ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 27-03-2023, 08:25 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي العلم المحيط

ومن قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وذلك مما أحاط بالعلوم كافة ، وَإِنِ اخْتُصَّ الغيبُ بالذكر في هذا الموضع من آيِ الذِّكْرِ المحكَمِ ، فالشهادة تدخل في حد العلم الإلهي من باب أولى ، وذلك ما نص عليه الوحي في مواضع أخرى قد أَطْنَبَ فِيهَا فَذَكَرَ أجزاء القسمة : الغيب والشهادة ، طباقَ الإيجاب الذي استغرق كلا الوجهين ، كما في قوله : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، فَثَمَّ من الإشارة إلى بَعِيدٍ صدرَ الآيةِ ما يحكي ، من وجه ، التعظيم ، فهو يشير إلى ما انْقَضَى في السباق المتقدم من وصف الرب الذي أَنْزَلَ الحق : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) ، والإله الذي خلق السماوات والأرض : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وذلك منصب التقدير والإيجاد ، وما زاد من تصوير وبدع لا على مثال تَقَدَّمَ في الخلق ، وما تلا من تدبير الأمر : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) ، فَكُلُّ أولئك من مَعْنًى يَعْظُمُ قد استجمع ، لو تدبر الناظر ، الجلال والجمال كافة ، فكان منه الكمال المطلق ، وهو محل ثَنَاءٍ وَحَمْدٍ ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، إشارة إلى بعيد ، فهو ، جل وعلا ، مما علا بالذات والوصف ، والإشارة في هذا الموضع مما به يستأنس من يُثْبِتُ وصفَ العلو ، علو الخالق ، جل وعلا ، فهو مما ثَبَتَ نَقْلًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً ، فَثَمَّ من مُبَايَنَةِ الخالق لِلْمَخْلُوقِ واجب في النظر ضروري في الحكم ، وإلا لم يكن ثم خلق ، فلا بد له من خالق أول له من وصف الأولية المطلقُ ، فدلالة المحدَث على المحدِث : دلالة العلم الضروري الملجئِ ، وقياس النظر تال ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أن هذا الخالق الأول الذي إليه يَنْتَهِي الأمر ، وعنه تصدر أسبابُ الخلقِ من كلم كوني يَنْفُذُ ، فَاسْتِقْرَاءُ العقلِ أَنَّ هذا الخالق إما أن يكون أسفل الخلق وذلك نقص ، فلا يكون المخلوق أعلى من الخالق بداهة ، وإما أن يكون محاذيا للخلق ، وذلك ، أيضا ، مما يخالف عن القياس الناصح ، إذ يُسَوِّي بين مختلفين ، ولو في اشتقاقِ الوصفِ ، اسم الفاعل "خالق: ، واسم المفعول "مخلوق" ، وهو ما يُفَرِّقُ بين المسميات في الخارج فَرْعًا عن أول في الأسماء المشتقة ، وإما أن يكون أعلى من المخلوق ، وذلك الكمال المطلق الذي يجب ضرورةً للخالق ، جل وعلا ، فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ آنف الذكر ، وهو من طُرُقِ النظر المعتبرة في الأصول ، السبر والتقسيم قد استوفى أجزاء القسمة كَافَّةً ، فَأَبْطَلَ اثنين وَصَحَّحَ الثالث ضرورةً في العقل تُوَاطِئُ ما نَصَحَ من فطرة الخلق إذ يجد صاحبها حاجةَ ضرورةٍ تُلْجِئُ إذا كان دعاء أو كرب أَنْ يَرْفَعَ البصر إلى أعلى ، وهو ما يصدر عن أولى في الجنان تضطر صاحبها أن يَتَوَجَّهَ باطنه إلى خالق أعلى ، فيكون من ظاهر البصر ما يصدق ما كان أولا من فعل الباطن ، فالظاهر عنه يُفْصِحُ وَلَهُ يُصَدِّقُ ، وذلك تلازم ضرورة في الباب ، فكان من إشارة البعيد في "ذَلِكَ" ما يحكي هذه المعاني كافة ، فالبعد قد استغرق الذات والوصف ، وإن قَرُبَ الذكر في سِبَاقٍ تَقَدَّمَ مِنَ الذِّكْرِ ، وكان من تلك الإشارة آخر يُوَاطِئُ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، كَانَ مِنْهَا مَا اطَّرَدَ فِي لسانِ العربِ وَبِهِ قَدْ نَزَلَ الذِّكْرُ ، أَنَّ مَا انْقَضَى ، وَلَوْ قَرُبَ بِهِ العهد فهو كالبعيد ، إذ كلاهما مما انْقَضَى في الذكر ، وَذَانِكَ وجهان بهما تأويل الإشارة في هذا الموضع ، وكلاهما ، لو تدبر الناظر ، صحيح يجزئ ، وبه ، من وجه ، يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، إذ لفظ الإشارة واحد ، وله من الاحتمال ما تَعَدَّدَ ، ولكلٍّ وجهٌ في النطق معتبر ، فحسن الجمع إِثْرَاءً لسياق واحد بِجُمَلٍ من المعاني تَكْثُرُ ، ومن ثم كان الإخبار بما استغرق ، فكان من طباق الإيجاب بين الغيب والشهادة ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج ، قسمة المعلوم ، وإن كان ثم آخر يجاوز فهو يستغرق الواجب والجائز والممتنع ، فالممتنع وإن لم يكن له وجود في الخارج لا في غيب ولا في شهادة فَهُوَ عَدَمٌ ، إلا أن العلم يَتَنَاوَلُهُ ، ولو الفرضَ الذي يُتَنَزَّلُ بِهِ في الجدال مع الخصم ، كما في مواضع من الذكر المحكم ، ومنها قوله : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وليس له ، جل وعلا ، بداهة ، وَلَدٌ ، فذلك من النقص المطلق الذي تَنَزَّهَ عنه ضرورةً في الخبر والنظر ، فكان فَرْضُهُ الْفَرْضَ المجرَّد تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فإنه مما امتنع الامتناع الذاتي فلا وجود له في الخارج يصدق ، إِنِ المشهودَ أو المغيَّبَ ، فليس إلا العدم الذي لا يجاوز في العلم حَدَّ الفرض المجرد ، فكان من الإخبار في قوله : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، كان منه ما استغرق بِمَا تقدم من طباق الإيجاب المستغرق لأجزاء القسمة في الخارج ، وثم من القصر بتعريف الجزأين "ذَلِكَ" و "عالمُ الغيبِ والشهادةِ" ، ثم منه ما يحكي الحصر والتوكيد فذلك مما به ينصح التوحيد ، توحيد الله ، جل وعلا ، فمنه توحيد الوصف ، ومن الوصف ما ذُكِرَ مِنَ العلمِ ، العلم المستغرق لِغَيْبٍ وَشَهَادَةٍ ، فَثَمَّ اختصاص قَدْ أَفْرَدَ الرَّبَّ ، جل وعلا ، بالوصف ، وإن كان ثم اشتراك يَثْبُتُ فَفِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، جنسِ العلم ، فَثَمَّ شَرِكَةٌ فِيهِ تَثْبُتُ ، وذلك أصل من المعنى أول ، فلا يكون ثَمَّ كَلَامٌ يُفْهِمُ إِلَّا أن يكون منه جنس أعلى يَسْتَغْرِقُ ، فذلك محل الاشتراك المعنوي وليس يلزم منه ما التزم المعطلة في الإلهيات ، أن الاشتراك في المعنى يجاوز إلى آخر في الخارج فيكون التشبيه أو التمثيل في الذوات أَنْ كَانَ ثَمَّ اشتراك في المعاني المجردة التي اشتقت منها الصفات ، فالمعاني المجردة لا وجود لها يجاوز الذهن ، ولا يلزم من الاشتراك فيها آخر يجاوز في الخارج ، بل نَفْيُهَا يُفْضِي إلى تَعْطِيلٍ يَعُمُّ فهو يُجَاوِزُ الإلهيات إلى سائر الخبريات وَالْحُكْمِيَّاتِ ، بَلِ الْتِزَامُهُ يُبْطِلُ دلالة اللسان إذ يُعَطِّلُ منه الأجناس الدلالية العليا التي يَتَنَاوَلُهَا النطق المركَّب بما يكون من سِيَاقٍ يَنْتَظِمُ الكلمات فَتُفِيدُ بالجمع ما لا تُفِيدُ بِالْفَرْقِ ، ويحصل من ذلك القيد الذي يميز الحقائق في الخارج ، وَإِنْ كَانَ ثم اشتراك في المعنى المجرد في الذهن ، فَيَمْتَازُ عِلْمُ الخالق ، جل وعلا ، من علم المخلوق ، وإن اشْتَرَكَا في الجنس الأعلى المطلق من العلم الذي يجرده الذهن ، وَعَلَى هذا فَقِسْ فِي نصوصِ الإلهيات كافة ، فذلك أصل يَنْصَحُ في الباب ، وبه إبطال التمثيل والتعطيل كافة ، كما يقول بعض من حقق ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى القدرَ المشترك في الذهن فقد عطل المعنى كافة ، ومن نَفَى القدر الفارق في الخارج فقد شَبَّهَ أو مَثَّلَ ، ومن أَثْبَتَ كِلَا الوجهينِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ النَّقِيضَيْنِ : التعطيلِ والتمثيلِ ، فَوَاطَأَ المذهبَ الحقَّ في بابِ الاسم والوصف : الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل ، فحصل من القصر في هذا الموضع : قَصْرٌ حقيقي بالنظر في الخارج ، وصف الرب الخالق ، جل وعلا ، إذ انْفَرَدَ بكمالِ الوصفِ ، وصفِ العلمِ المستغرِقِ لِمَا غَابَ وَمَا شُهِدَ ، ومن ثم كان الإطناب بالإخبار في قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو مما يواطئ مذهبا في النحو يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الأخبار ، وهو مما يحسن في باب الثناء بالإثبات ، فالأصل في الباب : إثبات مُفَصَّلُ وَنَفْيٌ على ضد فهو المجمل ، فالإطناب في الثناء بأوصاف الكمال مما به المدح يَزِيدُ ، ومثله لو كان في النفي لكان من العيب إذ نَفْيُ العيب حيث يستحيل العيب عيب ، فلا يكون الإطناب بسرد الأوصاف المذمومة ، ولو في سياق النفي ، فيقال : ليس بكذا وليس بكذا فذلك مما يقبح في مدح آحاد من الخلق فكيف بالخالق ، جل وعلا ، فانتفى ذلك القول في حقه من باب أولى وإنما يكون النفي في حقه إجمالا ، إلا أن يكون ثَمَّ من شبهة أخص ما استوجب الرد ، كما نَفْيُ الصاحبةِ والولد إذ أَثْبَتَهُمَا من كفر ، فكان النص على النفي خاصة دحضا لهذا القول المفحِش .
فكان من الإطناب باسم العزة جمالا والرحمة جمالا ، في قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو ، أيضا ، مما به الكمال المطلق يثبت ، مع دلالة الاستغراق في كُلٍّ ، وهو ما رَفَدَ الاثنين بِعَهْدٍ أَخَصَّ ، إذ تَحْكِي "أل" : العموم المستغرِق لوجوه المعنى ، فلا يكون استغراق المعنى عِزَّةً ورحمةً إلا لواحد في الخارج هو : الرب الخالق جل وعلا .
فَثَمَّ من ذلك ما قُرِنَ فيه الغيب بالشهادة ، كما في الموضع آنف الذكر : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وهو ما يَجْرِي فِي الْحَدِّ ، كَمَا ذَكَرَ أهلُ الشأنِ ، مَجْرَى الاسم المقيد بالإضافة ، الإضافة إلى الغيب والشهادة ، وهو ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، مِمَّا يَجْرِي ، أيضا ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن العام في الباب يجاوز الغيب والشهادة ، فَثَمَّ العلم بالمعدوم والموجود ، فليس الغيب يضاهي المعدوم ، كما يظهر بادي الرأي ، بل المغيب ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته آحاد فَمِنْهُ الموجود بالفعل في الخارج ، ومنه الموجود بالقوة في التقدير الأول ، ومنه المعدوم الممتَنِعُ ، سواء أكان الممتَنِع لذاته فَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فَرْضًا مجرَّدا في الذهن إذ لَا يَتَصَوَّرُهُ الناظر مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، أم كان الممتنع لِغَيْرِهِ فَثَمَّ من التقدير الأول ألا يكون فلا وجود له في الخارج إذ رجحت القدرة امتناعه ، وإن جاز بادي الرأي ، فالقدرة قد ترجح الإيجاب فَيُوجَدُ ، وقد ترجح السَّلْبَ فَيُعْدَمُ ويمتنع ، وإن كان ابتداء من الجائز المحتمل ، فكل أولئك مما يَدْخُلُ في العلمِ فهو من العام الذي لا أَعَمَّ منه ، فَيُجَاوِزُ المذكور من الغيب والشهادة إلى كل معلوم وإن كان من المعدوم فليس له وجود ، فكان من الاسم ما قُيِّدَ في هذا الموضِعِ ، فليس من الأسماء الحسنى وإن كان حسنا في المعنى والدلالة ، فشرط الأسماء الحسنى : الإطلاق ، كما الاسم المطلق في مواضع أخرى من الذكر المحكم ، فكان إطلاق اسم "العليم" في مواضع ، كما في قوله : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التدرج من أدنى وهو العلم الذي يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، فكان التدرج من أدنى إلى أعلى ، فإن الخبير من يَعْلَمُ الدقائق خاصة ، وكما في قوله : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فَثَمَّ من السياق ما اسْتَغْرَقَ القسمة ، عِلْمًا يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، وحكمة بها تأويلُ المعلوماتِ المقدوراتِ أن توجد على سنن الإتقان فَيُوضَعَ كُلٌّ في الموضع الذي يُوَاطِئُ ، فذلك المطلق من اسم "العليم" ، وثم آخر هو المقيد بِقَيْدٍ هو ، لو تدبر الناظر ، كَلَا قَيْدٍ ، فَقُيِّدَ بالعموم المستغرق نصا ، وهو عموم "كُلِّ" في قوله : (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وهو ، كما تقدم في موضع ، العموم المحفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص ، ولو بالعقل ، كما في باب القدرة ، فإنها مما خُصَّ بالعقل ، فَخُصَّ عمومها في قوله : (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، خص بالجائز ، فالله ، جل وعلا ، على كل جَائِزٍ قدير ، فليس يدخل في هذا العموم : الممتنع لذاته ، كما يذكر أهل الشأن ، وقد ضربوا له المثل بالموت ، وهو نَقْصٌ مطلق ، وذلك مما امتنع في حق الله ، جل علا ، الحي القيوم ، فلا يقال إنه يقدر أن يموت ، أو يقدر أن يخلق مثله فيكون في الوجود اثنان يحملان اسم الإله ، وهو ، أيضا ، مما امتنع لذاته ، إذ يَنْقُضُ المعلوم الديني الضروري في باب التوحيد ، وَيَنْقُضُ آخر من سنن التكوين ، فإن العقل يقضي ضرورة أن الأمر يَفْسَدُ إِذَا كان ثَمَّ أكثر من واحد يأمر ، فلا يستقيم الأمر إن في التكوين لدى المبدإ أو في التدبير بَعْدًا ، لا يستقيم الأمر إلا أن يُرَدَّ إلى واحد ، له من الوصف اسم الواجب ، واجب الوجود أولا فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فوجوده الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وَلَهُ مِنَ الأولِيَّةِ ما أُطْلِقَ فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حَسْمُ التَّسَلْسُلِ فِي الْعِلَلِ ، فلا يكون ذلك إلا أن تُرَدَّ جميعا إلى علة أولى لا علة قَبْلَهَا ، فكان منها كلم تكوين هو الأول ، وهو من عِلْمٍ أَوَّلَ قَدْ أحاط بِكُلِّ شَيْءٍ ، فعمومه ، كما تقدم ، المحفوظ من كلِّ وجهٍ ، فدخل في حده الواجب ، فهو أعلم بذاته واسمه ووصفه وفعله وحكمه من كل أحد ، كما أن نَبِيَّهُ الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم الخلق به ، فلا يَعْدِلُ علمُه ، مع ذلك ، عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، بنفسه ، وفي الخبر : "فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ" ، فَثَمَّ محامد لا يعلمها أحد من الخلق حتى يعلمها صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ساجد بين يدي رَبِّهِ الأعزِّ الأكرمِ ، جل وعلا ، وَدَخَلَ في علمه ، جل وعلا ، العلم بالجائز من المقدور ، سواء أكان في العدم فذلك علم أول قد أحاط في الأزل أم صَدَّقَهُ وجود تَالٍ في الخارج ، فيكون منه علم تال يصدق ما كان أولا في التقدير المحكم ، فذلك إحصاء ثان بعد تقدير أول ، فالجائز قد صار الواجب بما احتف به من قرينة من خارج ، فكان من الترجيح ما أخرجه من العدم إلى الوجود ، من المقدور إلى الموجود ، فَعَلِمَهُ الله ، جل وعلا ، قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ وَلَمَّا يَزَلِ المعدومَ أولا وَإِنِ الجائزَ في حَدِّهِ ، وَعَلِمَهُ بَعْدَ أَنْ صار واجبا بما احتف به من قرينة من خارج تُرَجِّحُ قَدْ صيرته الواجب ، وإن لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُوجِدَهُ فهو الممتنع ، وإن كان الجائز لدى المبدإ ، فلم يكن ثم مرجِّح من خارج يُوجِدُ ، فَعَلِمَ الله ، جل وعلا ، في الأزل امتناعه ، وإن كان جائزا يحتمل ، وَعَلِمَ أَنْ لَوْ وُجِدَ فصار الواجب بما كان من المرجِّح ، علم ما لو وُجِدَ كيف يوجد ويكون ، وعلمه ، مع ذلك ، قد استغرق ثَالِثًا وهو ما تَقَدَّمَ من الممتَنِعِ لذاته فلا يوجد ، ولو وجود التقدير الأول ، وإنما غايته أن يُفْرَضَ في الذهن ، ويكون من لَوَازِمِهِ ما يجادل به الخصم من باب : سَلَّمْنَا أَنَّ مَا تَفْرِضُ من المحال الممتنع صحيح ، فلازمه كذا وكذا ، وهو ظاهر الفساد ، فينقطع الخصم ، فَعِلْمُ الله ، جل وعلا ، قد استغرق ذلك من باب العلم بِلَازِمٍ ، وإن امتنع ملزومُه الأول ، فذلك العموم المستغرق من كل وجه في قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فاستغرق ما تقدم من الغيب والشهادة ، واستغرق الموجود والمعدوم ، واستغرق في قسمة النظر : الواجب والجائز والممتنع ، وأما القدرة فلا تُنَاطَ بالممتنع لذاته ، فإنه ليس بجائز ابتداء لِيُنَاطَ بِالْقُدْرَةِ ، وإنما غايته ، كما تقدم ، أن يفرض الفرض المجرد فَيُنَاطَ بالعلم من باب التَّنَزُّلِ في الجدال مع الخصم ، فعموم قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : عموم محفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص من أي وجه ، وعموم قوله : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، عموم يدخله التخصيص من وجه ، إذ خُصَّ بالعقل فلا يدخل فيه المحال الممتنع لذاته على التفصيل آنف الذكر ، وهو ما حُدَّ في كُلٍّ حَدَّ الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" و : "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ، مع توكيد بالناسخ "إِنَّ" واسمية الجملة ، فهي تحكي الثبوت والديمومة ، فذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، وصف الكمال المطلق الذي ثبت لدى المبدإ فهو الأول ، وتلك الأولية المطلقة التي ثَبَتَتْ في الأزل فَلَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ أول ، بل وصفها وصف الواجب الأول ، الواجب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارجٍ يَتَقَدَّمُ فيكون له من الأولية ما يسبق أولية الواجب فذلك ما لا يتصور وإلا سُلِبَ الواجب الأول وَصْفَهُ فَصَارَ جَائِزًا تَالِيًا يَحْتَمِلُ ، فلا يُوجَدُ وَيُوجَبُ إلا أن يسبقه أول هو الواجب الموجِد ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَثْبُتُ فلا يحسم مادته الممتنعة في الأزل إلا واجب أول لا أول قبله ، فهو الموجود الحاصل الثابت في الخارج بلا موجِد يَتَقَدَّمُ ، بل كل ما سواه فعنه يصدر ، فهو الموجِد لغيره بوصف الخلق والإيجاد المتعدي ، وله من الوجود الأول الكامل ، الوجود الذاتي الذي لا يفتقر إلى آخر من خارج يوجده ، فهو الغني غِنَى الذات ، المغْنِي لِغَيْرٍ بما يَرْفِدُ من الأسباب ، فيكون منها ما يباشر المحال وبه تستغني بعد أن توجد أولا بإيجاد عنه يصدر ، فهو الواجب في الوجود أولا ، الْغَنِيُّ الْغِنَى المطلقَ أولا ، فذلك وصف ذاته ، وثم آخر هو وصف فعله الذي يَتَعَدَّى ، فهو الموجِب لِغَيْرِهِ بِسَبَبٍ عنه يصدر ، كلمة تكوين تَنْفُذُ ، وهو المغني لِغَيْرٍ بِمَا يَرْفِدُ من أسبابِ الغنى ، فكلُّ وجودٍ سوى وجوده فَمُحْدَثٌ لم يكن في الأزل ، وكل غنى سوى غِنَاهُ فَمُحْدَثٌ قد سُبِقَ بالفقر ، فإليه يفتقر الخلق كافة ، إن في الإيجاد الأول ، أو في إعدادِ المحال أَنْ تَقْبَلَ ، أو إمدادها بأسباب الغنى والصلاح ، فَبِهَا تَسْتَغْنِي ، وبها توجد فَيَكُونُ من إيجابٍ من خارج ما يُرَدُّ إلى موجِد أول لا موجِد قَبْلَهُ ، فَثَمَّ من الأولية : أولية مطلقة قد عمت فاستغرقت الذات والاسم والوصف والفعل والحكم كَافَّةً ، ومنه العلم والقدرة ، وهما محل شاهد تقدم ، فثم من الاسمية في كلتا الآيتين : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، و : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ثَمَّ منها ما يحكي الثبوت والديمومة وهو ما عم فاستغرق الأزل والأبد ، فَلَهُ ، جَلَّ وَعَلَا ، منهما اسم الأول واسم الآخر ، وهو أصلٌ يُسْتَصْحَبُ إِنْ في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، وإن كان من آحاد فعل ما يحدث إذ يُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ ، فَنَوْعُهُ مع ذلك يَقْدُمُ إذ أحاط به علم أول يستغرق ، فَثَمَّ من الاسمية حكاية إطلاق في الوصف لم يَسْتَفِدْ من الكمال ما لم يكن ، بل كماله ، كما تَقَدَّمَ ، أول ذِاتِيٌّ فلا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، وكل كمال في الوجود بَعْدًا فَعَنْ كماله الأول يصدر ، وكل أولئك مما حسن لأجله التوكيد آنف الذكر ، ومنه التوكيد بتقديم ما حقه التأخير في محل القدرة : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وثم آخر في محل العلم : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #2  
قديم 29-03-2023, 11:38 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

ونظيره ما تقدم مبدأ الكلام في قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، إذ حُدَّ ، أيضا ، حَدَّ القصر بتقديم الظرف "لله" ، وحقه التأخير ، فذلك مما اختص به الرب ، جل وعلا ، فكان من دلالة اللام : دلالة الاختصاص والاستحقاق ، ولا تخلو من أخرى هي الملكية ، فإن من الغيب محدَث في الخارج ، كما المثل يضرب بكوائن وعوالم لا تدرك بالحس ، فعدم وجدانه لها لا يَسْتَلْزِمُ عدم وجودها في نَفْسِ الأمر ، فذلك من التحكم بمكان يظهر ، بل ثم من المحسوسات ما يحول بعد مكان أو حجاب يحجز ، ولو جدارا يُقَامُ بَيْنَ الناظر وما وراءه ، فهو ، بادي الرأي ، مما يدرك بالحس ، وإنما حال الحائل فصار المشهود مُغَيَّبًا لدى المحجوب ، فافتقر إلى خبر من شاهد يَرَى ما لا يَرَى الأول الذي يقبل الخبر إذا كان مبدأَ النظر جائزا فَلَيْسَ من المحال أو الممتنع لذاته إذ يخالف عن رِكْزِ الضرورةِ في العقل ، من مقدمات أولى لا يستقيم استدلال إلا بها ، فذلك معيار أول في قبول خبر غيب من خارج ، وثم تال ينظر في عدالة المخبِر بما غاب فلم يُشْهَدْ ، وينظر في آخر من ضبطه فهو صحيح الحس لَا يَضطَّرِبُ ، حافظ لا يختلط ، فصار من ذلك غَيْبٍ يُصَدِّقُ به من لم يشهد بالحس خاصة ، وإن كان المخبر به مما يشهد بالحس عامة ، فلا ينفك ، ولو صَيَّرَ حِسَّهُ هو دليل الإثبات الأوحد ، لا ينفك يؤمن بالغيب ، فحسه ، بداهة ، لا يستغرق كل موجود ، وإن كان ، في الجملة ، من المشهود ، فليس عدم وجدانه في الخارج دليلا يحكي عدم الوجود في نفس الأمر ، فَلَزِمَهُ أن يقبل من خبر الغيب ما صح دليله المنقول ، كما المثل آنف الذكر قد ضُرِبَ بكوائن وعوالم لا تدرك بالحس ، وهي مع ذلك مما ثَبَتَ وجوده بدليل من نقل يَنْصَحُ ، فالحس لا يطق درك الموجودات كافة ، ولو المحسوسات ، فَلَهُ من طاقة الإدراك ما يَتَفَاوَتُ بما يكون من آخر في أدوات البحث والنظر ، فما غاب عن ناظرٍ فلا يملك أداته ، فَهُوَ يقبل خبر الثقة الذي علم منه ما لم يعلم ، فلم يجعل الأول جهله دليلا يَرُدُّ به علم الثاني ، بل من علم فهو حجة على من لم يَعْلَمْ ، ومن بلغه الخبر الصحيح فهو حُجَّةٌ على من لم يَبْلُغْ ، ومنه ما تَقَدَّمَ من غيب لله ، جل وعلا ، وحده ، فكان من دلالة اللام في "لله" : دلالة الاختصاص والاستحقاق ، ولا تخلو من أخرى هي الملكية ، فإن من الغيب محدَث مخلوق في الخارج ، كما عوالم الملك والجن ، وبه تصديقُ مَا تَقَدَّمَ من غيب التقدير الأول ، فَذَلِكَ الغيب المطلق ، وهو العلم المحيط الجامع الذي ثَبَتَ في الأزلِ ، وذلك ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المقدورات كافة ، فهي من المعلومات أولا وإن لم يأت تأويلها بعد ، وذلك ، أيضا ، العموم الذي استغرق الغيوب كافة ، فمنها غيوب الكون بما يكون من الأعيان وما يقوم بها من أسماء وصفات وأحوال ، وما رُكِزَ فِيهَا مِنْ قِوًى ، وما سُنَّ لها في الخارج من طرائق محكمة تسلكها فَتُفْضِي إِلَى المسبَّب ، فذلك قانون محكم لا بد له من سَانٍّ أول ، وهو من مقدمات الضرورة التي تَثْبُتُ مبدأ النظر ، وذلك ما يَرُدُّ الأمرَ إلى أول هُوَ السبب الذي لا سَبَبَ وَرَاءَهَ ، فالسنن مِنْهَا المشهود ، ولو حال التَّنَاوُلِ ، ومنها ما يَدِقُّ ، وإن تَنَاوَلَهُ بَعْدًا التجريب والبحث ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ إذ لَا سَبَبَ فِي الخارجِ يَتِمُّ فِي الْأَثَرِ والفعلِ ، بل لا يَنْفَكُّ يطلب أولا إليه يُرَدُّ ، مع شروط يجب استيفاؤُها ، وموانع يجب انْتِفَاؤُهَا ، فكلٌّ إلى الله ، جل وعلا ، يَرْجِعُ ، إذ هو المقدِّر الأول في الْأَزَلِ ، بما كان من علم التقدير المحيط ، وما سُطِرَ بَعْدًا في لوحٍ قَدْ حُفِظَ ، فكان من خلق القلم ، وهو أداة الكتب ، وخلق اللَّوْحِ وهو المحل القابل لآثار القلم من خَطِّ المقدوراتِ ، فَثَمَّ تأويل أول ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ سَطْرِ المعلومِ الكونِيِّ والشرعِيِّ في لَوْحِ التَّقْدِيرِ الجامع ، وتأويله ما كُتِبَ فِيهِ هو ما يَتَنَزَّلُ من الكلماتِ ، فذلك تَالٍ بَعْدَ السَّطْرِ ، وهو تأويل لمقدورات الكون والشرع ، فَتَنَزَّلَ روح القدس بالكلمات الشرعية الحاكمة ، وهي وصف الإله المشرع بما أخبر به وحكم ، وتلك كلمات من وصفه إذ قد عَلِمَ فَشَرَعَ ، وَتَنَزَّلَتِ المدبرات بالأمر الكوني النافذ ، وهو مَا بِهِ الكائنات تَحْدُثُ ، فكان من الكلمات الكونية النافذة تأويل آخر لما سُطِرَ فِي لوح التقدير من العلم الجامع المحيط : وصفِ الربِّ الحميدِ المجيدِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فالكلم غير المخلوق وبه كان المخلوق ، والكلم من وصف الله ، جل وعلا ، فهو مما قَدُمَ نوعه وكان من آحاده ما يحدث ، وهو لما كان في الغيب الأول يصدق ، وتأويله في الخارج ما ينفذ من خلق كائنات هو المحكم ، فالكلمة من العلم وهو من الوصف ، والمكوَّنُ بها قد خُلِقَ بَعْدًا فهو المحدَث ولا بد له من محدِث ، وذلك قِيَاسٌ فِي العقلِ يَنْصَحُ إذ يَنْتَهِي ضرورةً إلى واجب وجود أول ، لا أول قبله ، وعنه المحدَثات جميعا تصدر بما كان من علة وسبب : كَلِمَاتِ تَكْوِينٍ تَنْفُذُ ، وهي تصديق ما كان في الأزل من علم جامع قد أحاط بالمقدورات كافة ، فلا تَصِيرُ موجوداتٍ في الخارج تصدق إلا أن يكون من الواجب الأول ما به ترجيح في الجائزات المقدَّرَةِ في الغيب أَنْ تَصِيرَ واجبات ذات وجود في الخارج يجاوز ، فلا يكون وجودها الذاتي الذي لا يعلل ، بل عن واجب الوجود الأول قد صدرت بِعِلَّةٍ في التكوين ترجح ، وهي ما لأول من العلم يُصَدِّقُ ، فَتِلْكَ العلة التامة التي عنها الموجودات كافة تصدر ، وذلك عموم لا أعم منه ، فَثَمَّ من الكلمة ما خُلِقَ به القلم ، وثم أخرى قد خُلِقَ بها اللَّوْحُ ، وثم ثالثة قد خُلِقَ بها آدم عليه السلام ، وبه المثل قد ضرب ، فـ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وذلك ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، من قياس الأولى ، إذ خلق آدم أشد إعجازا فَقَدْ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ فلا أب ولا أم ، بل خلق حواء أعجب إذ كانت من الضلع الأعوج ، فكانت من أب بلا أم ، وذلك أشد في الباب من خلق المسيح ، عليه السلام ، من أم بلا أب ، فالأم مستودع الجنين بما كان من رحم تَعْلَقُ فيه النطف وتكبر ، فَلَهُ من الماهية ما يُوَاطِئُ الحمل والولادة ، وإن كان من الإعجاز حُصُولُ النطفة بلا مُبَاضَعَةٍ أو قَذْفٍ ، فكان من ذلك خبر يَصْدُقُ عن خلق أول هو المحكم ، فأبان عما لا يدرك بالحس فليس ذلك مما شهده أحد ، وليس له نظير في الخارج يتكرر ، وليس ثم خبر عن شاهد قد عاين ، فَيَحْكِي ما رَأَى لا ما اسْتَنْبَطَ ، فذلك ، كما تقدم ، من غَيْبٍ مُطْلَقٍ لَا يُنَالُ إِلَّا عن خبر يصدق ، وذلك ، بادي الرأي ، من الجائز المحتمل ، فقد يجوز قبل ورود الخبر أن يكون خلق الإنسان من تراب أو رمل أو ماء أو هواء أو نار ..... إلخ ، أو يكون من كائن أول بسيط قد تَطَوَّرَ كَمَا يَزْعُمُ من قَالَ بذلك وإن لم يَبْلُغْ مَا بَلَغَ القائل إِنَّ الأمر كان خبط عشواء بلا هاد ولا مُدَبِّرٍ ولا خالقٍ أول يخلق من العدم : مادة الخلق الَّتِي عنها صدر الخلق إن بالخلق المباشر أو بالتطور ، كما يقول من انْتَحَلَ مَقَالَ التطور ، وَإِنِ انْتَحَلَ مِنْهُ بَعْضٌ ما اصطلح أنه الموجَّه فَثَمَّ خالق يخلق المادة الأولى من العدم وثم تدبير وتوجيه في الخارج يُفْضِي إلى التَّرَاكُبِ ثم حصول الإنسان فهو نهاية إسناد قد اتصل من تَطَوُّرٍ قَدِ اقْتُرِحَ ، فكل أولئك من الجائز في العقل ، ولكنه ، بداهة ، لا يجزئ في الإثبات ، فإن دعوى الغيب والتوقيف لا تنال بالظن وَالتَّخْرِيصِ ، بل لا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج ، فالجائز في نفسه ليس بدليل على حدوثه فليس دليل حصوله في نَفْسِ الأمرِ أنه جائز في العقل ، فذلك مما احتمل فَلَئِنْ اسْتَدَلَّ بِهِ المثبِت أنه جائز في المبدإ فلا ينفك يحتمل ضدا ، فالمخالف يستدل بضد ، فَاحْتِمَالُ أَنْ يَثْبُتَ شطرٌ ، وَثَمَّ آخر يمنع ، فَمَا رَجَّحَ الإثبات على النفي ؟! ، فإن المثبِت لم يقم دليلا من خارج يرجح الإثبات في الجائز فيصيره الواجب الثابت فَلَمْ يُقِمْ دليلا على دعوى التطور إلا عَيْنَهَا أنها مما يجوز ، بادي الرأي ، فتلك الدعوى التي يجزئ في رَدِّهَا أخرى تضاهي ، فَيَنْفِي النافي دون أَنْ يَتَكَلَّفَ دليلَ نَفْيٍ مخصوص إذ لم يَتَكَلَّفِ المثبِتُ دليلَ إثباتٍ مخصوص بل قد اسْتَدَلَّ بِالتَّجْوِيزِ المطلق في العقل ، فلا دليل في الخارج يثبت فأجزأ في رَدِّ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ أُخْرَى بِلَا دَلِيلٍ ، فكان تكافؤ فَتَسَاقُطٌ ، فَوَجَبَ رَدُّ الأمر وهو الجائز المحتمل إلى مرجع من خارج يجاوز ، وهو الخبر المرجح ، فذلك من باب توقيف لا يثبت إلا بخبر من خارج يجاوز ، فَوَجَبَ رَدُّ الجميعِ إِلَى خَبَرٍ يَصْدُقُ ، فَثَمَّ خبر النبوات في حَدٍّ ، وخبر الخصم في آخر ! ، وليختر كل عاقل لنفسه ما يواطئ عقله ، لا جرم كان الاشتغال النافع أبدا : الاشتغال بأدلة النبوات إثباتا فإنها المرجع المعصوم الذي يعصم التابع من الخطإ ، فإذا ثَبَتَتْ عنده النبوات فقد كُفِيَ مُؤْنَةَ الغيبِ ، فإذا صح خبر النبوات فيه فهو المذهب ، وذلك ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظرُ ، ما عَمَّ الحكم كما الخبر ، فكان من النبوة عصمة في العلم والعمل كافة ، وذلك أصل أول في أي استدلال في الخارج ينصح أن يحرر المرجع والمصدر : كلمة سواء قبل الشروع في الجدال والنظر .
