وقال-
-:
وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

ذكرَ أبو حيّانَ-

-في "الارتشاف" (4/ 1836، 1837) أنّهُ يجوزُ لكَ حذْفُ المضافِ إذَا كانَ الكلامُ مشعرًا بِهِ، فإن لم يكنْ مشعِرًا بِهِ لم يجُزْ حذْفُهُ إلا فِي ضرورةٍ، قالَ: «وإذَا حذِفَ فلَهُ اعتبارانِ:
أحدُهُمَا: وهُوَ الأكثَرُ فِي لسانِ العرَبِ أن تجرَى الأحكامُ علَى لفظِ مَا قامَ مَقامَهُ كقولِهِ-

-:

وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا

يريدُ: (أهلَ القريَةِ)، وأعادَ الضمِيرَ علَى لفْظِ (القَرْيَة).
والآخَرُ: أن تجرَى الأحكامُ علَى المحذوفِ، فيراعَى ما يعودُ عليْهِ، ومنْهُ قوْلُهُ-

-:

أَوۡ كَظُلُمَٰتٍ فِي بَحۡرٍ لُّجِّيٍّ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٌ

تقديرُهُ: (أَوْ كذِي ظلماتٍ)، فأعادَ الضميرَ في (يغشاهُ) على المحذوفِ لا ما قامَ مَقامَهُ»

قالَ: «وممّا جاءَ فيهِ مراعاةُ الأمريْنِ قولُهُ-

-:

وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

تقديرُهُ: (وكَمْ مِن أهْلِ قريَةٍ)، فأعادَ الضميرَ في (أهلكنَاهَا فجاءَهَا) علَى لفْظِ (قريَةٍ)، وأعادَ الضميرَ فِي (أوْ هُمْ قائلُونَ) علَى (أهْل) المحذوفِ»

وفي "الدر المصون" (5/ 248): «ولا بدّ من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله-

-:

أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

، فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف، ثم منهم مَنْ قَدَّرَهُ قبل (قرية)، أي: (كمْ مِن أهلِ قريَةٍ)، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل (ها) في (أهلكناها)، أي: (أهلكْنَا أهلَهَا)، وهذَا ليس بشيْءٍ لأنّ التقاديرَ إنّما تكونُ لأجلِ الحاجةِ، والحاجَةُ لا تدعُو إلَى تقديرِ هذا المضافِ في هذينِ الموضعينِ المذكورينِ لأنّ إهلاكَ القرية يمكِنُ أن يقعَ عليْهَا نفسِهَا، فإنَّ القرَى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوِه، وإنَّما يُحتاج إلى ذلك عندَ قوْلِهِ:

فَجَآءَهَا

لأجلِ عَوْدِ الضميرِ مِنْ قولِهِ:

هُمۡ قَآئِلُونَ

عليْهِ، فيُقَدَّرُ: (وكم مِن قريَةٍ أهلكنَاهَا فجاءَ أهلَها بأسُنا). قال الزمخشري: «فإن قلتَ: هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو (الأهل) قبل (قرية) أو قبل الضمير في (أهلكنَاهَا)؟ قلتُ: إنَّما يُقَدَّرُ المضافُ للحاجةِ ولا حاجةَ، فإنَّ القرية تَهْلِكُ كما يَهْلِك أهلُهَا، وإنَّما قدَّرناهُ قبل الضميرِ في (فجاءها) لقوله:

أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

»

وقالَ السمينُ بعدَهَا (5/ 249): «واعلمْ أنَّهُ إذا حُذِفَ مضافٌ، وأقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَه، جاز لك اعتبارانِ،
أحدُهما: الالتفاتُ إلى ذلك المحذوفِ، و
الثاني-وهو الأكثر-: عدمُ الالتفاتِ إليْهِ، وقد جُمِعَ الأمرانِ ههُنَا، فإنَّهُ لم يُراعِ المحذوفَ في قولهِ:

أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا

، وراعاهُ في قوله:

أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

، هذَا إذَا قدَّرْنَا الحذْفَ قبلَ (قريَةٍ) ، أمَّا إذَا قدَّرْنَا الحذْفَ قبل ضميرِ (فجاءَهَا)، فإنَّهُ لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط، وهو غيرُ الأكثَرِ»

قلتُ: فعلَى قوْلِ الزمخشَرِيّ في تقديرِ المحذوفِ قبلَ (فجاءَهَا) لا تكون الآيةُ جمعَتْ بين الأمريْنِ اللذينِ ذكرَهُمَا أبو حيّانَ، وإنَّمَا يكونُ فيهَا مراعاةُ المحذوفِ لا غيْرُ، علَى أنَّ الزمخشرِيّ ذكرَ فِي "المفصّل" أنّ الآيةَ ممّا جاءَ للثابِتِ والمحذوفِ جميعًا، قالَ شارحُهُ ابنُ يعيشَ (2/ 195، 196): «وأمَّا قوْلُهُ-

-:

وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

، فالمرادُ: (وكَمْ مِن أهلِ قريَةٍ)، ثُمَّ حُذِفَ المضافُ، وعادَ الضميرُ علَى الأمرَيْنَ، فأُنِّثَ في قولِهِ:

فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا

نظرًا إلَى التأنِيثِ فِي اللفْظِ، وهُوَ (القريَةُ)، وذُكِّرَ في قوْلِهِ:

أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ

مُلاحَظةً للمحذوفِ» انتهى.