها، وثارت معركة بينهم وبين بعض المسلمين الغيارى الذين لم يعجبهم هذا الإجرام الفاحش وسقط قتلى. فمن أين للمؤلف الكذاب بأن اليهود قد حَمَوُا النبىَّ عليه السلام؟ إنه يريد تصويره بصورة الجاحد للجميل. فانظر إلى هذا الخبث الإبليسى والتدليس المنحط! ومثل ذلك زعمه أنهم أرادوا مشاركة المسلمين الحرب فى غزوة أحد. وهو زعم كاذب تمام الكذب. لقد انقلبوا عليه عقب انتصار الإسلام فى غزوة بدر، وأخذوا يحقرون من شأن ذلك النصر ويهددون الرسول قائلين: "لايَغُرَّنَّك أنك قابلت قوما لا علم لهم بالحرب. فإنك إن لَقِيتَنا لتعلَمَنَّ أننا نحن الناس"! وقد انتهى أمرهم معه قبل أُحُد إلى أن اعتدى بعض بنى قينقاع على عرض سيدة مسلمة كما قدّمنا قبل قليل، وقتلوا المسلم الذى هب لحمايتها والانتقام لشرفها، فما كان منه سوى أن أجلاهم عن المدينة تخليصا لها من شرهم وتآمرهم ونكرانهم جميل أهلها الطيبين الذين آوَوْهم عندما نزلوا عليهم قديما. فكيف بعد ذلك كله يمكن أن نصدق زعم الكاتب المتخفى أنهم كانوا يريدون الوقوف معه فى أُحُدٍ ضد المشركين؟ لقد بلغت بهم الوقاحة والكفر بدينهم نفسه أن قالوا يوما لهؤلاء المشركين إن وثنيتهم التى هم عليها خير من التوحيد الذى أتى به الرسول عليه السلام. ثم من من المؤرخين يا ترى قال إنهم عرضوا عليه معاونته فى غزوة أحد؟ وأين؟ أم ترى المسألة مجرد كلام، والسلام؟ هذا، ولا أظن أحدا يمكن أن يَصْغُوَ بأذن التصديق إلى قصة نوروز، التى لا أدرى من أى واد من أودية الوهم والضلال قد أتى بها الكاتب. ترى هل كان هناك أصلا شخص من يهود المدينة اسمه نوروز؟ بل هل كان هذا اسما من أسماء الأشخاص فى بلاد العرب كلها حينذاك؟ ثم إن عيد النوروز لم يعرف إلا فى العصر العباسى، وهو عيد فارسى. وليست هناك من وشيجة تربطه باليهود البتة. أإلى هذا المدى تبلغ أحقاد اليهود وأكاذيبهم على محمد ودينه؟ ويبلغ بالكاتب التدليس أقصى مداه حين يتهم الرسول عليه السلام بأنه نقض الصحيفة التى كانت تنظم العلاقات بين طوائف السكان فى المدينة عقب هجرته إليها، وتنص على وجوب التناصر بينهم متى وقع اعتداء على أى منها. إن تاريخ اليهود معه عليه الصلاة والسلام وتآمرهم عليه ومسارعتهم فى كل مناسبة إلى نقض الصحيفة المذكورة معروف للقاصى والدانى. وقد اعترف بذلك واحد كالدكتور إسرائيل ولفنسون نفسه، وهو باحث يهودى ألف كتابا عن بنى دينه فى جزيرة العرب. لكن المدعو: أسد بك يظن أنه يكفى أن يخال ويتوهم حتى تكون خيلته وتوهماته وقائع تاريخية صحيحة! ولقد ظل اليهود يكررون بغباء منقطع النظير أخطاءهم القاتلة ذاتها حتى كانت خيانتهم العظمى فى غزوة الخندق، فلم يكن بد من التنكيل بهم وإذاقتهم عدلا وحقا من نفس الكأس التى كانوا يريدون إذاقة المسلمين منها غدرا وخيانة. وغريب أن يلمز محمد أسد بك الصحابى الجليل سعد بن معاذ يريد أن يوهم القراء الغربيين الذين لا علم لهم بحقيقة تاريخ اليهود مع سيد الرسل أن حكمه بإعدام المقاتلين الخونة الذين ظاهروا المشركين فى تلك الغزوة وسبى الذرية والنساء هو حكم ظالم. ترى ماذا كان الكاتب يريد سعدا أن يفعل؟ هل كان يريده أن يربت على أكتاف الخونة ويأمر بخلع الأوسمة والنياشين عليهم؟ لقد كان أولئك الأرجاس يعملون على القضاء على الإسلام وإبادة المسلمين على بكرة أبيهم. ولا بد أن يكون الجزاء من نفس جنس العمل. ومع هذا فقدكان حكم سعد رضى الله عنه أخف كثيرا من حكم العهد القديم فيما هو دون ذلك، فقد جاء فيه: "حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. 12وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ". ونبلغ قصة سحر النبى عليه الصلاة والسلام التى كان يتوهم فيها إتيان نسائه رغم أنه لم يكن يأتيهن، مما جعلهن ينظرن إليه فى شبق وغيظ. وبادئ ذى بدء أسوق الحديث الذى عض عليه الكاتب كأنه كلب وقع على قطعة من العظم. يقول الحديث، وهو من رواية البخارى: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُحِرَ حتى كان يَرَى أنه يأتي النساءَ ولايأتيهِنَّ. قال سفيانُ: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحْرِ إذا كان كذا. فقال: يا عائشةُ، أعَلِمْتِ أن اللهَ قد أفتاني فيما استفتَيتُه فيه؟ أتاني رجلانِ، فقعَد أحدُهما عند رأسي، والآخَرُ عند رِجْلي، فقال الذي عند رأسي للآخَرِ: ما بالُ الرجلِ؟ قال: مَطْبوبٌ. قال: ومَنْ طَبَّه؟ قال: لَبِيدُ بن أعْصَمَ (رجلٌ من بني زُرَيْقٍ حَلِيفٌ ليَهُودَ كان منافقًا). قال: وفيمَ؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ. قال: وأينَ؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذكَرٍ تحت رَعُوفَةٍ في بئرِ ذَرْوانَ. قالتْ: فأتى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البئرَ حتى استخرجه، فقال: هذه البئرُ التي أُرِيتُها، وكأن ماءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأن نخلَها رُؤوسُ الشياطين. قال: فاستُخْرِجَ. قالتْ: فقلتُ: أفَلا (أي تنَشَّرَتْ)؟ فقال: أما واللهِ فقد شفاني اللهُ، وأكرَهُ أن أُثِيرَ على أحدٍ من الناسِ شَرًّا". وهناك، كما هو معروف، من ينكر وقوع السحر للنبى لأنه يناقض رد القرآن على متهميه بالسحر. وأنا معهم فى هذا، وأرى أيضا أنه لا يليق بنبوته أن يكون أعداؤه قد تسلطوا عليه بالسحر حتى وصل إلى تلك الحالة التى تثير الشفقة والرثاء من جانب محبيه، والشماتة والابتهاج من جانب شانئيه، ويظهر فيها عاجزا لا يمكنه هو أو غيره أن يصنع إزاءها شيئا. بل إنه ليبدو وكأنه غير واع بالأمر أصلا. وهذه معضلة أخرى أنكى وأشد. وفوق هذا ففى النص أشياء جديرة بالملاحظة: فمثلا تقول القصة إن عليه السلام بعد أن سُحِرَ كان يرى أنه يأتى نساءه ولا يأتيهن. ولا أدرى كيف يكون ذلك. لو قيل إنه كان يريد إتيانهن لكنه لا يستطيع لكان الكلام مفهوما بغض النظر عن موافقتنا على صحته أو لا. أما القول بأنه كان يرى أنه يأتيهن لكنه لا ياتيهن فأمر لا يقبل التصور أساسا. ثم تمضى القصة قائلة إن ملكين قد أتياه وهو نائم، فسأل أحدهما الآخر: ما بال الرجل؟ وكأن ملكين قد أرسلهما الله لمعالجة رسوله يمكن أن يجهلاه إلى هذا الحد فلا يعرفا أنه رسول الله بل مجرد رجل من ملايين نكرات الرجال. إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تخيلنا أن الملكين كانا مدلجين ذات ليلة على غير هدى فصادفا رجلا مجهولا نائما تحت شجرة، فقالا ما قالا. كذلك نفهم من القصة أن أحدهما لم يكن يعرف ماذا أصاب الرسول، إذ يسأل زميله: ما بال الرجل؟ فلماذا إذن كان مجيئهما إليه ؟ كذلك لم وضع الساحر سحره فى بئر ولم يضعه فى بيته مثلا حتى يطمئن إلى أن أحدا لن يمكنه الوصول إليه، فضلا عن أنه سوف يكون أسهل عليه من تكلف الذهاب إلى البئر المذكورة والنزول فى الماء والطين لإخفاء العمل السحرى الذى جهزه واحتمال رؤية أحد من الناس له وهو يفعل ذلك؟ ولماذا لم تشف السماء النبى مباشرة بدلا من هذا السبيل المعقد الذى قرأناه؟ وتقول القصة إن النبى، بعد استخراجه السحر، لم يشأ أن يثير على أحد من الناس شرا. وهى عبارة غامضة: فهل المقصود بالناس هنا هم المسلمون؟ لكن أى شر يمكن أن يصيبهم جراء ذلك؟ هل هو الخوف من الفتنة؟ لكن الفتنة وقعت وانتهى الأمر، إذ علم المسلمون أنه مسحور وعاجز عن فعل أى شىء ينقذه من الحالة السيئة التى كان عليها. بل إن الروايات الأخرى فى البخارى ومسلم وابن حبان تقول إنه ، حين قصد البئر ليستخرج منها السحر، قصدها فى جماعة من أصحابه، بالإضافة إلى أنهم لا بد أن يكون قد ثار فى أذهانهم السؤال التالى: كيف ينفى القرآن عن الرسول السحر، وهو ذا أمامنا مسحور بلا أى جدال؟ أم هل المقصود بأحد من الناس هو الساحر؟ لكن ألم يأت فى الأحاديث أن الساحر يجب أن يُقْتَل؟ فلماذا لم يطبَّق هذا الحكم عليه؟ ثم من استخرج السحر من الماء؟ أهو الرسول؟ فهل يليق به ، وهو النبى والحاكم والقائد والمشرع والقاضى، أن ينزل بئرا ليبحث فيها عن عمل من أعمال السحر؟ أم هو واحد من الصحابة؟ فمن هو يا ترى؟ ولماذا لم يقدم لنا تقريرا عما رأى وسمع؟ وهل اكتفى الساحر بسحره مرة واحدة فقط؟ وأين تفاصيل معاناة الرسول عليه السلام؟ وفى الرواية الموجودة فى "لباب النقول" للسيوطى يأمر الرسول صحابته بأن يذهبوا إلى البئر المذكورة فينزحوا ماءها حتى تظهر الصخرة التى وضع السحر تحتها فيستخرجوه ويحرقوه. وهو عمل مرهق يأخذ وقتا ويلفت الأنظار، ولا يتسق مع قول الرسول إنه لا يريد أن يثير بين الناس فتنة، إذ لا بد أن يعلم به القاصى والدانى من أهل المدينة على الأقل. وهذا نص رواية "لباب النقول: "مرض رسول الله مرضا شديدا، فأتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما ترى؟ قال: طُبَّ. قال : وما طُبّ؟ قال: سُحِر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: أين هو؟ قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في كرية. فأْتُوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة ثم خذوا الكرية واحرقوها. فلما أصبح رسول الله بعث عمار بن ياسر في نفر، فأَتَوُا الركية فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكرية وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة. وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة: قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس". ولنلاحظ أن أحد الرجلين اللذين أتيا النبى فى الرؤيا، والمفروض أنهما ملكان، لا يعرف معنى "طُبّ" كما هو واضح. فهل يعقل هذا؟ ثم إن هذه الرواية تتحدث عن إحراق السحر، بينما فى رواية أخرى للبخارى غير الرواية السابقة لا إحراق للسحر ولا حتى استخراج له، علاوة على أن لبيد بن الأعصم فيها يهودى وليس من الموالسين معهم. وفى رواية صحيحة فى "فتح البارى" لابن حجر نقرأ ما يلى: "فقالت أختُ لبيدِ بنِ الأعصمِ: إن يكن نبيًّا فسيُخْبَرُ، وإلا فسيُذْهِلُهُ هذا السِّحْرُ حتَّى يُذْهِبَ عقلَه". وها هو ذا قد أخبر الله نبيه بالسحر وشفاه منه وأبطل كيد ابن الأعصم، فماذا فعلت أخته؟ ولماذا لم يحاجّها المسلمون بشفاء رسول الله ويطالبوها هى وأخاها باعتناق الإسلام؟ لكننا ننظر فنجد أن الأمر قد أُكْفِئَ عليه ماجور وأُهْمِل تماما بعد ذلك، وكأنه لم يكن. بل إن لبيد بن الأعصم، فيما لاحظت، لا يأتى له ذكر فى غير هذا الحديث. أفلم يكن للرجل أى دور فى الحياة غير سحر النبى عليه السلام؟ لكأنه ممثل من من ممثلى الكومبارس ممن يظهرون فى المسرحية أو الفلم فى لقطة خاطفة يقولون فيها جملة سريعة ثم يختفون تماما حتى نهاية القصة، وهم مع ذلك سعداء أن قُدِّر لهم الظهور فى عمل فنى جماهيرى مع الممثلين الكبار. كذلك من الصعب جدا أن نتصور نازحى البئر من الصحابة الكرام وقد سكتوا تماما بعد الحادثة فلم يتعرضوا هم ولا غيرهم من المسلمين للبيد بن الأعصم هذا ولو بتقريع. إن أمرا كهذا لا يمكن أن يكون قد مر مرور الكرام على النحو الذى رأينا وكأننا قبالة موضوع نظرى مجرد لا موضوع حياة يومية فيها معاناة وحيرة وألم ومؤامرات وصراعات؟ ألم يكن للصحابة رد فعل على ما يَرَوْنَه فى رسولهم الكريم؟ أين عمر مثلا فلم يهم بتمحيص المسألة حتى يضع يده على الفاعل الشرير ويعاقبه العقاب اللازم؟ لقد رأينا فى حادثة الإفك وغيرها عالما موارا من الوقائع والمشاعر والاتهامات والردود والتقصى والتمحيص، أما هنا فكلمتان سريعتان أقرب إلى عالم التنظير والتجريد لا تشفيان غليل الباحث. هل يعقل أن يحدث هذا لزعيم دولة وحاكمها وقائدها العسكرى وقاضيها وموجهها، وقبل ذلك كله رسولها، ثم لا نسمع شيئا عن موقف أهل المدينة تجاه هذا الأمر سواء من المسلمين المؤمنين، أو خصومه من اليهود والمنافقين والكافرين؟ وقبل ذلك كله كيف يرضى الله سبحانه و تعريض نبيه لهذا الاضطراب القبيح المُذْهِب للوعى فى مثل هذا الأمر الحساس على يد واحد من أعدائه؟ ثم إن الرواية تتحدث عن نسائه جميعا رضوان الله عليهن، فلماذا لم نر فى الصورة ونسمع غير عائشة؟ أين رد فعل حفصة؟ أين رد فعل زينب؟ أين رد فعل أم سلمة؟ أين رد فعل ميمونة؟ وأين رد فعل بقية أمهات المؤمنين؟ بل أين رد فعل صفية بالذات، وهى يهودية، وكان ينبغى أن يكون لها تعليق على ما صنعه الساحر الموالس لقومها أو الذى هو منهم؟ ويطنطن الكاتب بذكاء اليهود ومهارتهم فى الجدال زاعما أنهم كانوا يتفوقون على محمد كلما دخلوا معه فى مناقشة دينية. لكن هذه تخرصات وأحاديث خرافة، فقد سجل القرآن الكريم تلك المناقشات، فلم نجد إلا قولهم مثلا عن رب العزة: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، أو قولهم لرسول الله: "راعِنَا"، يتظاهرون بأنهم يلتمسون منه النظر إليهم، بينما هم فى الواقع يقصدون وصفه بلغتهم بالرعونة، أو قولهم لمشركى قريش إنهم "أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا" بمعنى أن وثنيتهم هى الحق، ودين محمد التوحيدى هو الباطل. فهل هذه هى المهارة فى الجدال التلمودى؟ ألا بئست المناقشات إذا كانت على هذا النحو من الانحطاط العقيدى والأخلاقى والذوقى! وعلى الجانب الآخر كان القرآن يفضحهم ويخطئهم ويتهمهم بالكذب والعبث بكتابهم ويتحداهم أن يأتوا بدليل على ما يدَّعونه من أباطيل، فيعجزون ويبوؤون بالخزى والهوان، لكنهم أبدا لا يرعوون. وهذه بعض الشواهد القرآنية على ما نقول: "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (البقرة/ 58- 59). "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (البقرة/ 63- 65). "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة/ 75- 79). "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (البقرة/ 84- 89). "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (آل عمران/ 72- 74). "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (آل عمران/ 93- 94). "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة/ 13). "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة/ 32). "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة/ 43- 45). "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة/ 78- 79). "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ" (الأنعام/ 146). "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأعراف/ 138- 140). "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" (الأعراف/ 148- 152). "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (الأعراف/ 163). "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة/ 5- 8)... ولقد كانوا، قبل هجرته إلى يثرب، يقولون لأهلها إنه سوف يأتيهم عما قريب رسول سوف ينضمون إليه ويحاربونهم تحت رايته، فيستأصلونهم. لكن ما إن جاءهم الرسول فعلاحتى انقلبوا عليه وكانوا أول كافر به. ولقد فضح التواءَهم وخبثَ طويتهم أحدُ علمائهم الكبار، وهو عبد الله بن سلام، فى قصة مشهورة عن دخوله الإسلام، ولكنهم لم يستحوا. كما أن صفية أم المؤمنين قد أخبرت النبى بما كانت قد سمعته فى صباها الباكر من حوار بين أبيها حُيَىّ بن أَخْطَب وعمها يعترفان فيه بأنه عليه السلام هو النبى الموعود، لكنهما يتعاهدان رغم ذلك على الكفر به وبغضه وحربه إلى آخر الدهر. وقد كان ما سمعته فى هذا الحوار سببا فى دخولها الإسلام لدى أول سانحة، وفى حبها للرسول وإخلاصها الشديد له وتحملها احتكاك بعض زوجاته الأخريات جراء غيرتهن من هذا الحب الذى كانت تبديه له. فأين الذكاء والبراعة هنا؟ إنهم لأغبى خلق الله فى أمور الخير والتخطيط للمستقبل البعيد، أما فى أمور الخبث والشر القصير النظر فهم أساتذة لا مشاحَّة فى هذا. وإلا فلم يبوؤون بالخسران فى النهاية أمام كل الأمم؟ ولماذا يلعنهم ربهم وأنبياؤهم فى كل سِفْرٍ من أسفار كتابهم المقدس؟ ومما ينبغى التريث إزاءه من دعاوى الكاتب وتبيين عواره وتهافته ما مدح به الإسلام من أنه هو الدين الوحيد الذى يفتح باب الخلاص والنجاة يوم القيامة أمام أهل الأديان الأخرى دون أن يعتنقوه. وهو يستند فى هذا إلى قوله : "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وهذا فهم خاطئ تمام الخطإ. وللأسف انجر إليه بعض المسلمين. ووجه الخطإ فيه هو التسرع فى ولوج تفسير الآية من غير بابها، إذ هى تشترط لنجاة غير المسلمين الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فيظن المتسرعون أن اليهود والنصارى والصابئين والمجوس يؤمنون كما يؤمن المسلمون بالله واليوم الآخر. فإذا عمل أى منهم صالحا فقد ضمن الجنة. لكن لو كان الأمر كذلك فلم اشترطت الآية الشريفة فى غير المسلم الإيمان بالله واليوم الآخر إذا كان ذلك أمرا مفروغا منه كما يظن هؤلاء؟ لقد ذكرت الآيتان 150- 151 من سورة "النساء" أن "الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ، ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا. وأعتدْنا للكافرين عذابًا مُهِينًا". ولا ريب أن معناهما واضح وضوحا يخزق العين، إذ تؤكدان أن الإيمان لا يتحقق إلا إذا شمل جميع الرسل والأنبياء، فكيف يقال مثلا فى المجوسى الذى لا يؤمن بموسى ولا بعيسى ولا بمحمد أو اليهودى الذى لا يؤمن بعيسى ولا بمحمد أو النصرانى الذى لا يؤمن بمحمد أنه مؤمنٌ ناجٍ يوم القيامة مع أن الآيتين تتوعدانهم بالعذاب المهين؟ ولا تتوقف إساءات الكاتب المستخفى وراء اسم "محمد أسد بك" عند هذا المدى، بل رأيناه يتهمه بالاستبداد ونشر الرعب فى المدينة واللجوء إلى السيف فى سبيل إخضاع الناس له ولدينه، وإِنْ غَلَّفَ هذا كله (على طريقته فى تحلية السم) بالقول بأنه عليه السلام إنما فعل ذلك من أجل إقامة الدولة الإلهية (أو "دولة الله" كما سماها مرارا)، وأن هذا هو الذى سوغ له الاستعانة بالتآمر والغدر وسفك الدماء والسلب والنهب. ومقطع الحق فى هذه المزاعم أنها تقلب الأمور رأسا على عقب. فالرسول هو الذى وقع عليه الاضطهاد والأذى من قِبَل المشركين، الذين لم يكتفوا بذلك كله بل خططوا لقتله عشية الهجرة كما هو معلوم لولا أَنّ الله لَطُفَ به فنجاه من كيدهم. ولما كُتِبَت الصحيفة بين المسلمين واليهود وغيرهم من مواطنى يثرب كان اليهود هم الذين نقضوها مرة بعد مرة بعد مرة، واكتفى عليه السلام فى المرتين الأوليين بإجلاء بنى قينقاع وبنى النضير، لكن عندما طف الصاع فى المرة الثالثة كان لا بد من عقابهم العقاب الصحيح: عقاب الخيانة العظمى، الذى كان مع هذا أخف كثيرا مما يأمرهم به كتابهم فى التنكيل بالأمم القريبة منهم دون أن تكون قد ارتكبت فى حقهم شيئا من الخيانة. ثم لا ننس المنافقين، الذين كانوا يشكلون عاملا من أخطر عوامل القلق، ورغم هذا اتسع لهم صدره الشريف وصبر عليهم حتى النهاية بل صلى على زعيمهم رأس الكفر والضلال ابن أبى سلول حين هلك وراح فى ستين داهية! أما المؤمنون فكانوا يلتفون حول رسولهم فى حب وتعظيم دون خوف أو توجس. وكانوا فى تعاملهم معه يتمتعون بأقصى صدر من الحرية فى إبداء الرأى والمشاروة والمراجعة والاعتراض، ولم يحدث أنْ نَهَر أيا منهم أو هدده أو شتمه أو حتى صاح به مجرد صياح. فعجيب إذن أن يتحدث الكاتب الشيطانى عن الدولة البوليسية التى أقامها الرسول فى المدينة حيث كان الناس يؤخَذون بأتفه قدر من الظِّنَّة! ترى لماذا لم يورد لنا أسماء الرجال الذين كانوا يتجسسون على أهل المدينة ويقبضون عليهم ويسوقونهم إلى الرسول؟ ولماذا لم يورد ولو واقعة واحدة من وقائع القبض والتنكيل؟ لقد بلغ من تواضعه لرعيته وإلانة جانبه لهم وخلطه نفسه بنفوسهم فى بساطة متناهية أن كان الأعرابى الفَدْم يأتى إلى بيته عليه السلام فيصيح به مناديا: "يا محمد" كى يخرج لهم، أو يمسك به من جيب جلبابه ويشده حتى يؤثر الشدّ فى رقبته الشريفة، أو يغلظ فى حديثه إليه فى جلافة صائحا: "اعدل يا محمد"... إلخ، ولم يحدث مع ذلك أن عاقب أحدا منهم أو حتى أَنَّبَه. وحينما فتح مكة وصار أعداء الأمس الذين لم يراعوا فيه ولا فى أتباعه إِلًّا ولا ذمةً فى قبضة يده بل تحت قدميه ورهن إشارة منه لم يزد على أن قال: "اذهبوا، فأنتم الطلقاء"، وقد كانوا يتوقعون أن يذوقوا على يديه أبشع ألوان العقاب. أفمن يصنع ذلك مع أعدائه الألداء من كفار مكة يمكن أن يفكر فى نشر الرعب فى قلوب أحبائه وخلصائه من المؤمنين فى المدينة؟ إن المستبدين الذين يخنقون أنفاس رعيتهم: إذا ما ماتوا انقلبت الرعية عليهم وقالت فيهم ما قال مالك فى الخمر، لكننا ننظر فى موقف المسلمين من بعد موته حتى اليوم فنجد حبهم له وإجلالهم إياه وتفانيهم فى طاعته وتمسكهم بالدين الذى جاءهم به ثابتا كالجبال الشوامخ الرواسخ. فما دلالة ذلك يا ترى؟ وقد لجأ الكاتب إلى حيلة خبيثة للتعمية على عقول المسلمين ظنا منه أنه بهذا مستطيع أن يقنعهم بما قاله فى حق الرسول الأعظم. ألا وهى قوله إن الله قد أراد لنبيه، بوصفه بشرا، أن يقترف كل الخطايا التى يمكن أن يقع فيها البشر. والواقع أن هذه الفكرة قمينة أن تنسف النبوة نسفا لأن النبى إنما هو شخص يتفوق على سائر البشر بالمستوى السامق الذى تبلغه أخلاقه الطاهرة وسلوكه الزاكى وعقله الكبير. أما المؤلف الماكر فيريد منا أن نقتنع بعكس ذلك. ولو صح ما يقول فما الفرق حينئذ بين الرسل وأهل الإجرام؟ ذلك أن المجرمين إذا كانوا يقتلون أو يزنون أو يسرقون أو يغدرون أو يكذبون فالرسل أيضا يقتلون ويسرقون ويزنون ويغدرون ويكذبون مثلهم. وعلى هذا فالمسلم العادى الذى لا يقتل ولا يزنى ولا يسرق ولا يكذب ولا يغدر ولا يشرب الخمر، وكثيرٌ ما هؤلاء الذين يصدق عليهم من المسلمين ذلك، هو أسمى خلقا وأنقى سلوكا من الأنبياء. وعندئذ يحق لكل إنسان أن يسأل: وما فائدة إرسال الرسل إذن إذا كانوا هم أول من يخرج على ما ينادون به أو يعجزون عن تحقيقه؟ وعندئذ أيضا لا يكون لقوله : "اللهُ أَعْلمُ حيث يجعل رسالتَه"، وقوله سبحانه يخاطب نبيه موسى: "ولِتُصْنَع على عينى" أو قوله يصف نبيه محمدا: "وإنك لعلى خلق عظيم" أى معنى. فهل هذا معقول؟ أيكون الله قد قال ذلك كله كذبًا ومَيْنًا؟ أستغفر الله مما يرمى إليه هذا اليهودى الحقير! لكن لا بد أن نعرف أن الكاتب، حين قال فى حق الرسول ما قال، كان فى ذهنه ما يمتلئ به العهد القديم من حكايات عن الأنبياء تشيب لهولها الولدان من بشاعة الجرائم التى يقول مؤلفو العهد القديم إنهم عليهم السلام قد اقترفوها: فنوحٌ يظل يعبّ من الخمر حتى يسكر وينطرح على الأرض عارى السوأة. وإبراهيم لا يجد حرجا فى أن يقدم زوجته للملك حين يشعر أنه يريدها لمتعته، وينصرف من حضرته فرحا بما حصل عليه من المواشى تعويضا عن "الهدية" التى تركها له ومضى. ولوط تسقيه ابنتاه خمرا ثم تنامان معه الواحدة بعد الأخرى وتحبلان منه. وداود يطّلع من فوق سطح قصره على امرأة قائده وهى تستحم فى فناء البيت المجاور، ثم يتآمر على قتل الزوج المسكين المتفانى فى طاعته وحماية دولته كى يخلو له وجه المرأة التى تزوجها بعد ذلك وأنجب منها سليمان. وسليمان لا يجد غضاضة فى أن تعبد زوجاتُه الوثنياتُ الأصنامَ فى بيته... إلى آخر هذه العفونات والنتانات التى نسبها هؤلاء الأفاكون إلى صفوة خلق الله بكل بجاحة ووقاحة، فجاء كاتبنا وأراد أن يزيد الطينَ بِلَّةً بل بِلَّاتٍ زاعما أن محمدا إذا كان قد سفك الدماء وغَدَرَ وأضاف إلى القرآن ما ليس منه فى مدح اللات والعزى ومناة وغلبته شهوته إلى النساء فهى تصرفات طبيعية جدا لأنه بشر، وما دام بشرا فلا بد أن يرتكب كل خطيئة يمكن أن يقترفها بشر. ترى بالله ماذا يتبقى إذن من النبوة؟ وكم تساوى حينئذ؟ إنها تصبح كحزمة الفُجْل أيام كانت العَشَرَةُ منها بقِرْش! كذلك لم يَدَعْ أسد بك فرصة تمرّ دون أن يهتبلها ليشوه شخصيات الصحابة الكرام. وقد رأيناه يغمز مرتين على الأقل عَمْرَ بن العاص بأن أمه كانت عاهرة. لقد كانت أمه رضى الله عنه من سبابا الجاهلية وانتقلت من يد إلى يد حتى استقرت عند العاصى أبيه، وكانت تحترف الغناء كأمثالها من القيان فى ذلك الزمان. ولتكن أم عمرو بعد ذلك ما تكون فما الذى يضير عمرا فى هذا؟ أهو الذى صنعها وسواها وزين لها طريق الخطإ والانحراف؟ إن الفتى ليس هو الذى يقول: "كان أبى أو كانت أمى"، ولكن الفتى من يقول: "هأنذا". ولقد قالها عمرو فى مسمع التاريخ، فصغا التاريخ له منصتا بجمع انتباهه وملء وعيه وكيانه، وحفظ بطولاته وإنجازاته وفتحه البلاد وتدويخه إمبراطورية الرومان وامتلاكه درة تاجها أرض الكنانة، التى تدين له بتحررها من الاستعمار الرومانى ودخولها الإسلام الحنيف وتعرُّب لسانها. والغرب لا يستطيع أن ينسى لعمرو ما فعله بالإمبراطورية الرومانية، فلذلك يحاول النيل منه بلسان ذلك المستشرق وأمثاله بالإيماء إلى ما كانته أمه فى الجاهلية. وعجيب أن يلجأ أسد بك إلى هذا، وهو الغربى الذى تؤمن حضارته بالفردية وتعرف للشخص قيمته فى ذاته. كما أن الانحراف الجنسى لا يشكل عندهم أية مشكلة، فكل إنسان حر فيما يفعل بجسده، والجنس عندهم كالطعام والشراب والهواء، لا حرج فيه بأى حال من الأحوال. ولكن لا عجب فى الحقيقة، فكله فى سبيل الرغبة فى إهانة الإسلام ورجالاته يهون. أما دعواه باحتقار النبى عليه السلام لعمه العباس فأمر غير وارد البتة، فقد كان محمد من نبل النفس واحترام الكبير، فضلا عن أن يكون هذا الكبير هو عمه، بحيث لا يتصور أن يخطر هذا الشعور بنفسه نحو العباس، إذ ما الذى فعله العباس حتى ينطوى قلبه له على الاحتقار؟ إننا لم نسمع أنه قد احتقر عمه أبا لهب رغم كل ما صنعه أبو لهب وزوجته به وموته على الكفر، فكيف يحتقر عمه العباس، الذى آمن به ووقف معه ليلة العقبة الثانية، وكذلك يوم فتح مكة، وهما من أهم المناسبات فى حياته المباركة العظيمة؟ وكان العباس من القلائل الذين بَقُوا حوله عليه الصلاة والسلام حين تفرق عنه معظم الصحابة بسبب ما أخذهم من مباغتة هوازن، التى انصبت عليهم من فوق الجبال والتلال، وهم مطمئنون إلى أنهم لن يُغْلَبوا من قلة. لقد كان النبى أكبر وأعظم وأنبل من أن يمر بقلبه الكبير الرحيم شعور الاحتقار تجاه أحد، فكيف يواتى أىَّ إنسان عنده مسكة من عقل القولُ بأنه كان يحتقر عمه العباس لأنه تأخر فى دخول الإسلام، فضلا عن أن يكون أعظم الناس نصيبا من احتقاره كما قال المؤلف الحاقد المنحط فى موضع آخر من الكتاب؟ لقد كان الرسول يكاد يبخع نفسه حزنا وألما على من لا يصغون لدعوة الحق التى أتى بها بسبب حبه للبشر ورغبته الجارفة فى أن يجنبهم عذاب الجحيم. فهو إذن لا يعرف الاحتقار بل الإشفاق والعطف. وما بالنا بمن آمن كالعباس؟ ثم أليس الرسول هو القائل: "لَأَنْ يهدى الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس"؟ فكيف، بعدما نجح فى هداية العباس إلى الإسلام، يحتقره؟ ولا ننس أن العباس كان عديل رسول الله مما يزيدهما قرابة ويجعل الرحم التى تربطهما أوثق وأمتن. [/RIGHT][/SIZE][/R][/SIZE] |
#2
|
|||
|
|||
هذه السيرة النبوية البشعة لمحمد أسد بك!
د. إبراهيم عوض[/SIZE][/B] قبيل سفرى إلى الدوحة فى بداية القرن الحالى للعمل أستاذا للأدب العربى فى جامعة قطر وقع فى يدى كتاب فى السيرة النبوية مترجم إلى الفرنسية عنوانه "Mahomet 571- 632" (Mohammed Essad Bey, Mahomet 571- 632, Payot, Paris, 1948) أهدانيه زميل لى قائلا إنه لمحمد أسد (ليوپولد ڤايس سابقا) الصحفى الألمانى الذى اعتنق الإسلام، فأخذته شاكرا مبتهجا لحصولى على هذا الكتاب الجديد للكاتب الألمانى الذى بدأتْ معرفتى بمؤلفاته مع سبعينات القرن الماضى ثم نمت مع الزمن. لكنى، مع شدة اهتمامى بذلك المستشرق الذى ترك دينه اليهودى وبلده ولغته ومهنته الصحفية فى منتصف عشرينات القرن المنصرم ليعيش بين ظَهْرانَىِ المسلمين، ومع حرصى على تتبع كل ما كتب، لم أسمع مجرد سماع أن له كتابا فى التأريخ لحياة الرسول وتحليل شخصيته عليه السلام. ومن ثم أحسست، حين أخذت الكتاب المذكور من زميلى فى القاهرة، أننى قد عثرت على كنز. وقد أخذت الكتاب معى إلى الدوحة بنية ترجمته وكتابة دراسة عنه هناك. وما إن وصلت إلى الدوحة وتسلمت عملى بالجامعة وتنفست من مشاغل الأيام الأولى حتى أخرجت الكتاب كرة أخرى وأخذت أقرؤه بادئا مباشرة من طفولة الرسول تاركا الفصل الخاص ببلاد العرب وتاريخها وجغرافيتها وأهلها وعاداتها وتقاليدها إلى ما بعد الانتهاء من السيرة نفسها. وإذا بى أكتشف أن مؤلف الكتاب، وإن أثنى فى بعض الأحيان على الرسول ثناء مستطابا، لا يصدر فى ذلك عن حب حقيقى لمحمد ودينه ولا يكاد يغادر شيئا فى حياته أو فى حياة أصحابه دون أن يحاول تشويهه. وهنا عدت مرة أخرى إلى اسم المؤلف، وهو مكتوب على النحو التالى: "Mohammed Essad Bey". وركبتنى الحيرة والوساوس: ترى أهذا الكتاب هو فعلا لمحمد أسد، الذى نعرفه؟ ثم تراكمت غيوم الحيرة وتكأكأت الأسئلة والافتراضات: أيمكن أن يكون ثمة محمد أسد آخر غير الذى نعرفه؟ إن وجود لقب "بك" فى آخر الاسم من شأنه أن يقوى طرح هذا السؤال، إذ لم أسمع قط أو أقرأ اسم محمد أسد مقرونا بهذه الكلمة. بل إن هجاء كلمة "محمد أسد" هنا مختلف عن الطريقة التى تُكْتَب بها على كتبه الإنجليزية حيث تظهر هكذا: "Muhammad Asad". بل لقد تساءلت: ألا يمكن أن يكون المؤلف شخصا عربيا؟ والواقع أن بعضهم قد قالها، إذ وجدت د. محمد التونجى السورى (مترجم كتاب كونستانس جورجيو الوزير الرومانى الأسبق عن سيرة الرسول ) يقول فى أحد هوامش ترجمته لذلك الكتاب تعريفا بـ"أسد بك"، إنه المحقق العربى المعروف ناصر الدين الأسد. وبغض النظر عن أن المقصود بـ"أسد بك" هو محمد أسد لا ناصر الدين الأسد، فضلا عن أن المؤلف الأردنى ليست له أية مؤلفات فى السيرة النبوية، فإن مؤلف الكتاب يتحدث عن نفسه بوصفه أوربيا، إذ يقول: "نحن الغربيين" أو "عندنا فى أوربا"... إلخ. وهكذا عدنا إلى المربع الأول من جديد. ولقد قلبت مكتبة جامعة قطر بقسميها العربى والأجنبى، فلم أترك كتابا أو معجما أو موسوعة مما حسبت أنه يمكن أن يمدنى بشىء عن محمد أسد يجلو عمايتى وينير بصيرتى فى هذه القضية، فلم أجد إلا تلك الإشارة العارضة وأُخْرَيَيْن مثلها فى كتاب جورجيو. وقد أشرنا آنفا إلى أن المسمى: "محمد أسد بك"، وإن انطلق فى ظاهر كلامه من أنه مسلم، فإن ما قاله لا ينبئ عن أن صاحبه يكن حبا للرسول الكريم ولصحابته الأطهار ودينه العظيم رغم ثنائه المستطاب على الإسلام ونبيه بين الحين والحين. والشواهد على ما نقول كثيرة، وإلى القارئ بعضا منها: فعند حديثه عن زواج الرسول من خديجة لا يورد سوى الرواية الضعيفة التى لا يصدقها العقل والتى يزعم ملفقها أن أباها لم يكن راضيا عن هذه الزيجة مما ألجأها إلى أن تسقيه خمرا حتى تحصل على موافقته وهو سكران (ص61). كذلك يدعى أن الرسول فى الجاهلية كان يشارك قومه فى طقوسهم الوثنية ويكن للأصنام احتراما شديدا ويقدم لها القرابين كلما وُلِد له ولد. بل لقد سمى أحد أولاده: "عبد مناف" (ص63- 64). وبالمثل يتقول على الرسول زاعما أنه كان يقرأ مع الحنفاء الكتب القديمة، وأن ورقة هو الذى عرّفه التوراة والإنجيل وأنبياء بنى إسرائيل. وعندما كان يتلو سورة "النجم" عقب نزولها عليه نرى محمد أسد بك يضيف الجملتين التاليتين اللتين تمدح الأصنام: "إنهن الغرانيق العُلَا وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى". ولكى تكون تلك الدعوى مقبولة فإن محمد أسد بك يعزو ذلك الصنيع من الرسول إلى أنه بشر، والله يريد له أن يرتكب خطيئة من كل نوع من أنواع الخطايا التى يجترحها البشر (ص114). ومن تخاريفه المضحكة أيضا قوله إن الصلاة تسقط عن المسلم أثناء سفره أو إقامته فى بلد غريب، وإن الفروض الظاهرية فى الإسلام لا تشكل شرطا أساسيا للنجاة، بل يمكن إهمالها والحصول مع ذلك على الغفران الإلهى. وهو يتخذ من هذا دليلا على ما يتميز به الإسلام من واقعية. ويجرى فى هذا المضمار زعمه أن الإسلام لا يغلق باب الخلاص فى وجه أتباع الديانات الأخرى. ألا يقول القرآن: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون"؟ ومن أجل تمرير هذه الفرية يسارع إلى التظاهر بالثناء على الإسلام قائلا إنه الدين الوحيد الذى يبدى هذا الضرب من التسامح (ص135). كما زعم أنه، بدخول النبى المدينة، قد صار القرآن والسيف هما اللذين يحكمان العالم (ص133)، وأنه عليه السلام قد جعل الحرب سبيلا إلى إقامة الدولة الإلهية، وأن خضوع اليهود والمنافقين لسلطانه إنما تم تحت تهديد السلاح (ص159)، وأنه كان يعرف جيدا أن أيا من الشعوب الأخرى لن يصغى طوعا إلى كلامه. ومن ثم كان لا بد من اصطناع القوة والخوض فى أوحال مستنقع السياسة بغية هداية الناس وحماية بيوت الله من بِيَعٍ وصلوات ومساجد، وهو مستنقع يعج بالاغتيالات والجرائم ونقض العهود، وأنه قد اقترف كثيرا من الآثام، فأراق الدماء واستخدم الوحشية والدهاء، وإن كان (كعادته فى تلطيف دعاواه بالكلام المعسول الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع) قد عقّب قائلا إن أحدا من البشر لم يخرج من ذلك المستنقع بقلب أنقى من قلب محمد (ص159- 160). وهى كلمة تحتمل تأويلين، فإلى جانب المعنى الظاهرى هناك معنى آخر بعيد أرجح أن يكون هو المقصود. ومُفَادُه أن النبى لم يكن فى قلبه ندم ولا أسف على شىء مما اقترفه فى دنيا الحكم والسياسة! ويشطح أسد شطحة أخرى فيزعم أن الإسلام تحول على أيدى المهاجرين إلى مهنة، إذ لم يكن أمامهم من مورد رزق سوى الحرب والعدوان على الآخرين (ص161). وهوينظر إلى الجهاد فى سبيل الله على أنه مجرد مساومة تجارية بين الرسول والصحابة فى المدينة، فهم يصرون على الحصول على أجورهم ناجزة فى الدنيا قبل الآخرة، فلا يجد النبى مناصا من النزول على ما يبتغون (ص163). وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بعد ذلك إن سكان المدينة الذين لم يكونوا قد دخلوا الإسلام بعد ما إن رَأَوْا غنائم بدر حتى جَثَوْا على رُكَبِهم واعتنقوا الإسلام فى الحال. وهو زعم كاذب، كما هو واضح، لكل من يعرف طرفا من مغازى رسول الله وأصحابه. بل إنه ليزعم أيضا أن الرسول قد حول المدينة، عقب انتصاره فى هذه الغزوة، إلى دولة بوليسية يُؤْخَذ فيها الناس بالظِّنَّة ويجرى التنصت على كل ما يتفوهون به فى الشوارع ويعاقَبون دون هوادة (ص177). ومع هذا فإن الحق يقتضينا أن نذكر قوله عن رسول الله إنه كان متسامحا إلى أبعد مدى مع من يخطئون فى حقه، أما مع الذين يعتدون على عمله من قرآن وإسلام فإنه لم يكن يعرف سوى التنكيل والوحشية والخداع والانتقام والاستبداد وسفك الدماء حتى لو كان الأمر مجرد تهكم خفيف لا ضرر منه، إذ لم يكن يتذوق الدعابة، ومن ثم لم يكن مستعدا لأى تفاهم مع الشعراء الذين يسخرون منه (ص179). وهو يصوره فى صورة المعتدى دائما، فهو يبعث بالسرايا والغزوات هنا وهناك للحصول على الغنائم من جهة ولكيلا يخلد المسلمون إلى الراحة من جهة أخرى فيَنْسَوُا القتال. ثم يضيف أنه كان خبيرا فى فن إغراء الناس وسحبهم خلفه وأن الغنائم كانت تكفل له إخلاص المهاجرين والأنصار على الدوام (ص192- 193). وهو فى أثناء ذلك كله يتكلم عن النبى بوصفه صاحب الإسلام، فهو الذى يحلل ويحرم، وهو الذى يفكر فى هذه المشكلة أو تلك ويصدر فيها التشريع المطلوب (ص195). وفى موضع آخر من الكتاب يقول إنه، من أحكام الرسول وفتاواه وقوانينه ومراسيمه، قد تشكّل الفقه الإسلامى فى دولة المدينة (ص271). وعن النساء فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام يقول مؤلف الكتاب إن العدد الذى كان متزوجا به (وهو عنده أربع عشرة زوجة) لم يكن يجيزه الإسلام. ثم يمضى مفتريا الأكاذيب قائلا إن النساء اللاتى كن يَحْظَيْن بحب الرسول أو يميل إليهن كن أكثر من ذلك كثيرا. بل إنه ليزعم أن الآية الأولى من سورة "التحريم" تعطيه الحق فى أن يستمتع، إذا أراد، بأى عدد آخر من الزوجات فوق أولئك الأربع عشرة، وأنه ظل إلى آخر حياته يحب النساء ويعجب بالجميلات منهن ويكرمهن ويداعبهن ويأخذهن بالأحضان، ودافعه إلى ذلك رغبته الحارقة فى أن ينجب ولدا يرثه فى عمله ورئاسته للدولة الإلهية ويكمل ما بدأه هو (ص211- 212)، وإن كان قد عاد فقال إن زيجاته عليه السلام لم تكن كلها زيجات حب بل كان بعضها لأغراض سياسية بغية الحفاظ على الدولة وتماسكها، وإنه كان يلتزم العدل الصارم بين زوجاته، وكذلك تجاه رعيته (ص216- 217). وفى حادثة الإفك نراه يجترئ على الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق زاعما أن الرسول عليه السلام قد انشغل فى غزوة بنى المصطلق بشغب المنافقين عليه وبالمرأة الجديدة التى غنمها من غزوة المريسيع مما جعله يهمل عائشة، وأنها رضى الله عنها وأرضاها قد طلعت على الجيش مع الصباح برفقة صفوان الشاب الوسيم وعلى وجهها علائم الحبور، وأن جميع أفراد الجيش أخذوا يتغامزون تهكما بروايتها عن تخلفها بسبب عِقْدها الذى فقدته وعثور صفوان عليها بالمصادفة وحيدة فى الصحراء، نابزا إياها بـ"بنت أبى بكر التى أفسدها التدليل" (ص221). وكان قد وصفها قبلا بأنها أستاذة فى فن المؤامرات (ص214). أما حفصة رضى الله عنها فقد ادعى أنها قبيحة كبيرة السن، ولهذا لم يستطع عمر أن يعثر لها على زوج، إلا أن الرسول طلب يدها وتزوجها (ص215). وبالنسبة لزينب بنت جحش يردد المؤلف المغرم بالإساءة إلى الرسول والإسلام أنه كان يكن لها عاطفة رمانسية عميقة، وأنه عندما رآها قد وقع مفتونا بجمالها ووقارها وتقواها، فكان يحب الاختلاف إلى بيتها والحديث معها، وأن زيدا زوجها حين لحظ ذلك قد صارحه بأنه سوف يطلقها حتى يمكنه الاقتران بها ما دام يحبها كل هذا الحب. ثم يختم كلامه عنها بقوله إنها كانت بارّة بالفقراء وإنها عاشت بعده فقيرة على عكس زوجاته الأخريات اللاتى يدَّعى أن خلفاءه عليه السلام قد أغرقوهن بالذهب (ص215). وعلى نفس الشاكلة يسىء المؤلف إلى الصحابة رضوان الله عليهم إساءات بالغة منها مثلا قوله إن عمر كان يشتغل بتهريب البضائع فى الجاهلية. ولا ندرى لماذا كان يفعل ذلك، إذ مبلغ علمنا أنه لم تكن هناك جمارك فى مكة! كما يعزو إسلامه إلى رغبته فى إحداث دوى لنفسه فى مكة بعد فشله فى مشروعاته السابقة كلها وعدم إحرازه أى مجد أو ثروة. ولا يكتفى بذلك بل يدعى عليه أنه كان يضرب زوجات الرسول بالعصا. وجريا على وتيرة المستشرقين والمبشرين يشبّه دوره فى تاريخ الإسلام بما صنعه بولس فى النصرانية (ص211- 212). ويجعل أبا بكر ينادى النبى عليه السلام بـ"يا محمد" بدلا من "يا رسول الله" (ص132). ومن إساءاته الشنيعة للصحابة أيضا دعواه الحمقاء بأن الرسول عليه السلام كان يكن لعمه العباس احتقارا هائلا لتأخره فى اعتناق الإسلام (ص159)، وكذلك تحامله الوقح على حسان بن ثابت، إذ يصفه بالقبح وفتور الموهبة الشعرية، زاعما أن شعره يقوم على سب الناس جميعا وأن النبى ضربه بالعصا ذات يوم لطول لسانه فحقدها عليه. ولأنه كان جبانا رعديدا، كما يصفه، لم يستطع أن يواجهه صراحة، فنظم قصيدة فى السر يهجوه بها، ثم لما علم أنها بلغت مسامع الرسول فر إلى بلد آخر، لكن بعض أصحاب النبى استطاع أن يلحق به وضربه بالسيف، فأخذ ينظم القصائد يشكو فيها حاله إلى أهل المدينة طالبا منهم القِصَاص. ثم انتهى به الأمر إلى التحقق من شدة سطوة الرسول ونفوذ سلطانه ورسوخه، فشرع يتردد عليه بصحبة بعض أقاربه من ذوى المكانة فى يثرب بغية السماح له بمقابلته . بيد أن النبى لم يأذن له، إذ كان عليه السلام يكره الشعراء لأنهم يقولون ما لا يفعلون. لكن حين أخذ شعراء مكة يهجونه عَدَل عن موقفه، وقرر السماح لحسان بالمثول بين يديه لإنشاد شعره. ومع هذا فقد وجده أضعف من شعر القرشيين وأقل موهبة، فما كان منه إلا أن لمس لسان الشاعر اليثربى بطَرَف عصاه، وعلى الفور تغير الحال وصار هجاؤه مرا أليما (ص230- 231). وكأن هذا وغيره ليس كافيا فى نظر المؤلف لتشويه صورة الصحابة الكرام، فنراه يكتب فى موضع آخر أن المهاجرين والأنصار قد أصبحوا بعد قليل طبقة أرستقراطية طفيلية فارغة ذات مطالب مسرفة تثقل كاهن الخزانة العامة، وأن النبى عليه السلام كان يتفهم هذا كله، إذ رأى من حقهم التعويض عن سنوات الحرمان العصيبة التى قاسَوْها معه ومن أجله (ص270- 271). فإذا انتقلنا إلى موقف ذلك المدعو: "محمد أسد بك" من اليهود المساكنين للنبى عليه السلام فى المدينة وكلامه عنهم ورأيه فيهم راعنا أنه، فى الوقت الذى أطلق قلمه بالغمز واللمز الدنس تارة، وبصريح القول النجس تارة أخرى فى حق الرسول وصحابته، قد اتخذ جانب اليهود على طول الخط مثنيا عليهم وعلى ذكائهم وعلمهم وتقواهم وشجاعتهم... إلخ. وهذا من الأشياء التى عضدت عندى أنه يهودى. وأول ما نبدأ به هو تلك القصة الفكاهية التى لا أدرى من أن استقاها، وملخصها أن النبى عليه الصلاة والسلام قد عطش أثناء هجرته إلى يثرب عطشا قاسيا لم يطفئه إلا يهودى اسمه نوروز مما كان من نتيجته أن أصبح المسلمون يحتفلون بعيد النوروز تخليدا لذكرى ذلك اليهودى النبيل (ص133). وهى، كما يرى القارئ، بداية لها مغزاها فى الدلالة على ما سوف يقوله المؤلف فى حق أولئك القوم، الذين بدا لى، فى ذلك الوقت قبل أن أعرف حقيقته، أنه واحد منهم، وإن اصطنع لنفسه اسما من أسماء المسلمين بل من أسماء النبى ذاته . فهو يزعم أن اليهود كانوا متعاطفين مع النبى قبل الهجرة، إذ كانوا يسمعون أنه يقول مثلهم بإله واحد، فضلا عن أن القرآن الكريم قد رفع أهل الكتاب مكانة عالية. ولهذا رحبوا به عند مقدمه إلى يثرب (ص147). أى أنه يجعل من اليهود الأساس الذى يقاس عليه الرسول فى صحة الإيمان والتوحيد. ثم يخطو خطوة أخرى قائلا إن اليهود، بما لهم من براعة فى الحجاج التلمودى، كانوا يفنِّدون الحجج التى يأتيهم بها محمد دون أية صعوبة، وإن دينهم متفوق على دينه، وإنه عليه السلام كان يخشى أن يبزغ من بين ظَهْرَانَيْهم نبى ينافسه كابن صياد، الذى كان بمستطاعه، حسبما يزعم الكاتب، أن يتنبأ بكل دقة بما فى عقل محمد، فما كان منه سوى أن اتهمه بتلبس الشيطان له. وهذا ما دعاه إلى إشهار الحرب عليهم واتهامهم بأنهم كانوا طوال تاريخهم دائمى التمرد على أنبيائهم (ص181- 182). وكان الرسول، كما يقول الكاتب الممالئ لليهود، يعرف أنهم غير متحابين، فبدأ بأضعف قبائلهم، وهم بنو قينقاع، مطمئنا إلى أن القبائل اليهودية الأخرى لن تهب لنصرتهم. وكان من السهل عليه اتخاذ أية ذريعة لضربهم بغية الحصول على الذهب والسلاح اللذين كانوا يمتلكونهما. وقد أبدى المؤلف أشد الأسف على مصير هؤلاء الأرجاس المناكيد (ص183- 184). ثم يمضى فى مزاعمه الوَقَاح قائلا إن اليهود عرضوا على الرسول مشاركته فى قتال المشركين فى أُحُد، لكنه رفض هذا العرض (ص187). ثم نجده بعد عدة صفحات يبدأ فاصلا من العزف على أوتار المديح لهم بالنبل والشجاعة باسطا أمرهم مع الرسول من وجهة نظر باطلة دون أن يشفع ذلك بأية تخطئة لهم مهما تفهت. ويضيف قائلا إنهم هم الذين وفروا للرسول الحماية والوطن بعد مغادرته مكة. ولا يفوته أن يخلع على حُيَىّ بن أَخْطَب عدو الله ورسوله صفات الإيمان والتقوى (ص198- 199). ومما له دلالته أنه قد بدأ الفصل الذى عقده لهذا الموضوع بعبارة من العهد القديم مؤداها أن الله إذا أحب قوما عاقبهم. وهو ما يعنى بكل جلاء أن ما نال اليهود على يد النبى إنما هو مظهر من مظاهر حب الله لهم لا غضبه عليهم. وحين يأتى الكلام إلى بنى قريظة ينبرى أسد بك فيسوق العذر لهم فى نقضهم العهد الذى كان بينهم وبين الرسول، مؤكدا أنه هو الذى بدأ بالنقض حين صنع ما صنع مع بنى قينقاع وبنى النضير. ثم يقول إن بنى قريظة رفضوا أن يشتركوا فى الهجوم على المسلمين احتراما للسبت، الذى تصادف أن كان هو بداية هجوم المشركين على المدينة. ثم يصف سعد بن معاذ، الصحابى الجليل الذى أصدر حكمه على بنى قريظة جَرَّاءَ خيانتِهم وغدرهم واشتراكهم مع الأحزاب فى التآمر على ضرب الرسول والمسلمين فى مقتل، بسرعة الغضب والرغبة فى سفك الدماء. كما يسم الحكم الذى أصدره بالبربرية والدموية قائلا إن اليهود كانوا يظنون أنه، رضى الله عنه، سوف يكون عادلا فى حكمه عليهم. وهى عبارة وراءها ما وراءها. أما الذين نُفِّذ فيهم حكم الإعدام ممن ظاهروا المشركين وخانوا عهدهم مع رسول الله والمسلمين فقد مدحهم بأنهم ماتوا ميتة بطولية شريفة، إذ رفضوا أن يخونوا دينهم ويتحولوا إلى الإسلام. ونراه هنا يزيد فى كلام الزبير بن باطا، اليهودى الذى قبل النبى شفاعة بعض الأنصار فيه فعفا عنه، العبارة التالية التى لم يوردها أى من كتب السيرة أو التاريخ: "إننى لا أقبل أن أكون مدينا بحياتى لرجل متعطش للدماء". وعند المؤلف الموالس مع اليهود الغادرين أن مأساتهم إنما تعود إلى كثرة مجادلتهم للرسول وإيثارهم لحرية الفكر على الطاعة العمياء التى كان يريدها منهم، فضلا عن كراهيته عليه السلام لوجودهم فى المدينة حيث لا ينبغى فى نظره أن يُسْمَع فيها أى صوت آخر غير صوت الله ورسوله (ص204- 207). ومما يتهم به هذا المنافقُ المتظاهرُ بالإسلام الرسولَ الكريمَ أنه كان يقرأ مع الحنفاء الكتب القديمة، وأنه قد تعرف إلى التوراة والإنجيل وأنبياء بنى إسرائيل على يد ورقة بن نوفل. ولو كان المؤلف مسلما ما ردد هذه الفرية الآثمة التى يصدّع بها كثير من أهل الاستشراق والتبشير أدمغتنا، إذ قد نفى عنه القرآن المجيد أن يكون قد عرف تلك الكتب بأى حال أو أن يكون قد علَّمه بشر. ومع ذلك فسننسى دفاع القرآن عنه ما دام غير مسلم ونعرض الملاحظات التالية: ترى لو كان هذا الزعم صحيحا فلماذا لم ينبر أحد من هؤلاء الحنفاء أو من أقربائهم ويقول هذا الذى يردده ذلك المؤلف وأمثاله؟ لقد تتبعت فى كتابى: "مصدر القرآن" أخبار هؤلاء الحنفاء، فألفيتهم إما أسلموا كورقة بن نَوْفَل أو ماتوا قبل البعثة وأسلم مِنْ بَعْدِهم أبناؤهم كزيد بن عمرو بن نُفَيْل أو كادوا أن يسلموا لكن العصبية القبلية قد حالت دون ذلك كأُمَيّة بن أبى الصَّلْت أو احتمَوْا بقوة أجنبية كعثمان بن الحويرث، الذى انحاز إلى الروم وطلب إليهم أن يولّوه مكة، لكن أهلها ردوه عن بلدهم ردا قبيحا. فمَنْ مِنْ هؤلاء يا ترى هو الذى قرأ مع رسولنا الكريم الكتب القديمة المزعومة؟ ومتى؟ وأين؟ وأمام مَنْ مِنَ الشهود؟ ولماذا لم يفتح أى منهم أو من أقربائهم أو معارفهم فمه بكلمة فى هذا السبيل؟ بل لماذا لم يحاول أى من هؤلاء الأساتذة أن يدعى هو النبوة ما دام ادعاؤها سهلا إلى هذا الحد؟ أما قول الكاتب المتخفى إنه قد وصل به الحال فى الفترة السابقة على البعثة أن أخذ يذرع الوديان ويصعد فى الجبال فى ثياب رثة وشعر أشعث وخطوات مضطربة بعدما كان يعيش فى جو أرستقراطى وملابس حريرية أنيقة، وإنه حين سمع أصوات الصخور وصراخها عند غار حراء سقط متشنجا وقد تجمع الزَّبَد على شفتيه، فليس إلا من بنيات الأوهام والخيالات الإبليسية، إذ لم يرد شىء من ذلك فى أى من المصادر التى تحدثت عن الرسول. والتاريخ لا يجوز أبدا أن يصاغ من لبنات الأوهام والخيالات الإبليسية بل من لبنات الواقع الصلبة التى نقلها إلينا من شاهدوها واستوثقنا من شهودهم إياها وصدقهم فى روايتها. ومن الواضح أن الكاتب الكذاب يرمى إلى اتهام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه قد خُولِطَ فى عقله، إذ لا يفعل هذا إلا شخص مضطرب العقل والنفس قد وقع فريسة للهلاوس والجنون، وإلا فما معنى أنه كان يسمع صراخ الصخور؟ ثم ماذا يقصد الكاتب من أنه عليه الصلاة والسلام قد سقط متشنجا وقد تجمع الزبد على شفتيه سوى القول بأنه كان مصابا بالصَّرْع، تلك التهمة القديمة التى ترجع إلى أيام الرومان والتى ما زال أوغاد المستشرقين يرددونها رغم ما هو معروف لكل من كلف نفسه استفتاء كتب الطب وعلم النفس ومتخصصيهما من أن مظاهر الوحى لا وشيجة البتة بينها وبين أعراض الصرع من قريب أو من بعيد؟ ونسأل: كيف يا ترى من الممكن أن يصاب الرسول بالتشنج آنذاك وتزبد شفتاه؟ لقد كان الرسول يعيش بمفرده فى الغار. ومعنى هذا أن أحدا لم يشاهده عندما حدث له ذلك. وهو نفسه لم يكن ليستطيع أن يعرف ماذا حدث له لأنه كان فاقد الوعى. ثم أليس عجيبا أن يقع له ذلك دون أن يصيب نفسه بضرر جراء اصطدام رأسه بالصخور مثلا أو عضه لسانه أو ما إلى هذا؟ أرأيت، أيها القارئ الكريم، كيف يرمى الواحد من صعاليك المستشرقين بالتهمة السخيفة المتهافتة والمناقضة للمنطق والتاريخ فى مثل هذه القضية الخطيرة باستخفاف ورقاعة تامين؟ وعلى من؟ على سيد البشر والأنبياء والمرسلين! وبالنسبة لدعوى الكاتب بأن النبى عليه السلام خالف التشريع القرآنى القاضى بعدم الزواج بأكثر من أربع فمن اللازم لفت النظر إلى أن هذا التحديد لم ينزل به الوحى إلا فى السنة الثامنة للهجرة بعد أن كان قد بنى بزوجاته جميعا، فلم يتخذ بعد ذلك أية زوجة أخرى. أى أنه عليه السلام لم يخرج على التشريع القرآنى فى هذا المجال على عكس ما يزعم هذا المستشرق السفيه، إذ التشريع المذكور لاحق لا سابق. وزيادة على ذلك لم يؤثَر عنه كلمة أو نظرة يشتم منها رائحة الطمع فى امرأة ليست له. ولست أعرف أى شيطان لعين وسوس لذلك الكاتب ما وسوس حين قال إن رسول الله كان لا يكف عن مداعبة النساء وأخذهن بالأحضان. إن الكاتب الأحمق لا يستطيع أن يميز بين ما ينبغى أن يلتزمه من يتحدث عن سيد الأنبياء من تبجيل وتعظيم وبين ما يثرثر به أى وغد لئيم عن المواخير ومرتاديها وعن الطريقة التى يتعامل بها الرجال والنساء فى المجتمعات الغربية التى لا تعرف حلالا ولاحراما ولا لياقة ولا عيبا. ترى لو كان عليه السلام على هذا النحو فى التدله فى حب النساء فلم حددهن أصلا بأربع؟ لقد نسبتُ إليه هذا التشريع لأن الذين يتهمونه بهذا إنما يتهمونه فى ذات الوقت بأنه هو صاحب القرآن ومخترع الإسلام. لو كان الرسولُ مؤلفَ القرآن لما أصدر هذا التشريع البتة، إذ كان التعدد بلا ضابط عرفا متبعا عند العرب. فلم يا ترى يضع نفسه فى هذا الموقف الحرج ما دام لا ينوى أن يطلق أيا من نسائه بعد صدور ذلك التشريع؟ وكل ما يمكن أن يقال فى هذا الصدد هو أنه عليه السلام لم يخفض عدد زوجاته بعد نزول تشريع التحديد. لكن السر فى هذا مفهوم لمن يريد بلوغ الحقيقة لا التشنيع على نبى الله، إذ أين ستذهب الزوجات اللاتى سيطلقهن، وقد حرَّم الله أن ينكحهن أحد بعده أبدا؟ ويتصل بهذا كذب المدعو: "أسد بك" على رسول الله فى أمر زينب بنت جحش حين زعم أنه كان يكن لها عاطفة رومانسية عميقة كما لو أنها كانت غريبة عليه فلم يرها إلا فى بيت زوجها ففُتِن بجمالها وصار يتردد عليها فى غياب زوجها مع أنها بنت عمته وليست غريبة عليه بحال، وهو الذى زوّجها بزيد رغم أنها وأهلها لم يكونوا موافقين على الزيجة بينما أصرت السماء على إتمام هذا الزواج. فلم بالله يتخذ محمد هذا المسار المعقد الملتوى ما دام يحبها ويفتتن بها ويحب التردد على بيتها فى غياب زوجها؟ بل لقد كان الرسول عليه السلام يكره تطليق زيد لها. أفلو كان متيما بها على هذا النحو أكان يزين له الإبقاء عليها فى ذمته؟ ثم من أين للإبليس مؤلف الكتاب بتردد الرسول على زينب فى غير وجود زوجها؟ إن هذا اتهام باطل لأنه لا سند له لا من رواية تاريخية ولا من شهادة شهود أخبروا الكاتب بما حصل. ولو أقررنا هذا الأسلوب فى الحكم على الناس ما بقى فوق ظهر الأرض برىء! إن ما يقوله أسد بك وَغَادَةٌ ما بعدها وَغَادَةٌ، فقد كانت رضى الله عنها، كما أكد هو بعظمة لسانه، تقية نقية تحب الفقراء والمساكين وتعطف عليهم. فكيف يمكن التقول عليها بمثل هذا الشكل الحقير؟ ثم إنها ابنةعم محمد كما قلنا، أى كانت معروفة له تماما منذ الصغر. فلو كانت عنده تجاهها هذه العاطفة فلماذا لم يتزوجها إذن وزوَّجها بدلا من ذلك زيدا، وكان زيد عبدا عتيقا، أما هى فمن أعز البيوتات القرشية؟ ومتى كان الرسول يتردد عليها أثناء مغيب زوجها عن البيت؟ إن كل ما ترويه الروايات أنه ذهب لزيد، الذى كان ابنه بالتبنى، فى أمر من الأمور فعلم من زينب أنه غير موجود، فاستدار من فوره راجعا. أما تصور أخلاق النبى على غرار أخلاق الرقعاء والمتبطلين وأزيار النساء الذين لا يتمتعون برجولة ولا شهامة ولا نخوة فينتهزون أول فرصة لغياب معارفهم أو جيرانهم عن المنزل ويترددون على الزوجة فأمر لا يقدم عليه سوى حاقد لئيم يظن بجهل وحطة أنه يستطيع تلطيخ سيد البشر بجرة قلم نجسة مثل أخلاقه. وهذا دليل على الحماقة التى تجاوزت كل الحدود لأن صورة النبى عليه السلام لا يمكن تلطيخها فعلا ولو أجمع على ذلك شياطين الأرض وأبالستها. ترى هل يمكن أن يسقط القمر من عليائه إن نبحه كلب؟ ومقطع الحق فى هذا أن الرسول قد تعرض لحرج اجتماعى شديد بزواجه بأمر القرآن من زينب. أى أن عقده عليها كان عبئا لا سببا للسرور، إذ كان يعلم مدى الصدمة التى سيسببها هذا الزواج للمجتمع العربى، الذى كان ينظر إلى الابن بالتبنى نظرته إلى الابن الحقيقى. فزواجه من زينب كان يعنى عند العرب زواجه بامرأة ابنه، فهو إذن أمر يبعث على الاستغراب والاستنكار. ومن هنا نفهم سر تباطئه، الذى أخذه عليه القرآن، إذ كان كتاب الله يريد وضع حد لتلك النظرة التى كانوا ينظرونها إلى ابن التبنى. وهذا معنى قوله له: "وتخشى الناسَ، واللهُ أحقُّ أن تخشاه". فذلك الزواج إذن كان تضحية من جانبه لا وطرا يشتهيه أو عاطفة رومانسية يشبعها. لكن متى كان أصحاب القلوب الغُلْف يفقهون؟ ولو كان الرسول كما يفترى عليه الكاتب السافل فلم كان يعدل بين زينب وغيرها من نسائه اللاتى لم يكن يحمل لهن مثل تلك العاطفة الرومانسية التى يفتريها عليه هذا السفيه؟ ولقد شهد الكذوب رغم هذا أنه كان يراعى فى معاملتهن العدل الصارم الذى لا يعرف الحيف. وقديما قيل: إذا كنتَ كَذُوبًا فكن ذَكُورًا! إلا أن كاتبنا الشرير يكذب كثيرا لكنه ليس من الذاكرين، فلهذا يقع فى المعاطب. وهذا من إخزاء الله له ولأشباهه، إذ من يتطاول على الرسول لا يوفقه الله للفلاح أبدا. ثم نأتى إلى حادثة الإفك، وما أدراك ما حادثة الإفك؟ إن الكاتب، كما قلت، ينطلق فى ظاهر كلامه من كونه مسلما، كما أن اسمه يدل فى الأقل على أنه يريد الاشتهار بين المسلمين بأنه على دينهم. ولو كان مسلما لكفاه تبرئة القرآن الكريم لعائشة رضى الله عنها، إذ من يتهمها فى شرفها بعد ذلك حتى ولو بأسلوب الهمز والغمز لا يمكن أن يكون بالوحى الذى ينزل على محمد من المؤمنين. ولكن ما دام قد فعلها فلمز أم المؤمنين وغمزها وتهكم بها وبروايتها عن الواقعة فلننهج نهجا آخر ونقول: ترى لو أن عائشة كانت كما يقول أكانت تفعلها مرة ثم لا تكررها بعد ذلك أبدا؟ لكننا ننظر فى سيرتها فلا نرى إلا طهرا، ولا نشم إلا عطرا. ثم لو كانت فعلتها وزوجها حى وينزل عليه الوحى فكيف لم تفعلها ثانية بعد أن مات وخلا لها الجو ولم يعد هناك وحى تخشاه؟ بل إن نزول الوحى بتبرئتها وهى غير بريئة لَحَرِىٌّ أن يشجعها على الانحراف لأنه سوف يكون دليلا ما بعده دليل على أن زوجها ليس بنبى، إذ الله لا يجهل ولا يكذب. ولكننا ننظر فنجد أنها عاشت بعده عشرات السنين دون أن تعلق بها ولو همسة ريبة رغم أنها كانت تتمتع لدن وفاته بالشباب والجمال والذكاء والحيوية، نزولا على حكم القرآن بألا زواج لأحد من زوجاته من بعده أبدا. فكيف تلزم نفسها بهذا الحرمان الخطير إن كانت قد ارتكبت خطأ بما يعنى أن تبرئة القرآن لها تبرئة كاذبة أو على الأقل: خاطئة، ومن ثم فنبوة زوجها نبوة زائفة؟ ولا ننس أنها كانت شديدة الغيرة على النبى الكريم . فهل هذا صنيع امرأة يمكن أن تفكر مجرد تفكير فى خيانة الزوج؟ وكيف ظل صفوان، الذى اتهمها به المنافقون وتابعهم فى ذلك سفلة المستشرقين والمبشرين، يؤمن بمحمد ويخلص له ويحبه ويجاهد فى سبيل الله بعد ذلك، وبخاصة بعد أن نزل الوحى بتبرئته هو وعائشة بما يعنى، لو كان الخطأ قد وقع منهما، أن محمدا يكذب ويخترع من عنده ما يريد من أوحاء؟ ولقد ربأ بعض المستشرقين بأنفسهم عن ترديد هذا الاتهام السافل واستعفّوا أن يخوضوا مع الخائضين فى عرض عائشة سليلة البيت البكرى الشريف، ومنهم على سبيل المثال وليام موير كاتب سيرة النبى العظيم. إن مصيبة المفترين من المستشرقين والمبشرين أنهم، حين يكتبون عن عائشة وأمثالها من ذوات الفضل السامى، لا يستطيعون التمييز بينها وبين أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم. وهو خطأ منهجى فادح قبل أن يكون سقطة أخلاقية، إذ كيف نقيس سيدة كريمة تربت على تقديس العرض والشرف أكثر من تقديسها للحياة ذاتها إلى المرأة الغربية التى لا يزيد أمر العرض فى معظم الأحيان لديها عن قطعة من اللادن تمضغها برهة ثم تبصقها على الأرض دون أية مبالاة؟ وعلى نفس المنوال يردد الكاتب ما يقوله أمثاله من حقدة المستشرقين والمبشرين من أنه قد مدح اللات والعزى ومناة أثناء قراءته سورة "النجم" عند إعلانها على الكفار لأول مرة. ولقد أفاض علماء الإسلام قديما وحديثا فى تفنيد الرواية السخيفة التى أوردت ذلك، وبينوا تهافت سندها وما إلى هذا، وانتهَوْا إلى أنها من صنع بعض الزنادقة. والواقع أنه يكفى أن يقرأ المسلم فى أول تلك السورة قوله عن رسوله الكريم: "وما ينطق عن الهوى إِنْ هو إلا وَحْىٌ يُوحَى" كى يرمى هذه الرواية دُبْرَ أذنه بل تحت قدمه، إذ لو كان الرسول قد نطق فعلا جملتى "إنهن الغرانيقُ العُلَا وإنّ شفاعتَهنّ لتُرْتَجَى" لكان قد نطق عن الهوى، إذ تقول تلك الرواية المزعومة إنه كان يهوَى أن يقارب قومه حتى لا ينفروا منه ومن دعوته. كذلك لو نطق الرسول بهاتين الجملتين فكيف تركه ربه فلم يأخذ منه باليمين ولم يقطع منه الوتين حسبما جاء فى سورة "الحاقة": "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل لأخذْنا منه باليمين ثم لقطَعْنا منه الوَتِين"؟ هذا بالنسبة للمسلم، أما من فى قلوبهم مرض من نفاق أو كفر فإننا نقول لهم إن السورة كلها من أولها إلى آخرها هجوم صاعق على الأوثان وعابديها. فبالله كيف يُتَصَوَّر أن يكون هناك مدح للأوثان فى غمرة هذا الهجوم المدمدم عليها والتسفيه العنيف لعابديها؟ ثم إن الجملتين المذكورتين تثبتان الشفاعة لهذه الأوثان دون تعليق ذلك على مشيئة الله سبحانه، وهو ما لم تفعله الآيات القرآنية مع أى كائن آخر بما في ذلك الرسل والملائكة أنفسهم. فكيف يصح قبول هذا، وبخاصة إذا عرفنا أنه قد جاء فى تضاعيف السورة قوله عن تلك الأوثان: "إِنْ هى إلا أسماءٌ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"؟ وهل يظن أحد أن المشركين، لو كان الرسول قد نطق فعلا هاتين الجملتين، كانوا ليفلتوا هذه الفرصة من أيديهم دون أن يقيموا الدنيا ويقعدوها، وهم الذين لم يكونوا يَعِفّون عن أية وسيلة لمحاربته والتشنيع عليه وعلى دينه مهما حَقُرَتْ وأمعنتْ فى الضلال؟ ثم لقد كان الرسول طَوَالَ سنوات الدعوة نموذجا فذا فى صلابة الاستمساك بالوحدانية، فكيف يصح أن يدور فى خاطر أحد أن هذه الصلابة قد لانت فى تلك الواقعة؟ وزيادة على ذلك فإن التحليل الأسلوبى لهاتين الجملتين ينفى نفيا قاطعا أن تكونا من نسيج القرآن الكريم. لقد بدأت الآيات التى تتحدث عن الأوثان الثلاثة فى سورة "النجم" هكذا: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى". ومن ينظر فى السياق الذى ورد فيه تركيب "أفرأيتم" فى المواضع الإحدى والعشرين فى القرآن، وكلها فى خطاب الكفار، سوف يجد أنه لم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل أتى فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم والتقريع والتهديد وما أشبه، فكيف يمكن أن يشذ هذا التركيب فى سورة "النجم" ويجىء فى سياق مراضاة الكفار ومدح آلهتهم؟ ثم إن كلمة "ترتجى" غريبة عن الأسلوب القرآنى، إذ ليس فيه فعل من أفعال الرجاء على صيغة "افتعل". أما على الرواية الأخرى التى استعملت كلمة "تُرْتَضَى" بدلا من "ترتجى" فالرد على ذلك هو أن هذا الفعل لم يستعمل فى القرآن قط واقعا على الشفاعة، وإنما يستخدم مع الشفاعة الأفعال التالية: "تنفع، تُغْنِى، تَمْلِك". كذلك لم يرد ضمير الشفاعة فى القرآن نائب فاعل قط كما هو الحال فى الجملة المذكورة. وبهذا نغلق هذا الباب نهائيا أمام كل جهول يحسب أنه يستطيع أن يجد مغمزا فى كتاب الله أو فى رسول الله. وبالنسبة لليهود فإن ما قاله الكاتب من أنه كان، وهو فى مكة لا يزال، يعرف أن اليهود موحدون مثله (ص125) هو كلام عارٍ عن الصحة جملة وتفصيلا. وحسبنا أن نقرأ قصة موسى وبنى إسرائيل فى الوحى المكى لنعرف أن القرآن قد دمغهم منذ ذلك الوقت المبكر بالارتداد عن الوحدانية وعبادة الأوثان والعصيان وانتهاك حرمة السبت كلما سنحت لهم فرصة. نقرأ ذلك فى سورة "الأنعام" و"الأعراف" و"الإسراء" و"طه". إن المستشرق الكذاب يريد أن يقول إن الرسول، بعدما كان يثنى على اليهود لما هم عليه من توحيد ودين صحيح، عاد فانقلب عليهم لا لشىء إلا لأنهم لم يؤمنوا به، وهم لم يؤمنوا به لأنهم أَلْفَوْا دينهم أفضل من دينه، فلم يشاؤوا أن يفرّطوا فيما بأيديهم. هذا هو حل الشفرة الخبيثة! أما قوله بعد ذلك إن اليهود هم الذين كانوا يحمون النبى عليه السلام فتأتأة أطفال لا قيمة لها. إن التاريخ لا يُخْتَرَع اختراعا كما يحاول أن يفعل المؤلف استهزاء منه بعقول قرائه. ثم متى بالله كان اليهود يعرفون معنى الإنسانية على هذا النحو؟ وإذا كانوا لم يحموا نبيهم موسى بل تركوه يواجه الجبارين وحدهم قائلين له: "اذهب أنت وربك فقاتلا. إنا ها هنا قاعدون"، أما هم فأعلنوا أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة ما دام أولئك الجبارون فيها، فمن أين يا ترى واتت اليهودَ الشجاعةُ والمروءةُ والشهامةُ مع نبى غير نبيهم، نبى يؤكد قرآنه أنهم انحرفوا وضلوا عن سواء السبيل وكفروا بما نزل على موسى نفسه؟ ثم ممن حمى اليهود محمدا؟ لقد هاجر عليه السلام بناء على اتفاق العَقَبة مع الأنصار، الذى ينص على أن يؤمنوا به ويحموه هو ودينه من أى خطر. فما دخل اليهود فى ذلك؟ ثم إن اليهود قد عالنوه بالعداوة منذ اللحظات الأولى. وفوق ذلك فقد بان غدرهم سريعا لم يتلكأ، إذ لما طالبهم الرسول عليه السلام بالاشتراك فى دفع إحدى الديات حسبما تنص معاهدة الصحيفة بين طوائف مواطنى المدينة تمثلت استجابتهم فى محاولة قتله وهو جالس إلى سور حصن من حصونهم بالتخطيط لرمى رحى من فوق السور على رأسه. ثم مرة أخرى تعرضوا لامرأة مسلمة كانت تشترى شيئا من سوقهم، فكشفوا سوأتها وفضحوها وأخذوا يتصايحون استهزاء بها، وثارت معركة بينهم وبين بعض المسلمين الغيارى الذين لم يعجبهم هذا الإجرام الفاحش وسقط قتلى. فمن أين للمؤلف الكذاب بأن اليهود قد حَمَوُا النبىَّ عليه السلام؟ إنه يريد تصويره بصورة الجاحد للجميل. فانظر إلى هذا الخبث الإبليسى والتدليس المنحط! ومثل ذلك زعمه أنهم أرادوا مشاركة المسلمين الحرب فى غزوة أحد. وهو زعم كاذب تمام الكذب. لقد انقلبوا عليه عقب انتصار الإسلام فى غزوة بدر، وأخذوا يحقرون من شأن ذلك النصر ويهددون الرسول قائلين: "لايَغُرَّنَّك أنك قابلت قوما لا علم لهم بالحرب. فإنك إن لَقِيتَنا لتعلَمَنَّ أننا نحن الناس"! وقد انتهى أمرهم معه قبل أُحُد إلى أن اعتدى بعض بنى قينقاع على عرض سيدة مسلمة كما قدّمنا قبل قليل، وقتلوا المسلم الذى هب لحمايتها والانتقام لشرفها، فما كان منه سوى أن أجلاهم عن المدينة تخليصا لها من شرهم وتآمرهم ونكرانهم جميل أهلها الطيبين الذين آوَوْهم عندما نزلوا عليهم قديما. فكيف بعد ذلك كله يمكن أن نصدق زعم الكاتب المتخفى أنهم كانوا يريدون الوقوف معه فى أُحُدٍ ضد المشركين؟ لقد بلغت بهم الوقاحة والكفر بدينهم نفسه أن قالوا يوما لهؤلاء المشركين إن وثنيتهم التى هم عليها خير من التوحيد الذى أتى به الرسول عليه السلام. ثم من من المؤرخين يا ترى قال إنهم عرضوا عليه معاونته فى غزوة أحد؟ وأين؟ أم ترى المسألة مجرد كلام، والسلام؟ هذا، ولا أظن أحدا يمكن أن يَصْغُوَ بأذن التصديق إلى قصة نوروز، التى لا أدرى من أى واد من أودية الوهم والضلال قد أتى بها الكاتب. ترى هل كان هناك أصلا شخص من يهود المدينة اسمه نوروز؟ بل هل كان هذا اسما من أسماء الأشخاص فى بلاد العرب كلها حينذاك؟ ثم إن عيد النوروز لم يعرف إلا فى العصر العباسى، وهو عيد فارسى. وليست هناك من وشيجة تربطه باليهود البتة. أإلى هذا المدى تبلغ أحقاد اليهود وأكاذيبهم على محمد ودينه؟ ويبلغ بالكاتب التدليس أقصى مداه حين يتهم الرسول عليه السلام بأنه نقض الصحيفة التى كانت تنظم العلاقات بين طوائف السكان فى المدينة عقب هجرته إليها، وتنص على وجوب التناصر بينهم متى وقع اعتداء على أى منها. إن تاريخ اليهود معه عليه الصلاة والسلام وتآمرهم عليه ومسارعتهم فى كل مناسبة إلى نقض الصحيفة المذكورة معروف للقاصى والدانى. وقد اعترف بذلك واحد كالدكتور إسرائيل ولفنسون نفسه، وهو باحث يهودى ألف كتابا عن بنى دينه فى جزيرة العرب. لكن المدعو: أسد بك يظن أنه يكفى أن يخال ويتوهم حتى تكون خيلته وتوهماته وقائع تاريخية صحيحة! ولقد ظل اليهود يكررون بغباء منقطع النظير أخطاءهم القاتلة ذاتها حتى كانت خيانتهم العظمى فى غزوة الخندق، فلم يكن بد من التنكيل بهم وإذاقتهم عدلا وحقا من نفس الكأس التى كانوا يريدون إذاقة المسلمين منها غدرا وخيانة. وغريب أن يلمز محمد أسد بك الصحابى الجليل سعد بن معاذ يريد أن يوهم القراء الغربيين الذين لا علم لهم بحقيقة تاريخ اليهود مع سيد الرسل أن حكمه بإعدام المقاتلين الخونة الذين ظاهروا المشركين فى تلك الغزوة وسبى الذرية والنساء هو حكم ظالم. ترى ماذا كان الكاتب يريد سعدا أن يفعل؟ هل كان يريده أن يربت على أكتاف الخونة ويأمر بخلع الأوسمة والنياشين عليهم؟ لقد كان أولئك الأرجاس يعملون على القضاء على الإسلام وإبادة المسلمين على بكرة أبيهم. ولا بد أن يكون الجزاء من نفس جنس العمل. ومع هذا فقدكان حكم سعد رضى الله عنه أخف كثيرا من حكم العهد القديم فيما هو دون ذلك، فقد جاء فيه: "حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. 12وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ". ونبلغ قصة سحر النبى عليه الصلاة والسلام التى كان يتوهم فيها إتيان نسائه رغم أنه لم يكن يأتيهن، مما جعلهن ينظرن إليه فى شبق وغيظ. وبادئ ذى بدء أسوق الحديث الذى عض عليه الكاتب كأنه كلب وقع على قطعة من العظم. يقول الحديث، وهو من رواية البخارى: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُحِرَ حتى كان يَرَى أنه يأتي النساءَ ولايأتيهِنَّ. قال سفيانُ: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحْرِ إذا كان كذا. فقال: يا عائشةُ، أعَلِمْتِ أن اللهَ قد أفتاني فيما استفتَيتُه فيه؟ أتاني رجلانِ، فقعَد أحدُهما عند رأسي، والآخَرُ عند رِجْلي، فقال الذي عند رأسي للآخَرِ: ما بالُ الرجلِ؟ قال: مَطْبوبٌ. قال: ومَنْ طَبَّه؟ قال: لَبِيدُ بن أعْصَمَ (رجلٌ من بني زُرَيْقٍ حَلِيفٌ ليَهُودَ كان منافقًا). قال: وفيمَ؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ. قال: وأينَ؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذكَرٍ تحت رَعُوفَةٍ في بئرِ ذَرْوانَ. قالتْ: فأتى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البئرَ حتى استخرجه، فقال: هذه البئرُ التي أُرِيتُها، وكأن ماءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأن نخلَها رُؤوسُ الشياطين. قال: فاستُخْرِجَ. قالتْ: فقلتُ: أفَلا (أي تنَشَّرَتْ)؟ فقال: أما واللهِ فقد شفاني اللهُ، وأكرَهُ أن أُثِيرَ على أحدٍ من الناسِ شَرًّا". وهناك، كما هو معروف، من ينكر وقوع السحر للنبى لأنه يناقض رد القرآن على متهميه بالسحر. وأنا معهم فى هذا، وأرى أيضا أنه لا يليق بنبوته أن يكون أعداؤه قد تسلطوا عليه بالسحر حتى وصل إلى تلك الحالة التى تثير الشفقة والرثاء من جانب محبيه، والشماتة والابتهاج من جانب شانئيه، ويظهر فيها عاجزا لا يمكنه هو أو غيره أن يصنع إزاءها شيئا. بل إنه ليبدو وكأنه غير واع بالأمر أصلا. وهذه معضلة أخرى أنكى وأشد. وفوق هذا ففى النص أشياء جديرة بالملاحظة: فمثلا تقول القصة إن عليه السلام بعد أن سُحِرَ كان يرى أنه يأتى نساءه ولا يأتيهن. ولا أدرى كيف يكون ذلك. لو قيل إنه كان يريد إتيانهن لكنه لا يستطيع لكان الكلام مفهوما بغض النظر عن موافقتنا على صحته أو لا. أما القول بأنه كان يرى أنه يأتيهن لكنه لا ياتيهن فأمر لا يقبل التصور أساسا. ثم تمضى القصة قائلة إن ملكين قد أتياه وهو نائم، فسأل أحدهما الآخر: ما بال الرجل؟ وكأن ملكين قد أرسلهما الله لمعالجة رسوله يمكن أن يجهلاه إلى هذا الحد فلا يعرفا أنه رسول الله بل مجرد رجل من ملايين نكرات الرجال. إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تخيلنا أن الملكين كانا مدلجين ذات ليلة على غير هدى فصادفا رجلا مجهولا نائما تحت شجرة، فقالا ما قالا. كذلك نفهم من القصة أن أحدهما لم يكن يعرف ماذا أصاب الرسول، إذ يسأل زميله: ما بال الرجل؟ فلماذا إذن كان مجيئهما إليه ؟ كذلك لم وضع الساحر سحره فى بئر ولم يضعه فى بيته مثلا حتى يطمئن إلى أن أحدا لن يمكنه الوصول إليه، فضلا عن أنه سوف يكون أسهل عليه من تكلف الذهاب إلى البئر المذكورة والنزول فى الماء والطين لإخفاء العمل السحرى الذى جهزه واحتمال رؤية أحد من الناس له وهو يفعل ذلك؟ ولماذا لم تشف السماء النبى مباشرة بدلا من هذا السبيل المعقد الذى قرأناه؟ وتقول القصة إن النبى، بعد استخراجه السحر، لم يشأ أن يثير على أحد من الناس شرا. وهى عبارة غامضة: فهل المقصود بالناس هنا هم المسلمون؟ لكن أى شر يمكن أن يصيبهم جراء ذلك؟ هل هو الخوف من الفتنة؟ لكن الفتنة وقعت وانتهى الأمر، إذ علم المسلمون أنه مسحور وعاجز عن فعل أى شىء ينقذه من الحالة السيئة التى كان عليها. بل إن الروايات الأخرى فى البخارى ومسلم وابن حبان تقول إنه ، حين قصد البئر ليستخرج منها السحر، قصدها فى جماعة من أصحابه، بالإضافة إلى أنهم لا بد أن يكون قد ثار فى أذهانهم السؤال التالى: كيف ينفى القرآن عن الرسول السحر، وهو ذا أمامنا مسحور بلا أى جدال؟ أم هل المقصود بأحد من الناس هو الساحر؟ لكن ألم يأت فى الأحاديث أن الساحر يجب أن يُقْتَل؟ فلماذا لم يطبَّق هذا الحكم عليه؟ ثم من استخرج السحر من الماء؟ أهو الرسول؟ فهل يليق به ، وهو النبى والحاكم والقائد والمشرع والقاضى، أن ينزل بئرا ليبحث فيها عن عمل من أعمال السحر؟ أم هو واحد من الصحابة؟ فمن هو يا ترى؟ ولماذا لم يقدم لنا تقريرا عما رأى وسمع؟ وهل اكتفى الساحر بسحره مرة واحدة فقط؟ وأين تفاصيل معاناة الرسول عليه السلام؟ وفى الرواية الموجودة فى "لباب النقول" للسيوطى يأمر الرسول صحابته بأن يذهبوا إلى البئر المذكورة فينزحوا ماءها حتى تظهر الصخرة التى وضع السحر تحتها فيستخرجوه ويحرقوه. وهو عمل مرهق يأخذ وقتا ويلفت الأنظار، ولا يتسق مع قول الرسول إنه لا يريد أن يثير بين الناس فتنة، إذ لا بد أن يعلم به القاصى والدانى من أهل المدينة على الأقل. وهذا نص رواية "لباب النقول: "مرض رسول الله مرضا شديدا، فأتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما ترى؟ قال: طُبَّ. قال : وما طُبّ؟ قال: سُحِر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: أين هو؟ قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في كرية. فأْتُوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة ثم خذوا الكرية واحرقوها. فلما أصبح رسول الله بعث عمار بن ياسر في نفر، فأَتَوُا الركية فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكرية وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة. وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة: قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس". ولنلاحظ أن أحد الرجلين اللذين أتيا النبى فى الرؤيا، والمفروض أنهما ملكان، لا يعرف معنى "طُبّ" كما هو واضح. فهل يعقل هذا؟ ثم إن هذه الرواية تتحدث عن إحراق السحر، بينما فى رواية أخرى للبخارى غير الرواية السابقة لا إحراق للسحر ولا حتى استخراج له، علاوة على أن لبيد بن الأعصم فيها يهودى وليس من الموالسين معهم. وفى رواية صحيحة فى "فتح البارى" لابن حجر نقرأ ما يلى: "فقالت أختُ لبيدِ بنِ الأعصمِ: إن يكن نبيًّا فسيُخْبَرُ، وإلا فسيُذْهِلُهُ هذا السِّحْرُ حتَّى يُذْهِبَ عقلَه". وها هو ذا قد أخبر الله نبيه بالسحر وشفاه منه وأبطل كيد ابن الأعصم، فماذا فعلت أخته؟ ولماذا لم يحاجّها المسلمون بشفاء رسول الله ويطالبوها هى وأخاها باعتناق الإسلام؟ لكننا ننظر فنجد أن الأمر قد أُكْفِئَ عليه ماجور وأُهْمِل تماما بعد ذلك، وكأنه لم يكن. بل إن لبيد بن الأعصم، فيما لاحظت، لا يأتى له ذكر فى غير هذا الحديث. أفلم يكن للرجل أى دور فى الحياة غير سحر النبى عليه السلام؟ لكأنه ممثل من من ممثلى الكومبارس ممن يظهرون فى المسرحية أو الفلم فى لقطة خاطفة يقولون فيها جملة سريعة ثم يختفون تماما حتى نهاية القصة، وهم مع ذلك سعداء أن قُدِّر لهم الظهور فى عمل فنى جماهيرى مع الممثلين الكبار. كذلك من الصعب جدا أن نتصور نازحى البئر من الصحابة الكرام وقد سكتوا تماما بعد الحادثة فلم يتعرضوا هم ولا غيرهم من المسلمين للبيد بن الأعصم هذا ولو بتقريع. إن أمرا كهذا لا يمكن أن يكون قد مر مرور الكرام على النحو الذى رأينا وكأننا قبالة موضوع نظرى مجرد لا موضوع حياة يومية فيها معاناة وحيرة وألم ومؤامرات وصراعات؟ ألم يكن للصحابة رد فعل على ما يَرَوْنَه فى رسولهم الكريم؟ أين عمر مثلا فلم يهم بتمحيص المسألة حتى يضع يده على الفاعل الشرير ويعاقبه العقاب اللازم؟ لقد رأينا فى حادثة الإفك وغيرها عالما موارا من الوقائع والمشاعر والاتهامات والردود والتقصى والتمحيص، أما هنا فكلمتان سريعتان أقرب إلى عالم التنظير والتجريد لا تشفيان غليل الباحث. هل يعقل أن يحدث هذا لزعيم دولة وحاكمها وقائدها العسكرى وقاضيها وموجهها، وقبل ذلك كله رسولها، ثم لا نسمع شيئا عن موقف أهل المدينة تجاه هذا الأمر سواء من المسلمين المؤمنين، أو خصومه من اليهود والمنافقين والكافرين؟ وقبل ذلك كله كيف يرضى الله سبحانه و تعريض نبيه لهذا الاضطراب القبيح المُذْهِب للوعى فى مثل هذا الأمر الحساس على يد واحد من أعدائه؟ ثم إن الرواية تتحدث عن نسائه جميعا رضوان الله عليهن، فلماذا لم نر فى الصورة ونسمع غير عائشة؟ أين رد فعل حفصة؟ أين رد فعل زينب؟ أين رد فعل أم سلمة؟ أين رد فعل ميمونة؟ وأين رد فعل بقية أمهات المؤمنين؟ بل أين رد فعل صفية بالذات، وهى يهودية، وكان ينبغى أن يكون لها تعليق على ما صنعه الساحر الموالس لقومها أو الذى هو منهم؟ ويطنطن الكاتب بذكاء اليهود ومهارتهم فى الجدال زاعما أنهم كانوا يتفوقون على محمد كلما دخلوا معه فى مناقشة دينية. لكن هذه تخرصات وأحاديث خرافة، فقد سجل القرآن الكريم تلك المناقشات، فلم نجد إلا قولهم مثلا عن رب العزة: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، أو قولهم لرسول الله: "راعِنَا"، يتظاهرون بأنهم يلتمسون منه النظر إليهم، بينما هم فى الواقع يقصدون وصفه بلغتهم بالرعونة، أو قولهم لمشركى قريش إنهم "أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا" بمعنى أن وثنيتهم هى الحق، ودين محمد التوحيدى هو الباطل. فهل هذه هى المهارة فى الجدال التلمودى؟ ألا بئست المناقشات إذا كانت على هذا النحو من الانحطاط العقيدى والأخلاقى والذوقى! وعلى الجانب الآخر كان القرآن يفضحهم ويخطئهم ويتهمهم بالكذب والعبث بكتابهم ويتحداهم أن يأتوا بدليل على ما يدَّعونه من أباطيل، فيعجزون ويبوؤون بالخزى والهوان، لكنهم أبدا لا يرعوون. وهذه بعض الشواهد القرآنية على ما نقول: "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (البقرة/ 58- 59). "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (البقرة/ 63- 65). "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة/ 75- 79). "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (البقرة/ 84- 89). "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (آل عمران/ 72- 74). "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (آل عمران/ 93- 94). "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة/ 13). "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة/ 32). "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة/ 43- 45). "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة/ 78- 79). "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ" (الأنعام/ 146). "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأعراف/ 138- 140). "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" (الأعراف/ 148- 152). "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (الأعراف/ 163). "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة/ 5- 8)... ولقد كانوا، قبل هجرته إلى يثرب، يقولون لأهلها إنه سوف يأتيهم عما قريب رسول سوف ينضمون إليه ويحاربونهم تحت رايته، فيستأصلونهم. لكن ما إن جاءهم الرسول فعلاحتى انقلبوا عليه وكانوا أول كافر به. ولقد فضح التواءَهم وخبثَ طويتهم أحدُ علمائهم الكبار، وهو عبد الله بن سلام، فى قصة مشهورة عن دخوله الإسلام، ولكنهم لم يستحوا. كما أن صفية أم المؤمنين قد أخبرت النبى بما كانت قد سمعته فى صباها الباكر من حوار بين أبيها حُيَىّ بن أَخْطَب وعمها يعترفان فيه بأنه عليه السلام هو النبى الموعود، لكنهما يتعاهدان رغم ذلك على الكفر به وبغضه وحربه إلى آخر الدهر. وقد كان ما سمعته فى هذا الحوار سببا فى دخولها الإسلام لدى أول سانحة، وفى حبها للرسول وإخلاصها الشديد له وتحملها احتكاك بعض زوجاته الأخريات جراء غيرتهن من هذا الحب الذى كانت تبديه له. فأين الذكاء والبراعة هنا؟ إنهم لأغبى خلق الله فى أمور الخير والتخطيط للمستقبل البعيد، أما فى أمور الخبث والشر القصير النظر فهم أساتذة لا مشاحَّة فى هذا. وإلا فلم يبوؤون بالخسران فى النهاية أمام كل الأمم؟ ولماذا يلعنهم ربهم وأنبياؤهم فى كل سِفْرٍ من أسفار كتابهم المقدس؟ ومما ينبغى التريث إزاءه من دعاوى الكاتب وتبيين عواره وتهافته ما مدح به الإسلام من أنه هو الدين الوحيد الذى يفتح باب الخلاص والنجاة يوم القيامة أمام أهل الأديان الأخرى دون أن يعتنقوه. وهو يستند فى هذا إلى قوله : "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وهذا فهم خاطئ تمام الخطإ. وللأسف انجر إليه بعض المسلمين. ووجه الخطإ فيه هو التسرع فى ولوج تفسير الآية من غير بابها، إذ هى تشترط لنجاة غير المسلمين الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فيظن المتسرعون أن اليهود والنصارى والصابئين والمجوس يؤمنون كما يؤمن المسلمون بالله واليوم الآخر. فإذا عمل أى منهم صالحا فقد ضمن الجنة. لكن لو كان الأمر كذلك فلم اشترطت الآية الشريفة فى غير المسلم الإيمان بالله واليوم الآخر إذا كان ذلك أمرا مفروغا منه كما يظن هؤلاء؟ لقد ذكرت الآيتان 150- 151 من سورة "النساء" أن "الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ، ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا. وأعتدْنا للكافرين عذابًا مُهِينًا". ولا ريب أن معناهما واضح وضوحا يخزق العين، إذ تؤكدان أن الإيمان لا يتحقق إلا إذا شمل جميع الرسل والأنبياء، فكيف يقال مثلا فى المجوسى الذى لا يؤمن بموسى ولا بعيسى ولا بمحمد أو اليهودى الذى لا يؤمن بعيسى ولا بمحمد أو النصرانى الذى لا يؤمن بمحمد أنه مؤمنٌ ناجٍ يوم القيامة مع أن الآيتين تتوعدانهم بالعذاب المهين؟ ولا تتوقف إساءات الكاتب المستخفى وراء اسم "محمد أسد بك" عند هذا المدى، بل رأيناه يتهمه بالاستبداد ونشر الرعب فى المدينة واللجوء إلى السيف فى سبيل إخضاع الناس له ولدينه، وإِنْ غَلَّفَ هذا كله (على طريقته فى تحلية السم) بالقول بأنه عليه السلام إنما فعل ذلك من أجل إقامة الدولة الإلهية (أو "دولة الله" كما سماها مرارا)، وأن هذا هو الذى سوغ له الاستعانة بالتآمر والغدر وسفك الدماء والسلب والنهب. ومقطع الحق فى هذه المزاعم أنها تقلب الأمور رأسا على عقب. فالرسول هو الذى وقع عليه الاضطهاد والأذى من قِبَل المشركين، الذين لم يكتفوا بذلك كله بل خططوا لقتله عشية الهجرة كما هو معلوم لولا أَنّ الله لَطُفَ به فنجاه من كيدهم. ولما كُتِبَت الصحيفة بين المسلمين واليهود وغيرهم من مواطنى يثرب كان اليهود هم الذين نقضوها مرة بعد مرة بعد مرة، واكتفى عليه السلام فى المرتين الأوليين بإجلاء بنى قينقاع وبنى النضير، لكن عندما طف الصاع فى المرة الثالثة كان لا بد من عقابهم العقاب الصحيح: عقاب الخيانة العظمى، الذى كان مع هذا أخف كثيرا مما يأمرهم به كتابهم فى التنكيل بالأمم القريبة منهم دون أن تكون قد ارتكبت فى حقهم شيئا من الخيانة. ثم لا ننس المنافقين، الذين كانوا يشكلون عاملا من أخطر عوامل القلق، ورغم هذا اتسع لهم صدره الشريف وصبر عليهم حتى النهاية بل صلى على زعيمهم رأس الكفر والضلال ابن أبى سلول حين هلك وراح فى ستين داهية! أما المؤمنون فكانوا يلتفون حول رسولهم فى حب وتعظيم دون خوف أو توجس. وكانوا فى تعاملهم معه يتمتعون بأقصى صدر من الحرية فى إبداء الرأى والمشاروة والمراجعة والاعتراض، ولم يحدث أنْ نَهَر أيا منهم أو هدده أو شتمه أو حتى صاح به مجرد صياح. فعجيب إذن أن يتحدث الكاتب الشيطانى عن الدولة البوليسية التى أقامها الرسول فى المدينة حيث كان الناس يؤخَذون بأتفه قدر من الظِّنَّة! ترى لماذا لم يورد لنا أسماء الرجال الذين كانوا يتجسسون على أهل المدينة ويقبضون عليهم ويسوقونهم إلى الرسول؟ ولماذا لم يورد ولو واقعة واحدة من وقائع القبض والتنكيل؟ لقد بلغ من تواضعه لرعيته وإلانة جانبه لهم وخلطه نفسه بنفوسهم فى بساطة متناهية أن كان الأعرابى الفَدْم يأتى إلى بيته عليه السلام فيصيح به مناديا: "يا محمد" كى يخرج لهم، أو يمسك به من جيب جلبابه ويشده حتى يؤثر الشدّ فى رقبته الشريفة، أو يغلظ فى حديثه إليه فى جلافة صائحا: "اعدل يا محمد"... إلخ، ولم يحدث مع ذلك أن عاقب أحدا منهم أو حتى أَنَّبَه. وحينما فتح مكة وصار أعداء الأمس الذين لم يراعوا فيه ولا فى أتباعه إِلًّا ولا ذمةً فى قبضة يده بل تحت قدميه ورهن إشارة منه لم يزد على أن قال: "اذهبوا، فأنتم الطلقاء"، وقد كانوا يتوقعون أن يذوقوا على يديه أبشع ألوان العقاب. أفمن يصنع ذلك مع أعدائه الألداء من كفار مكة يمكن أن يفكر فى نشر الرعب فى قلوب أحبائه وخلصائه من المؤمنين فى المدينة؟ إن المستبدين الذين يخنقون أنفاس رعيتهم: إذا ما ماتوا انقلبت الرعية عليهم وقالت فيهم ما قال مالك فى الخمر، لكننا ننظر فى موقف المسلمين من بعد موته حتى اليوم فنجد حبهم له وإجلالهم إياه وتفانيهم فى طاعته وتمسكهم بالدين الذى جاءهم به ثابتا كالجبال الشوامخ الرواسخ. فما دلالة ذلك يا ترى؟ وقد لجأ الكاتب إلى حيلة خبيثة للتعمية على عقول المسلمين ظنا منه أنه بهذا مستطيع أن يقنعهم بما قاله فى حق الرسول الأعظم. ألا وهى قوله إن الله قد أراد لنبيه، بوصفه بشرا، أن يقترف كل الخطايا التى يمكن أن يقع فيها البشر. والواقع أن هذه الفكرة قمينة أن تنسف النبوة نسفا لأن النبى إنما هو شخص يتفوق على سائر البشر بالمستوى السامق الذى تبلغه أخلاقه الطاهرة وسلوكه الزاكى وعقله الكبير. أما المؤلف الماكر فيريد منا أن نقتنع بعكس ذلك. ولو صح ما يقول فما الفرق حينئذ بين الرسل وأهل الإجرام؟ ذلك أن المجرمين إذا كانوا يقتلون أو يزنون أو يسرقون أو يغدرون أو يكذبون فالرسل أيضا يقتلون ويسرقون ويزنون ويغدرون ويكذبون مثلهم. وعلى هذا فالمسلم العادى الذى لا يقتل ولا يزنى ولا يسرق ولا يكذب ولا يغدر ولا يشرب الخمر، وكثيرٌ ما هؤلاء الذين يصدق عليهم من المسلمين ذلك، هو أسمى خلقا وأنقى سلوكا من الأنبياء. وعندئذ يحق لكل إنسان أن يسأل: وما فائدة إرسال الرسل إذن إذا كانوا هم أول من يخرج على ما ينادون به أو يعجزون عن تحقيقه؟ وعندئذ أيضا لا يكون لقوله : "اللهُ أَعْلمُ حيث يجعل رسالتَه"، وقوله سبحانه يخاطب نبيه موسى: "ولِتُصْنَع على عينى" أو قوله يصف نبيه محمدا: "وإنك لعلى خلق عظيم" أى معنى. فهل هذا معقول؟ أيكون الله قد قال ذلك كله كذبًا ومَيْنًا؟ أستغفر الله مما يرمى إليه هذا اليهودى الحقير! لكن لا بد أن نعرف أن الكاتب، حين قال فى حق الرسول ما قال، كان فى ذهنه ما يمتلئ به العهد القديم من حكايات عن الأنبياء تشيب لهولها الولدان من بشاعة الجرائم التى يقول مؤلفو العهد القديم إنهم عليهم السلام قد اقترفوها: فنوحٌ يظل يعبّ من الخمر حتى يسكر وينطرح على الأرض عارى السوأة. وإبراهيم لا يجد حرجا فى أن يقدم زوجته للملك حين يشعر أنه يريدها لمتعته، وينصرف من حضرته فرحا بما حصل عليه من المواشى تعويضا عن "الهدية" التى تركها له ومضى. ولوط تسقيه ابنتاه خمرا ثم تنامان معه الواحدة بعد الأخرى وتحبلان منه. وداود يطّلع من فوق سطح قصره على امرأة قائده وهى تستحم فى فناء البيت المجاور، ثم يتآمر على قتل الزوج المسكين المتفانى فى طاعته وحماية دولته كى يخلو له وجه المرأة التى تزوجها بعد ذلك وأنجب منها سليمان. وسليمان لا يجد غضاضة فى أن تعبد زوجاتُه الوثنياتُ الأصنامَ فى بيته... إلى آخر هذه العفونات والنتانات التى نسبها هؤلاء الأفاكون إلى صفوة خلق الله بكل بجاحة ووقاحة، فجاء كاتبنا وأراد أن يزيد الطينَ بِلَّةً بل بِلَّاتٍ زاعما أن محمدا إذا كان قد سفك الدماء وغَدَرَ وأضاف إلى القرآن ما ليس منه فى مدح اللات والعزى ومناة وغلبته شهوته إلى النساء فهى تصرفات طبيعية جدا لأنه بشر، وما دام بشرا فلا بد أن يرتكب كل خطيئة يمكن أن يقترفها بشر. ترى بالله ماذا يتبقى إذن من النبوة؟ وكم تساوى حينئذ؟ إنها تصبح كحزمة الفُجْل أيام كانت العَشَرَةُ منها بقِرْش! كذلك لم يَدَعْ أسد بك فرصة تمرّ دون أن يهتبلها ليشوه شخصيات الصحابة الكرام. وقد رأيناه يغمز مرتين على الأقل عَمْرَ بن العاص بأن أمه كانت عاهرة. لقد كانت أمه رضى الله عنه من سبابا الجاهلية وانتقلت من يد إلى يد حتى استقرت عند العاصى أبيه، وكانت تحترف الغناء كأمثالها من القيان فى ذلك الزمان. ولتكن أم عمرو بعد ذلك ما تكون فما الذى يضير عمرا فى هذا؟ أهو الذى صنعها وسواها وزين لها طريق الخطإ والانحراف؟ إن الفتى ليس هو الذى يقول: "كان أبى أو كانت أمى"، ولكن الفتى من يقول: "هأنذا". ولقد قالها عمرو فى مسمع التاريخ، فصغا التاريخ له منصتا بجمع انتباهه وملء وعيه وكيانه، وحفظ بطولاته وإنجازاته وفتحه البلاد وتدويخه إمبراطورية الرومان وامتلاكه درة تاجها أرض الكنانة، التى تدين له بتحررها من الاستعمار الرومانى ودخولها الإسلام الحنيف وتعرُّب لسانها. والغرب لا يستطيع أن ينسى لعمرو ما فعله بالإمبراطورية الرومانية، فلذلك يحاول النيل منه بلسان ذلك المستشرق وأمثاله بالإيماء إلى ما كانته أمه فى الجاهلية. وعجيب أن يلجأ أسد بك إلى هذا، وهو الغربى الذى تؤمن حضارته بالفردية وتعرف للشخص قيمته فى ذاته. كما أن الانحراف الجنسى لا يشكل عندهم أية مشكلة، فكل إنسان حر فيما يفعل بجسده، والجنس عندهم كالطعام والشراب والهواء، لا حرج فيه بأى حال من الأحوال. ولكن لا عجب فى الحقيقة، فكله فى سبيل الرغبة فى إهانة الإسلام ورجالاته يهون. أما دعواه باحتقار النبى عليه السلام لعمه العباس فأمر غير وارد البتة، فقد كان محمد من نبل النفس واحترام الكبير، فضلا عن أن يكون هذا الكبير هو عمه، بحيث لا يتصور أن يخطر هذا الشعور بنفسه نحو العباس، إذ ما الذى فعله العباس حتى ينطوى قلبه له على الاحتقار؟ إننا لم نسمع أنه قد احتقر عمه أبا لهب رغم كل ما صنعه أبو لهب وزوجته به وموته على الكفر، فكيف يحتقر عمه العباس، الذى آمن به ووقف معه ليلة العقبة الثانية، وكذلك يوم فتح مكة، وهما من أهم المناسبات فى حياته المباركة العظيمة؟ وكان العباس من القلائل الذين بَقُوا حوله عليه الصلاة والسلام حين تفرق عنه معظم الصحابة بسبب ما أخذهم من مباغتة هوازن، التى انصبت عليهم من فوق الجبال والتلال، وهم مطمئنون إلى أنهم لن يُغْلَبوا من قلة. لقد كان النبى أكبر وأعظم وأنبل من أن يمر بقلبه الكبير الرحيم شعور الاحتقار تجاه أحد، فكيف يواتى أىَّ إنسان عنده مسكة من عقل القولُ بأنه كان يحتقر عمه العباس لأنه تأخر فى دخول الإسلام، فضلا عن أن يكون أعظم الناس نصيبا من احتقاره كما قال المؤلف الحاقد المنحط فى موضع آخر من الكتاب؟ لقد كان الرسول يكاد يبخع نفسه حزنا وألما على من لا يصغون لدعوة الحق التى أتى بها بسبب حبه للبشر ورغبته الجارفة فى أن يجنبهم عذاب الجحيم. فهو إذن لا يعرف الاحتقار بل الإشفاق والعطف. وما بالنا بمن آمن كالعباس؟ ثم أليس الرسول هو القائل: "لَأَنْ يهدى الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس"؟ فكيف، بعدما نجح فى هداية العباس إلى الإسلام، يحتقره؟ ولا ننس أن العباس كان عديل رسول الله مما يزيدهما قرابة ويجعل الرحم التى تربطهما أوثق وأمتن. |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
مختصر محاضرة ( ضوابط فهم السيرة النبوية ) للعلامة صالح آل الشيخ | أحمد بن حسنين المصري | حلقة العلوم الشرعية | 14 | 28-10-2013 08:35 AM |
[نشرة] جوانب من السيرة النبوية | المجاهدة | مُضطجَع أهل اللغة | 1 | 13-01-2013 03:44 PM |
السيرة النبوية | وليد العربية | حلقة العلوم الشرعية | 0 | 13-08-2008 09:43 PM |