فكان من الغيب في الخلق وهو محل الشاهد ، كان منه خلق من تراب فذلك مما أثبته الآي المتواتر قطعا ، فَأَفَادَ علم يقين يجزم ، فلا يُدْرَكُ ذلك ، بداهة ، بالنظر والاستنباط ، فهو محل توقيف لم يشهده أحد ، فلم يكن من الدليل ما ينصح إلا خبر في الباب يصدق ، فكان من ذلك خبر النبوات مرجعا من خارج يجاوز ، وهو ما عَمَّ فاستغرق الأخبار والأحكام كافة ، فلا تصلح الحال من علم أو عمل إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز في الأديان والأخلاق كافة ، كما قال بعض من حقق من الفلاسفة المحدثين في هذا الجيل ، وقد اشتكى ما آلت إليه حالُ الأخلاق في المركز إذ لم يعد ثم وحي ديني أو مرجع من خارج هو الموضوعي الذي يحكم ، فَرُدَّ كُلٌّ إلى ذاتٍ تَحُدُّ له من معيار الحسن والقبح ما يواطئ الهوى والذوق ، فلا تسلم جميعا إلا أن تُرَدَّ إلى مرجع من خارج يجاوز الأرض ، وقد رَامَ بَعْضٌ أَنْ يَبْتَكِرَ من فكرته ما هو موضوعي يجاوز الأفراد ، فَاقْتَرَحَ في حكاية الأخلاق جَبْرًا هو الموضوع من خارج الأفراد فهو عقل الجمع الذي يسبق وما الأفراد إلا عناصر تُقْهَرُ ، فالجمع يصنعها على مثال يسبقها ، فلا يطيق الفرد الخروج عنه ، وهو ما يُصَيِّرُ الجمع مِثَالَ التقليد المطلق وذلك مما يذم في مواضع تَكْثُرُ ، فالغالب على الخلق الغفلة ، وما أكثر الناس ، ولو حرصت ، بمؤمن ، فإذا رُدَّ الأمر إلى الجمع ، فذلك ، بادي الرأي ، مما لا يمدح ولا يذم لذاته ، وإن غَلَبَ على الجمع ، كما تقدم ، ضلال عن الحق بما تطاول من العهد ، فَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحدةً على الحق ، توحيدا هو الأصل المحكم ، ولم يَزَلِ الشيطان يوسوس ، ولم يَزَلِ الخلق يغفل ، فَيُنْسَخُ من الحق في كلِّ جيلٍ بعضٌ ، حتى يَنَالَ النسخُ الأصلَ ، فيستبدل ضدٌّ به ، ويكون من الشرك عوض ، وذلك ما يصير بعد حين عُرْفًا يجري ويطرد ! ، فَيَصِيرُ هو الحق المطلق ، ويكون له مِنَ الحسن والقبح مِعْيَارٌ هو المحكم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات من الأقوال والأعمال كافة ! ، وإن كان في نفسه المتشابه بل والباطل الذي يخالف عن الحق الأول ، فلم يكن في صدور العقل الجامع عنه ، لم يكن فيه عصمة تمدح ، بل كان على ضد ، وإن كان مَوْضُوعًا من خارج الفرد ، فلا يسلم الاثنان : الذاتي والموضوعي إلا أن يكون ثم مرجع من خارج هو المحكم الذي يقضي في كلٍّ ، فإن أصابه الفرد والجمع فَهُمَا على الحق ، وإن لم يُصِيبَاهُ فهما على باطل ، فلم يكن منهما حق أو باطل مطلق ، بل لا ينفك حكمهما يُرَدُّ إلى حكم الوحي مرجعا من أعلى يجاوز ، لا يَنْفَكُّ حكمها يُرَدُّ إليه فإن وافقاه فهما حق يمدح ، وإن خالفاه فذلك باطل يمحق ، فكان من المرجع المحكم من خارج ، كان منه : وحي السماء فوحده ما عُصِمَ من الخطإ وَسَلِمَ من الهوى والحظ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ محلُّ شاهدٍ ، وهو خبر الغيب إذ يحكي ما كان أولا من الخلق ، وعليه يُقَاسُ خلق المسيح قياس الأولى ، فمن قَدَرَ على الأعلى قَدَرَ على الأدنى من باب أولى ، فخلق المسيح أهون ، وكلٌّ على الخالق الأول ، جل وعلا ، هَيِّنٌ ، وهو ما حَسُنَ فيه تصدير بالتوكيد ، التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، وهو أم بابه ، كان منه ما يَزِيدُ في الدلالة ويرفد ، مع اسمية تحكي الديمومة والثبوت ، فلا يدخل الناسخ إلا على الاسمية ، وثم من التشبيه ما فُصِّلِ ، فاستوفى أركانه كافة في قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، المشبه من خلق المسيح ، والمشبه به من خلق آدم ، وأداة التشبيه وهي الكاف ، ووجه الشبه الذي استؤنف بِهِ الكلام ، فلا ينفك يحكي جواب السؤال الذي دل عليه السياق اقتضاء ، وكيف ذلك المثل ؟! ، فكان الجواب : (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، أو هو من تقدير الظرف فهو كمثل آدم إذ خلقه من تراب ، أو هو من حال بها تستحضر الصورة فذلك آكد في تقرير المعنى وتوكيده ، وثم من الخلق تَسْوِيَةٌ بِيَدِ الرحمن ، جل وعلا ، ثم نفخ روح بما كان من قوله : كن فيكون ، فتلك الكلمة التي بها كان آدم وهو أصل البشر كافة ، وذلك مما أعجز في الخلق آيةَ إبداعٍ لا على مثال تقدم ، فحسنت فيه المضارعة استحضارا لصورة بها الحجة تعظم ، فقال له جل وعلا : كُنْ ، والقياس : كن فكان ، فَحُدَّتِ الأخيرة مضارعةً في "فَيَكُونُ" ، وَبِهَا الصورة في الذهن تَرْسَخُ ، وذلك مثل التوحيد ، وهو الخبر المؤكد ، ولا ينفك يحكي الإنشاء إذ يأمر بالاعتبار والنظر ، ويأمر بآخر تَوْحِيدًا هو دين آدم والمسيح والأنبياء كافة ، وهو ما يستوجب النهي عن الغلو إن في المسيح ، عليه السلام ، أو في غير ، فذلك مما يَنْقُضُ أصلَ التوحيد المحكم .

فكان من الأصل واحد ، كلمة تكوين تصدر عن الخالق ، جل وعلا ، صدور الوصف عن الموصوف ، الفعل عن الفاعل ، فإن الكلام من وصف الفعل ذي الآحاد المحدَثة إذ تُنَاطُ بالمشيئة ، وإن قَدُمَ نَوْعُهُ ، فهو من العلم الأول الذي استغرق الكلمات كافة ، فَذَكَرَ من أمثلتها في الخارج ما لا يخصص العموم المستغرق الجامع ، فذكرها يُبَيِّنُ من وجه ، وهو ، من آخر ، تعظيم إذ يُنَوِّهُ بآحاد من المحدثات لها من الوصف ما شَرُفَ ، كما آدم أبو البشر ، عليه السلام ، فذلك من غيب مطلق لم يشهده أحد من الخلق ، ولم يكن له مثال في الخارج يشهد ، إلا ما يكون من خلق الأجنة في الأرحام ، وهو من غيب لا يطلق ، وإن صح فيه أنه مما جُنَّ وَاسْتَتَرَ في البطنِ ، فذلك الغيب النسبي الذي ذَكَرَ الوحي منه طَرَفًا بل قد أبان عن أَطْوَارٍ منه لَمْ يَبْلُغْهَا البحث الأول ، وجاء بحث تال لها يصدق ، فهي من آي الأنفس التي تعجز ، بل قد جاء الوحي بما يخالف ما اسْتَقَرَّ في جيلٍ تَقَدَّمَ من علوم هي ، لو تدبر الناظر ، الفروض ، فجاء الوحي بما ينقض ، وهو مرجع من خارج يجاوز قد جاء بجنس من العلم قد انفرد به الرب ، جل وعلا ، وهو علم غيب ، غيب السماوات والأرض الذي خُصَّ به الله ، عَزَّ وَجَلَّ ، كما تقدم من الآي أَنْ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #3  
قديم 01-04-2023, 06:15 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

فكان من الاختصاص إذ قُدِّمَ ما حقه التأخير في قول الرب الحميد المجيد تبارك و : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، كان منه حقيقة في الباب ، فليس ذلك من المبالغة في شيء ، وهو ما قد عَمَّ فاستغرق ، فكان من إطلاق الغيب في الآية مع عموم يستغرق الآحاد في الخارج ، فَثَمَّ إطلاق قد استغرق أنواع الغيب : الغيب المطلق وآخر نسبي ، وثم عموم قد استغرق آحاده ، ومنها ما تَقَدَّمَ من خلق آدم عليه السلام ، وهو المطلق الذي لم يشهده أحد من البشر ، وَلَنْ يَشْهَدَهُ بَعْدًا ، فَلَيْسَ ذلك مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الخارجِ ، وليس مما يُنَالُ بِبَحْثٍ وتجريبٍ أن يضاهيه الباحث المجرِّب فذلك ، بداهة ، مما لا يتصور ، إذ الحكم على الشيء فَرْعٌ عَنِ التَّصَوُّرِ ، فَلَمْ يحط أحد بما كان من ماهية الخلق تَسْوِيَةً وتقديرا ، ثم نَفْخًا لروح تلطف وبها كانت الحياة وهي غيب آخر لم يزل البحث فيه يحار ، وإن وجد آثاره في الخارج ، فَتَحَكَّمَ مَنْ تَحَكَّمَ فِي حد العلم إذ أَخْرَجَ منه الْغَيْبَ ، وهو خاصة العقل المكتمل الذي شَرُفَ بِتَكْلِيفٍ قد نَزَلَ ، فَحَدَّهُ مَنْ حَدَّ : أنه ما يُدْرَكُ بالحس وحدَه ، فَمَا جَاوزه فَلَيْسَ بِعِلْمٍ ، وذلك ما يخالف عن معيار النظر الصريح ، فإن مدارك الحس محدودة ، وكثير من الحقائق الثابتة في هذا العالم مما لا يدرك بالحس الظاهر ، وليس عدم وجدانها بالحس دليلا على عدم وجودها في نفس الأمر ، بل وجودها ثابت وإن عجز الحس عن دَرَكِهَا ، ومصادر المعرفة التي تَثْبُتُ بها الحقائق تجاوز الحس ، فهو واحد منها ، وليس الأوحد ، فَثَمَّ الخبر الذي يجاوز مدارك الحس من خارج ، فهو يُمِدُّ العقل والحس بما يجاوزهما ، فَيُخْبِرُ عَنْ أمورٍ لا ينكرها العقل ، فهي من الجائز في القياس ، وهو المحتمل إذ استوى طَرَفَاهُ : الإيجاب والامتناع ، وذلك قدر أول من النظر لا يجزئ في إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ ، وإن احْتَمَلَهُمَا ، فلا بد من دليل يرجِّح ، والدليل المرجِّح لا يقتصر على دليل الحس فَكَمْ مِنْ موجودات في الخارج وهي ، مع ذلك ، تجاوز مدارك الحس ، فالمرجِّح في إثباتها أو نَفْيِهَا هو الخبر المجاوز من خارج ، وهو ما يَسْتَغْرِقُ الغيوبَ كَافَّةً ، فالغيب جنس عام يَسْتَغْرِقُ ، وتحته أنواع ، فمنه : الغيب المطلق ومنه : الغيب النسبي ، والغيب النسبي مما تَتَفَاوَتُ المدارك في إثباته ، سواء أَرَجَعَ ذلك إلى طاقة الحواس أم إلى أدوات البحث التي تَتَفَاوَتُ ، وقد حَقَقَّتِ الطفرة الكبيرة في الأجيال الأخيرة ، فَمَا كَانَ مِنَ الغيوبِ والدقائقِ قد صَارَ فِي هذا الجيل من الحقائق والثَّوَابِتِ وَإِنْ نَقَضَ جُمْلَةً من العلوم المستقرة في النفوس ، وهو أمر لا زَالَ يَتَكَرَّرُ في كلِّ جِيلٍ ، ونظريات العلم والتجريب تَتَغَيَّرُ تَبَعًا له ، ولم يكن علم الأول الذي اقْتَصَرَ عَلَى مصادرَ محدودة ، لم يكن حُجَّةً عَلَى علم المتأخر الذي تَوَسَّعَ في البحث وحصل له من مصادر المعرفة ما لم يحصل لجيل سابق ، فلا يحتج أحد بالجهل ، إذ عَدَمُ العلمِ ليس علما بالعدم ، ومن علم فهو حجة على مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فإنكارُ الغيبِ قَدْحٌ فِي العقلِ يُعَطِّلُ منه خَاصَّتَهُ الأولى : خاصة النظر المجاوز لمدارك الحس التي تشترك فيها أجناس الحيوان كَافَّةً ، فَقَصْرُ المصادرِ العلمية المعتبرة على الحس انحطاطٌ بالإنسان إلى دركة الحيوان الذي لا يجاوز عقلُه مَدَارِكَ حِسِّهِ ، ومصادر العلم وإن كان التَّجْرِيبُ والبحثُ وَاحِدًا مُعْتَبَرًا منها إلا أنه ليس الأوحد ، بل وليس الأول ، فإن ما يجهل أكثر مما يعلم ، ولو في مجالِ البحث والتجريب الذي اعتمده معيارا وحيدا في الإثبات والنفي ، فلا بد له من قبول الخبر المجاوز من خارج الحس ، إن في الغيب النسبي أو في الغيب المطلق ، فَلَا يَتَنَاوَلُ البحث والتجريب من الإنسان إلا المكون الجسدي المحسوس ، وهو ما يعجز عن تَفْسِيرِ ظَوَاهِرَ نَفْسَانِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ كالحب والبغض ، فالبحث العلمي يَرُدُّ ذلك إلى إِفْرَازِ مَوَادَّ محسوسةٍ في الدماغ تظهر آثارها في الخارج بما يكون من انْبِسَاطِ الوجهِ إِذَا رأى ما يحب ، وما يكون من نظرات الارتياح وسكون الأعضاء ...... إلخ ، وبما يكون من انقباض وعدم ارتياح واضطراب في الأعضاء .... إلخ إذا رأى ما يكره ، وهو مما اطرد وَانْعَكَسَ بالاستقراء المدرك بالحس وأداته ما يكون من قياس ورصد لمواد تُفْرَزُ فرصدها بالبحث مما يمكن في جيل متأخر قد أدرك من أسرار التكوين ما لم يدرك الأول ، مع آخر يتناول آحاد الصور الظاهرة في الخارج ، وهي ، أيضا ، مما تناوله بحث التجريب وما يكون من تَالٍ من رَصْدٍ يستقرئ ، ولكنه ، مع ذلك ، لا يفسر الظاهرة الإنسانية المركبة ، فَإِنَّ ثَمَّ سَبَبًا أدق هو ما حَفَّزَ مواضع الإفراز في الدماغ ، فليس الدماغ هو مستودع العقلِ : الغريزةِ الوجدانيةِ الباطنةِ التي تَتَكَوَّنُ فيها التصورات والمشاعر والإرادات ، وإنما الدماغ جَارِحَةٌ كَسَائِرِ الجوارحِ وإن كان له فِيهَا سيادة ، فَلَيْسَتْ ، مع ذلك ، السيادة المطلقة ، فإنه يصدر عن العقل الذي يمثل الجانب الغيبي في الإنسان ، جَانِبَ الرُّوحِ الَّتِي تُقَاسِمُ الجسدَ حقيقةَ الإنسانِ ، ولها على الجسد سلطان أعلى ، وإن كان في الوجدان أدق وأخفى ، فلا يعلمها إلا من خلقها ، وهو ما استوجب رَدَّهَا إلى مرجع من خارج يجاوز ، فهو يخبر الإنسان بِغَيْبٍ بَيْنَ جَنْبَيْهِ يَجِدُ آثارَه في التصور والمشاعر حُبًّا وَبُغْضًا والإرادة فِعْلًا وَتَرْكًا ، فَعِلْمُ التجريبِ والبحثِ يَعْجَزُ عن إدراكِ هذا الجانب الروحي وإن رصدَ آثارَه على الجانب الجسدي بما يكون من أداء الدماغ في الإفراز والنبض ، وما يكون من استجابة الأعضاء بالإيجاب أو بالسلب ، وذلك من علم دقيق يَخْفَى فلا يُنَالُ إِلَّا مِنْ مَرْجِعٍ يُجَاوِزُ مِنْ أَعْلَى ، مَرْجِعِ الوحيِ والنبوة الذي حَجَبَ سِرَّ الروح آيةً في التكوين يُبَاشِرُ الإنسانُ كلَّ حينٍ آثارَها في تصوراته ومشاعره ، وهو ، مع ذلك ، يجهل مَاهِيَّتَهُ في الخارج ، فَمَا يُرْصَدُ مِنْ ظَوَاهِرِ الجسدِ لَيْسَ المصدر ، وإنما هو المظهر ، وانفعالات الباطن تَصَوُّرًا وما يكون من أحكام عنها تَصْدُرُ ، كل أولئك عن الروح يَنْشَأُ ، وهي معدن لطيف لا يدرك بالحسِّ ، لَا جَرَمَ كانت حقائقه التي يَحْوِيهَا ذَاتَ مَاهِيَّةٍ وجدانيةٍ تَلْطُفُ ، فَهُوَ معدنِ العلوم والمعارف التي تُشَكِّلُ التَّصَوُّرَاتِ ، وهي أخص فِي الحقيقةِ والحدِّ كما أهل الشأن في باب الإيمان والعقد ، هو أخص في الحدِّ مِنَ العرفانِ المجرَّد وإن حصل بالأخير إِثْبَاتُ أَوْ نَفْيٌ ، فَلَا يَلْزَمُ منه قبولٌ ورضًى آثارُه في الباطن تَحْصُلُ : انْقِيَادًا وَإِذْعَانًا ، سواء حصل ذلك بَادِيَ الرَّأْيِ أَوِ اقْتَرَنَ بجدالِ خصمٍ يقيم الحجة في مُنَاظَرَةٍ فَيُورِدُ من الدليل في القضية ما يُسَلِّمُ به الخصم ويذعن ، فيحصل له من ذلك قدر زائد يُرَجِّحُ ، وهو ما يجاوز العرفان المجرَّد ، فذلك أول ما يحصل في العقل من العلم ، سواء أَقَبِلَ أم رَدَّ ، فالقبول والرَّدُّ : قَدْرٌ زائد يَفْتَقِرُ إلى مرجِّحٍ من خارج يُصَدِّقُ حالَ القبول ويكذِّبُ حالَ الرَّدِّ ، فإذا حصل هذا التصور ، وَافَقَ الحق في نفس الأمر أو لم يوافق ، فآثاره في العقل بعد التصور الأول : حكمٌ ، والمبدأ فيه الحب والبغض ، فهما ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أصلُ كلِّ حركةٍ في الكون ، فعنهما يصدر حكم الإرادة فِعْلًا أَوْ تَرْكًا ، وَهُوَ ما عنه الأمر يصدر فيكون انفعال الجسد له تَبَعًا ، سواء الدماغ الذي يُفْرِزُ وَيَنْبِضُ ، أو الأعضاء التي تَتَحَرَّكُ وَتَسْكُنُ ، فَحَرَكَتُهَا تأويلٌ لما يكون من إفراز الدماغ ، وَإِفْرَازِ الدماغ تأويل لِمَا قَامَ بالعقلِ من إرادةٍ ، والإرادة تأويل لِمَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ من الحب والبغض ، والحب والبغض تأويل لِمَا يقوم بالقلب من التصور ، والتصور تأويل لِمَا يكون من التصديق ، وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ ، قدر يجاوز العرفان المجرد ، فالتصديق تَرْجِيحٌ يَحْكِي القبولَ والرَّضَى ، ولا بد له من مصدر أول به المعلوم يحصل ، وبه الدليل يَثْبُتُ فيكون من ذلك قَدْرٌ زَائِدٌ في الاستدلال ، فالعلم : دعوى معرفية هي الأولى ، وحجة نَقْلِيَّةٌ صحيحة بها المعلوم يصح ، وحجة نظرية صريحة بها المعقول يصرح ، فإذا حَصَلَ العلم المجاوز فهو قدر يزيد على العرفان المجرد ، إذا حَصَلَ هَذَا العلم حَصَلَ ما بَعْدَهُ مِنَ التَّصْدِيقِ ، فالعلم لَيْسَ صُورَةً مجرَّدَةً فِي العقلِ ، وإن كانت هي المبدأ ، وإنما العلم دعوى وَبَيِّنَةٌ ، فالدعوى لا تجزئ وحدها في حصول الإثبات ، فهي من الجائز مُحْتَمِلِ الطَّرَفَيْنِ : الإيجاب أو المنع ، فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ المرجِّح من خارج ، فيكون من الدليل الصحيح في نَقْلِهِ الصَّرِيحِ فِي عَقْلِهِ ، يكون من هذا الدليل مَا يرجح في الدعوى الجائزة فَيُصَيِّرُهَا واجبةً بما كان من مرجح من خارج يجاوز الدعوى فَهِيَ صُورَةُ الخلافِ بَيْنَ مُثْبِتٍ وَنَافٍ ، فلا تجزئ في الاستدلال ، وإنما تطلب الدليل من خَارِجِهَا ، فلا ينفك العقل يطلب الدليل من خارجه في غُيُوبٍ لَا يَتَنَاوَلُهَا الحس الظاهر ، ولا يجاوز العقل فيها حَدَّ الجواز ، والجواز لا يستلزم الإثبات ، بل الإثبات قدر يزيد ، وبه تَظْهَرُ الحاجة ، حاجة العقل إلى الوحي الذي يخبره بما غاب عن الحس ، فالاقتصار على الحس وحدَه مذهبٌ مَادِّيٌّ غَالٍ يَنْحَطُّ بالإنسان إلى دَرَكَةِ الحيوانِ ، فالحس ، كما تقدم ، واحد من مصادر المعرفة ، والاقتصار عليه تَحَكُّمٌ يُحَجِّرُ الواسعَ من مصادِرَ تَتَعَدَّدُ ، فَثَمَّ الخبر المجاوز ، وثم العقل بما رُكِزَ فِيهِ من مقدمات الضرورة في الاستدلال النظري ، وثم الفطرة ، وهي ، أيضا ، مشاعر ضرورة في الوجدان لا يطيق الإنسان رَدَّهَا وَإِنْ لم تَحْسُنْ فِي أحيانٍ حكايتُهَا حِكَايَةَ الحدِّ الجامعِ المانعِ فَقَدْ بَلَغَتْ من الوضوح ما صَيَّرَ حدها بعبارة جامعة مانعة تَتَكَلَّفُ من الأجناس والفصول ما يميزها من غير ، ما صَيَّرَ ذلك ذريعة إلى ضد من الإبهام والغموض ، فلا يحصل العلم من الحس وحدَه ، فَهُوَ لا يجاوز المشهود في الخارج ، فالمغيَّب الذي يجاوز مداركَ الحسِّ لا ينفك يطلب الخبر من خارج العقل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما استغرق آحاد الجنس كلها ، جنسِ الغيبِ ، فمنه ، كَمَا تَقَدَّمَ ، النسبي ومنه المطلق ، ومنه غيوب دينية وأخرى في التجريب والبحث ، فلا ينفك يطلب مقدمات قد تدق وتخفى ، فلا يدركها النظار كافة ، بل بَعْضٌ يُقَلِّدُ بَعْضًا إذ حصل للمقلِّد من الْقَرَائِنَ مَا أَفَادَهُ صِدْقَ المقلَّد ، فلا ينفك الناظر يَفْتَقِرُ إلى الخبر المجاوز للعقل والحس ، بل ذلك أول في مصادر العلم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، ما يَتَسَلْسَلُ فِي الإسناد ، فلا ينفك يطلب أولا قد عُصِمَ من الخطإ ، وَسَلِمَ مِنَ الهوى والحظ ، وهما آفة أَيُّ آفة في الحكم ! ، فلا يسلم إلا أَنْ يُرَدَّ إلى نَقْلٍ صحيح هو المقدمة الأولى دَلِيلًا ، وعقل صريح هو المقدمة الثانية استدلالا ، فَالنَّقْلُ أول يُثْبِتُ ، والعقل ثان يَسْتَنْبِطُ ، فَلَا يَسْلَمُ إِلَّا إذا كان له رَائِدٌ مِنَ الخبر يَصْدُقُ ، وَخَيْرُ مَا يَشْتَغِلُ به الناظرُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تحريرِ المصدرِ الذي إِلَيْهِ يُرْجَعُ فِي طَلَبِ الدليل الصحيح قَبْلَ أَنْ يُعَالِجَهُ بما رُكِزَ فيه من قوى النظر الصريح ، فَيَكُونَ من ذلك علم يجزم فَهُوَ الحق بدليل يَنْصَحُ ، فكان من الوحي أصل في العلم عنه يصدر العقل ، فما أوتي الخلق من العلم إلا قليلا ، بل لا يعلمون من الروح ما سكن أجسادهم ، فكان من السُّؤَالِ عَنِ الروح ما أعجز ، فـ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، وهو ما حد مُضَارِعَا في "يَسْأَلُونَكَ" إذ يستحضر صورةً قَدِ انْقَضَتْ ، ولو زَمَنَ التَّكَلُّمِ وهو ماضٍ ، فقد سألوه وَانْقَضَى السؤال ، فكان من المضارعة ما به زيادة في الْبَيَانِ ، وبها المعنى يرسخ في الأذهان ، وثم من دلالة "الرُّوحِ" ما يحكي مبدأَ النظر في دلالة المعجم المفرد ، ما يحكي سعةً فِي الحدِّ ، ومادة بها الصلاح والخير ، فالروح تُصْلِحُ من البدن مَاهِيَّةَ لحمٍ ودمٍ ، فَلَوْ فَارَقَتْهُ لَفَسَدَ ، وَثَمَّ من آحادٍ في الخارج ما يَصْدُقُ فِيهَا الاسم ، ولو الجنس المجرد في الذِّهْنِ ، فَثَمَّ روحُ القدسِ : رسولُ الوحيِ المنزَّل ، فقد وسع في الخلق الْمُعَظَّمِ ، فوصفه في الذكر المحكم أنه : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) ، فَذُو مَاهِيَّةٍ تَشْتَدُّ قد استوت في الخلقِ ، وثم الرِّيحُ فهي روح وسعة بما وسع من فَضَائِهَا ، وثم روح من العيش تهنأ بما يكون من سعة تحمد ، كما في آي الواقعة المحكم : (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) .

فكل أولئك مما دل عليه اسم "الرُّوحِ" وهو واحد ، وهي تختلف في الماهيات والحقائق ، فَصَدَقَ في "الرُّوحِ" من هذا الوجه أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ فِي اللَّفْظِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ اشتراك المعنى ، من آخر ، بالنظر في أصل اللَّفْظِ في معجم النطق المفرد ، فَثَمَّ أصل تدور عليه المادة ، وهو : السعة مع خَفَاءٍ وَلُطْفٍ ، وسياق القول مَعَ سبب نُزُولٍ تقدم ، قد حَكَيَا من المدلول عهدا أخص ، فتلك دلالة "أل" في هذا الموضع ، فمدلولها الروحُ التي تسكن البدن وتشاطره حَدَّ الإنسان المكلَّف ، ومن ثم كان من الجواب ما أفَصْحَ ، فـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، وذلك مما أُظْهِرَ فِي موضعِ الإضمار ، فقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الروح في السؤال صدرَ الآية , والقياس في الجواب أن يُقَالَ : قل هي من أمر ربي ، فأظهرها تَالِيًا في موضع الإضمار مَئِنَّةَ عِنَايَةٍ واهتمامٍ ، فَتَوَجَّهَ الأمر إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ : (قُلْ) ، وذلك مما أُفْرِدَ فِي نُطْقِهِ إذ تَوَجَّهَ الأمر إلى واحد في المعنى ، فَذَلِكَ حَدُّ العاملِ ، عاملِ الأمرِ أَنْ "قُلْ" إذ اسْتَتَرَ فِيهِ الفاعلُ ، ضمير المخاطَبِ المفرد ، وتقديره في الإعراب "أَنْتَ" ، وله من المدلول في الخارج عهد أخص بالنظر في المخاطب الأول ، صاحب الشرع المحكم : النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَهُوَ أول من خُوطِبَ بالوحي إِنْ فِي الخبرِ أو في الإنشاء ، فذلك خطاب المواجهة الأول ، وليس يقصر الدلالة على المخاطب الأول ، وإنما خوطب به لدى المبدإ ، فدخل فيه دخول قطع يجزم ، ولم يقصر الدلالة عليه فِي خِطَابِ تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ ، إذ ثم من القرينة ما رَفَدَ الدلالة فَعَمَّتْ الآحاد كافة ، وتلك قرينة العموم في خطاب التشريع ، وهو الأصل في نصوص الوحي خَبَرًا أَوْ حُكْمًا حتى يَرِدَ دَلِيلٌ يقصر ، فهو يخالف عن ظاهر أول من الوحي يُسْتَصْحَبُ ، وإن خالف عن أول من اللسان يَثْبُتُ ، فالأصل في خطابِ المفردِ أَلَّا يُجَاوِزَ المخاطَبَ الواحد الذي به يُوَاجَهُ لدى المبدإ ، فجاء الوحي فَأَثْبَتَ أَوَّلًا من اللسان ، وَأَقَرَّ خطاب المواجهة ، فالمواجَه الأول ، وهو صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المواجَه الأول هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُكَلَّفُ بالتصديقِ الخبري والامتثال الحكمي ، والقرينة بَعْدًا تجاوزه فَتَسْتَغْرِقُ كُلَّ أحدٍ بَعْدًا من أمة الدعوة الأعم ، فخطاب الوحي قد تَنَاوَلَ العالمين كَافَّةً ، إن بالفعلِ لِمَنْ آمَنَ ، أو بالقوة لِمَنْ كَفَرَ ، فخطاب التشريع أعم من خطابٍ أول في النطق ، فكان من الْقَرِينَةِ مَا اسْتُصْحِبَ ، قَرِينَةِ العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فهي لأولى في النُّطْقِ تَنْسَخُ ، فالظاهر الأخص في تكليف الخبر والحكم ، ومنه الأمر آنف الذكر أن : (قُلْ) ، الظاهر الأخص هو عموم يجاوز المخاطب الأول ، وإن كان المواجَه في المبدإ ، ودخوله في عموم المعنى دخول جزم يقطع فلا يخرج بالتخصيصِ ، وَلَوِ احتمالَا ، خلاف من تلا فهو يحتمل الخروج بالتخصيص ، ولو احتمالا في النظر المجرد ، فكان من ظَاهِرٍ أخص ما استغرق الآحاد كافة ، فذلك الأصل في خطاب الوحي المنزل إلا أن تَرِدَ قرينةُ تأويلٍ يَرُدُّ الخطاب إلى أول في المعجم ، فلا يجاوز المخاطَب الأول ، كما المثل يضرب بالخصائص فلا عموم لها يجاوز ، وكذا وقائع الأعيان ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما به قَدْ تَذَرَّعَ مَنْ رَامَ نَقْضَ الوحي أن يقصره على آحاد فيهم قد نَزَلَ ، أو وقائع أعيان لا عموم لها يجاوز مواضعِهَا التي عليها قد نَزَلَتْ ، فلا يجاوز جيله الأول ، فَإِذِ انْقَرَضَ فالوحي قَدْ نُسِخَ ! ، وصار من لفظِه ما يُتْلَى أَمَانِيَّ بلا عمل ، إذ لكلِّ جيل من معجم الدلالة ما يخالف عن أول بِهِ الوحي قد نَزَلَ ، فَسَاغَ لِمَنْ تَلَا أَنْ يَتَأَوَّلَ ألفاظَ الوحي بما يواطئ عرف الجيل ، وإن خالف عن أول من التنزيل بل وَنَقَضَ أصله الأول ، فَاقْتَرَحَ من المعنى ما جاوز اللفظ إِنْ في دلالة الوحي الأخص أو أخرى من اللِّسَانِ أعم ، فكان من تأويلٍ باطن ما اقْتَرَحَ من بِنْيَةِ الكلام جَدِيدًا ، فَرَامَ درس لسان مجرَّد ، وَلَهُ من سياقِ التاريخِ يَسْتَقْطِعُ ، فلا يجاوز في تأويله جِيلَ المتأوِّل الذي يحكي ، لو تدبر الناظر ، ما يهوى ويجد ، ولو خالف عن الأصل الأول ، فلكلِّ جِيلٍ من المعجَم ما يحدث ، وليس ثم قانون مطلق في اللسان ، بل قد صار النسبي المحتمل ، وهو ما به الاستدلال يضطرب ، ولو في بَدَائِه من المدلول الأول في معجم اللسان المفرد ، وبه يزعم المتأوِّل أنه لكتابٍ ماض يَقْرَأُ القراءة الجديدة التي تَنْصَحُ ، ولأبواب من الدلالة تَفْتَحُ ، وإن خالفَ عن أصل أول ، فهي لِبَابِهِ تَكْسِرُ ، فكان من عَمَلِ التأويل الباطن عَامَّةً ، ومن الْبُنْيَوِيَّةٍ خاصةً ، كان من ذلك : تاريخٌ في الدرس لا يجاوز جيل النطق ، فَلِكُلٍّ من الْعُرْفِ مَا يَأْطِرُ المعنى ، ولو في أصول من العلم والعمل لا تَتَبَدَّلُ ، فَإِنَّ الْعُرْفَ إِنَّمَا سَاغَ في مواضع من النظر كما المصالح وإن لم تسلم ، أيضا ، أَنِ اتُّخِذَتْ ذَرِيعَةً إلى القدح في الأدلة ، فَعُطِّلَتْ لِأَجْلِ مصلحةٍ تُتَوَهَّمُ ، لَا جَرَمَ كَانَ مِنْ حَدِّ المصلحةِ مَا يَنْصَحُ إذ احْتَرَزَ ألا تخالف عَنِ النَّصِّ المنزل مع جملة أخرى من الشروط بها سلمت من الأهواء والحظوظ فلا تكون خاصة تُكْسَى لحاء عام يستغرق .
فَتَذَرَّعَ مَنْ تَذَرَّعَ بالمنفعة العامة وقد أَطَرَهَا على أخرى خاصة بما مَكَرَ إذ استجمع أسبابَ الْقُوَّةِ والتأثيرِ ، فَحَمَلَ الجمع ، طَوْعًا أو كَرْهًا ، أن يختاروا ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه ، فالظاهر الأخص من خطاب الوحي قد جاوز المخاطَب الأول فَعَمَّ في الدلالة واستغرق لقرينة عموم في خطاب تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ إِنْ خَبَرًا أو حكما ، إن نهيا أو أمرا كما الأمرُ آنف الذكر أَنْ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فَثَمَّ خطاب المعنى المجاوز أَنْ : "قُولُوا" ، وتلك زيادة في المدلول قد خالفت عن ظاهر أول من المنطوق ، منطوق الخطاب المفرد الذي يقتصر على المخاطب الأول خطابَ المواجهةِ ، فكان من الزيادة ما خالف عن هذا الظاهر فجاوز ، فذلك الانتقال من الظاهر الرَّاجِحِ إلى آخر هو المؤول المرجوحِ لقرينة ما تَقَدَّمَ من العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فذلك مما يجري ، من وجه ، مجرى التأويل ، وبه استقر ظاهر جديد وهو ما قد صَارَ بَعْدًا الأصلَ الذي يظهر ، بادي الرأي ، فَهُو يُسْتَصْحَبُ عمومًا يستغرق كلَّ مكلَّف ، إلا أَنْ يَرِدَ دليلُ تخصيصٍ مُعْتَبَرٍ ، فتلك دعوى التأويل فلا تُقْبَلُ إلا بدليلٍ يقصر الخطاب على واحد بالعين أو آخر بالنوع ، فيكون من ذلك مُؤَوَّلٌ مرجوحٌ ، فلا يصار إليه إلا بدليل أخص هو في الباب النَّصُّ ، فلا يكون ذلك تحكما بالهوى أو الحظ ، كما تقدم من معيارِ التأويلِ في مِنْهَاجٍ محدَث قد اتُّخِذَ مِعْيَارَ الْبِنْيَةِ الذاتية التي لا تجاوز الواحد أو الجيل ، فَلَيْسَ ثم معيار موضوع من خارج يجاوز .

فكان من الخطاب ما تَنَاوَلَ أولا هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المسئول الأول وعليه النجم قد تَنَزَّلَ ، سببَ نُزُولٍ هو الأول فلا يخرج بالتخصيص ولو احتمالا ، وتناول بَعْدًا كُلَّ أحدٍ من أمة الدعوة يُكَلَّفُ ، وإن قُوَّةً بِمَا رُكِزَ فيه من محل التكليف عَقْلًا يَنْصَحُ ، وَثَمَّ من دلالة الخبر "مِنْ أَمْرِ رَبِّي" ما احتمل ، أيضا ، فدلالة "مِنْ" حكاية الاشتراك في الدلالة ، فهي تحكي ابتداء الغاية ، غاية الخلق ، خلق الروح فمن الله ، جل وعلا ، قد ابْتُدِئَتْ ، وهي الخلق اللطيف الذي لا يدرك بالحس ، خلافا لمنهاح محدث لم يَتَناَوَلْ من الإنسان إلا الْأَدْنَى مِنْ مَاهِيَّتِهِ ، الجسد الطيني الكثيف ، فَتَحَوَّلَ الإنسان إلى مادة ذَاتِ قوانين صارمة يرصدها البحث والتجريب ، فليس ثم روح لطيف تجاوز هذا الجسد المادي الكثيف ، وليس ثم عقل يجاوز إفرازات الدماغ وَنَبَضَاتِهِ ، فالعقل هو الدماغ الذي يرصد بالحس ، وما يكون من نوبات روحية لدى بعض البشر ليس إلا نَوْعًا من أنواع الصرع بما يكون من زيادة في نشاط المخ الكهربائي ، فهو يدخل الإنسان في تجربة ذاتية كتجارب الرهبان والزهاد بما يكون من طول صوم وسهر وتأمل ..... إلخ ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما يشبه أطروحة الفلاسفة التي جعلوا النبي شخصا ذا مَلَكَاتٍ خاصة ، فَلَهُ من قوة الذكاء وحدة الذهن ، مع قوة التخييل التي تخرج هذه التجارب الذاتية من القوة إلى الفعل فَتَتَشَكَّلُ في صُوَرٍ في الخارج تُخَاطِبُ النَّبِيَّ بما صدر عن عقله أولا ، فهو مرجع هذه التجربة الذاتية التي لا تجاوز من خارج ، والملك أو الصورة التي تكلمه هي أخرى مرجعها ذاتي من خياله ، فَلَهُ من قوة التخييل ما به تخرج التجربة الروحية من قوة الفكرة إلى فعل الصورة التي تكلمه بما صدر عن عقله ، وله من قوة التأثير بما له من خصائص نَفْسَانِيِّةٍ ، له من ذلك ما يَعْظُمُ أَثَرُهُ فِي الجمعِ ، وذلك ما اقْتَبَسَهُ بَعْضُ الغلاةِ من المتصوفة والمتزهدة الذين قالوا بالإشراق والفيض ، فالتجربة الرياضية التي تجاوز حد الاعتدال بما يكون من هَجْرِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، بل والحاجات الضرورية من طعام وشراب ونوم ، هذه التجربة الرياضية تفسد كيمياء المخ ، وهو الآلة التي تحكي المشاعر والبواعث ، فلا يصنعها هذا الجسم المحسوس المكون من تَلَافِيفَ وتجاويف ، وإنما هو الآلة التي تُتَرْجِمُ هذه المشاعر ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ الدماغِ وهو العقل ومحله القلب ، فهو قلب المعنى لا قلب الحس الموجود في الصدر ، فالدماغ يترجم عن هذا العقل ، فإذا فسدت آلة الترجمة بما يكون من مسكِر أو مخدِّر ، أو إقلال من الطعام والشَّرَابِ ، فَيَقِلُّ الغذاء الذي يصل إلى المخ ، أو طول سهر يجهد الذهن ، فكل أولئك يفسد الآلة ، مع ما يكون من مرض يَطْرَأُ ، وَبِهِ تَزِيدُ النبضات ، فيصاب صاحبه بالصرع أو التشنج ، وتلك ، بداهة ، حَالُ نَقْصٍ لا يمكن تأويل معنى شريف كالنبوة به ، فالنبي يصدر عن حال الوحي وقد أُوتِيَ من الأخبار والأحكام ما بَلَغَ غَايَةً فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ مَعَ مَعْنًى محكم في الخبر والإنشاء كَافَّةً ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، لِمَرَضٍ يُصْرَعُ صاحبُه فلا يدري ما يقول إلا على مذهب الجذب ! ، وهو ما يقدح في وصف النبي أو الولي أنه المجذوب المصروع فلا يَدْرِي ما يقول ، فقد غاب عن الوعي بما كان من فسادٍ فِي الدماغ ، فآلة الترجمة قد فَسَدَتْ ، فلا تصدق في حكاية معنى ينصح ، فالنبوة طور يجاوز العقل ، فَلَيْسَ يَصْدُرُ عَنْهُ ، ولو العقلَ التَّامَ الذي أوتي صاحبُه فكرةً تَنْصَحُ وَلَفْظَةً تُفْصِحُ ، فالنبوة تجاوز العقل وتجاوز الدماغ من باب أولى ، كما الروح تجاوز البدن ، ولكلٍّ مِنْهُمَا ، الروح والبدن ، لكلٍّ مِنْهُمَا مادة بِهَا يَغْتَذِي فَهُوَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ مَصْدَرٍ من خارج يجاوز ، فالبدن يَتَنَاوَلُ مَادَّتَهُ مِنَ الأرضِ ، إذ تُوَاطِئُ مَاهِيَّتَهُ الطينية الكثيفة ، والروح تَتَنَاوَلُ مادتها من السماء ، بما كان من وحي قد نَزَلَ ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، وقد عمت البلوى في المدارس الفكرية المحدثة التي تَنَاوَلَت قواعد الأخلاق والنفس والاجتماع على قاعدة أرضية لا تجاوز ، فكان مِنْ دَرْسِهَا ما اقتصر على التجريب والبحث واستقراء النَّتَائِجِ ، وهو جزء معتبر في الباب ، ولكنه لا يجزئ في تفسير الظاهرة الأخلاقية والنفسانية والاجتماعية إذ لا يتناول من الظاهرة إلا آثارها في الخارج دون بحث أدق في بواعث الفرد والجمع ، وهي معان تَلْطُفُ لا بد لها من مرجع يجاوز الحس ، فالعقل بمعناه الغيبي المجاوز للدماغ مما يَعْسُرُ تَفْسِيرُهُ تَفْسِيرًا ماديا لا يجاوز الحس ، كما الروح لا تدرك ماهيتها في الخارج ، وإنما يَتَنَاوَلُ البحث المادي آثارها في البدن سكونا أو حركة ، فلا يجاوز النظر المحدث ما يدرك بالحس ، وليست الروح من ذلك في شيء ، فَهِيَ مِنَ الغيبِ المجاوز من خارج البحثِ والتجريبِ الذي تُدْرَكُ نَتَائِجُهُ بمعيارِ الحسِّ ، فهي من أمر الله ، جل وعلا ، فتدخل من هذا الوجه في عموم قوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، فَثَمَّ انْتِهَاءُ غاية إليه ، جل وعلا ، وهو ما انْفَرَدَ به على حد الحقيقة ، فَحَسُنَ لأجلِه الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير ، فذلك عام تجري الروح فيه مجرى المثال المبيِّن ، فهو من أمر الله ، جل وعلا ، مثالا أخص لا يُقْصَرُ العام عليه ، بل الخاص له يُبَيِّنُ ، ودلالة الأمر جامعةٌ الأوامرَ النافذة وما يصدر عَنْهَا مِنْ أمورٍ كَائِنَةٍ فكلٌّ يدخل في حد "أل" في "الأمر" ، فهي الجامعة المستغرقة لأنواع وآحاد ، فمنها الأوامر التي عنها الأمور تصدر ، فالأمر النازل منه الكوني النافذ ، ومنه آخر هو الشرعي الحاكم ، والأمور ما يكون من تأويل الأوامر ، فتأويل الأوامر الكونية النافذة ما يكون من أمور في الخارج ، فَمِنْهَا الأمور التي تحصل في الكون من ذوات وصفات تَقُومُ بِهَا وأحوال تَتَنَاوَبُها إِنِ الاضطرارِيَّ بأصل الخلقة أو الإرادِيَّ الذي يصدر عن الفكرةِ ، سواء أكانت سماوية منزلة أم أرضية محدثة ، فالأمور الكونية تَسْتَغْرِقُ الأعيان وما يقوم بها من الأحوال الاختيارية والاضطرارية ، وكلُّ أولئِكَ مِمَّا يرجع إلى الله ، جل وعلا ، رجوع الخلق إلى الخالق ، وهي ، من وجه آخر ، تأويل لما كان من أوامر هي كلمات كونية تنفذ ، وهي من وصف الرَّبِّ الخالق ، جل وعلا ، فترجع إليه ، من هذا الوجه ، رجوع الوصف إلى الموصوف ، الفعلِ إلى الفاعلِ ، فالأمور الكائنة في الخارج تَرْجِعُ إِلَى الله ، جل وعلا ، رجوع المخلوقِ إلى الخالقِ ، والأوامر المكوِّنة لَهَا تَرْجِعُ إلى الرب الخالق ، جل وعلا ، رجوع الوصف إلى الموصوف ، أو الفعل إلى الفاعل ، والسياق قد استغرق الاثنين ، فلا تعارض إذ الجهة قد انفكت ، فكلٌّ إلى الله ، جل وعلا ، يَرْجِعُ ، وبه إيجاد وتكوين ينفذ وهو لعلم أول يَتَأَوَّلُ ، علم التقدير المحكم الذي تَنَاوَلَ الكليات والجزئيات كَافَّةً ، وبه تال من تدبير محكم قد تناول الاضطرار والاختيار كافة ، فَثَمَّ مِنَ التَّقْدِيرِ أول فِي عِلْمِ غَيْبٍ يَسْتَغْرِقُ ، وله من ذلك وصف في الأزل يثبت ، وتال من سطر في لوح تقدير يصدق ، وَثَالِثٌ بمشيئة تَنْفُذُ وَعَنْهَا العلة التامة من كلمات التكوين تصدر ، وبها تصديق المقدور المعلوم الأول بما يكون من الموجود بَعْدًا فهو التأويل المطابق فلا يُغَادِرُ من العلم الأول كبيرة ولا صغيرة ، كما علم الإحصاء بعدا لما كان من اختيار في القول والعمل ، في الفعل والترك ، فذلك مناط تكليف يَلْزَمُ ، وتأويله ما عَنِ العبدِ يَصْدُرُ ، إِنْ تَصْدِيقًا وامتثالا أو آخر على ضد من التكذيب والعصيان ، وَكُلُّ أولئك مما به كَشْفٌ وَإِظْهَارٌ لِمَا كَانَ أولا من علم التقدير المحكم ، وله من كتاب تال ما يحصي وَيُدَوِّنُ ، فذلك علم تال يَصْدُقُ فِيهِ أَنَّهُ المحدَث بالنظر في آحاده التي تكون في الخارج تِبَاعًا وإن كانت تحكي من العلم قديما هو الأول الذي أحاط بالمقدورات كافة ، فذلك علم يستغرق في الأزل ، كما كتاب تال يُحْصِي ما كان من موجودات هي تأويل ينصح لما كان من مقدورات في المبدإ ، فكلٌّ : العلم الأول في الأزل بما استغرق المقدورات كافة وما يكون بَعْدًا من علم الإظهار والكشف وبه تأويل لما كان أولا من العلم وإحصاء لما يحدث من القول والفعل ، وكلٌّ : لوحُ التقديرِ وهو أول سَطْرٍ ، وما يكون بَعْدًا من سَطْرٍ في كتب الإحصاء والتدوين ، كلٌّ لا يجاوز صغيرة ولا كبيرة ، فهو المستغرق تَقْدِيرًا وإحصاءً ، فَلَهُ من ذلك وصف الأول والآخر .
فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تَنْفُذُ ، وتأويلها ما يكون من الأعيان والأحوال في الخارج تصديقا لما كان أولا من علم تقدير محكم ، قد تَنَاوَلَ كُلَّ شيء ، الاضطرار من حركاتِ الكونِ الَّتِي لا يُطِيقُهَا خَلْقٌ فَهِيَ من فعلِ الخالق ، جل وعلا ، فِعْلِ الإعجازِ في آيِ تكوينٍ يَنْفُذُ ، فتلك آياتُ آفاق وثم أخرى في الأنفس ، ومنها الاضطرار ، وَلَوْ فِي حَرَكَةِ أحشاءٍ تَدقُّ فَهِيَ تجاوز ما يرصد بالحس إلى أخرى من دقائق وَجُزَيْئَاتٍ تَسْلُكُ من السنن المحكم جَادَّةً تَنْصَحُ ، في نَبْضٍ وإفرازٍ عَادِلٍ فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ ، وإلا كان الفساد إِنْ زيادةً أو نقصًا ، فَثَمَّ من اسم العدل ما تَنَاوَلَ الحس والمعنى كَافَّةً ، وثم من الاختيار : حركاتٌ في الخارج تُنَاطُ بالإرادة ، إِنْ فِي أفعالِ الْجِبِلَّةِ وهي أعم ، أو أخرى من الشِّرْعَةِ وهي أخص فَهِيَ مناطُ تكليفٍ لِمَنْ يَعْقِلُ ، إِنْ قَوْلًا أو عَمَلًا ، إِنْ فِعْلًا أو تَرْكًا ، فكل أولئك تأويل يحدث وهو لعلم أول قد أحاط يُصَدِّقُ ، فتصديقه تأويله في الخارج كما أول في علمٍ محيط جامع ، فذلك وصف الذات الذي لا يناط بالمشيئة ، وإن كان من آحادٍ في الخارج ما يُصَدِّقُ وبها تأويله ، تأويل العلم الأول المحيط ، فَتَأْوِيلُهُ آحاد في الخارج تُنَاطُ بالمشيئة النافذة ، فَيَكُونُ من تأويلِ المقدور : الموجودُ بَعْدًا ، والكلمة في ذلك وَسِيطٌ يَنْفُذُ ، كلمةَ تكوينٍ تَحْدُثُ ، وإن كانت تأويلا لِعِلْمٍ أَوَّلَ يَقْدُمُ ، فَانْفَكَّتِ الجهة من هذا الوجه أيضا ، جِهَةُ العلم الأول فهو وصف ذات لا يناط بالمشيئة ، وجهة آحاد منه تصدر فهي تُنَاطُ بمشيئة تَنْفُذُ ، وذلك تأويل يحدث ، وَإِنْ لِنَوْعٍ أول يقدم ، فالكلمات كافة ، إن الكونيةَ أو الشرعيةَ ، الكلمات كَافَّةً مِمَّا قَدُمَ نَوْعُهُ إِذْ رُدَّ إِلَى علمٍ أول يحيط ، وآحاده في الخارج تحدث ، فالأول لا يُنَاطُ بالمشيئة ، والثاني يُنَاطُ بِهَا ، وهو أصل يَتَنَاوَلُ أوصافَ الفعلِ كَافَّةً ، فهي قديمة ، من وجه ، محدَثة ، من آخر ، فلا تَعَارُضَ إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، فهي قديمة من جهة نوعها ، محدَثة من جهة آحادها ، فالعلم قد تَنَاوَلَ الكلماتِ كَافَّةً ، الكونية النافذة والشرعية الحاكمة ، فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تنفذ ، وتأويلها ما يكون في الخارج من إيجاد الأعيان وتدبير الأحوال ، إن الاضطرارَ أو الاختيارَ ، ومنها أوامر تشريع يحكم ، وتأويلها في الخارج ما يكون من الفعل الاختياري ، إِنِ التصديقَ والامتثال أو ضِدًّا من التكذيب والعصيان ، فكان من ذلك ما تَقَدَّمَ مِنْ قسمةِ الأوامر والأمور ، فدلالة "أل" في قوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، وهو ما انتهت غايته إلى الله ، جل وعلا ، وحده ، وإن كان ثَمَّ مِنَ الأسبابِ ما تُسْنَدُ إِلَيْهِ المسبَّبات لا على حد الاستقلال مطلقا ، بل لَا تَنْفَكُّ الأسبابُ تَتَسَلْسَلُ مَعَ افْتِقَارٍ إلى شَرْطٍ يُسْتَوْفَى وَمَانِعٍ يُنْفَى ، وهو ما استوجب أولا هو العلة التامة فَلَا عِلَّةَ لَهَا تَسْبِقُ ، وليس إلى سببٍ من خارجها تَفْتَقِرُ ، بل الأسباب كَافَّةً إِلَيْهَا تَفْتَقِرُ ، وتلك كلمة التكوين الأولى ، وبها ، كما تقدم ، تأويل علم أول يستغرق ، فإلى الله ، جل وعلا ، وحده يرجع فذلك وصفه الذي به قَدِ انْفَرَدَ ، وإن كان ثَمَّ اشْتِرَاكٌ في أصل المعنى المجرَّد في الذهنِ ، فَصَحَّ إطلاقُ الوصفِ عَلَى غَيْرِهِ ، جل وعلا ، فذلك مما يُقَيَّدُ بالذات الموصوفة ، فَإِنَّ عِلْمَهَا يُوَاطِئُ وصفها ، إن كمالا أو نقصا ، فحصل لله ، جل وعلا من ذلك انفراد بوصف كمال مطلق ، فذلك علمه الأول الذي استغرق المعلومات كافة ، الواجبات والجائزات بل والممتنعات ، ولو الفرضَ المجرَّدَ فِي الذِّهْنِ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وذلك مما قد دَلَّ عليه الوحي كما مواضع تَقَدَّمَتْ مِنْ آيِ تَنْزِيلٍ مُحْكَمٍ ، فـ : (اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فذلك العموم الذي استغرق كلَّ معلومٍ ، ولو الممتَنِعَ المفروضَ على التفصيل آنف الذكر ، فَعَمَّ الأوامر : الكونية والشرعية ، وَعَمَّ الأمور التي عَنْهَا تَصْدُرُ ، فكلٌّ يَدْخُلُ فِي حَدِّ الأمر في الآي آنف الذكر : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، وقد جاء النص على كلٍّ في آي آخر من الذكر المحكم : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ، فَثَمَّ أول هو الأمر النازل من كلم تكوين نافذ ، وَثَمَّ تَالٍ هُوَ مُفْرَدُ الأمورِ فَهِيَ مِمَّا يُقْضَى بالأوامر ، فَنَصَّ عَلَى كلٍّ ، وذلك العموم المستغرق ، فَذِكْرُ الرُّوحِ في قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، ذكرها ، من هذا الوجه ، مما احتمل ، أيضا ، فَثَمَّ من ابتداء الغاية في "مِنْ" ما يحتمل ، فإما ابتداء غاية لخلق ، فالروح من مأمور ربي ، وهو ما يُقْضَى من المقدورِ في الخارج فَيَصِيرُ الموجود الشاهد ، فهي من مخلوق الله ، جل وعلا ، وهو الخالق ، وَإِضَافَتُهَا ، من هذا الوجه ، إضافةُ مخلوقٍ إلى خالق ، فابتداء الغاية ، من هذا الوجه ، ابْتِدَاءُ غايةٍ في الخلق ، وثم آخر يحتمل ، فالروح من أَمْرِ رَبِّي ، جل وعلا ، إذ هي مما بأمره يكون ، فَتَحْكِي "مِنْ" ، من هذا الوجه ، معنى السببية ، فالروح تكون في الخارج بسبب هو من أمر الخالق ، جل وعلا ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فذلك عموم قد استغرق الروح وغيرها من المأمورات الكائنات في الخارج ، ولا تنفك "مِنْ" ، في قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، لا تنفك ، من هذا الوجه ، تحمل معنى البيان ، بيان الجنس ، جنس الأوامر التي تصدر عن الرب ، جل وعلا ، فهي من وصفه ، فالإضافة ، من هذا الوجه ، إضافة وصف إلى موصوف ، لا مخلوق إلى خالق ، كما أول قد تَأَوَّلَ الأمر بالمأمور على تقدير : الروح من مَأْمُورِ رَبِّي إذ خلقها بأمره ، فانفكت الجهة في هذا السياق ، أيضا ، فاحتملت "مِنْ" : دلالةَ بَيَانٍ لجنس المدخول ، فالروح من جنس عام قد استغرق وهو مأمور الخالق ، جل وعلا ، إذ بأمره يكون في الخارج ، واحتملت السببية ، فهي مُسَبَّبٌ عن أمر الله ، جل وعلا ، أمر التكوين النافذ ، واحتملت ابتداء الغاية ، فَابْتِدَاءُ غَايَتِهَا خَلْقًا من الله ، جل وعلا ، بما يكون من كَلِمِ تَكْوِينٍ يَنْفُذُ ، وَهُوَ من أمر الرب الخالق ، جل وعلا ، واحتملت الإضافة في "أَمْرِ رَبِّي" ، احتملت : إضافة الوصف إلى الموصوف ، من وجه ، والمخلوق إلى الخالق ، من آخر ، ولكلٍّ وَجْهٌ مُعْتَبَرٌ وَبِهِ يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، ومن ثم كَانَ خِتَامٌ بالقصر في قوله : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، وهو ما حُدَّ بالاستثناءِ والنفي ، وهو الأقوى في بَابِهِ ، وَحِكَايَتُهُ : حكايةُ الحقيقةِ ، فما أوتي الخلق من العلم ، إن التشريع أو التجريب ، ما أُوتُوا من ذلك إلا قليلا ، وهو مما انتهى ، أيضا ، وَرَجَعَ إلى الله رب البشر كافة ، جل وعلا فِي السماء ، وَتَقَدَّسَ في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #4  
قديم 03-04-2023, 06:35 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

ودلالة الفطرة الأولى إذ تَنْصَحُ مما تَلَا من كَدَرٍ يَشُوبُ ، دلالتها على الفاطر الأول ، الخالق المهيمن ، جل وعلا ، تلك ، لو تدبر الناظر ، من المعلوم الضروري في أي استدلال نظري فلا بد من كلمة سواء هي قاعدة الجدال ، فلا استدلال في النظر ينصح إن لم يكن ثم مقدمات ضرورة في الوجدان تَثْبُتُ ، فهي محل الإجماع إلا عند جاحد أو مُسَفْسِطٍ ، فالفطرة الأولى جملة من العلوم الضرورية التي يجدها الإنسان من نفسه دون حاجة إلى استدلال ، وهي دليل على الفاطر الأول ، فكل محدَث لا بد له من محدِث ، وذلك قانون عام يستغرق الأعيان والأحوال كافة ، وذلك ما استوجب الأول فلا أول قبله ، وبه حسم التسلسل في الأزل ، فالأول الذي جاوز هذا العالم المحدَث ليس ، بداهة ، من جِنْسِهِ ، وإلا كان محدَثًا مِثْلَهُ فَافْتَقَرَ ، أيضا ، إلى محدِث قَبْلَهُ ، وهو ما يَفْتَحُ ذَرَائِعَ التَّسَلْسُلِ ، فلا تُسَدُّ إلا إذا انتهت إلى أول هو المحدِث فليس المحدَثَ من العدم ، بل قد ثبت في الأزل ، فما الخلق كله إلا مقدورات في علم أول محيط ، وما حصولها في الخارج إلا تأويل لمعلوم أول ، فكان من آحاد الكلمات مَا يحكي العلم ، وبها كان الخلق كله ، فهو مِنْهُ كما الآي المحكم قد ذَكَرَ ، فـ : (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وذلك من آي الربوبية ، الآي الآفاقية ، فكان من فعل التسخير ما يصدق فيه ، أيضا ، أصل أول في الباب يستصحب ، فالفعل مما قَدُمَ نَوْعُهُ وكان من آحاده في الخارج ما يَحْدُثُ ، فهي مما يناط بالمشيئة ، وحكاية الماضوية في "سَخَّرَ" : حكاية التقدير الأول ، فإن آحاد المسخَّرَاتِ لا زالت تحدث في الخارج شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بما يكون من آحاد الكلمات ، وهي من العلم المصدِّق الذي تَحَمَّلَهُ الملَك المنزَّل ، فكان من العلم : أول يقدر في الأزل ، وثان يُصَدِّقُ بَعْدًا فهو تأويل يخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، فتلك كلمات بها التقدير ثم التكوين ثم التدبير ، ومنه التسخير ، فتلك ربوبية عناية بعد أولى هي الاختراع لا على مثال سابق بما كان من تقدير أول في العلم المحيط الجامع الذي استغرق الأعيان كلها ، فكان من التسخير والعناية بَعْدًا ما به اكتمال الحد : حد الربوبية الجامع ، فمنها اختراع أول لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك الخلق ، ومنه خلق السماوات والأرض ، فكان من ذلك آيٌ قَدْ تَوَاتَرَ ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وذلك إِطْلَاقٌ في المبنى قَدِ اسْتَغْرَقَ ، كما تقدم في مواضع ، فَأُطْلِقَ العامل ، عامل الخلق ، فاستغرق ، من هذا الوجه ، خلق التقدير في العلم الأول ، وخلق الإيجاد المصدِّق في الخارج ، وثم من معنى التقدير ما يجاوز الإيجاد ، فالخلق منه تكوين يَنْفُذُ ، ومنه تدبير يُحْكِمُ ، وإن كان من إطلاق الخلق ما يَنْصَرِفُ ، بادي الرأي ، إلى الإيجاد ، فَهُوَ شَطْرُ الاختراعِ والبدعِ ، فكان من وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، أنه : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وذلك من المبالغة في الحد ، "فَعِيل" من "فَاعِل" ، فهو الْبَادِعُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَابِقٍ ، وذلك الاسم المقيد بما كان مِنْ إضافةٍ إلى السماوات والأرض ، وإن كان ذلك ، من وجه ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فهو الذي أبدع المحدَثات كَافَّةً ، ومنها السماوات والأرض ، فهو البديع في الفعل إذ هو العليم في الوصف ، وكلاهما مما حُدَّ مبالَغَةً ، وهو آكد في الثناء والمدح ، وكلاهما مما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، وإن كان من اسم البدع ما قُيِّدَ ، فهو ، كما تقدم ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فكان من اسم العليم ما عم المعلومات كافة ، ومنها المقدورات في الأزل وما كان من سطر في لوح تقدير يصدق ، فَفِيهِ قد كتبت المقادير كافة ، إِنِ الكلمات الكونية التي تَنْفُذُ أو أخرى من الشرعية فهي تخبر وتحكم ، وكان من اسم البديع ما يُصَدِّقُ هذا العلم الأول المحيط ، فالبدع إيجاد له في الخارج يواطئ ما كان من التقدير الأول في الأزل ، وهو إيجاد مخصوص يحكي الحكمة والقدرة أَنْ كَانَ لَا عَلَى مثالٍ سَابِقٍ ، فالبدع خلق مخصوص إذ الخلق : تَقْدِيرٌ وَإِيجَادٌ وإبداعٌ وتدبير ، فكل أولئك مِمَّا يَدْخُلُ فِي حَدِّ العلمِ الأوَّلِ ، العلم المحيط الجامع ، فكلماته في الأزل أول عنه أخرى في الخارج تحدث إذ تُنَاطُ بَعْدًا بمشيئَةِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، فمنها كلماتُ إيجادٍ أَعَمَّ ، ومنها أخرى في الإبداع أَخَصُّ ، فهو إيجاد يُقَيَّدُ إِذْ يَكُونُ لا على مِثَالٍ أول قَدْ تَقَدَّمَ ، ومنها ثالثة في التدبير ومنه التسخير آنف الذكر ، فالتسخير تال بعد التكوين ، فكان من ذلك تسخير السماوات والأرض ، وفيه يجري قياس الأولى كما يجري في التقدير والخلق ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وذلك مما صُدِّرَ بِلَامِ ابْتِدَاءٍ تحكي التوكيد في "لَخَلْقُ" ، فزيادتها في المبنى تحكي أخرى في المعنى ، وذلك أصل عام يستغرق ، وهو يَتَنَاوَلُ كل زيادة ، وثم من لام الابتداء زِيَادَةٌ أَخَصُّ ، فَهِيَ نَصٌّ فِي البابِ ، باب التوكيد ، وثم من خلق السماوات والأرض : أصل في القياس آنف الذكر ، قياس الأولى ، وهو العام المستغرق على التفصيل آنف الذكر ، فالخلق يحكي في دلالة المعجم الْمُفْرَدِ : مادة التَّقْدِيرِ ، وهي جنس في الدلالة يستغرق ، فَمِنْهُ تقدير في العلم قَبْلَ الإيجاد المصدِّق وهو الأول في الإثبات ، ومنه تقدير في الإيجاد والتكوين فهو يصدق ما كان أولا من تقديرِ لَطِيفٍ خبير ، قد عَلِمَ ما جَلَّ وما دَقَّ من الكائنات ، فكان من اسم الخبير : عَلِيمٌ وَزِيَادَةٌ ، وفيه ، أيضا ، يجري قياس الأولى ، فالخبير بما دَقَّ : عَلِيمٌ بكل شيء يَزِيدُ ، فعلمه يستغرق الدقيق ، والجليلَ من باب أولى ، ومن الخلق إبداع تقدم لا على مثال تقدم ، ومنه التدبير ، فكل أولئك مما استغرقه الإطلاق : إطلاق العامل في قوله : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وإن كان من الإضافة إلى السماوات والأرض ما يجري مجرى القيد ، فهو ، كما تقدم ، المثال لعام قد استغرق كل شيء ، كما العلم آنف الذكر ، فكذا الخلق وهو ما تَوَاتَرَ في آيٍ مِنَ الذِّكْرِ ، فـ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فكان من ذِكْرِ السماواتِ والأرضِ مِثَالٌ أخص يُبِينُ عن العموم فلا يخصصه ، فَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ يُبَيِّنُهُ ولا يُخَصِّصُهُ ، كما قرر أهل الأصول والنظر ، وثم مِنْ طِبَاقِ الإيجاب ما استغرق أجزاء القسمة في الخارج : السماوات والأرض ، فتلك قسمة الكون المحدَث فهو المخلوق بأجرامه وأعيانه ، والقياس ، بداهة ، أن له خالقا أول قد تَقَدَّمَ في الوجود والرتبة ، وهو ما لا يستقيم في النظر إلا أَنْ يُرَدَّ إلى أول لا أول قَبْلَهُ وبه حسمٌ لمادة التسلسل ، ولا يكون هذا الخلق المتقن المحكم إلا وثم من وصف الكمال أول آخر ، فأول الخلق ليس العلة المجردة من الوصف الفاعلة بالطبع ، بل هو الأول الذي قصه الوحي ذاتا تَنَزَّهَتْ عن النقص مع تال من كمال به الثَّنَاءُ والمدح والمطلق ، وجامعه في الباب : علم محيط قد استغرق المقدورات كافة في الأزل ، فوجودها فيه : وجود القوة فلا ينفك يطلب ما يُخْرِجُهُ إلى الفعل ، فيكون من تأويل العلم الأول القديم : كلمات تَحْدُثُ إِذْ تُنَاطُ بمشيئة تنفذ ، مشيئة الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فعنه تصدر العلة ، علة الخلق التامة فلا تفتقر إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليها يفتقر ، فتلك كلمة التكوين ، وهي ، أيضا ، الجنس العام الذي استغرق المكوَّنات كافة ، ومنها السماوات والأرض ، فخلقها مثال آخر لعام قد استغرق ، فكان من الكلمات ما خُلِقَتْ به الأرض والسماوات ، كما كان منها آخر خُلِقَ بِهِ آدم ، وثالث خُلِقَتْ به حواء ، ورابع خُلِقَ به المسيح ، وخامس خلقت به البتول ، وسادس خلقت به النفوس ، مع كلمات أخرى بها التدبير فتلك العناية التي استغرقت الكائنات كافة ، شَطْرَ ربوبية يُكْمِلُ ما كان أولا من خلق واختراع يُبْدِعُ لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، فحصل من ذلك معنى ربوبية جامع ، والأصل فيه علم أول فكلماته هي المرجع والمصدر إن في التكوين أو في التشريع ، فحصل منها مثالا أخص ، ما به خلق السماوات والأرض ، وهو التقدير الأول وما كان من إيجاد تال يصدق مع إبداع لا على مثال تقدم ، وتدبير وتسخير قد استغرق ، فأطلق العامل الذي استغرق وجوه المعنى ، وكان من عموم "أل" في "السماوات" و "الأرض" ، ما استغرق الآحاد والماهيات كافة ، بل قد اسْتَغْرَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فذكر السماوات والأرض ، كما تقدم ، مثال لجنس أعم قد اسْتَغْرَقَ مِنَ الخلقِ كُلَّ شَيْءٍ ، وهو ، من آخر ، تَنْبِيهٌ بالأعلى على الأدنى ، وذلك ما تَنَاوَلَهُ السياقُ اسْمَ تَفْضِيلٍ هو "أكبر" ، فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، وهو ، أيضا ، الخلق العام المستغرِق ما تَقَدَّمَ من وجوه المعنى : التقدير والتكوين والتصوير والتدبير ، فالخلق قد عم كُلًّا ، وَمَرَدُّهُ ، أَبَدًا ، إلى علم أول يَسْتَغْرِقُ ، وتأويله ما يكون في الخارج من كلمات تكوين آحادها تحدث بما يكون من مشيئة تنفذ ، فهي المرجِّح من خارج في جائزٍ أول في التقدير إذ احتمل الإيجاب أو السلب ، فكان من الإيجاب ما رَجَّحَ ، فَلَهُ وجود في الخارج يجاوز بما كان من مرجِّح المشيئة النافذ ، فخلق السماوات والأرض أكبر ، فَقِيسَ عليه خَلْقُ النَّاسِ قِيَاسَ الأولى ، وإن جهله أكثر الخلق بما كان من ظلم وجهل ، فـ : (لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو محل ذم وتوبيخ لمن جهل فلم يفطن لهذا المعلوم الضروري المحكم ، فحسن ، من هذا الوجه ، الإظهار في محل الإضمار ، فالتقدير المتبادر بما اطرد من قانون اللسان المحكم أن يقال في غير التنزيل المحكم : ولكن أكثرهم لا يعلمون ، فَأَظْهَرَ في موضع الذم لجمعٍ يكثر قد غفل عن آي من الخلق يُعْجِزُ ، وَفَسَدَ قياسه فلم يَنْصَحْ ، وهو ما به العلم قد انْتَفَى ، فكان من ذلك عموم قد استغرق ، إذ تسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل "يَعْلَمُونَ" ، وإن دخله التخصيص ، من وجه ، فلا يعلمون ما ينفع من أمر الدين ، وإن حصل لهم آخر من ظاهر الدنيا ، ولا يخلو من نفع ، ولكنه لا يُرَادُ لِذَاتِهِ ، من كل وجه ، فهو وسائل تُصْلِحُ لا غايات تُطْلَبُ ، ومن أحاط به فقد يحصل له وصف الفاعل الماهر ، لا العابد الصالح ، فذلك قدر أخص ، فليس كل فاعلٍ صالحا ولا عكس ، فلا يكون الصالح حقا إلا أن يفعل ، ولكنه قبل ذلك يؤمن ، فيكون له من ذلك وصف به قَدْ نَالَ الوراثة في الأرض ، فهو مما كتب في الزبور الأول ، فـ : (لَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، وذلك كَتْبٌ يَعْظُمُ ، وهو ، أيضا ، ما كان من علم أول يُقَدَّرُ في الأزل ، فكان منه ما أحاط فاستغرق ، وهو ما احتمل كلا : كتب التكوين النافذ في زبور أول جامع ، وهو ما يَتَبَادَرُ من السياق ، ولا يخلو من دلالة تعظيم في الوصف حكايةَ العلمِ الأول المحيط والحكمة البالغة في التقدير ، والقدرة النافذة وبها تأويل المقدور المحكم بما يكون من إيجاد تال يصدق ، فَحَسُنَ لِأَجْلِهِ إِسْنَادُ العاملِ ، عاملِ الكتب إلى ضمير الجمع حكايةَ التعظيمِ في الوصف ، ولا يخلو من أخرى هي التكثير ، لا تكثير الذوات ، بل الأول ، جل وعلا ، واحد لا شريك له في الذات ولا في الاسم ولا في الوصف ولا في الفعل ولا في الحكم ، وإن كان ثم اشتراك في أجناس المعاني المطلقة في الذهن ، فالتكثير يَتَنَاوَلُ من الأوصاف ، أوصاف الكمال المطلق ما به الموصوف يمدح ، وذلك أصل في الباب : باب الإلهياتِ ، إذ النَّفْيُ فيه يجمل ، والإثبات على ضد فهو يُفَصَّلُ ، فكان التكثير من هذا الوجه ، إذ زيادة الوصف في باب الكمال مما به الثَّنَاءُ والمدح يزيد ، وهو الأليق في حَقِّ الرَّبِّ الحميدِ المجيدِ ، تبارك و ، فَحَسُنَ الجمعُ ، من هذا الوجه ، أيضا ، فهو تعظيم في الوصف تكثير لأوصاف الكمال والمدح ، وثم آخر في الباب ، باب الكتب ، فهو كتب التشريع الحاكم بما يكون من سَبَبٍ به يُنَالُ وصفُ الصلاحِ ، وبه وراثة الأرض تثبت ، فذلك ما لا يكون إلا بتصديق وامتثال لما تَنَزَّلَ من كلمات الوحي خبرا وحكما ، فذلك كتب التشريع إذ يُنَاطُ المعلول من وراثة الأرض بعلة هي الصلاح ، وهو ما استوجب امتثال الكلمات التي تُصْلِحُ ، إِنْ قُوَّةَ العلمِ التي عنها الصالح يصدر أو قُوَّةَ العملِ التي بها يَتَأَوَّلُ ما كان من كلماتِ الخبرِ والحكمِ كافة .
فكان من قياس الْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو ما تَكَرَّرَ في موضع آخر من التنزيل المحكم : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فكان من ذلك استفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، وكان من دخول الاستفهام على النفي ما يضاهي الإثبات ، فهو يضاهي دخول النفي على مِثْلِهِ ، فكان من الجواب : (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فَمَنْ خلق الأعلى فهو يخلق الأدنى من باب أولى ، وثم من الختام ما يجري مجرى التعليل لِمَا تَقَدَّمَ من الخلق المحكم ، فهو ، من وجه ، جواب سؤال قد دل عليه السياق اقْتِضَاءً ، فما علة ما تقدم من قياس الأولى الذي استغرق خلق الأعلى وخلق الأدنى من باب أولى ؟ ، فكان الجواب أنه : (هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، وذلك ما زَادَ في الدلالة على اسم الخالق ، فكان من "فَعَّالٍ" ما يحكي المبالغة في الدلالة وذلك آكد في الثناء والمدح ، وهو ما استغرق تكثير المعنى بما يكون من إحكامٍ في الخلقة ، وتكثير الآحاد من الأجرام والأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، ولا يكون ذلك إلا بعلم محيط يستغرق ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الإطناب في الخبر ، فَعُطِفَ العليم على الخلاق ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التعاطف بين المسبَّب وهو الخلق إيجادا وإبداعا وتدبيرا ، والسبب وهو ما يكون من أول من العلم المحيط المستغرق ، فَحُدَّ ، أيضا ، حَدَّ "فعيل" من "فَاعِل" ، "عليم" من "عالم" ، وبه الثناء على الرب الخالق ، جل وعلا ، الثناء التام المستغرق مع عموم آخر قد تناول المعلومات كافة إذ أُطْلِقَ الاسم ، ولا يخلوانِ : الخلاق والعليم ، لا يخلوان ، من هذا الوجه ، أَنْ يَجْرِيَا على جادة العهد ، العهد الأخص إذ تحكي "أل" : استغراقا لوجوه المعنى من الخلق والعلم ، ولا يكون ذلك إلا لواحد في الأزل ، لا شريك له في ذات ولا اسم ولا وصف ولا فعل ولا حكم ، فذلك أصل عام يستغرق ، فيدخل فيه الخلق والعلم ، فَاكْتَسَبَتْ "أل" من هذا الوجه : دلالة العهد الخاص ، وإن كان ثم اشتراك في الجنس العام ، جنس المعنى المطلق الذي يجرده الذهن ، فالاشتراك في الجنس العام الذي يجرده الذهن لا يستوجب آخر في الخارج ، بل لكلِّ ذاتٍ تُوصَفُ بالمعنى فَيَقُومُ بِهَا قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، لكلِّ ذاتٍ من ذلك المعنى ما يُوَاطِئُ حَقِيقَتَهَا في الخارج إِنْ كَمَالًا أو نَقْصًا ، فكان للخالق ، جل وعلا ، من ذلك كمال مطلق به قد انْفَرَدَ فلا يشركه فيه غيره ، وإن شركه في المعنى المجرد في الذهن .
فحصل في الباب : خلق أعم ، وهو ما قُيِّدَ بالحق في مواضع من التنزيل المحكم ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، فذلك قَيْدُ الحالِ "بِالْحَقِّ" وهي في هذا السياق : عمدة لا فضلة ، إذ تحكي ما لا يَتِمُّ الثناء إلا به ، أنه الحق الثابت في نفس الأمر ، فالباء في "بِالْحَقِّ" تحكي المصاحبة من هذا الوجه ، وأنه ما كان بالحق بما تَقَدَّمَ من كلمات كون تُصَدِّقُ ما كان أولا من تقدير الخلق ، فالباء تحكي السببية من هذا الوجه ، وكلا الوجهين يصح ، وبه يستأنس من يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، وبه المعنى يَثْرَى بوجوه من الدلالة تَنْصَحُ ، فكان من الخلق أول ، خلق السماوات والأرض ، وكان تَالٍ من تصوير الناس ، فَاسْتَغْرَقَ السياق : الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض ، والآيات النفسانية من تصوير الخلق ، وثم ختام يجري مجرى الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في قوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، فانتهاء الغاية إليه ، وهو مَا عَمَّ كُلَّ شَيْءٍ ، السماوات والأرض وما فِيهِنَّ من الخلق ، فذلك خلق أعم ، مع تال تقدم من تَسْخِيرٍ أخص إذ : (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فَهُوَ تَالٍ بَعْدَ الخلقِ ، وبه عنايةٌ بَعْدَ اختراع أول لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وهو ما حُدَّ مَاضِيًا في الفعل ، وإن كان من آحاده ما يحدث بمشيئة في الخلق تَنْفُذُ فَلَمَّا يَزَلْ تأويلُها في الخارج يَحْدُثُ : نِعَمًا من الله ، جل وعلا ، تَتَجَدَّدُ ، وإن كان ثم نوع قديم أول ، فآحاده لَمَّا تَزَلْ في الخارج تحدث ، وهو ما حَسُنَ فيه الإطناب بالتكرار ، تكرار الموصول في قوله : (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، مع توكيد عام يستغرق في قوله : (جَمِيعًا مِنْهُ) ، فهو يَرْفَعُ احتمالَ المجازِ بِتَخْصِيصٍ يُخْرِجُ بَعْضًا ، وابتداء غايتها جميعا منه ، جل وعلا ، فتلك دلالة "مِنْ" ، ولا تخلو من دلالة السببية ، إذ سَبَبُهَا الذي عنه تصدر هو من وصف الخالق المهيمن ، جل وعلا ، كلمات تَنْفُذُ ، وبه آيات لمن تدبر وتفكر ، وَمَرَدُّهَا ، كما تقدم إلى علم أول يحيط قد استغرق الدقيق والجليل ، فتلك آيات تنصح لمن تدبر وتفكر ، ولا يخلو الاستئناف به وقد صُدِّرَ بالناسخ في قوله : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، لا يخلو من دلالة تعليل إذ يجيب عن سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من تسخير السماوات والأرض وما فيهما ؟ ، فكان الجواب : لَأَنَّ في ذلك آيات لقوم يتفكرون ، فدلالة الناسخ المؤكد "إِنَّ" في هذا السياق قد استجمعت التوكيد ، وهو الأصل بالنظر في أول من أصل الوضع في معجم الألفاظ المفرد ، فَاسْتَجْمَعَتِ التوكيد والتعليل على التقدير آنف الذكر ، وبه ، أيضا ، يستأنس من يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، مع قرينة تأويل من السياق قد رَجَّحَتْ فِي النَّاسِخِ زِيَادَةَ التعليلِ على أول من التوكيد بما تَقَدَّمَ من تقدير السؤال الذي يطلب عِلَّةَ مَا تَقَدَّمَ ، وهو ما حَسُنَ فيه توكيد الجواب بالناسخ ، مع جمل توكيد قياسية : من الاسمية مع تقديم الظرف "فِي ذَلِكَ" ، وحقه أن يتأخر ، في قوله : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فتلك دلالة حصر وتوكيد يثبت ، وثم من الإشارة إلى ما تَقَدَّمَ قَرِيبًا إشارةَ البعيدِ في "ذَلِكَ" ، ثم منها ما يحكي التعظيم فهو أمر قد جَلَّ ، ولا يخلو من آخر قد اطَّرَدَ في قانون النطق أن يُشَارَ إلى ما انْقَضَى مطلقا إشارةَ البعيدِ ، قَرُبَ العهدُ بِهِ أو بَعُدَ ، وثم من اللام : لام توكيد قد أُخِّرَتْ في قوله : (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فهي ، أيضا ، حكاية توكيد في الدلالة يزيد ، فَأُخِّرَتْ إذ اشتغل صدر الكلام بالناسخ ، وإلا فهي لام ابتداء محلها أول في النطق ، فَأُخِّرَتْ في الذكر واحتملت لأجل ذلك خاصا من الاسم ، وهو اللام المزحلقة ، وثم من الإطناب بالموصوف الموطئ في قوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، ثم من ذلك ما به التمهيد لوصف تال في الذكر ، وهو محل الفائدة ، ولا تخلو المضارعة فيه من استحضار الصورة مع آخر يستغرق الحال والاستقبال ، فذلك تكليف في النظر لا ينقطع ، ولا يخلو اختصاص القبيل المتفَكِّر بهذه الآيات أَنْ تُذَكِّرَ ، لا يخلو من تعريض بآخر قد أنكر ، فأعرض عنها وَاشْتَغَلَ بَغَيْرٍ أَدْنَى ، ولم يَتَدَبَّرْ آي الخلق والتدبير وهي أعلى ، فخالف عَنْ قِيَاسِ الأولى إذ اشْتَغَلَ بالأدنى عن الأعلى ، فَلَا يَنْتَفِعُ بهذه الآي إلا قيام الحجة ، والجهل بها في هذه الحال أحسن ! ، فذلك ، كما تقدم ، من تَعْرِيضٍ بِهَذَا القبيل الغافل وإن لَزِمَتْهُ الحجة فهو بها يخاطب ، وَمَرَدُّهَا إِلَى عِلْمٍ أول قد اسْتَغْرَقَ ، وله من ظاهر الدلالة ما يَنْصَحُ ، وهو ما استوى فيه العام والخاص ، فلا يكون من التكليفِ ما يَتَفَاوَتُ إذ يُنَالُ من أصولِ الاستدلال المحكم بما يكون من تأويل محدَث ، فالأصل محكم وإنما دخله الاضطراب في قياسِ المتأَوِّل الذي صَيَّرَهُ من المتشابِه ، فيكون من ذلك اضطراب في الاستدلال يُصَيِّرُ الشريعة على أنحاء ، فَثَمَّ شريعةُ الْعَامَّةِ التي تَقْتَصِرُ على الظواهر ، وثم أخرى لِخَاصَّةٍ عمدتُها تأويلاتٌ لا تخلو من تَكَلُّفٍ ، والعوام لا يُطِيقُونَ من التأويلات الكلامية ما يطيقه الخاصة ، وذلك ، وإن كان له وجه يُعْتَبَرُ ، فَفِي عِلْمٍ ذِي حَقَائِقَ مُحْكَمَةٍ ، فالحقيقة واحدة ، ومنها الظاهر فلا شبهة فيه ولا إشكال ، ومنها الخفي الذي لا يَحْسُنُ خطابُ الْعَامَّةِ به إذ لا يَفْقَهُونَ مَا دَقَّ من دلالاته ، مع كَوْنِهِ من الفروع التي لا يضر الجهل بها ، ولا يُشْتَرَطُ فِيهَا علم الجمع كافة ، بل قد وَسِعَ المجموع جهله ، وإن وجب من علمه ما به الكفاية تجزئ ، فَتَجْرِي ، من هذا الوجه ، مجرى الفرض الكفائي الذي يجب على المجموع لا الجميع ، فلا يضر أن يفوت المجموع ، وإنما يضر فَوَاتُهُ الجميعَ ، وإن فَرْعًا يدقُّ ، فلا بد من قائم فيه بِحُجَّةٍ تَنْصَحُ وبها الحق يظهر ، فذلك أصل عام يستغرق الأصول والفروع كَافَّةً ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما به حجة الإجماع تَنْصَحُ ، فإن الإجماع لا يكون على خطإ في نفس الأمر ، ولو في فَرْعٍ يدق ، فعصمة الإجماع أنه لا يكون إلا على صواب إن وقع ، وإن لم يقع ، فَثَمَّ الاختلاف الذي لا يخرج الحق عنه ، وذلك إجماع آخر ، وإن كانت صورته صورة الخلاف ، فهو إجماع أن الحق لا يخرج عن أقوال المجتهدين إذا اختلفوا ، ولا يخرج عنه ، من باب أولى ، إذا اتَّفَقُوا ، وذلك ما استغرق الأصول والفروع كافة ، وإن كان ثم خلاف في دقائق من الأحكام ، فلا يُحْسِنُ النَّظَرَ فِيهِ كُلُّ أحدٍ ، وإنما يَتَنَاوَلُهُ أهلُ الشأنِ ، ومن رحمة الله ، جل وعلا ، أن لم يكن في أصول تَعُمُّ بها البلوى إن في العلم أو في العمل ، أو في منصوصٍ صحيح صريح ، فذلك باب والخلاف فيه سائغ والحق فيه مع ذلك واحد ، إن في الأصول أو في الفروع ، والقول بِنِسْبِيَّةِ الحقائقِ : باب آخر ، فيكون الحق عند العامة شيء ، وعند الخاصة آخر ، فالعامة يقتصرون على ظاهر الدلالة الذي يُنَالُ من دلالة المعجم على المعاني المفردة التي يجردها الذهن مع ظواهر أخرى تُنَالُ من دلالات النحو المركبة ، وثالثة هي ظواهر الأحكام المنزلة ، فالعامة يقتصرون على الصوم المتبادر فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ ، من إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فلا تجاوز عقولهم هذا الظاهر البسيط ، فهو الواجب في حقهم ، كما المريد والسالك في اصطلاح أهل الطريق ، فإن المريد مبدأَ الأمرِ لا يَحْسُنُ في حقه تَرْكُ الظواهر ، ظواهر الشرع ، فَيُصَلِّي وَيَصُومُ ..... إلخ ، وكذا السالك وإن شَرَعَ فِي طريق الحقائق فإذا بَلَغَ الغاية فهو الواصل فقد انكشفت له من حجب التأويل الباطن ما به بَلَغَ الحقيقة وإن خالفت عن ظاهر الشريعة ، بل ذلك مما يمدح به الواصل إذ يَسْتَغْنِي عن التكليف فَهُوَ زاد العامة في طريق قد بَلَغَ الواصل آخره ! ، فَلَمْ يَعُدِ الصوم في حقه هو الصوم في حق المريد أو السالك ، فالخاصة قد علموا من الحقيقة ما يخالف عن ظاهر الشريعة ، فآل الأمر إلى اختلاف في مُحْكَمٍ لا يَتَطَرَّقُ إليه التشابه بما أُحْكِمَ من دلالات اللسان والوحي ، كما الصوم مِثَالًا تَقَدَّمَ ، فَقَدْ صار له في ظاهر الشريعة إمساك العامة ، وصار له في باطن من الحقيقة إمساكٌ أَنْ يُفْشِىَ سِرَّ الطريقة أو المذهب ، فإذا كَتَمَ فَلَا يَضُرُّ صاحبَه بعد ذلك أن يأكل أو يشرب في نهار رمضان ! ، بل لا يضره أن يجهر بذلك ! ، بل هو يتبجح بذلك أن صار الواصل الذي سقط عنه التكليف بما استبطن من التأويل الذي أتى على ظاهر الشريعة بالإبطال ! ، فالصوم في حقه تكليف ، وفي حق العامة آخر ، وإن كان ثم اشتراك فلا يجاوز الجنس الدلالي المجرد في الذهن ، جنس الإمساك ، وتحته من الأنواع ما يتناول أنواعا ، فإمساك عن الطعام والشراب والجماع وذلك الصوم الذي دل عليه ظاهر الشريعة المتبادر ، وهو ، كما تقدم ، تكليف العامة ، وإمساك عن الكلام ، وذلك صوم مريم البتول ، عليها السلام ، فـ : (إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، وهو مَا جَازَ فِي شَرْعٍ تَقَدَّمَ ، فالشرع الخاتم قد نَسَخَهُ ، فلا يشرع التعبد بشرع منسوخ ، فكيف بآخر محدَث مبدَّل ؟! وإن اتخذ من التأويل ذريعة ، وَاقْتَبَسَ مِنْ أَصْلِ الحقيقةِ الأولى في اللِّسَانِ شعبة ، وذلك مما اشتهر في تأويلاتِ الباطنِيَّةِ وأخرى حداثية في جيل قد تَأَخَّرَ ، إذ يعدلون عن المعنى المحكم من دلالة الشرع الأخص إلى أخرى أعم من دلالة اللسان وهو ما يفتح باب التَّشَابُهِ وإن في محكماتٍ من الأدلة قد بَلَغَ العلم بها حد الضرورة الملجئة ، فإن زوال القيد وصيرورة المعنى إلى الإطلاق ذريعة إلى اختلاف القيود بما يواطئ الأهواء والأذواق ، فكل يقترح من القيد ما يواطئ مذهبه ، فإذا صار الصوم هو الإمساك المجرد في الدلالة ، فَكُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَزِيدُهُ من القيدِ مَا يُوَاطِئُ الهوى والحظ ، فالمريد أو السالك لا زال على قيد الظاهر فهو يصوم صومَ العامة ، والواصل إذ انكشفت له حجب الحقيقة فلا يحسن في حقه استمساك بظاهر من الشريعة ، فذلك وصف العامة وهو قد صار من الخاصة ، فلا يصوم صوم العامة وإنما له آخر أخص ، وهو ما يضاهي باطنية المذهب فقد صار الصوم في دينهم المحدث : الإمساك عن إفشاءِ سِرِّ المذهب ! ، فَاقْتَرَحَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ باطن ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ المشارِبُ ، اقْتَرَحَ مِنَ القرينةِ الباطنةِ ما أَبْطَلَ قَيْدَ الشَّريعة الظاهرة ، فهو حقيقة في عُرْفِ التَّنْزِيلِ ، وهو أخص ، إذ تناول حقيقة أولى في اللسان وَزَادَهَا من القيد ما يميز بما تواتر من ماهيات في التكليف المنزل ، فهي ، من هذا الوجه ، حقائق لسانية مقيدة ، وذلك أصل يستصحب في الأصول والفروع كافة ، فإن حقائق الشرع ، من وجه ، حقائق في اللسان قد زِيدَ فِيهَا الْقَيْدُ ، فالإيمان في اللسان : تصديق مجرد ، فَزَادَهُ الشرع قيدا أخص ، فهو تصديق في الجنان أول يجاوز ما تَبَادَرَ إلى الذهن من العرفان المجرد ، فَثَمَّ ترجيح يحكي القبول والرِّضَى ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما يضاهي في الحد : الجائز المحتمل ، إذ استوى منه طَرَفَانِ : القبول والرد ، الإيجاب والسلب ، فلا يحكم الناظر ، بادي الرأي ، بهذا أو ذاك ، فهو يستصحب عدما أول : عدم الدليل المرجِّح ، فيستصحب الاحتمال الذي استوى طَرَفَاهُ ، فلا يُرَجِّحُ ، بادي الرأي ، فذلك الترجيح بلا مرجِّح ، وذلك التحكم المحض ، وإنما يُرَجِّحُ إِذَا كان ثَمَّ قرينة من خارجٍ تُرَجِّحُ ، وذلك القياس المحكم : الترجيح بالمرجِّح ، وقد اشترط له في كلِّ موضعٍ ما يواطئ ، فإن قرينة الترجيح في باب خَبَرِيٍّ لَا يُنَالُ إلا بالتوقيف السمعي ، قَرِينَةَ التَّرْجِيحِ فِي بَابٍ هذا وَصْفُهُ ، لا تكون إلا دليلا من السمع يثبت ، فلا يكون الاستدلال في الباب الخبري بقرينة عقلية ، فَشَرْطُهَا ، كما القياس إذ يَرُدُّ فَرْعًا إلى أصل ، شَرْطُهَا : دَرَكُ الماهيَّةِ ، ماهيَّةِ الفرع الذي يُقَاسُ على أصلٍ لعلة جامعة ، وماهية الفرع في نصوص الغيب لا تُدْرَكُ ، وإنما التكليف فِيهَا إيمان بالجنس الدلالي المجرد في الذهن ، دون خوض في حقيقة أو كيف ، لا أنها معدومة أو ممتنعة ، وإنما لها وجود في الخارج يصدق ، وإن لم يباشرها الحس وجدانا في الخارجِ ، فلا يلزم من عدم الوجدان في الخارج عدم الوجود في نفس الأمر ، بل قد يُوجَدُ الشَّيْءُ وَلَا يَبْلُغُهُ الْحِسُّ ، فهو يَفْتَقِرُ إِلَى خَبَرٍ من خارج ، كما المثال يُضْرَبُ أَبَدًا بخلقِ العالم الأول ، فليس ذلك مما شَهِدَهُ النَّاظِرُ ، وليس له في الخارج مِثَالٌ يَتَكَرَّرُ ، وليس ثَمَّ خَبَرٌ عن مُشَاهِدٍ يَصْدُقُ ، فلم يشهد ذلك أحد ، وليس ثم دليل يجزئ في إثباته إلا خبر غيب يجاوز من خارج ، فهو يجاوز العقل والحس ، لا أنه يخبر بمحال ذاتي لا يتصور ، وإنما غايته الفرض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وإنما يُخْبِرُ بِوَاجِبٍ أو جَائِزٍ يحتمل ، فالعقل يَتَنَاوَلُهُ بالتصور ، ولكنه يحار في الحقيقة والكيف فذلك مما جاوز مدارك الحس التي تَرْفِدُ العقل بمقدمات الاستدلال الأولى ، فالوحي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، الوحيُ يَأْتِي بِمَا يَحَارُ فِيهِ العقلُ لَا بِمَا يُحِيلُهُ ، فَلَيْسَ له حقيقة في نَفْسِ الأمرِ ، بل له حقيقة في الخارج وإن لم تدرك بالحس الظاهر ، فَعَدَمُ وجدانِها ، كما تقدم ، ليس الدليل على عدم وجودها في نفس الأمر ، فكان من القرينة المعتبرة في التأويل : قَرِينَةُ العقلِ فِي أحكامٍ معقولة المعنى ، فالعقل يَتَنَاوَلُ مِنْهَا مَعَانٍ تَنْضَبِطُ وهي ذات أَثَرٍ يظهر في إثبات الحكم أو نفيه مع تَعَدٍّ إلى الفرع فليست مما اقتصر على الأصل فَلَا يَتَعَدَّى ، كما المثل يضرب بالسفر والمرض ، وتلك عِلَّةُ الإفطار في رمضان ، وهو مما لا يَتَعَدَّى إلى غَيْرٍ ، على تفصيل يتناول الحكمة والعلة ، فَثَمَّ من الحكمة مَا اعْتَبَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ فِي بابِ المقاصدِ ، وإن احترز في ذلك فلا يتوسع فيه الناظر وإلا انحلت عرى الأحكام أَنْ تُنَاطَ بمعان نسبية لا تنضبط ، كما المشقة في الصوم ، فذلك مما يفتح باب التأويل الباطن الذي يأتي على أصول الأحكام بالإبطال ، فالنسبية في باب الحقائق تفتح الباب أَنْ يَتَلَاعَبَ الناظر بحقائق الشرع وأحكامه ، والتَّوَسُّعُ فِي بابِ الحكمة قد يُفْضِي إلى إبطال العلة ، وغاية ما يستصحب من الحكمة : الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فَلَهَا وجهٌ في التعليل معتبر ، كما المشقة التي تزيد فَتُوقِعُ الصائم في الحضر ، توقعه في عظيم حرج ، فيجد من الضرر ما استوجب الإزالة ، كأصحاب المهن الشاقة ، وليس له أن يقعد عن الكسب وإن وَجَدَ من يَدِ العطاء ما يكفي ، فَبِهَا يد المنِةَّ تعظم ، وهو مما يؤذي ذا المروءة والعزة ، فإذا كان ثم وجه ، ولو ضرورةً في الشرع تقدر بِقَدَرِهَا ، فهو يَرْفَعُ يَدَ مَنَّةٍ تَثْقُلُ ولو تَرَخَّصَ بما كان من ضرورة تَطْرَأُ ، فليس له أن يدخل في مِنَّةِ الخلقِ ، وثم في الشرع مخرج معتبر ، وإن لم يحسن التوسع فيه فَهُوَ يُفْضِي إلى انحلالِ عُرَى التَّشْرِيعِ تَذَرُّعًا بالتيسير الذي يجاوز الحد ، وهو في باب الصوم ذي العلة الظاهرة المنضبطة التي لا تَتَعَدَّى ، هو : السفر والمرض حصرا ، فصاحب المهنة الشاقة قد يجد حَرَجًا يَعْظُمُ ، وهو ، مع ذلك ، يجتهد فلا يُبَيِّتُ النِّيَّةَ أَنْ يُفْطِرَ ، وإنما يَتَنَاوَلُ من السبب قدر الاستطاعة ، ويصبح صائما ويجتهد ألا يفطر حتى يكون من الظن الغالب ضَرَرٌ يوقع في الحرج ، فيفطر بما يقيم الأود ، ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فهي مما يخالف عن ظاهر مستصحب في الباب قد قَصَرَ العلة ، كما تقدم ، على المرض والسفر ، فكان من مهنةٍ تشق مَا أَجَازَ الفطرَ ، ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، على التفصيل آنف الذكر ، فهو صائم حتى يغلب على ظنه حرج يعظم ، فإذا أفطر فضرورة تقدر بقدرها أن يجد من القوة بَعْدًا ما به يستأنف عمله ، لا أَنْ يَزِيدَ وَيَتَوَسَّعَ فَضْلًا أن يَسْتَعْلِنَ وَيَتَبَجَّحَ ، مع نِيَّةِ القضاءِ إِذَا تَيَسَّرَ ، فذلك مما اعْتَبَرَ الحكمة ، من وجه ، وَأَطَرَهَا من آخر على جَادَّةٍ محكَمَةٍ فلا تكون ذريعة إلى نَقْضِ ما استقر من محكمات الشريعة .
والشاهد أَنَّ ثَمَّ من القرينة العقلية ما لا يُجَاوِزُ في الاستدلال : الأحكامَ معقولة المعنى مِمَّا يُدْرِكُ النَّاظِرُ فِيهِ العلة ، إِنِ المنصوصَ عليه أو المستنبطَ بِمَا يكون من تَنْقِيحٍ أو تخريجٍ ، وهي المعتبرة في باب التأويل إذا تَنَاوَلَ الأحكامَ معقولة المعنى ، وباب التأويل فيها أوسع ، والخلاف فيه أهون إذ النَّاظِرُ يدرك في معقول المعنى ما به يُنَاطُ الحكم من العلة ، فيجاوز بها الأصلَ الأول إلى فرعٍ تال في الخارجِ يحدث ، فهو يُرَدُّ إلى الأصل المنصوص إذ ثم من القرينة جامع معقول ، وَإِنِ احْتُرِزَ ، كما تقدم ، أَلَّا يَخْرُجَ البابُ من المطلَقِ المنضبط إلى نِسْبِيٍّ يَتَفَاوَتُ ، فيكون من ذلك ما لا يَنْضَبِطُ ، وهو ذريعةٌ إلى تَوَسُّعٍ لا يحمد ، إذ يضطرب به النظر وليس ثم معنى ينضبط ، فهو المحكَم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات في الباب ، وما احُتُرِزَ به من النسبية المضطربة ، ما احترز به في معقول المعنى مما يُشْهَدُ بالحس وَيُدْرَكُ بالعقل ، يُحْتَرَزُ به في أَخْبَارِ الْغَيْبِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، فالقرينة لا تكون إلا خبرية ، إذ لم يشهد الخبر أحد ، وليس له من المثال ما يَتَكَرَّرُ ، وليس ثم شاهد قد شهد فيخبر بما لم يشهد غيره ، فمن ذَا شَهِدَ خَلْقَ العالَمِ الأول ، فَوَجَبَ في الباب : رَدٌّ إلى خبر من خارج يصدق فهو يخبر بما غاب فلا يدرك بالعقل أو الحس المحدَث ، والعبرة فيه أَنْ يَصْدُقَ المخبِرُ ، فَحَسُنَ في هذا الباب : الاشتغال بدليل الصحة والصدق ، صدقِ المخبِر ، لا النظر في ماهية الخبر فليست بالعقل تدرك ، وإنما الغاية أن تَجُوزَ في العقل : الجواز العقلي المحضَ ، وذلك مما استوى طرفاه في الاستدلال ، فافتقر إلى مرجح من خارج ، فلا يكون الترجيح بإثبات أو نفي في باب خبري يَتَنَاوَلُ من الغيب ما لا يدرك بالحس ، لا يكون الترجيح بلا مرجِّح معتبر ، وليس في باب الغيب إلا الخبر ، فإذا صَحَّ فهو المذهب في الغيب خاصة ، وفي الشرع عامة ، إن الخبر أو الحكم ، فالخبر مرجع من خارج يُرَجِّحُ ، ومعه زيادة في العلم تثبت ، وهي مما يوجب العدول عن أول يستصحب من العدم الأصلي إِلَى إِثْبَاتٍ يَزِيدُ ، وله من الدليل ما اعْتُبِرَ ، وَهُوَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، مَا افْتَرَقَ عَلَى أَنْحَاء ، فمعقول المعنى لَهُ مِنْ قَرِينَةِ العقلِ مَا لا يكون في غَيْبٍ لا قرينة فيه تجزئ إلا الخبر ، وذلك مقتضى الحكمة أن يكون لكلٍّ من القرينة ما يلائم ، ومرد الأمر أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز ، فمرجع الشرع يجاوز مَرْجِعَ اللسان بما يزيد من القيد ، فحقائق الشرع ، كما تقدم ، حقائق في اللسان قد زِيدَ فِيهَا الْقَيْدُ ، كما الإيمان آنف الذكر ، فالإيمان : تصديق مخصوص ، قد تَنَاوَلَ من اللسان الجنسَ الدلالي المجرد وزاده من الدلالة ما يُرَجِّحُ ، وذلك ما استغرق تصديقَ الجنانِ إذ يُرَجِّحُ القبول والرضى ، مع آخر قَدْ تَنَاوَلَ اللِّسَانَ إذ يشهد ، وثالث من أعمال الجوارح يزيد ، فذلك الإيمان في حَدِّ الشرع إذ زَادَ في اللسان القيد ، فَتَنَاوَلَ المحال كافة لا ما يتبادر من التصديق المجرد في الحقيقة اللسانية المجردة .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #5  
قديم 05-04-2023, 07:15 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

والعلم المحيط الجامع قد تَنَاوَلَ النبوة تَنَاوُلَ الحكمةِ البالغة ، فـ : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وذلك مما حُدَّ حَدَّ الخبر ، وهو دليل الثبوت والاستمرار ، وَثَمَّ من دلالة التفضيل في "أَعْلَمُ" ما نُزِعَتْ دلالته ، فالتفاضل والتفاوت في هذا الموضع لَا يُتَصَوَّرُ ، إذ لَيْسَ ثَمَّ أَحَدٌ يُشَاطِرُ الله ، جل وعلا ، العلم بالمحل الذي تُجْعَلُ فِيهِ النُّبُوَّةُ ، فيكون الله ، جل وعلا ، أعلم منه ، فالتفاضل القياسي في اللسان بَيْنَ : أَعْلَمَ وَعَالِم ، فَيَشْتَرِكَانِ في أصل الوصف وإن حصل التفاوت في القدر ، كما يقال في المشترك المعنوي فإنه مما لا يتماثل في الخارج ، وله المثل يضرب بَوَصْفِ الْبَيَاضِ ، فمنه العاج ومنه الثلج ومع اشتراكهما في الجنس الأعم إل أَنَّ ثَمَّ اختلاافا في الماهيات الأخص في الخارج ، فاصطلح أنه المشكَّك ، فَثَمَّ اشتراك من وجه واختلاف من آخر إن في الماهيات التي تستقل في الخارج أو في قدر الوصف في كل كائن .
وليس ثم في هذا الباب ، باب العلم بالمحال التي تقبل آثار الرسالة ، وهو الخبري ، ليس ثم عَالِمٌ بما قُدِّرَ أَوَّلًا من محل يقبل النبوة جزما ، وإن كان من الدلائل على ذلك ما يظهر في الخارج من أَثَرٍ أول يُبَشِّرُ وحال صاحب الدعوى وصف الْخَلْقِ أو الْخُلُقِ ، فَيَعْلَمُهَا من له عناية بالكتاب الأول وما بَشَّرَ به من نُبُوَّةِ الختمِ ، ويعملها من يَقْدُرُ الرجال حق قدرها ، كما كان من خديجة ، ا ، وهي تُهَدِّئُ من روع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع فَزِعًا وقد فَجَأَهُ الوحي في الغار ، فكان من الأدلة ما اصْطُلِحَ بَعْدًا أنه المسلك الشخصي ، حال صاحب الدعوى ، دعوى الرسالة ، وهو ما أَقَرَّ به الخصم ، أيضا ، فَلَمْ يَنَلْ أحد من خُلُقٍ أو مَسْلَكٍ وإنما عابوا عليه أَنْ سَبَّ دِينَ الآباء الأول ، فكل ذلك من علمٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ في باب النبوة ، ولكنه لا يجزئ في حصول القطع ، فإن من أخلاق النبوة ما يحصلُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ فليست المكارم حِكْرًا على الأنبياءِ ، عليهم السلام ، وإن كان لهم مِنْهَا رُتْبَةٌ عُلْيَا ، فالعلم القاطع في هذا الباب مما انْفَرَدَ بِهِ الله ، جل وعلا ، وهو ما رَجَّحَ في "أعلم" : نَزْعَ الدلالة التفضيلية على تقدير : الله يعلم حيث يجعل رسالته ، فذلك من علم غيب أول ، وهو العلم المحيط المستغرق ، ومن آحاده ما به تهيئة المحال المخصوصة أن تقبل آثار الوحي كلماتٍ خبرية وإنشائية ، وهي ، أيضا ، مما يدخل في حد العلم الأول المحيط ، فإن منه التقدير في الخلق ، وهو تقدير أول لمحالٍّ تَحْدُثُ بَعْدًا على هيئات مخصوصة تَنْهَضُ بِوَظَائِفِ النُّبُوَّةِ ، فَتُصَدِّقُ ما كان من العلم الأول المحيط بما يكون من مَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ وتأويلُها بَعْدًا : كلماتُ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وما يكون من إيجاد في الخارج يصدق ، فكان منه محال قد أُعِدَّتْ أن تَقْبَلَ آثار الوحي المنزل ، فالحكمة وهي تالٍ بَعْدَ العلم ، الحكمةُ تَقْضِي أَنْ يُوضَعَ الشيء في المحل الذي يقبل آثاره ، فكان اصطفاء أعم ، وهو ما حده بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ مِنْ أهلِ التاريخ والاجتماع إذ قَسَّمَ العالم إلى نطاق أعلى تغلب عليه البرودة والجمود ، ونطاق أدنى تغلب عليه الحرارة وَسَفَهُ الحلوم ، وبينهما أوسط تعتدل أخلاقه في المجمل ، وهو الذي كانت فيه النبوة ، فكان من فضل العرب على بقية الأجناس ما اعتبر في الجملة ، وله وَجْهٌ يَنْصَحُ من الصحة ، وإلا ما كانت فيهم النبوة الخاتمة ، وإن خَرَجَ بِهِ بَعْضٌ إلى عَصَبِيَّةٍ تُذَمُّ ، لا سيما بعد زوال خلافة الرشد وصيرورة الأمر ملكا عاضا ذا عصبة ، وهو المعيار المعتبر في نظر ذلك المحقق في التاريخ والاجتماع ، وذلك ، أيضا ، مما نصح في الجملة ، فلا ملك بلا عصبة ، فهم رائد يصدق ونخبة ترشد ، والجمع لها تَبَعٌ ، فذلك أصل يطرد إن في ممالك تعدل أو أخرى تظلم ، إن في مثال رسالة محكم أو آخر من الوضع محدَث قد حاد عن جادة الوحي ، فَعُصْبَةُ الأمرِ لأهلِ حلٍّ وَعَقْدٍ ، وهم حكاية تُصَدِّقُ لِمَا عليه الجمع من خير أو شر ، فَنَقْصُ الجمعِ يؤذن بآخر في الرأس ، ولو عقابا ناجزا لمن بدل فكان من الجزاء أن يُبْتَلَى بمن يظلم ، كما نظم أبو الطيب :
وما مِن يدٍ إِلا يدُ اللهِ فوقها وما مِن ظالمٍ إلا سَيُبلى بِأظْلم .
ولا يخلو ذلك ، أيضا ، من استدراك ، فَإِنَّ صَلَاحَ الرَّأْسِ ذي الكتاب الناصح والسيف الناصر ، فَلَهُ من ذلك حق وقوة ، فلا يَنْفَكُّ أَثَرُهُ في الجمع يظهر ، وإن كانوا على حالِ نَقْصٍ وغفلةٍ ، فَثَمَّ من الاقتداء ما طُبِعَ عليه الخلق ، إن في الخير أو في الشر ، وهو ما به يُسْتَدْرَكُ عَلَى مُثُلٍ من الاجتماع المحدَث قد أهملت الفرد واعتبرت الجمع ، فكان له من العقل ما يسبق وليس للفرد إلا أن يخضع ! ، وَمُثُلُ الرِّيَادَةِ في تَغْيِيرٍ يُحْسِنُ أو يُسِيءُ ، مُثُلُ الرِّيَادَةِ فِي كُلٍّ : آحادٌ قد خَالَفُوا عن جَادَّةِ العرفِ والعادةِ ، وهي دين الجمع في الفعل والترك ، فَمِنْ مُثُلِ الرِّيَادَةِ فَرْدٌ أو أَفْرَادٌ ، فلا يكون عقل الجمع لهم قَيْدًا يأطر بل قد كسروه وجاوزوا ، إِنْ خَيْرًا أو شَرًّا ، فذلك ، كما تقدم ، أصل عام يستغرق ، لا جرم لم يكن وحده يجزئ في درك الحق المحكم ، فَعَقْلُ الجمع بما استقر من العرف والعادة ، وعقل الفرد إذ يُوَافِقُ أو يُخَالِفُ ، كُلُّ أولئك محدَث في الخلق لا يسلم من النقص ، الجهل والهوى والحظ .... إلخ من أعراضٍ تَطْرَأُ ، فلا ينفك كُلٌّ يطلب مرجِعًا من خارج يجاوز ، قد يشهد للجمع إن كان عرفه الناصح المعتبر ، وقد يشهد للفرد إن خالف عن عادة تفسد قد خالفت عن الحق المحكم ، كما كان من نبوات جاء بها آحاد قد خالفوا عن دين الآباء وطريقتهم ، فلا الجمع يُمْدَحُ أو يُذَمُّ مطلقا ، ولا الفرد يمدح أو يذم مطلقا ، فكلاهما ذاتي لا يجاوز ، فافتقر كُلٌّ إلى معيار موضوعي من خارج ، وذلك الوحي النازل بمعيار حُسْنِ وَقُبْحٍ يُوَاطِئُ ما أُجْمِلَ فِي النفس فهو له يُصَدِّقُ أولا وَيُبَيِّنُ ثانيا ، ولما اعوج منه يقوم ثَالِثًا ، فكان من اصطفاء العرب ما لا يُجْحَدُ ، كما كان من شُعُوبِيَّةٍ ذَمَّتِ الجنسَ العربيَّ حَسَدًا أَنِ اخْتُصَّ بالرسالة الخاتمة وكان له منها قوة دافعة بها فُتِحَتْ أَمْصَارُ العجمِ لا على قاعدة عصبية تجهل ، وإنما دينية تَنْصَحُ ، فَلَمْ تُطِقْ نُفُوسٌ ذلك وقد كان لها قَبْلًا سيادة في العجم والعرب كافة ، وكان آحاد من العرب يَفْخَرُوَن أنهم وَفَدُوا عليهم ودخلوا مجلسهم ولو تأخروا في الذيل ، فكان من ازْدِرَاءِ أولئك الجنسَ العربي حسدا ، وإن لم يخل العربي من آخر قد تَعَصَّبَ إن فِي جَاهِلِيَّةٍ أولى أو كان بَعْدًا في جيل قد تأخر لَمَّا طَالَ العهد بآداب النبوة والوحي ، إذ كان النقص بعد الكمال ، من : نُبُوَّةٍ قَدْ حَدَّتِ المعيار الناصح في تفاضل الخلق ، فـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، إلى خلافةِ رُشْدٍ قد سلكت الجادة إِلَى نَقْصٍ تال في ملك لم يخل من عدل ورحمة ثم عَاضٍّ قد قام أولا على عصبة العرب ثم انْقَلَبَ تَالِيًا إلى عصبة العجم من الفرسِ ثُمَّ التُّرْكِ ، فلم يخل في كلٍّ من عصبية تُذَمُّ ، إِنْ عَرَبِيَّةً أو عَجَمِيَّةً ، ثم كان جَبْرٌ تأخر ، وهو ما عظمت به البلوى في هذا الجيل ، فقد بلغ غاية في النقص ، وبه كُسِرَ بَأْسُ الخلق بما كان من سلطانٍ صائل قد خرج على الجمع ، فأفسد الدين وسفك الدم ، ولم يسلم منه فَرْدٌ ولا جمع بما احْتَكَرَ من بواعث الشر وأسباب الظلم حِسًّا وَمَعْنًى ، مع عصبية أضيق لم تجاوز حَدَّ الأرض ، بل قد صارت ذريعة إلى استبداد الملك فَبِهَا يَظْلِمُ الخلق ويستحل منهم المال والدم ، فَصَارَ هو معقد الولاء والبراء لدى عصبة الحكم ، وإن تذرعت أنها تحمي الأرض والمصر ، وَلَيْتَهَا تصدق وإن عصبية تَقْبُحُ بل : حَشَفًا وسوءَ كَيْلَةٍ ، فَدَعْوَى تَبْطُلُ وهي مع ذلك تَكْذِبُ فَلَا تَصْدُقُ ، وكل أولئك من نَقْصٍ عن عُصْبَةِ النبوة الأولى التي تحملت الوحي في المبدإِ ثم كان منها باعثُ فَتْحٍ يَنْصَحُ وبه نَالَتِ الخيريةَ المطلقة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ فَجَاوَزَ العرب ، فكان من عصبة النبوة : سَابِقُ الفرس وسابق الروم وسابق الحبش ، فذلك معيار يجاوز إذ به التفاضل تَقْوَى تجاوز العرق والعنصر ، وإن كان للعرب فضل لا يُجْحَدُ ، ولو لسانَ الوحي فهم أهله وخاصته ، فلسانهم قد صار من الدين بمنزلٍ يَعْظُمُ ، ولو الوسيلةَ التي لا يَبْلُغُ الناظر مقصده إلا أن يُتْقِنَهَا ، فَيَعْلَمَ مواضع النطق وأخرى في الخارج تصدق بما كان من فِعْلٍ وَتَرْكٍ ، فلا يكون أمره أماني تُتْلَى كما قد ذُمَّ الْأُمِّيُّونَ مِنْ جِيلٍ تَقَدَّمَ قَدْ تَحَمَّلَ الكتاب حفظا لا فقها ، لفظا لا معنى ، مع ما كان من تَبْدِيلٍ وتحريفٍ وإن احتمل اسم التأويل فقد خرجوا به عن جادة التنزيل ، فَحَصَلَ للعربِ فَضِيلَةٌ أولى بما كان من اصطفاء أعم ، فدخل من هذا الوجه في عموم ما تقدم من آي الذكر المحكم : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وكانت أخرى في لِسَانٍ يَنْصَحُ قد نَزَلَ به الوحي ، وذلك لسان يجاوز العرق والعنصر ، فالعربية لسان وَإِنْ نَطَقَ به الأعجمي ، وذلك تفضيل الجنس ، جنس القبيل العربي ، فلا يَلْزَمُ منه آخر يستغرق ، فَلَوْ قِيلَ : العرب خير من العجم ، فهو يضاهي في المعنى : الرجل خير من المرأة ، فهو تَفْضِيلُ جنسٍ على آخر ، تفضيلُ مجموع على مثله ، لا جميعٍ يستغرق ، فدلالة "أل" من هذا الوجه : دلالةُ بَيَانٍ لجنس المدخول دون آخر يجاوز فهو يستغرق الآحاد كافة ، فلا يستقيم ذلك وشاهد الخبر والحس بذا يشهد ، فكم من نساء قد عَدَلْنَ في الفضل جَمْعًا من الرجال يكثر ، وإن كان للرجال عليهن درجة ، فذلك نظر الجملة ، إذ اخْتُصُّوا بِفَضَائِلِ في التكوين وقوامة في التشريع قد أوجبت زيادة في التكليف بها حصلت لهم رياسة ، فلا تكون إلا فيهم ، وأشرفها رياسة النبوة فلا تكون في أنثى ، فكان للرجال من ذلك خاصة لا تدرك ، وبها صح القول إن الرجل خير من المرأة ، فجنسه الذي دلت عليه "أل" يَفْضُلُ آخر من النساء ، وإن كان من آحاد النساء ما يفضل آحادا من الرجال بل وَجَمْعًا ، ولكنها لا تفضل الرجال مطلقا ، وإلا لزم القائل أنها تفضل الأنبياء وهم رجال ، فلا يقول ذلك من له من الإيمان حظ .
فكذا تفضيل العرب على العجم ، فهو تفضيل مجموع على آخر ، لا جميع على مثله ، فالعرب جَنْسًا خير من العجم إذ اختصهم الله ، جل وعلا ، بالوحي والنبوة ، فدخلوا من هذا الوجه في عموم قوله : (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، وأعظمها رحمة النبوة ، ولها من آحاد العموم في "رَحْمَتِهِ" : لها درجة هي العليا .
فدلالة "أل" : دلالة بيان لجنس دون استغراق آحاده ، فليس كل عربي خيرا من كل أعجمي ، بل من آحاد الأعاجم من هو أفضل من آحاد من العرب ، بل وجمع يكثر ، وإن كان الفضل الأعم للعرب بما تقدم من رحمة النبوة الخاتمة التي خرجت منهم ونزلت بلسانهم ، فليس تفضيل العرب بمطلق ، بل مَنْ قَسَّمَ العالم إلى نطاق أعلى وأدنى وَبَيْنَهُمُ الأوسط ، لم يُسَلِّمْ للعربِ بِفَضِيلَةٍ تُطْلَقُ حتى نُبِزَ لدى بَعْضٍ أنه شعوبيٌّ يُبْغِضُ العربَ إذ كان من الْبَرْبَرِ مَوْلِدًا وَنَشْأَةً ، وإن أثبت له بَعْضٌ نَسَبًا عَرَبِيًّا ينتهي إلى حمير ، فكان من قيده : قيد النبوة ، فلا يُصْلِحُ العربَ إلا هي ، فإن غابت فلم تظهر فيهم ، وكان من حكومتها في العلم والعمل ما عُطِّلَ ، فهم همج رعاع ، وَكَلَأٌ مُسْتَبَاحٌ ، ولو من أذل الخلق ممن لم يعصم إلا بحبل من الله ، جل وعلا ، ومن الناس ، كما الحال في هذا العصر ، فلو تدبر الناظر في حال العرب خاصة وأتباع الوحي الخاتم عامة ، وقد عطلت فيهم النبوة فدرست أعلامها إلا آثَارًا تبهت ، لو تدبر الناظر في ذلك لَشَكَّ أن الوحي قد نَزَلَ في أسلاف أولئك ، لولا ما كان من خبر الوحي الصادق ، فهو عاصم من التكذيب ، وإن عَظُمَ من حال العرب التَّنْفِيرُ من الحق بما سلكوا من جادة النقص والشَرِّ ، فَلَوْلَا الوحي لشك المتيقِّنُ ، وهو ينظر في حال كَثِيرٍ لا ينفع ، ولا أَثَرَ له في دين أو دنيا يَنْصَحُ فهو عن صناعة الفكرة بمعزل ، وهو من فعل الحركة مُعَطَّلٌ ، فلا منصب له في سياسة أو حرب ، ولا مهابة له في قلوب الخلق ، كما قد أخبر صاحب الوحي المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" .
فمعيار التفاضل منه الكوني الذي لا تكليف به إذ لا اختيار ، فلا يمدح الرجل أنه قد خلق رجلا وإن فُضِّلَ بأصل الخلقة فذلك مما لم يسع فيه وَيَجْهَدْ لِيُقَالَ إنه قد اكتسب مِنْ فَضِيلَةٍ ما يُحْمَدُ ، وكذا العربي فلا اختيار له في ذلك وإن فُضِّلَ بما كان من اختيار الرب العليم الحكيم ، جل وعلا ، فذلك ، كما تقدم ، تأويلُ علمٍ أول قد أحاط ، فكان منه في الخارج خَلْقٌ يُصَدِّقُ ، فكان من ذلك اختيار النبوة الخاتمة ، فذلك من حكمة أولى في التكوين ، أَنِ اخْتِيرَ المحل وَهُيِّئَ بما كان من صناعة على عين الرب المدبر ، جل وعلا ، ثم كان الإمداد بأسباب الوحي ، فذلك الوهب المحض فلا ينال برياضة ولا كسب ، وإنما هو اختيار أول من عليم عِلْمُهُ قد أحاط واستغرق ، فلم يكن من معيار التفاضل في التكوين ما يطلق ، وإن كان له حظ يعتبر في تفضيل الأجناس لا الآحاد ، وإنما أطلق آخر من معيار التشريع بما كان من تقوى بها تُنَالُ الدرجة ، سواء أكانت لعربي يُفْصِحُ أم أعجمي لا يُفْصِحُ ، كما قد فَصَّلَ يومَ الموقف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - : إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمُ ، وآدمُ من تُرَابٍ" .
فدلالة "أعلم" في قوله : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، مما قدر بالعامل المضارع يعلم إذ هو ، كما يقول بعض مَنْ أَعْرَبَ ، هو عامل النصب في الظرف "حيث" ، وقد صيره بعض المفعول تجوزا فإن الظرف لا يأتي مفعولا به وإن صح أنه من المفعولات فهو المفعول فيه ، فكان من تأويل التفضيل بالمضارع ما يرجح القول : إنه مما نُزِعَتْ دلالته ، فهو من عِلْمٍ أَوَّلَ قَدِ اسْتَغْرَقَ وبه الخالق الأول ، جل وعلا ، قد انْفَرَدَ ، فلا آخر له يَشْرَكُ ولو دونه ليكون من التفاضل حقيقة في منطق الآي المحكم ، فـ : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #6  
قديم 08-04-2023, 06:20 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

والعلم المحيط الجامع قد حكى من الوحي قصة الخلق ، وحكى عداوة إبليس لجنس البشر من آدم وَبَنِيهِ ، فكان من ذلك المحكم الذي لا يُنْسَخُ إذ به الشيطان قد تَوَعَّدَ ، فـ : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، والإله قد حَذَّرَ ، فـ : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وهو ما يحكي التدرج في الانحراف ، فالشيطان يوسوس على مكث ، فَلَوْ أمر بالشرك المصرح لنفر الإنسان لدى المبدإ ، فيكون من تَزْيِينِ الباطل ما استوجب التَّمَهُّلَ ، وله المثل يُضْرَبُ بِمَا ذَاعَ فِي هذا الجيل من فواحش تفجع ، وإن لم يكن مِنَ النبوة حَكَمٌ يُهَيْمِنُ ، فَثَمَّ أَثَرٌ ، ولو الباهِتَ ، بل ثم من الفطرة ما يَسْتَنْكِفُ فَوَاحِشَ محدَثَةً قد ذاعت في الخلق ، بل وصارت في مواضع هي الأصل ، فمن أنكر فهو المحدِث في دين الجمع ما يُرَدُّ ، وذلك ما اسْتَلْزَمَ بحثا يجاوز الحاضر فهو يُفَتِّشُ فِي مَاضٍ قد تَقَدَّمَ ، فيرصد الانحراف لدى المبدإ ، وهو ما يكون يسيرا ثم لا يزال يَزْدَادُ وَيَتَرَاكَمُ في وجدان الفرد والجمع ، حتى يصير هو الأصل ، فقد نسخ الأصل الأول ، ولو لم يكن ثم دليل يَنْصَحُ في النسخ إلا تقليد الأب والجد ، وما كان من نسخ العلم بعد هلاك الجيل الأول ، فَثَمَّ الانحراف عن الجادة ، وهو ما يُسْتَأْنَفُ يَسِيرًا ولا يَزَالُ يَزِيدُ حتى يَصِيرَ هو الأصل ، وهو ما استوجب في الدَّرْسِ مَا يُجَاوِزُ بِنْيَةَ الجمعِ في الحال ، فإنها وإن رصدت الظاهر وأحسنت تحكيه وأشارت ، ولو من طرف خفي ، إلى هوية الفرد والجمع وما يكون من بواعث الإرادة والفعل ، فهي تبين عن تَصَوُّرٍ أول يَسْبِقُ الحكمَ ، وهو ما اسْتَقَرَّ لدى هذا الجيل فَصَارَ العرف المتداول ، ولا بد له من روافد من خارج الحال ، فالبنية الحالية تَقُصُّ ما هو كائن ، ولا تشتغل بما كان أولا من القيم والمبادئ التي تَرَاكَمَتْ في الوجدان ، فهي قليل إلى آخر ، فيكون منه بَعْدَ حِينٍ كَثِيرٌ يَتَرَاكَمُ ، وإنما السيل اجتماع النقط ، فَمَنْ نَظَرَ فِي السَّيْلِ وهو يجرف فإنه يَعْجَبُ إذ لم يكن ثم نظر أول في اجتماع مادته لدى المبدإ وما يكون من تَرَاكُمِ حَبَّاتِهِ ، فَتُؤَثِّرُ بالجمعِ ما لا تُؤَثِّرُ بالفرد ، وهو ، من وجه ، مِمَّا يضاهي في الحد : الخبر الضعيف بالنظر في حاله إذا انْفَرَدَ ، فإذا اجتمع له من الطرق كثير ، فهو يستفيد بها قوة لا تكون في المبدإ ، فاجتماع الطرق كاجتماعِ النُّقَطِ ، وهو كاجتماع الفكرة في الوجدان بما يكون من تَرَاكُمِ المعرفة في الذهن ، وإن خالفت عن الدين والفطرة والعرف ، فيكون من الاستنكار لدى المبدإ ما يظهر ، فالجمع لا زَالَ على أول من المرجع ، فهو حديث عهد بما كان أولا ، ثم لم يَزَلِ الجديد يَزِيدُ ، ولو كان القبيحَ المستنكَرَ فلا دليل له من نَقْلٍ أو عَقْلٍ أو فطرةٍ تَنْصَحُ ، وإنما الولع بالجديد الذي يُذَمُّ فَلَا دَلِيلَ يشهد ، فليس الانتقال عن أول من الفكرة إلى جديد ، ليس ذلك مما يُمْدَحُ أو يُذَمُّ لِذَاتِهِ ، وإنما العبرة بما يكون من ماهية هذا الجديد ، وما يُقِيمُ صاحبه عليه من الدليل ، فلا يكون الدليل هو الولع المطلق ، وهو ما به العقل يَغِيبُ وَيَذْهَلُ ، فإن من خفة الجديد ، وَلَوْ وَبِيئًا ، ما له يستحسن الناظر ، بادي الرأي ، إذا حضرت سكرة وغابت فكرة ، فلم يكن ثم من العقل ما يمحص ، فهو ناقد يُدَقِّقُ ، لا ذَاهِلٌ يُقَلِّدُ الجديدَ بلا نظر ، لا سيما إن كان المغلوب فهو أبدا يُولَعُ بِتَقْلِيدِ مَنْ غَلَبَ ، كما قال ابن خلدون وهو يحكي حال المنهزم ، وهو ما يجاوز انهزام الجند إلى آخر في الوجدان والفكر ، فقد تُهْزَمُ الأبدانُ وَتَسْلَمُ الأديانُ ، كما حُكِيَ عن أحمد وقد ظَهَرَ أصحابُ المحدَثة في زمانه ، فاستدرك بما يَنْصَحُ فهو أصل في باب الدفع لصائل يقدح ، فإن ظهور الباطل أن تَنْتَقِلَ إليه القلوب طوعا ، لا أن تخضع له الجسوم كرها ، فذلك انهزام في الحس يَعْظُمُ ، وأعظم منه أن يكون ثَمَّ آخر في المعنى فهو ما يقعد بصاحبه فلا ينهض بعد جولة ، فقد استسلم وَأَقَرَّ لخصمه بالظهور ، فالحكمة تَقْضِي أَلَّا يُسْتَنْزَفَ الدَّمُ والمالُ في مناجزة من لَا زَالَ لَهُ مِنَ الدَّفْعِ حَظٌّ ، فَلَهُ من مرجع الفكرة ما عنه يصدر ، فإذا أصيب فيه فذلك المقتل ، وإن كان من البدن ما يأكل ويشرب ويتحرك ، فتلك حركة الحيوان ، لا أخرى بها امتاز الإنسان مِنْ حركة الجنان تَصَوُّرًا وَإِرَادَةً ، وهو ما يُرُومُ الوسواس من الإنسان ، فإن انهزام الحس ، وإن عظم أَثَرُهُ في الحال ، فَلَيْسَ يَتَّصِلُ أبدا ، إذ الأيام دول ، وإنما يُفْجَعُ الفرد والجمع في فكرته ما لا يُفْجَعُ في حركته ، وهو ، كما تقدم ، مما يكون على مكث ، فلا يجزئ في حَدِّهِ نَظَرٌ يُبَاشِرُ الحال فلا يجاوز ، فهو يرصد ظاهرة دون نظر أدق في جذور أولى ترفد ، وعنها الظاهرة تَنْشَأُ ، فهي ، كما تقدم ، حَبَّاتُ السيلِ الَّتِي تَتَرَاكَمُ ، فكان من المحدَثة أول يستنكر ، وهو ما يظهر باستقراء الجمع في كُلِّ أمَّةٍ ، سواء أكانت على الجادة أم خالفت ، فَثَمَّ من ركز الفطرة أول فهو لِمَا فَحُشَ من القول والعمل يُنْكِرُ ، وهو ما اسْتَلْزَمَ في الوسواس صَبْرًا وطول دأب ، فَيَبْلُغُ من المتأخر ما لا يبلغ من المتقدم ، فَلَئِنْ فَجَأَ المتقدم وكان من وسواسه ما يقدح ، فليس يصيب الأول في مقتلٍ ، فإذا كان له بَعْدًا من النفير ما يزيد فهو لجيل تال يستميل وهو ما يتراكم في الوجدان ، فيصير منه سبب ولو لم يباشر لما يكون بَعْدًا من المسالك ، فالاقتصار على الحال في الدرس وهو ما اصطلح أنه البْنُيَوِيَّةُ التي تستقطع جُزْءًا من كُلٍّ ، وإن أحسنَت تَصِفُ ما تَرْصُدُ ، فهي تجرد له من المعيار ما يحكم ، ولكنها لَا تُجَاوِزُ فَتَحْكِي مَا سَبَقَ ، فَهُوَ أصل لما يكون في الحاضر وما يُسْتَأْنَفُ في قَابِلٍ ، فلا يصدق الدرس في الوصف والحد إلا أَنْ يَتَنَاوَلَ الظاهرة في دين أو لسان أو خُلُقٍ أو اجتماع ..... إلخ ، فذلك معيار عام يستغرق ظواهر الفكر والحس كافة ، فلا يصدق إلا أن يَتَنَاوَلَ الظاهرة جزءا في الحال وَكُلًّا يجاوز فهو ينظر في المبادئ وما يكون بَعْدًا من حادثٍ يجد ، حَسُنَ أو قَبُحَ ، فليس ، كما تقدم ، مما يُذَمُّ أو يُمْدَحُ لِذَاتِهِ ، وإنما يُطْلَبُ الدليل في ذلك من خارج ، فلا يُسْتَدَلُّ به وهو صورة الخلاف عُرْفًا قد استقر فصار هو الأصل ، لا يستدل به على نفسه ، فيكون هو الدليل على صحته ، فهو صورة الخلاف ، والاستدلال بها ، كما يقول النظار ، مما يقدح في النظر ، فلا يستدل بالدعوى ، وهي في نفسها تفتقر إلى دليل من خارج ، فذلك دَوْرٌ في النَّظَرِ يَبْطُلُ ، فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الشيءِ بِنَفْسِهِ ، وإنما يُسْتَدَلُّ عليه بآخر من خارج ، فذلك دليل يُرَجِّحُ كما الجائز إذا استوى طرفاه فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج ، فلا يكون الجواز ، مَبْدَأَ النَّظَرِ ، دليلَ الإثبات ، فيقول القائل إن الدليل على وجوده وهو قدر يزيد ، أنه مما يجوز مبدأ النظر ، فذلك تحكم في الاستدلال ومصادرة على المطلوب كما اصطلح النظار ، فإن الجواز لدى المبدإ مما استوى طرفاه إثباتا وَنَفْيًا ، فلا ينفك يطلب دليلا من خارج يرجح ، فالجواز في العقل أولا هو المبدأ ، ولكنه لا ينفك يطلب آخر من خارج يرجح ، فيصير به الواجب لا أن يكون هو في نفسه دليل الإثبات ، وهو الذي يفتقر إلى أول يثبت ، فالجائز ليس في الباب يجزئ ، وكذا ما يكون من عرف حادث ، فلا يذم ولا يمدح لذاته ، وإنما يطلب الدليل من خارج ، فهو يرجح القبول أو الرد ، فلا يَنْفَكُّ يطلب المرجع المجاوز من خارج في وصف الحسن أو القبح ، وما يكون بَعْدًا من إباحة أو حظر ، وذلك مجموع في النظر يَأْتَلِفُ من رِكْزِ فِطْرَةٍ قَدْ أُجْمِلَ فِي الوجدان فهو أول ، وتلك مقدمات في الاستدلال ضرورية ، وبها يُتَوَصَّلُ إِلَى علوم نَظَرِيَّةٍ تَأْتَلِفُ من تَرَاكُبِ مبادئ أولى هي الضروري الذي لا يفتقر إلى استدلال ، وإلا كان التسلسل في النظر ، فكل دليل يطلب أولا يتقدم ، فلا ينفك الجميع يطلب أولا في النظر هو الضروري الذي يستدل به ، ولا يستدل له إذ قد بَلَغَ مِنَ الضرورة حَدَّ الجزمِ فَصَارَ الاشتغال بإثباته عَبَثًا إذ لا ينكره إلا جاحد أو مسفسط كمن يطلب دليلا أن الجزء أَصْغَرُ من كُلِّهِ ! ، فالدليل يأتلف من ركز فطرة أولى هي مقدمات الضرورة في النظر ، ولا تنفك تطلب مرجعا من المعرفة يرفدها بما يجاوز مدارك الحس ، فلا يبلغه العقل إذ يجاوز طوره ، فهو غيب لا يدرك بالحس ، وإن لم يمنعه العقل بما رُكِزَ فِيهِ من مُقَدِّمَاتِ النَّظَرِ ، فهو الجائز في المبدإ ، بل ومنه واجب يثبت ضرورة ولو بلا مرجع من خارج يجاوز ، فَثَمَّ ضرورة في النظر تُلْجِئُ أن لهذا العالم المخلوق خالقا ، فإن لكل محدَث في الخارج محدِثا وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَبْلُغَ أَوَّلًا لا أول قبله فالحوادث عنه تصدر بما يكون من فعل به يُرَجِّحُ ، وبه يصير الجائز لدى المبدإ واجبا ذا وجود في الخارج يُصَدِّقُ مَا كَانَ مِنْ عِلْمٍ أول يُقَدِّرُ ، فلم يكن من وجود المحدَث ما هو واجب ، بل هو الجائز الذي يفتقر إلى موجِب من خارج ، فوجوبه بَعْدًا ليس الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فليس ذلك إلا وصف الخالق الأول ، واجب الوجود لذاته فَلَا يُعَلَّلُ ، وهو الموجِب بَعْدًا لِمَا تَلَا من الموجودات المحدَثةِ ، فكل ما سواه وإن وُجِدَ ، فليس وجوده الوجودَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، بل لا ينفك يطلب علة من خارج تُرَجِّحُ ، وبها يصير ذا وجود في الخارج يجاوز ما كان أولا من وجودٍ في العلم المقدر ، فذلك المجرد فلا يجاوز في الحد وجود القوة ، جائزا يحتمل فلا ينفك يطلب المرجِّح وبه يصير ذا وجود بالفعل يصدق ما كان من وجود قوة أول ، وما كان من علم تقدير لدى المبدإ ، فإذا كان المرجح صار الجائز واجبا في الخارج يثبت ، وإن المحدَث من العدم ، فليس ، كما تقدم ، الذاتي الذي لا يعلل ، فليس ذلك إلا وصفا لواحد في الوجود قد انفرد ، فوجوده وحده هو الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإلا كَانَ التَّسَلْسُلُ في الأزل ، وهو ما يمتنع ، فلا بد من أول تَنْتَهِي إليه العلل المؤثرة ، فعنه تصدر ، وليس يفتقر منها إلى أول يَتَقَدَّمُ ، بل له من ذلك الوصف المطلق ، أولية فلا أول قبله ، وذلك ، كما تقدم ، وصف الذات الذي لا يعلل ، وله ، مع ذلك ، وصف فعل يتعدى إلى سائر الوجود ، فما سواه فجائز ، ووحده هو واجب الوجود في الخارج ، وعنه تصدر عِلَّةُ مَا تَلَا من وجودٍ فهو المحدَث بعد أن لم يكن ، وإن كان له وجود أول ، فالوجود العلمي المجرد : وجودُ القوة ، فلا ينفك يطلب علة بها يصير ذا وجود بالفعل ، فالأول ، لو تدبر الناظر ، ضرورة في الوجدان تلجئ إن في التكوين أو آخر من التشريع ، فلا بد من أول خالق يرجح في الوجود والعدم ، ولا بد من أول حاكم يرجح في الخبر والإنشاء ، ففي الخبر يَثْبُتُ ما غاب ابتداء فلا يدرك بالعقل ، كما تقدم في مواضع من مبدإ الخلق ، فغاية العقل في الباب أن يجوز ، فلا ينفك يطلب دليلا من خارج يرجح ، فالعقل يجوز في الباب ما انشعب من الاحتمال أن الإنسان قد خلق من تراب الخلق المباشر ، أو كان من ذلك تطور من كائن بسيط إلى آخر مركب ، أو أنه قد خُلِقَ من ماء أو نار ...... إلخ ، فكل أولئك من الجائز ، وليس يَنْصَحُ لدى العاقل أن يقول بالخبط والعبث ، فيكون من ذلك خلق بلا خالق ، فلا غاية بداهة تطلب ، والأمر لدى المبدإ صدفة ، فلا علم أول يسبق ، فكان من ذلك انتفاء الخلق فقد وُجِدَ بلا خالق من عدم بما كان من سَنَنٍ في الوجود ينتظم وهو ما يخالف عما قال أولئك من خبط أول ، فكيف صار منه سنن محكم ، ثم كان من هذا السنن ذاتي يخلق فلا سَانَّ له في المبدأ ، فكان عنه هذا الخلق المحكم ، وهو ما ينقض الأصل الضروري المستقر في الوجدان ، أَنَّ لكلِّ فِعْلٍ فَاعِلًا يَتَقَدَّمُ ، فالسنن المحكم لا يوجد بلا أول قد قَدَّرَهُ فِي عِلْمٍ محيطٍ قد اسْتَغْرَق ثُمَّ أوجده بفعل في الخارج يصدق ، إذ يخرج المعلوم الأول من القوة إلى الفعل الذي يصدق ، فلا بد من أول قَدْ عَلِمَ عِلْمَ إحاطةٍ تَسْتَغْرِقُ ، ثُمَّ كان من الفعل تال يصدق ، وهو ما شهد له في الخارج شهادة تَزِيدُ ، فَثَمَّ أولى : أن الخلق ، وهو الجائز لدى المبدإ ، أنه يفتقر ضرورة إلى خالق أول لا خالق قبله ، وإلا كان التسلسل في التاثير أزلا ، وهو الممتنع الامتناع الذاتي في العقل ، وثم تالية في الباب تَرْفِدُ : فإن إتقان الخلقة وإحكام السنة يدل تاليا على كمال في الأزل قد تناول الذات والوصف ، فلا يكون هذا الخلق المحكم عن خبط وعشواء لا يعقل ، وإنما يكون عن علم أول يحيط وحكمة في التقدير ، وقدرة بها التأويل ، تأويل المعلوم المقدور في الأزل بِتَالٍ هو الموجود الذي يصدق ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، بلا أول يتقدم له من وصف الكمال ما به يُقَدِّرُ وَيَفَعْلُ ، فلا يكون ذلك بلا خالق ، فكل أولئك مما يخالف عن مبادئ العلم الضروري لدى كل ذي معيار عقلي ، ولو الضروري دون آخر يتناول ما دق من مسائل النظر .
فالعقل ، كما تقدم ، يجوز في الباب ما انْشَعَبَ من الاحتمال أن الإنسان قد خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ الخلقَ المباشر ، أو كان من ذلك تطور من كائن بسيط إلى آخر مركب ، أو أنه قد خُلِقَ من ماء أو نار ...... إلخ ، فكل أولئك من الجائز المحتمل مبدأ النظر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وذلك الغيب المطلق فلم يشهده أحد ، والعقل لا يدرك فيه إلا التجويز المحض ، فلا يجزم بواحد من احتمالات تجوز حتى يكون ثم دليل من المنقول فهو ما يجاوز العقول في أمر لا تحيله مبدأ النظر ، فهي تُجَوِّزُهُ فَلَا تَزِيدُ في ذلك إيجابا أو امتناعا حتى يكون ثم دليل من خارج يوجب أو يمنع ، فلا يجزم العقل بواحد مما تقدم ، لا جرم افتقر إلى مرجح من خارج ، فهو يُرَجِّحُ في الباب واحد : أَخُلِقَ من تُرَابٍ أم نار ..... إلخ ، أَخُلِقَ الخلقَ المباشر أم عبر وسائط ...... إلخ ، وذلك ما لا يطيقه العقل منفردا ، ولا يرصده الحس إذ قد جاوز مداركه ، فهو ، كما تقدم ، الغيب المطلق ، فَوَجَبَ ضرورةً الرجوع إلى أول من خارج العقل يَصْدُقُهُ فِي الخبر ، فذلك الوحي الذي جحده العقل في جيل قد تأخر إذ اغتر بما كان من أسبابِ بحثٍ يُجَرِّبُ ، فَظَنَّ إليها المنتهى في الإثبات والنفي ، فالوحي ، لو تدبر الناظر ، ضرورة في العقل المصرح ، إذ به ترجيح في جائز من الخبر وكذا الإنشاء ، فإن في العقل قوة تحسين وتقبيح لَا تُنْكَرُ ، ولكنها ، أيضا ، مما أُجْمِلَ ، فَافْتَقَرَ إلى مرجع من خارج يفصل ، فذلك الوحي الذي يرفد العقل بالشرع المحكم كما أول من الخبر المصدق ، فهو رائده الذي ينصح إن في الخلق أو في الشرع حكايةَ وصف عام قد استغرق : رُبُوبِيَّةً تخلق وتدبر وألوهية تخبر وتشرع .
فحكى الوحي من انحراف الخلق عن الجادة ، فكان من التوحيد أصل أول ، فـ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وكان من قصص النبوات ما حكى انحراف الجيل بما كان من الإغواء والتزيين الذي تَلَطَّفَ أولا فلم يفصح عما به يوسوس ، فَنَصَحَ وَإِنْ كذب فَلَيْسَ رَائِدًا يَصْدُقُ في الهداية ، فَزَيَّنَ لجمعٍ أول أَنْ ينصبوا التمثال لصالحٍ هو الأسوة في الورع والنسك ، فإذا هلك جيل أول ، وكان مِنْ تال مَنْ يجهل إذ نُسِخَ العلم وَنُسِيَ ، فكان الانتقال عن أصل أول من التوحيد إلى تال من التشريك ، فهو الطارئ بما كان من وسواس ناقض ، فَعَصَى الجمع وخالف عن النهي أن : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، فهي مما تَرَاكَمَ في الوجدان وحصل منه محدَث قد عمت به البلوى فصار الأصل الذي يهرم فيه الكبير وينشأ عليه الصغير ، فقد حاد عقل الفرد والجمع عن الجادة ، وليس يُعْصَمُ إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يَعْصِمُ إذ سلم من النقص والهوى والحظ .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #7  
قديم 24-04-2023, 05:45 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

فالعلم المحيط قد تَنَاوَلَ التَّكْلِيفَ كَمَا التَّكْوِينُ ، فإن النبوات المنزلة من علم أول قد استغرق ، فكلماتها الخبرية والإنشائية مما تقدم في الأزل ، وهو قياس يَنْصَحُ ، فإن مَنْ عَنْهُ كلمات التكوين تصدر وبها الإيجاد والتدبير المحكم ، فَعَنْهُ أخرى تحكي لُطْفًا وَخِبْرَةً : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من الاستفهام ما يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، ولا يخلو من دلالةِ تَقْرِيرٍ ، إذ يجاب عنه بِالنَّفْيِ ، فَيُقَالُ : بَلَى ، ويكون من ذلك إثبات يُصَدِّقُ ، فهو ، جل وعلا ، يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، ودلالة "مَنْ" : دلالة الوصل الذي دَلَّ بأصل الوضع الأول في معجم اللسان المفرَدِ عَلَى الجنس العاقل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما جاوز العلم المحيط ، فَثَمَّ من العلم ما أحاط بالجنس العاقلِ وَغَيْرٍ مِمَّا لَا يَعْقِلُ ، بَلْ وَمَيِّتٍ لا حياة فيه ، وَلَوْ حَيَاةَ الحيوانِ بل والنبات الأدنى ، فَثَمَّ خلق الأجرام والأرض وما عليها من جبال وحجر ، وما عُدِنَ فِيهَا مِنْ مَعْدنٍ وجوهر وما كان من أجساد قد بليت فنالها الكائن الدقيق بما يفرز من مادة تهضم وَتُحَلِّلُ ، وكان من تعاقب الدهور وزيادة الضغوط ما به خلق جديد في الأرض قد صُنِعَ على مكثٍ بما كان من سنن محكم في التحويل ، فحصل منه كَنْزٌ قد اقْتَتَلَ عليه الخلق وكان لأجله الغزو والفتح ! ، ولو المحدَث الذي يقتل الإنسان ويهدم البنيان ويفسد العمران كافة ، إذ يصدر عن مرجع من الذات هو المحدَث فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى سبب لدى غَيْرٍ إن على ظاهر الأرض أو هو مما عُدِنَ في بَطْنِهَا أحقابا تطول حتى كان منه ما يُهَيِّجُ النفوس أن تطلبه عدلا أو ظلما ، فكان من ذلك ما نَالَهُ الخلق بأسباب من الكائن تَدقُّ ، على التفصيل آنف الذكر ، فَهُوَ من جنسِ الخلق ، إذ منه الإيجاد من العدم ، ومنه آخر من موجودٍ حَادِثٍ أن يتحول إلى آخر ، ولا يخلو من إعجازٍ لِمَنْ تَدَبَّرَ السننَ المحكَم ، فَتِلْكَ آيةُ ربوبيةٍ تَنْصَحُ ، إن ربوبيةَ الخلق أو أخرى بها العناية بما رُكِزَ في الأرض من ذخائر قد تحولت عن أخرى ، فكان مِنْ أُولَئِكَ جَمِيعًا ما جاوز الخلق العاقل ، فدلالة "مَنْ" ، من هذا الوجه ، خاص يُرَادُ به عام ، إذ تُجَاوِزُ العاقلَ إلى غيره ، وهو مِمَّا به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، إذ ثم مجاز الخصوصية فَقَدْ أطلق الخاص وهو الموصول الدال على العاقل "مَنْ" ، وَأَرَادَ عاما يجاوز فهو يستغرق العاقل وغيره ، وله من ذلك شاهد عموم قد استغرق من آي التنزيل المحكم ، فـ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، ومن ينكر المجاز فقد حَدَّ من الاستثناء الذي يشهد له اللسان بأصل وضع أول ، فقد حد من هذا الاستثناء مواضع هي الحقيقة وبها استعمال "مَنْ" في دلالة عامة تستغرق العاقل وغيره الاستغراق التام الذي يَتَنَاوَلُهُمَا جميعا على حد شمول أول ، فذلك العموم لدى المبدإ دون حاجة تلجئ أَنْ يَتَكَلَّفَ الناظر من المجاز ما به خروج عن الأصل ، فَمَا يُخْرِجُ المستدِلَّ عن الأصل وهو ما يثبت أولا دون تكلف لدليل ، بل ثم من الآي المحكم حكاية نص يرفع احتمال المجاز إن في الخلق كما تقدم من قوله : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، أو في العلم ، فـ : (اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
فالاستثناء ، ومنه المجاز آنف الذكر ، الاستثناء لا يُصَارُ إليه إلا ضرورةً تُقَدَّرُ بالقدرِ ، ومتى جاز الأصل فَلَا يُصَارُ إِلَى الاستثناء ، فالأصل في الكلام الحقيقةُ فلا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر حملان الكلام على الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، إذ ما خالف عن الأصل الأول فعنه يسأل بِلِمَ ؟ ، وما يستصحب لدى المبدإ ، فلا يفتقر إلى دليل ، فهو يستصحب الأصل فلا يلزمه دليل ، كما أن الفقيه يستصحب العدم الأصلي في باب التكليف الشرعي ، فالأصل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تُشْغَلُ إلا بِدَلِيلٍ أَخَصَّ ، هُوَ في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فإذا كان الدليل الناقل عن الأصل من بَرَاءَةٍ إلى اشتغال ، فهو زيادة علمٍ بَيِّنَةً من خارج الدعوى ، دعوى اشتغال الذمة بِتَكْلِيفٍ يَزِيدُ ، فتلك دعوى تزيد فلا تُقْبَلُ إلا بدليل من خارجها ، فلا يكون الدليل هو عين الدعوى ، إذ هي صورة الخلاف ، والاستدلال بها فَاسِدٌ ، ولو كانت جائزة فِي نَفْسِ الأمرِ ، فَالتَّجْوِيزُ العقلي المحض لا يَصِحُّ دليلا في إِثْبَاتِ ولا نَفْيٍ ، إذ لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وَبِهِ يَصِيرُ الواجبَ الثابتَ ، فلا يكون الجائز دليلا ، وهو ، باديَ الرأيِ ، يَطْلُبُ دَلِيلًا ، فلا يصح مقدمة في الاستدلال تَسْلَمُ مِنَ اعْتِرَاضِ الخصمِ ، ولو رُدَّ جَائِزٌ إِلَى مِثْلِهِ لَكَانَ التَّسَلْسُلُ فَلَا يَحْسِمُ مَادَّتَهُ إلا أول إليه تَنْتَهِي الأدلة كَافَّةً ، فهو الواجب الثابت لدى المبدإ ، وذلك القانون العام الذي استغرق الخلق والشرع كافة ، فلا يستقيم الأمر إلا أن يكون ثم أول هو المطلق فلا أول قَبْلَهُ لا في الكون فهو الرب الخالق ، ولا في الشرع فهو الإله الحاكم ، ومرد كل أولئك إلى العلم الأول المحيط ، العلم الجامع الذي استغرق التقدير والتشريع كافة ، كما تقدم من قوله : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فتلك مقدمة التكوين ، وهي مما سَلَّمَ به خصم النبوة الأول ، فَلَزِمَهُ لَازِمُهَا بعدا في الاستدلال المحكم ، وإلا فَسَدَ نَظَرُهُ بِمَا كان من تَحَكُّمٍ يُثْبِتُ الملزومَ وَيَنْفِي اللازمَ ، فَثَمَّ مقدمة التكوين في الخلق ، وثم مقدمة التشريع في الخبر والحكم ، وبهما توحيد النبوات يَنْصَحُ ، توحيدَ ربوبية في الخلق ، وتوحيدَ ألوهية في الشرع ، وذلك ما جاءت به الرسل ، عليهم السلام ، ولأجله خاصموا وقاتلوا ، وهو مما كانت به بَلْوَى أَفْحَشُ فِي جِيلٍ قد تأخر ، فكان إنكار المعلوم الضروري الذي استقر في العقل والفطرة ودل عليه من آي الحس ما يشهد شهادة تَوَاتُرٍ يَجْزِمُ ، إِنْ فِي الآفاق أو في الأنفس ، فأنكر من أنكر ! خلق الربوبية الأول بما كان من نَفْيِ الصانع والقول بِقِدَمِ العالمِ ولو أفضى إلى إنكار المقدمة العقلية الضرورية أَنَّ لكلِّ حادثٍ في الخارج محدِثا ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ وذلك الممتنع في الأزل فَلَا يكون وجود في الخارج إلا أن يُرَدَّ إلى واجب أول هو الخالق ، وله من الوجود ذاتي لا يُعَلَّلُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ يَتَقَدَّمُ ، بل الأسباب عنه كافة تصدر ، إن الخلق أو التدبير مع تهيئة المحال أن تقبل آثارها ، فلا بد في العقل والفطرة والحس بما يشهد الناظر من آي الخلق ، لا بد من أول هو من يخلق في الأزل : خلق التقدير المحكم بما يكون من علم محيط قد استغرق ، ويخلق بَعْدًا خلقَ الإيجادِ والتكوين ، وما تلا من تصوير وتدبير إذ خَلَقَ المحال على ماهيات محكمة وأمدها بالأسباب الملائمة حكمةً أَنْ يُوضَعَ الشيءُ في المحل الذي يقبل آثاره ، فَلَا يَسْلَمُ نَظَرٌ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ هذا الخلق المحكم إلى أول في الأزل يَثْبُتُ ، فَلَهُ من ذلك وجود ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فالخلق جائز لدى المبدإ ، فلا بد له من خارج أول هو المرجِّح ، وهو ، كما تقدم ، مما يتسلسل فلا يحسم المادة الممتنعة منه في الأزل إلا أن يُرَدَّ إلى أول واجب : فوجوبه ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وذلك وصف الذات ، وهو موجِب لِغَيْرٍ من الجائزات إذ يُرَجِّحُ فيها الإثبات ، وذلك وصف الفعل الذي يَتَعَدَّى بما يكون من مشيئةٍ تَنْفُذُ ، وعنها كلمة التكوين تصدر ، فهي سبب من الغيب عنه تصدر أخرى منها المغيَّب كما الملَك الموكل بالخلق والتدبير لا استقلالا بل هو سببٌ ، لإرادة المسبِّب يَخْضَعُ ، ومنها المشهود كما يرصد الحس الظاهر ، فيكون من ذلك آي ربوبية تنصح ، وهي مما يدل على أول له من الخلق ما عَمَّ ، كما تقدم من عموم الوصل في قوله : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فتأويلها المحكم قد جاوز الوضع الأول على تقدير : ألا يعلم من خلق وما خلق ، وله من العلم ما أحاط فاستغرق ، فذلك مما عم الظرف ، فكان من المضارعة في "يَعْلَمُ" ما به استحضار الصورة من وجه ، وبه المعنى يرسخ في الذهن وَيُنْقَشُ ، وكان منها آخر قد استغرق الحال والاستقبال فهو مما اتصل زمانه ، ولا ينفك يجاوز فيدل على ماض أول بما كان من علم أول قد استغرق في الأزل ، فهو العلم المحيط الجامع ، وثم من إطلاق العامل ما استغرق وجوه العلم : العلم الأول في الأزل ، وما كان بعدا من علم قد سُطِرَ في لوح تقدير محكم ، وما تلا من كلمات تكوين تَنْفُذُ ، وما يكون من تأويل لها في الخارج يثبت ، فهو الموجود فِعْلًا إذ يصدق المعدوم قُوَّةً إذ وجوده في العلم الأول لم يَخْرُجْ به عن العدم إلى الوجود ، وَإِنْ صَحَّ فِيهِ أَنَّهُ ذو وجود ، فَوُجُودُ العلم المقَّدر في الأزل ، لا وجودٌ في الخارج يصدق ، وكذا وجوده مسطورا في لوح التقدير لَمَّا يَخْرُجْ بِهِ عن حد العدم ، فصدق فيه أنه موجود علمي أول ، من وجه ، معدوم في الخارج ، من آخر ، وليس ثم تعارض إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فلم يكن بعد من ماهيته ما يصدق العلم الأول المحيط ، فإذا كان منها في الخارج ما يَثْبُتُ ، فَهُوَ الموجود الذي يصدق أولا من المقدور .
وكذا العلم يجاوز فَيَسْتَغْرِقُ ما كان من تأويل في القول والفعل يَكْشِفُ ، فَثَمَّ علم تال هو ظهور وانكشاف لما ثبت أولا في الأزل ، وله دليل يشهد بما كان من علم إحصاءٍ يَجْمَعُ ، وله أخير في كتاب ينطق بالحق المحكم ، فذلك العلم الذي تناول المعلومات كافة ، وثم منها : علم التكوين وآخر من التشريع إذ يُنْزِلُ من الخبرِ والحكمِ ما يُصْلِحُ الفرد والجمع كَافَّةً ، فهو ، جل وعلا ، الأعلم بالخلق ، فمن قدر ماهياتهم في الأزل وعلم من دَقَائِقِهَا ما يستغرق ، فهو ضرورة من يعلم ما يصلح هذه المحال إِنْ مِنْ أسبابِ الكون بما أَنْزَلَ لها من الرزق ، فالطيب يُصْلِحُهَا وَيُقَوِّيهَا والخبيث يفسدها وَيُضْعِفُهَا ، أو من أسباب الشرع بما أنزل من الوحي ، الخبر والحكم ، وبهما تنصح القوة العلمية تصورا في الجنان هو المبدأ ، والقوة العملية حكما في الأركان هو الشاهد المصدِّق .
فكان من الاستفهام آنف الذكر في قوله : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ما أنكر فدلالته دلالة إثبات ينصح ، ولا يخلو من الانفراد في الوصف ، فذلك علم يجاوز ما بلغ الخلق ، وإن أُوتُوا مَا أُوتُوا من آلة نظر وبحث ، فما يجهلون أكثر ، ولا زال من ذلك إعجاز في الخلق يَثْبُتُ وبه قيام حجة تَنْصَحُ ، فَأُطْلِقَ عَامِلُ العلمِ في "يَعْلَمُ" ، وهو المضارع الذي يَحْكِي استحضارَ الصورةِ ، مِنْ وَجْهٍ ، وهو بَعْدًا قَدِ اسْتَغْرَقَ ظرفَ الزمان كلَّه ، الحاضر والمستقبل ، فذلك وصف الفعل الذي يحدث الله ، جل وعلا ، منه آحادا تُصَدِّقُ ما كان من علم أول يحيط ، فَثَمَّ من علم الإيجاد والتدبير ، وَتَالٍ بِهِ الإحصاءُ بَعْدًا ، فَثَمَّ من أولئك ما يصدق ما كان أولا في المبدإ فاستغرق وجوه المعنى على التفصيل آنف الذكر ، وَأُطْلِقَ عامل الخلق بَعْدًا في "مَنْ خَلَقَ" ، فهو ما استغرق ، أيضا ، فَثَمَّ خلق التقدير ، مع تَالٍ هو خلق الإيجاد وبه تصديق في الخارج لما كان أولا من خلق التقدير الجامع ، وخلق التصويرِ وبه إِبْدَاعٌ لا على مثال تَقَدَّمَ ، وخلق التدبير بما يكون من إعداد المحالِّ أَنْ تَقْبَلَ آثَارَ الأسبابِ من خارج ، وإمدادها بالأسباب ، مع سَنَنٍ مُحْكَمٍ يَأْطِرُ ، وعموم في الوصل "مَنْ" ، وهو ما جاوز العاقل إلى غَيْرٍ ، فكل أولئك من العموم الذي لا يكون إلا لخالق أول قد أحاط بالخلق كافة ، وهو ما حَسُنَ لِأَجْلِهِ إطناب بالوصف الأخص ، فذلك من حسن الملاءمة في النص ، فكان من ذلك اسم لَطِيفٍ يخفى ، وهو خَبِيرٌ يعلم ما دق من الأعيان والأحوال كافة ، وهو ما حُدَّ حَدَّ "فَعِيل" في كلٍّ ، فلا يخلو من دلالة المبالغة وهو مما يحسن في سياق التعليل والمحاجة ، مع عهد أخص في دلالة "أل" إذ تحكي أولا من بَيَانِ الجنس ، بَيَانِ المدخول من الوصف ، اللطف والخبرة ، مع تال قد استغرق وجوه المعنى فدل من ذلك على كمال مطلق وهو ما رَفَدَ دلالةَ عهد أخص إذ لا يكون ذلك إلا لواحد في الخارج هو الرب الخالق ، جل وعلا ، وله من ذلك ، أيضا ، وصف الإله الشارع بما أَنْزَلَ من الخبر الصادق والحكم العادل ، فهو لطيف خبير يعلم دقائق الكون والشرع كافة ، تَوْحِيدًا هو ما جاءت به النبوات إذ كان منها ربوبية تكوين وأخرى من ألوهية تشريع وَكُلُّ لا يكون إلا بِعِلْمٍ يَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ من المعارف لطفًا وخبرةً ، وثم من جمل التوكيد قياسا ما يحسن في سياق تقرير به تَعْلِيلُ ما تَقَدَّمَ صدرَ الآية ، فذلك من عطف السبب على المسبَّبِ ، ولا يخلو لأجله من تقدير سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من استغراق العلم جميعَ الخلق ؟ ، فكان الجواب لأنه : (هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وثم من الاسمية ، أيضا ، حكاية الثبوت والاستمرار ، وثم القصر بتعريف الجزأين "هُوَ" و "اللطيفِ" ، مع إطناب في الإخبار على قول من يجوز التعدد في الأخبار ، وهو آكد في المدح والثناء ، ومن يمنع فإنه يقدر لِكُلِّ خبرٍ من المبتدإ ما هو من جنس الأول ، فيكون المبتدأ الأول للخبر الأول خاصة ، ويكون من ثان ما يقدر من جنس الأول لخبر ثان يَتْبَعُ ، وكذا لو كان ثالثٌ فَرَابِعٌ ..... إلخ ، ولا يخلو القول ، من وجه ، لا يخلو من تَكَلُّفٍ إذ يصح ذلك لو احتمل الأمر أن يكون ثم إخبار عن آخر سوى الأول ، فيكون رجوع الضمير المستكن في الخبر إن كان المشتق ، كما اللطيف والخبير وهما محل الشاهد آنف الذكر ، يكون منه ما يَتَعَدد فَهُوَ يُوهِمُ وذلك ما اسْتَوْجَبَ لِكُلِّ خبر مبتدأ قد وجب عليه النص ، وليس ذلك مما ينصح في هذا الموضع ، إذ المخبَرُ عنه واحد وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، فَأُخْبِرَ عنه باسم اللطيف ثم الخبير بعدا ومع أنهما من الوصف المشبه الذي لا يَتَعَدَّى إلا بواسطة ، فاحتماله الضميرَ أضعف ، إلا أنه لا ينفك يَحْتَمِلُهُ ، ولو أَدْنَى ، فيكون من ذلك عائد يرجع إلى المبتدإ الذي به عنه يُخْبَرُ ، إخبارَ المسنَد عن المسنَد إليه كما يقول البلاغيون ، أو المحمول عن الموضوع كما يقول النظار ، فالأمر ، كما يقول أهل الشأن ، مما تفاوتت درجاته ، وَإِنِ اشْتَرَكَ كُلٌّ في الأصل : تَحَمُّلِ الخبرِ : المفرد أو الجملة ، تَحَمُّلِهِ ضَمِيرًا ، ولو لطيفا في التقدير ، فهو العائد الذي يرجع إلى المبتدإ الأول ، فَثَمَّ جنس من ذلك هو المجرد في الذهن : جنس العائد وهو الضمير ، وإن كان ثم غَيْرٌ في الباب ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، كما إعادة المبتدإ في جملة الخبر إن لفظا يطابق ، كما في قوله : (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ) ، أو آخر يشابه ، كما في قوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، فمن يُمَسِّكُونَ بالكتابِ في المبتدإ هم المصلحون في الخبر وإن اختلفَ الْحَدُّ لَفْظًا فَقَدْ تَقَارَبَ مَعْنًى .
فَثَمَّ ضمير هو من جملةِ عوائِدَ تَرْجِعُ إِلَى مبتدإٍ هو الأول في المنطِق ، فالأمر ، لو تدبر الناظر ، يجري مجرى القسمة في العقل ، فَثَمَّ جنس عام لا أعم منه ، وهو جِنْسُ الرَّابِطِ مُطْلَقًا ، الرَّابِطِ بَيْنَ المبتدإ والخبر ، وتحته أنواع ، فَثَمَّ إعادة المبتدإ لفظا أو معنى ، وثم الضمير محل الشاهد ، وهو في نَفْسِهِ جِنْسٌ لِمَا دونه من أخبارٍ تَتَفَاوَتُ فِي تَحَمُّلِهَا الضَّمَائِرَ ، فَثَمَّ الفعل وهو أقواها في التحمل ، ودونه اسم الفاعل ، فهو يعمل عمل المضارع خاصة ، وإن فَرْعًا عنه ، والفرع بداهة أضعف من أصله ، ودونه مِثَالُ المبالغة ، وهو مما اشترط في حَدِّهِ أَنْ يُشْتَقَّ من مُتَعَدٍّ كما اسم الفاعل ، وإن كان من كليهما في الحد ما يواطئ في جنس الاشتقاق : الوصف المشبه ، فمن الوصف المشبه ، وهو دونهما في العمل وَتَحَمُّلُهُ للضميرِ أَضْعَفُ ، من الوصفِ المشبَّه ما يضاهيهما في الميزان ، ميزان الاشتقاق ، كما "طاهر" من "طَهُرَ" ، وبصير من بَصُرَ ، فالأول يضاهي اسم الفاعل في مِيزَانِ "فاعل" من الثلاثي ، ولكنه من اللازم إذ حده في المعنى أنه من أفعال السجايا وهي مما يلازم صاحبها ، وكذا بصر فهو مما لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد اشتق منه في الحد ما يُضَاهِي مثال المبالغة "فعيل" ، وكذا في شريف من شَرُفَ ، ونظيف من نَظُفَ ، وجميل من جَمُلَ ، وقبيح من قَبُحَ ، وكريم من كَرُمَ ، فكل أولئك من وصفٍ مُشَبَّهٍ لَا يَتَعَدَّى بنفسه ، وإنما يتعدى بِغَيْرٍ ، وإن حُدَّ حَدَّ "فعيل" وهو مثال المبالغة ، فكان من تَحَمُّلِ الوصفِ المشبَّهِ الضميرَ ما هو دون الفعلِ واسمِ الفاعلِ ومثالِ المبالغةِ ، فاسم اللطيف والخبير في الآية : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ذلك مما تَحَمَّلَ الضمير الذي يرجع إلى مبتدإ هو الأول ، الضمير "هُوَ" ، وهو واحد ، وَإِنْ أُخْبِرَ عنه بِأَكْثَرَ مِنْ وصفٍ ، كما اللطف والخبرة ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما يجري مجرى التكافُؤِ ، وحده في الدلالات أنه الجامع بين الترادف من وجه ، والتغاير من آخر ، وليس ثم تعارض في هذا الجمع ، إذ انفكت الجهة وافترق الحد ، فجهة الترادف بالنظر في الدلالة الْعَلَمِيَّةِ ، دلالة الاسم على المسمَّى في الخارج ، فاسم اللطيف والخبير والعليم والكريم ..... إلخ ، مما يدل على مسمى واحد في الخارج ، وهو الذات القدسية وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فكان من ذلك الاسمِ الْعَلَمِ تَوْحِيدًا في الباب ، فالذات واحدة وإن تَعَدَّدَتْ صِفَاتُهَا ، بل ذلك مما يحسن في الثناء على المخلوق المحدَث ، أن يكون له من وصف الكمال ما يَكْثُرُ ، فكيف بالرب الأعلى ؟! ، هو بكلِّ ثَنَاءٍ أولى ، وذلك ما يجري مجرى قياس الأولى ، وهو وحده ما ينصح في الإلهيات الخبرية وَإِنِ اشْتُرِطَ لَهُ قَيْدٌ عام في نصوص الشرع عامة ، والخبريات المغيَّبَةِ خاصة ، وهو قيد الثبوت أولا بَدَلِيلٍ يَنْصَحُ إِنِ المتواترَ أو الآحاد ، فمعيار الباب : خبر صحيح هو الأول ، وهو ما قد يَتَعَدَّدُ في الوصف ، كما الآي آنف الذكر : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وليس ثَمَّ عاقل يَزْعُمُ بَدَاهَةً أن ذلك مما يُفْضِي إلى الشرك ، أن يكون ثم تَعَدُّدٌ لِقُدَمَاءَ فِي الأزلِ قَدِ اسْتَقَلَّ كُلٌّ بوجودٍ في الخارج يَنْفَصِلُ ، فذلك مما لا يتصور إلا في الذهن ، أن يكون ثم تجريد لذات لا وصف لها ، وآخر لأوصاف تُطْلَقُ في المبنى والمعنى كما العلم والحكمة ..... إلخ ، فَلَيْسَ ثَمَّ في الخارج منها ما يَسْتَقِلُّ بذاتٍ ، خلافا لفلاسفة قد أَمْعَنُوا في التجريد حتى جَوَّزُوا ما يخالف ، ضرورةً ، عن النقل والعقل والفطرة والحس وبدائه الاستدلال لدى كل نَاظِرٍ يَفْقَهُ ، فقد جَوَّزُوا حصول المطلقات بشرط الإطلاق إذ تُجَرَّدُ من كلِّ قيدٍ ، فَجَوَّزُوا حصولها في الخارج فَيُقَالُ : هذا العلم وهذه الحكمة إشارةً بالحس ، فذلك مما لا يكون في الخارج إلا مُقَيَّدًا بذاتٍ تُوصَفُ به فليس ثم في الخارج إلا العليم والحكيم إن الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وهو الواجب ، واجب الوجود لذاته ، أو المخلوق فمن آحاده من يَصْدُقُ فيه وصف العليم والحكيم ، وإن الجائز ، بادي أمره ، فهو يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، فَقُيِّدَ الوصفُ بذاتٍ ، فلا يستقل بوجود في الخارج ، وإنما يقوم بذات : قيام الوصف بالموصوف ، ويكون منه في باب الإلهيات خاصة : اشتقاق الاسم ، لا اشتقاق ما لم يكن قَبْلًا فهو المحدَث ، وإنما اشتقاقٌ في معيارِ اللِّسَانِ بِمَا تَوَاتَرَ من ميزانٍ قد اسْتُنْبِطَ من المأثور نَظْمًا أو نَثْرًا ، وهو العمدة في الباب ، باب النطق الذي يجاوز ما تَبَادَرَ من بَيْعٍ وشراءٍ .... إلخ من عقود وإجراءات في دنيا الخلق ، فلولا النطق ما كان الفهم ، وما كان في الدنيا عقد يَنْصَحُ ، فإنه لا ينفك يطلب من البيان ما يُفْصِحُ ، إِنْ نُطْقًا أو كَتْبًا ، أو جَمْعًا بينهما يَسْتَوْثِقُ لا سيما في أعصار تأخرت قد فَسَدَتْ فِيهَا الذِّمَمُ إلا ما رحم الله جل وعلا ، فَثَمَّ ما يجاوز ذلك من تَصَوُّرِ المعاني الجامعة ، وهي مما يميز كُلَّ أُمَّةٍ ، لا جرم كان لكلٍّ ما اخْتُصَّ بِهِ من شرعةٍ ومنهاجٍ ، وهو ، أيضا ، مِمَّا قد جَاوَزَ في الحد ، الأمر والنهي ، والخبر إِنْ بِإِثْبَاتٍ أَوْ بِنَفْيٍ ، فهو يحكي روحا أخص ، روح التشريع الباعث والمرجع الحاكم ، وذلك مما تظهر آثاره في الخارج ، أخلاقا وسلوكا بل وعوائد في الجبلة ، والقياس أنها مما اشترك فيه الخلق كافة ، فكان من دَقِيقٍ في تناولها يميز ، ولو في جنس المطعوم أو المشروب ، وما يكون مِنْ تَصَوُّرٍ له لِمَ كان في هذا الكون ؟! ، وهل ثم غاية تدرك فهي تجاوز وظيفة الحيوان إذ يمضع ويهضم لَذَّةً وَيُخْرِجُ بعدا الفضلَةَ ؟! ، أو أن ثم أخرى أَشْرَفُ تُوجِبُ نَظَرًا به امتاز الإنسان من الحيوان الأعجم ، فكل أولئك مما افْتَرَقَ فيه البشر ، ولو في عوائد الْجِبِلَّةِ مِنْ مطعَم ومشرَب ومنكَح ...... إلخ ، فَثَمَّ ، أيضا ، قَدْرٌ قد اشْتَرَكَ فيه البشر كافة ، بل وَبَعْضٌ من أنواع الحيوان الأعجم ، فتلك مَاهِيَّةُ الفعلِ إذ يُبَاشَرُ مجرَّدًا من البواعث والقرائن ، فالحيوان لا باعث له إلا هداية تكوين أولى بها يطلب سَبَبَ حياةٍ بِهِ يَبْقَى إذ يطعم ويشرب مع لذة لا يجاوزها عقله وقضاءِ وطرٍ لا يطلب منه ولدا يُرَبِّيهِ لينهض بوظائف تَشْرُفُ ، فغايته أن يَسْتَبْقِيَ النَّوْعَ ويحفظَ ، وهو ، مع ذلك ، لا يعقل ذلك العقل التام إلا ركز فطرة لا تجاوز ، كما تقدم ، هداية تكوين أولى قد اشترك فيها الخلق كافة ، وبها نطق الكليم إذ لفرعون يجيب أَنْ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فكان من ذلك عنوان ربوبية جامع ، وذلك حد الإضافة في "رَبُّنَا" ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والبيان ، فَهِيَ نَصٌّ في العموم ، إذ الإضافة إلى الضمير تحكي التعريف في المبنى ، من وجه ، والتعميم في المعنى ، من آخر ، فتلك ربوبية قد عمت ، من وجوه ، فَثَمَّ عموم المعنى إذ استغرقت ربوبية الإيجاد والتدبير ، التكوين والتشريع ، فهي ، من هذا الوجه ، مَعْدنُ توحيدٍ عام قد اسْتَغْرَقَ الخلق والحكم كَافَّةً ، فالخلق بالتكوين والحكم بالتشريع ، ومن ذلك اسم ربوبية يَتَبَادَرُ في الخلق ، واسم ألوهية يَتَبَادَرُ في الشرع ، وهو ما افْتَقَرَ إلى معيار يُبِينُ من النطق ، وبه حد الخبر والحكم ، وذلك ما افْتَقَرَ ضرورةً إلى مرجع أول من نَظْمٍ أو نَثْرٍ يُؤْثَرُ عن سَلَفٍ أول ، بِلِسَانِ الوحي قد نَطَقَ بداهةً بلا تَكَلُّفٍ نحوٍ أو صرف أو معان ! ، وبه ، أي : النظم والنَّثْرُ الأول ، به دَرَكُ قانونِ اللسان الذي حُدَّ به الشرع ، مع أخرى أدق ، كما يقول أهل الشأن ، فاللسان ليس أداة تعامل في الخارج بما به عقود البيع والشراء .... إلخ تنعقد ، بل له من أخرى أَشْرَفُ إذ يميز كل أُمَّةٍ من غيرٍ ، لا امتياز اللسان مجردا ، وإن كان ذلك معتبرا في حكاية العقد الجامع ، عقد الفكرة أو الحركة ، بل ثم آخر يجاوز إلى روح حكمة وشرعة وآداب وأخلاق ، فاسم الشهامة والمروءة والقناعة ...... إلخ مثالًا ، ذلك مما يَعْسُرُ أن يجده ناظر في مقال لا نسبة له إلى السماء تَنْصَحُ ، ولو في الجملة ، فَتِلْكَ ألفاظ ذات دلالات أخص فهي تحكي أخلاقا وطبائع لا تستوي فيها الأمم ، بل لِبَعْضٍ فيها امتياز بما كان من عوائد وأعراف ، وإن كان ثَمَّ ما يَتَغَيَّرُ ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، كما يقول صاحب المقدمة ، وهو يَقُصُّ تَدَرُّجَ الأمم في اكتسابِ خُلُقٍ أو فَقْدِ آخرَ ، فَثَمَّ جيل أول قد تخلق بخلائق قد استقرت ولها من رافد الفكر والاجتماع والسياسة ما تأصل ، فإذا كان ثم تَغَيُّرٌ ، فالجيل التالي لا يفقد الخصائص دفعةً ، وإنما يفقد بعضا ، هو أقل ، فَنِسْبَتُهُ إلى الجيل الأول أوثق ، وَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ الخصائص والأخلاق ، فإذا جَاءَ ثَالِثٌ فَهُوَ يَفْقِدُ بَعْضًا آخر لم يفقده الثاني فيكون من الأول أبعد ، فإذا جاء رابع فَقَدَ زِيَادَةً لم يَفْقِدْهَا الثالث ...... إلخ ، حتى يحصل جيل جديد ، ولو بَعْدَ حينٍ ، لا نسبة له إلى الأول ، فقد اضمحلت الخصائص كافة ، وذلك من مَكْرٍ كُبَّارٍ يسلكه من يروم إفساد الأمم وتحريف الْمُثُلِ ، فلا يطيق ذلك دفعةً ، بل لو رام ذلك لَافْتُضِحَ ولكان من رَدٍّ في الفعل ما يَفْجَأُ ويفجع المفسِد ، ولو غريزةً تدفع الصائل عَلَى ذات الجمع ، ذاتِ الدِّينِ والخلق والحضارة ، فلا يباشر المفسِد الماكرُ ذلك إلا على مكث ، خطواتٍ بها يوسوس فَهُوَ للخلقِ يستدرج ، كما إبليس إذ يُزَيِّنُ للجمع أن يكفر ، فيكون التبديل على مكث ، في الفكر والدين والخلق ، وهو ما استوجب آخر في اللسان به نسخ ألفاظٍ ذات دلالات أخص تجاوز مَا تَقَدَّمَ من شراء وبيع .... إلخ ، فتلك ألفاظ تُحَايِدُ في دلالتها إذ لا خاصة فيها تحكي فكرة أو شرعة ، فاستوت فيها الأمم كافة ، بل قد يكون فيها امتياز يحكي المرجع في التصور والحكم من أمانة ونصح في التجارة ، وهو ، أيضا ، مما تَتَنَازَعُهُ بواعث ألطف ، فَثَمَّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ مِنْ ذلك ما به يحوز ثقة المشتري في مثالِ استهلاكٍ لا غاية فيه إلا المعجَّل من الربح ، فلا ينفك يكتسب ثقة الجمع الذي يشتري ، وقد أَطَرَ الجميعَ مِثَالُ استهلاكٍ لا يجاوز لذة الحس الظاهر ، وثم مَنْ يستعمل مِنْ ذلك ما يجاوز المنفعة المعجَّلة من كسبٍ وَثَرَاءٍ ، وَتَثْمِيرٍ لِرَأْسِ المالِ ، واحتكارٍ لأسباب الجاه والرفاه ، فالمال أداة بها يتوسل طالب الجاه أن يتصدر ، وهو أحد القوتين ، كما القلم أحد اللسانين ، فالمال قوة بها يشترى الولاء فِي مُثُلِ السياسةِ المحدَثة التي خالف بها أصحابها عن جادة النبوة المحكمة ، وإن كان ذلك في نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَقْبُحُ مُطْلَقًا ، فقد يكون منه ما لَطُفَ فِي مدلولِه ، تأليفا لقلبٍ ألا يخالف عن الحقِّ ، أو سَدًّا لِذَرِيعَةِ فُحْشٍ في الهجاء إذ بالعطايا يُقْطَعُ لِسَانُ الفاحشِ البذِيءِ ، أو لأخرى من حرب فيكون تسكين النفوس بما يبذل لها من مال ، فالمال قوة أولى ، والسيف آخر ، وإن كان في الحدة أعظم ، فَهُوَ يُبَاشِرُ من الخصم ما لا يُبَاشِرُ المالُ ، إذ بالمال تَرْغِيبٌ ، وبالسيف تَرْهِيبٌ ، وكل قد يحسن في الغاية إن كان ثم نصح للخلق يروم لهم الخير ، ولو رغما ! ، وقد يقبح إذ لا يكون منه إلا طلبُ رِيَاسَةٍ مُعَجَّلَةٍ ، وَإِنْ أَوْقَعَ لأجلِها بالخلق المهلَكَةَ ، وهو ، والشيءُ بالشيءِ يُذْكَرُ ، ما يُبِينُ عَنْ مِثَالٍ من الحكم يرشد ، مثال شهيد الدار ، ، وقد عَلِمَ يَقِينًا أنه قتيل بما كان عنده من خبر غيب صحيح ، فَلَمْ يَرُمْ لجيلٍ أَوَّلَ يَنْصَحُ أَنْ يُسْفَكَ منه الدم بِيَدِ بَاغٍ محدِث ، وقد كان من أمان الصحبة ولا زال من أهلها جمع يكثر ، أن علم يَقِينًا أَنَّ مَنْ يَلِي الأمر بَعْدَه فهو سائر على الجادة لا كأعصار تأخرت قد احتج بها بعض ، كما يقول بعض أهل التحقيق والفضل ، أن ينزل صاحب الحق عن حقه طوعا لمبطِل محدِث قد عطل من الحقِّ : العلم والعمل ، وكان منه بلوى في الدين والدنيا تعم ، فكيف يكون النزول له فضيلة ، وإن كان ثم من معيار آخر يقيس في باب مصالح ومفاسد تعظم تارة وتحقر أخرى ، وإن لم يكن ثم إلا إقامة الحجة في أي باب أو مسألة ، دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ ، فلا تخلو الأرض من قائم فيها بحجة تنصح ، ولو واحدا هو المفرد ، فذلك مما وجب اعتباره في الباب مع آخر يَتَنَاوَلُ المصالح والمفاسد المعتبرة ، وقد كان لشهيد الدار من ذلك قَدَحٌ مُعَلَّى ، فقد أثبت الطريقة والسنة أَلَّا يَنْزِلَ إمام عدل عن السلطان والحكم ، وألا يقاتل الناس دونه مقتلة يغلب على الظن فيها ما يعظم من فساد ، مع أمان في الجيل فهو ناصح أمين ، وَلَوْ وَلِيَ بعدَه أحدٌ ما خالف عن جادة الرشد في قول أو عمل ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وكذا السبط الشهيد ، ، إذ كان من أمره حجة أَلَّا يَلِيَ أَحَدٌ بلا شورى ، فلا يكون الأمر عَاضًّا وقد كان قَبْلًا رشدا ، فأقام الحجة ، ولو جَادَ بِنَفْسِهِ ، وذلك مثال آخر يدق وهو ما استوجب النظر المحكم إذ جهات الوصف فيه تنفك فكذا أُخْرَى من الحكم ، وليس كله ينصح وإن كان منه ما يعظم ، وليس كله ، من وجه آخر ، يبطل كما قال ناصبة قد أحدثوا في الديانة جفاء رَدُّوا به غُلُوًّا يَفْحُشُ ، وكلا طرفي قصد الأمور يذم ، والحق أبدا جادة وسط وعدل بين غَالٍ يَزِيدُ وَجَافٍ يَنْقُصُ ، والمسدَّد من سَدَّدَ الرب ، جل وعلا ، وحده .
فَكَانَ مِنْ سُلْطَانِ الجور الذي عَطَّلَ الدين والدنيا وَعَمَّ فسادُه كُلَّ أمرٍ ، دَقَّ أو جَلَّ ، كان منه ما استحل بِهِ الخلقِ : الدم والعرض وسائر الحرمات ، وأفسد منهم الأخلاق والعادات ، فلا يطيق لهم حكما إلا أَنْ يُفْسِدَهُمْ وَيُصَيِّرَهُمْ شِيَعًا ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا على واحد من الفكرة يَشْرُفُ ، وكان لهم من ذلك مرجع ينصح ، مرجع الوحي والعدل ، ولو العدل المحدَث في الأرض فكيف بآخر من السماء يَنْزِلُ ، فلو كانت تلك حالهم ما أطاق طاغوت أن يَتَرَأَّسَ ، إذن لوجد من قوة الجمع ما يدفع صائله على الدين والدنيا كافة ! ، فكان من مثال الحكم المحدث ، وله قانون في اللسان يجاوز ما تقدم من عادات يستوي فيها الخلق ، فَلَهُ لسانُ فكرةٍ وشرعةٍ تحكي روح سيادة محدَثة لا نسبة لها إلى الوحي تنصح ، وإن زخرفت القول أنها تَنُوبُ عَنِ الأمة والجمع ، إِنْ بِاسْمِ الأمة الجامع ، أو آخر هو الشعب آحادا قد اقْتَسَمُوا المادة ، مادة السيادة ، فلكلٍّ منها حظ ، وباجتماعهم يكون الأمر والنهي ، فلهم سيادة في ذلك تطلق ، وذلك ما زخرف الواضع ووسوس ! ، وإنما اتخذهم ذريعة أن يطغى ، فقد نَالَ منهم ولاية ونيابة ، صَدَقَ في دعواه أو كَذَبَ ، ولو صدق فالمصيبة أعظم فقد اختاروا الباطل طوعا بما بُدِّلَ من الفكرة وَحُرِّفَ ، إذ نَزَعَ سيادة الأمر والنهي من النبوات وَصَيَّرَهَا إلى عقلٍ محدَث لا تَنْفَكُّ الأهواء والأذواق تَتَنَازَعُهُ ، وَزَيَّنَ من ذلك ما به استخف الجمع أنه يصدر عن أمرهم ، وهو من أطرهم على جادة تواطئ ما يهوى بما احتكر من أداة القوة : فكرةً وثروةً وحركةً ، فهو من يضع القول الحاكم شرعةً ، وَيُوَزِّعُ العطاءَ الناجز رغبةً ، ويبطش بالسيف القاطع رَهْبَةً ، فمن ذا ينازعه المنصب ، وقد جاوز السياسة والحكم إلى الفكرة والشرع فصار هو المرجع الحاكم الذي يأمر وينهى ، وهو قَبْلًا مرجع التصور حسنا وقبحا إن في الأخلاق أو في الأفكار ، وذلك ما استوجب أداة من اللسان والبيان ، فهي تجاوز ، كما تقدم ، ما يكون من أمر الدنيا ، فاللسان دين الجمع ، دِينُ الْخُلُقِ وَالْحُكْمِ ، دينُ التَّصَوُّرِ الباعثِ والحكم الصادرِ عنه في الخارج ، فلكلِّ أُمَّةٍ من ذلك شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ يَمِيزُ ، ولو كان ثم أول من الاشتراك في أجناس المعاني الكلية ، فلا ينفك كلٌّ يصدر عن آخر أَخَصَّ ، فَلَهُ من الغايات العاجلة أو الآجلة ما حُدَّ له في المعجم ألفاظٌ ذات دلالات تجاوز الإجراء إلى آخر من المعيار ، معيار القيم والأخلاق ..... إلخ ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعالِ الجبلة ما لا امتياز به في شرعة أو فكرة إلا ما تقدم من آداب لا تنفك تحكي روحَ تَصَوُّرٍ وَحُكْمٍ يَحُدُّ معيارَ الحسن والقبح وما تلا من إباحة وحظر ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعال الجبلة ما استوى فيه جنس البشر كله ، بل وشاطرهم الحيوان الأعجم في بَعْضٍ هو الأدنى إذ يحكي شطر الحيوان الطيني وهو معدن شهوات في الحس قد اشترك فيها الإنسان الناطق والحيوان الأعجم ، فلا امتيازَ ، بِهِ يَشْرُفُ العاقلُ ، فإنه لا يمتاز بداهة أنه يأكل ويشرب وينكح ، بل ثم من جنس الحيوان ما هو في الباب أَعْرَقُ ! ، فهو يأكل ويشرب أكثر ، وحظه من المباضعة أعظم ، إذ قوته في ذلك أعظم ، فيمدح منه ما يأكل أكثر ، ويمدح منه الفحل الذي يَنْزُو ! ، فالعاقل لا يَرْضَى امتيازًا في هذا الشطر الذي يُوَاطِئُ فيه الحيوان الأعجم ، وإنما امتاز بآخر هو الفكرة والشرعة ، وهي ما حُدَّ في الخارج كلماتٍ بها التصور والحكم ، وتلك خاصة النطق التي شَرُفَ بِهَا الإنسانُ ، فَلَيْسَ يَقْتَصِرُ على كلماتِ البيعِ والشراءِ ، بل ثم أخرى أشرف من القيم والأخلاق ، وَأَنْصَحُهَا ما يكون من وحيٍ له في الخلق سيادةٌ تُطْلَقُ ، وحكومته فيهم تُرْضَى إذ قد سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمُوا منه من الهوى والحظ وعوارض الجبلة إذ تفتقر إلى أسباب في الخارج ، ولأجلها يكون التدافع ، فإن لم يكن ثم ما يأطر من وحي يَتَنَزَّلُ فالأمر إلى فوضى تَسْتَغْرِقُ ، إذ ليس ثم مرجع يجاوز من خارج فلا يناله من وصف النقص ما نالهم ، ولو بأصل الخلق الأول ، فالكلام ، من هذا الوجه ، خاصة تجاوز الإفهام المجرد وإن امْتَازَ بِهَا الإنسان من الحيوان الأعجم ، بل ثم أخرى أشرف خاصة الدين والخلق ، فَلَهُمَا في معجمِ كُلِّ لسانٍ ما يحكي المرجع والمصدر ، ولو في أفعال الجبلة التي تناولها اسم الرب في جواب الكليم آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فالربوبية ، كما تقدم ، جنس أعلى يجاوز فهو العام الذي لا أعم منه ، إذ استغرق وجوه الدلالة كَافَّةً ، التقدير الأول في علم محيط يستغرق ، والإيجاد الذي يَتَأَوَّلُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلِ : تَأْوِيلَ التَّصْدِيقِ فِي الخارج بما يكون من وجود تال يخرج المقدور الأول من القوة إلى الفعل المصدِّق ، والتصوير لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ إِبْدَاعًا بِهِ امتاز الخالق ، جل وعلا ، من غَيْرٍ ، فمن يخلق سواه الخلق المطلق من غير شيء أول ؟! ، فليس يجاوز غيرُه في الوصف أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا كَانَ أَوَّلًا من عِلَّةٍ مادية أو هَيُولَى باصطلاح المناطقة ، فهي مادة أولى يَتَنَاوَلُهَا فلم يستحدِثْهَا من العدم ، وإنما أخذ منها ما وَجَدَ ، ثُمَّ صَيَّرَهَا إلى أخرى بما يكون من سنن في التحويل من صورة إلى أخرى ، فليس ذلك خلقا من العدم ، وليس إبداعا لما ليس له مثال في الخارج ، وإن كان منه اكتشاف في علم التجريب المحدَث ، فلم يُوجِدْ من السنن ما به التحويل يتم ، ولم يُوجِدِ المادَّةَ الأولى الذي صَدَرَ عَنْهَا في بحثه وتجريبه ، إِنْ بسيطةً أو مركَّبةً ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَنَالُهَا حتى يبلغ بها أولا لا أول قبله حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فذلك من يعلم ما خلق علم التقدير آنف الذكر ، وآخر من الإيجادِ المصدِّق ، وثالثا من التصوير المبدِع لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وَرَابِعًا من التدبير المحكم ، وهو ما عم فَتَنَاوَلَ سَنَنًا من الخلق قد اسْتَوَى فِيهَا كُلُّ شيءٍ محدَث في الخارج ، وآخر من الشرع ، فَالسَّنَنُ ، أَيْضًا ، ليسَ مِمَّا يخلق استقلالًا كما زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَهُ في علم التجريب حظ ! ، فلم يُرْزَقْ زَكَاءً يَشْفَعُ ذَكَاءً ، كما قال بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ قَبْلًا وهو يَصِفُ من أبناء جيله مَنْ ضَلَّ وأحدَث فجاء بما يخالف عن بدائه العقل والحس وإن زعم أنه فيهما ذو فقه نظر ، فكان مِنْ آخرَ تالٍ مَنْ خالف عن معيار الضرورة في القياس إذ صَيَّرَ السنن المحكم الذي به تدبير هذا الكون المتقن ، صيره هو الخالق الأول ، وهو في نفسه الجائز الذي يفتقر إلى أول يُوجِبُ ، فهو من يخلقه ويجريه على جادة محكمة وَيَركزُ فيه قُوَّةَ تَأْثِيرٍ إذا استجمعَ السببَ والمحلَّ الذي يُبَاشِرُهُ ، فيركز في السبب قوى تُؤَثِّرُ ، وفي المحل أخرى تَقْبَلُ ، ويكون من السنن المحكم ما عنه الأثر يظهر ، فكيف يكون ذلك عبثا بلا خالق أول لا أول قبله ؟! ، أو يكون مرد الأمر إلى السنن الذي عليه السبب يجري ؟! ، بل ثم تسلسل آخر في التأثير أزلا يوجب رَدَّ الأمر إلى خالق أول لا أول قبله ، فهو من خلق الأسباب والمحال ، وهو من أَجْرَاهَا عَلَى سنن محكم به تدبير هذا الكون المتقن أعيانا وأحوالا بها تقوم ، وكل أولئك مما استغرقه اسم الربوبية الأعم في الجواب آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فتلك ربوبية العلم أولا ، علم التقدير في الأزل ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما عم فاستغرق الأشياء في الخارج كلها ، الأعيان والأحوال ، الاضطرار من أفعال الجبلة والاختيار ومنه محل شاهد في آي تقدم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَكَانَ مِنْ سِبَاقٍ تَقَدَّمَهُ أَمْرٌ به التحدي أن : (أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ، فكان من ذلك طباق إيجاب بالنظر في الأجناس الدلالية المجردة وهي من مواد المعجم المفردة : السر والجهر ، أو هو من المقابلة بالنظر في الجمل : جملة "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وبهما استيفاء لأجزاء القسمة في الخارج إمعانا في التحدي والإعجاز وَبَيَانًا لإحاطةِ الجلالِ ، فالعلم في سياق الإحصاء لما كان من قول وفعل ، العلم في هذا السياق مَئِنَّةُ جلالٍ ، وهو ما حَسُنَ فِيهِ الإطناب آنف الذكر ، الإطناب بالطباق إيجابًا أو المقابلة ، مع عموم يجاوز من وجوه ، فَثَمَّ عموم يجاوز دلالة الواو أولا في "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وهي تحكي جمع الذكور المستغرِق ، فَثَمَّ من التغليب ما يَتَنَاوَلُ كلَّ محلٍّ لقرينة تُسْتَصْحَبُ أَبَدًا في الباب : قرينة التغليب في خطاب التشريع ، وثم آخر قد استغرق الأقوال كافة إذ أُضِيفَتْ إلى الضمير في "قَوْلَكُمْ" ، فتلك إضافة رفدت المفرد من القول فصيرته نصا في الجمع على تقدير الأقوال أَنْ : أَسَرُّوا أَقْوَالَكُمْ ، مع آخر قد تَنَاوَلَ الأفراد ، فَثَمَّ ضمير الجمع الذي استغرقهم ، وثم ثالث من العموم يجاوز القول إلى الفعل ، فذكر القول ، من هذا الوجه ، يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ مع آخر من الفعل ، وقد يقال إن ذلك من باب الحذف ، كما في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، على تقدير : تقيكم الحر والبرد ، فذكر واحدا من أجزاء القسمة في الخارج ، وحذف آخر أَنْ دَلَّ عليه الأول بما يتبادر إلى الذهن من اقْتِرَانٍ بَيْنَهُمَا يغلب ، فكذا القول والعمل ، فَيَؤُولُ السياق إلى : وأسروا أقوالكم أو أفعالكم وذلك شاهد مجازٍ لمن يثبت ، فهو من مجاز الحذف ، ومن ينكر فهو يَرُدُّ ذلك إلى أصل أخص في النطق ، أصل العرفِ المشتهِر لدى الجمع المتكلِّم ، فكان من ذلك عام قد تناول على تقدير تَقَدَّمَ أَنْ : وَأَسِرُّوا قولكم وفعلكم أو اجهروا به ، ومن ثم كان من الاستئناف ما يحكي أولا من تقدير لمحذوف به تمام الكلام ، فيكون من تأويل ذلك : أَسَرُّوا قولكم أو اجهروا فسيعلمه ، وهو ما استدعى في العقل ، سُؤَالَ العلة الأخص ، وما علة ذلك ؟! ، فكان الجواب : لأنه عليم بذات الصدور ، وذلك علم أخص في الخارج يُصَدِّقُ مَا كَانَ أَوَّلًا في العلم المحيط الجامع وما سُطِرَ بَعْدًا في لوح التقدير المحكم ، فما كان من كلم تكوين ينفذ فهو يصدقه إذ يخرجه من القوة إلى الفعل ، ويكون ثم تال من العلم : علم الإحاطة بما اسْتَكَنَّ في الصدور أو ظهر ، فذكر ما استكن ، ودلالته على ما يظهر ، دلالة القياس ، قياس الأولى ، فهو يعلم ما يظهر من باب أولى ، بل ثم من العلم مَنَاطٌ يجاوز فهو يستغرق المعلوم كافة ، ولو المحال الذاتي الذي لا يتصور ، فَثَمَّ مِنْ فَرْضِهِ ، كما تقدم في موضع ، ما يجري مجرى التنزل في الجدال مع الخصم ، فكان من العموم ما استغرق كل شيء ، كما آي من الذكر قد تَوَاتَرَ ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فَلَا تَعَارُضَ إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ خاصٍّ وَعَامٍّ ، وإنما ذِكْرُ الخاصِّ في موضع مما يُوَاطِئُ سياقه الذي فيه قد ورد ، وهو ، من آخر ، مما يجري مجرى المثال لعامه فلا يخصصه ، كما قرر أهل الأصول والنظر ، وكذا يقال في الربوبية ، فإنها مما عم في جواب الكليم ، عليه السلام ، أَنْ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فكان من ذلك عموم قد تَنَاوَلَ وجوهَ المعنى في الخارج ، رُبُوبِيَّةَ التكوينِ وأخرى من التشريع وبهما حد المجزئ من التوحيد ، مع أخرى قد تَنَاوَلَتِ التقديرَ والإيجاد وما تلا من تصوير وتدبير للأعيان والأحوال بما كان مِنْ سَبَبٍ قَدْ رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ تُؤَثِّرُ ، ومحل قد رُكِزَتْ فِيهِ أخرى تَقْبَلُ ، وَسَنَنٍ بَيْنَهُمَا هو المحكَم ، مع ربوبية أخرى قد تناولت الأشياء كافة ، الأعيان وما يقوم بها من الأحوال ، وما يباشرها من الأسباب وما أُحْكِمَ لها من السنن ، فكل أولئك يدخل في حد العموم المستغرق نصا في آي الأنعام المحكم وهو الاستفهام الذي يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ مَنْ أشرك بالرب ، جل وعلا ، غَيْرًا من آلهةٍ وأربابٍ تَبْطُلُ ، فـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، وذلك ما أجاب به الكليم ، عليه السلام ، بَعْدًا ، وهو ما قد حَدَّهُ وَصْلًا في قوله : (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فلا يخلو السياق أن يجري مجرى القصر المؤكد بتعريف الجزأين "رَبُّنَا" و "الَّذِي" ، وهو قصر الحقيقة إذ يفرد الرب ، جل وعلا ، بمنصب العلم الذي به أتقن الخلق وأحكم السنن ، ولا يخلو من دلالة تعليل ، تعليل استحقاقه ، جل وعلا ، منصب الربوبية أَنْ كَانَ مِنْ ذلك وصف الإعطاء المحكم فهو حكاية العلم والقدرة ، وبهما استحق ، جل وعلا ، اسم الرب مدحا ، فَأَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ، فذلك عموم آخر يستغرق ، عموم الخلق المحكَم ، مع هداية تالية تنصرف ، بادي الرأي ، إلى هداية التكوين بما كان من التقدير ، وهي ما يتناول أولا : خلق المحال وما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ آثارَ الأسباب من خارج ، وهو ما استوت فيه الخلائق كافة ، فلا يظهر فيها وجه امتياز للإنسان المكلَّف ، فذلك مما يطلب من دليل آخر يثبت ، كما أدلة بها تكريم بني آدم وتفضيلهم أَنْ يَتَحَمَّلُوا من الوحي أمانةَ الخبرِ والحكمِ : خلافةً بها إقامة الوحي وعمران الأرض ، فلأجلها قد خُلِقُوا ، وتلك العبادة التي تجاوز في حدها ما يتبادر من شعائر إلى أخرى من شرائع وما جاوز من تَصَوُّرَاتٍ تأطر حركات الخلق كافة ، وإن في أحوال الجبلة التي لا يظهر فيها ، بادي الرأي ، وجه من الشرعة ، فَكَانَ مِنَ الخلقِ أَعَمُّ قَدْ تَنَاوَلَ كُلَّ شيءٍ ، وهو ما قد حُدَّ حَدَّ الوصل "الَّذِي" فلا يخلو من دلالة إجمال يفتقر إلى بَيَانٍ تال بما كان من صلة تَرْفِدُ في قوله : (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، وهو مما يجري مجرى التشويق وبه المعنى يَرْسَخُ إذ يَرِدُ بَعْدَ إجمالٍ يَطْلُبُ من البيانِ ما يَرْفَعُ ، مع دلالة تعليل لما تقدم من اسم الربوبية ، فمناطها أن صاحبها ، جل وعلا ، قد أعطى كل شيء خلقه أولا ، ثم هدى تاليا ، وتلك ، أيضا ، هداية تَنْصَرِفُ ، بادي الرأي ، إلى هداية التكوين الأعم التي استوى فيها الخلق كلهم ، مَنْ عقل وَمَنْ لم يعقل ، بل قد استوى فيها الإنسان الناطق والحيوان الأعجم وما كان أدنى من نبت أو حجر ميت ، فلكلٍّ من السنن ما أُحْكِمَ ، وله من جنس الهداية حظ يُقْسَمُ ، وقد حَدَّهُ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ حَدَّ مُثُلٍ لا تخصِّص العام ، فقد هدى الذكر أن يُبَاشِرَ الأنثى مباضعة بما ركز فيهما من قوى الميل والشهوة ...... إلخ ، فذلك واحد به مثال لعام قد استغرق وجوه الحكمة في هداية التكوين ، فلا يخصِّصُ المثالُ العامَّ الذي له يُبَيِّنُ ، بل ثم من إطلاق العامل ، عامل الهداية ما يعم ، من وجه ، فيستغرق ما امتاز به الإنسان المكلَّف من خاصة النطق المبيِّن ، ومنه نطق بِهِ قَدْ نَزَلَ الشرع المحكم ، فتلك هداية تشريع أخص ، قد تناولت ما تقدم من معنى يجاوز الأمر والنهي في الحكم ، والإثبات والنفي في الخبر ، فقد تَنَاوَلَتْ رُوحًا أعم ، روحَ الفكرة والحركة ، وما يأطرها من الأخلاق والشمائل ، وما يحدها من الأحكام والشرائع ، ولا يكون ذلك إلا بِنُطْقٍ يَنْصَحُ به امتاز الإنسان من الحيوان الأعجم ، بل وبه امتازت الألسن في حكاية الشرائع التي تحكم ، وهو ما استوجب أولا مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ قد احتفى به العاقل وَازْدَرَاهُ الغافل ، أو هو المغرِض الذي رَامَ بَتَّ صِلَةٍ تَنْصَحُ بين الناظر في نصوص الوحي وما به تأويلها التأويل الناصح لا تحريفا يخالف بها عن البدائه مما ثبت لدى أهل اللسان وهم في الباب سلف يُقْتَفَى أَثَرُهُ إذ حصل لهم من عقل المعنى وشهود الوحي المنزل ، حصل لهم من ذلك ما صير لسانهم المعيارَ الحاكم في دَرَكِ مُرَادِ الرَّبِّ الشارعِ ، جل وعلا ، إن في خبر أو في حكم ، ومحل الشاهد منه ما كان أولا من خبرة ولطف في قوله : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، إذ كان من الدلالة ما يُجَاوِزُ الْعَلَمِيَّةِ التي تدل على المسمى في الخارج ، وهي مناط التَّرَادُفِ في الاسم المتكافئ ، فَثَمَّ الوصفية التي تدل على معان تَتَعَدَّدُ وإن قامت بذات واحدة في الخارج فهي مناط التغاير في الاسم المتكافئ ، لا تناقضا ، وإنما انفكت الجهة ، فكان من مادة لطف وأخرى من الخبرة ما حُدَّ في الباب حَدَّ "فعيل" من "فاعل" ، وإن كان اشتقاقهما من وصف يلزم ، فلا يصاغ منه مثال مبالغة ، فمادة اشتقاقه مما يتعدى ، وتحمله لضمير إلى المبتدإ يرجع ، تحمله أقوى من الوصف المشبه ، كما الوصف في الآي آنف الذكر : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وإن تحمله الوصف المشبه ، وتقديره ضمير غائب يرجع إلى المبتدإ "هو" ، والمرجع في كل واحد ، وهو المبتدأ فليس ثم احتمال تعدد إذ الموصوف بهما واحد ، وإن تعدد الوصف ، وذلك ما يرجح في الباب : تعدد الأخبار ، إذ المخبر عنه واحد ، فلا حاجة تلجئ أن يقدر لكل خبر مبتدأ من جنس الأول ، فالأول عن كُلٍّ يجزئ ، وهو جار على أصل في اللسان هو عدم الحذف ، فلا يصار إليه إلا ضرورة تقدر بالقدر ، ولا يكون ذلك إلا بدليل صارف عن الأصل ، وإلا فالقول بعدم الحذف أولى لا سيما إن لم يخل ذلك من تَكَلُّفٍ فِي الحدِّ ، كما يقال في هذا الموضع ، أَنْ يُقَدَّرَ للخبر الثاني "الخبير" ، يقدر له مبتدأ من جنس الأول فيؤول المعنى إلى : هو اللطيف هو الخبير ، فثم إطناب في المبنى قد يجريه صاحبه مجرى آخر في المعنى وبه يحتج في التقدير ، تقدير المحذوف زيادة في المنطوق ، ومن يَرَى ذلك من التَّكَلُّفِ فَهُوَ يَرُدُّ الأمر إلى أصل أول وهو عدم الحذف مع استقامة السياق دون تقدير لمحذوف ، فالمخبر عنه بهما واحد قد تقدم من ذكره ضمير الغائب "هُوَ" ، فليس ثم حاجة تلجئ إلى الحذف ، وهو ، كما تقدم ، خلاف الأصل ، فلا وجه هنا أيضا لمجاز الحذف ، بل المعنى يثبت ، بادي الرأي ، إطنابا بالوصف الذي يواطئ صدر الآية ، وما تقدم من علم يحيط بالسر والجهر كَافَّةً ، وهو مما به الثناء والحمد ، فالإثبات فيه أصل يطرد في باب الاسم والوصف والفعل والحكم من الإلهيات ، إذ كان منه : النفي المجمل تَنْزِيهًا وبه تخلية المحل من وصف النقص ، ثم الإطناب بالإثبات المفصل وبه التحلية بوصف الكمال بعد أول قد احترز بِتَخْلِيَةٍ مِنْ ضِدٍّ هو النقصان ، وهو ما حكي خبرا ولا يخلو من دلالات إنشاء تلازم أن يلتزم العبد توحيد الخلق والشرع بما يثبت من العلم المحيط الجامع ، وهو ما زاد فَجَاوَزَ ، فَثَمَّ لطف وخبرة قد تناولا ما دق من الخلق ، فذكرهما بعد العلم صدرَ الآية : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ، مما به الانتقال في الثناء والمدح من العلم الأعم إلى لطف وخبرة أخص ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى الإطناب بالخاص بعد العام إذ به زِيَادَةُ بَيَانٍ ، وله ، أيضا ، من التكليف أَنْ يُثْنِيَ العبد على الرب الحميد المجيد، تبارك و ، بما قد علم من وجوه الكمال المطلق مما به قد أتى الذكر المحكم فذلك باب توقيف لا يثبت إلا بمحكم من التنزيل ، فالعبد يتوقف فيه على ما الشرع له قد أوقف فلا يجاوِزُ في بابٍ من الغيب لَا يُنَالُ إلا من مشكاة الوحي ، وإن كان في المبدإ : الواجب الذي يدل عليه العقل والفطرة والحس ، فلا يخلو من إجمال يطلب من الدليل البيان ، وهو ما لا يستقل به العقل فلا ينفك يطلب من خارجٍ : رائدَ الوحيِ ، وهو ما قد عم فاستغرق الخبر والحكم ، الفرد والجمع ، فهو دين النبوات الجامع وهو في الباب المرجع الناصح بما كان من خبره الصادق وحكمه العادل .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #8  
قديم 01-05-2023, 08:12 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

والعلم المحيط ، كما تقدم ، قد اسْتَغْرَقَ التكوين والتشريع كافة ، ومن التكوين ما تَنَاوَلَ الميت من الأجرام والجبال وما عُدِنَ فيها من الكنز والمعدن ، فَتَنَاوَلَ الميت كما الحي من أعيانٍ تَتَفَاوَتُ فحياتها مما اختلف من نَبَاتِيَّةٍ دُنْيَا إلى حيوانية عُلْيَا ، والحيوانية في نَفْسِهَا تَتَفَاوَتُ ، وأكملها ، بداهة ، ما كان من حياة الإنسان العاقل المكلف الذي امتاز من الخلق كَافَّةً بما رُكِزَ فيه من قوة أخص بها التصور والحكم ، حكما يجاوز الاضطرار من حركة أحشاء ، أو آخر من اختيار الجبلة فلا يجاوز المطعم والمشرب والمنكح غَرِيزَةً ليس لها من العقل ما يَنْصَحُ ، فتلك خاصة الإنسان ذِي الْقَيْدِ الَّذِي به يميز الحسن من القبيح وإن في أفعال الجبلة الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جِنْسُ الحيوان كلُّه ، فتلك خاصة الإنسان إلا أن يخالف عن معيار الشرعة والفطرة فإذا به يَنْحَطُّ إلى دَرَكَةٍ دون الحيوان الأعجم ، وتلك مَذَمَّةُ الدهرِ كلِّه ، لو تدبر من له أدنى مسكة من فهم ، وإن لم يكن رائدُه في النَّظَرِ الوحيَ ، فكيف إن كان من الوحي رائد ينصح فهو يستنقذ العقل من هذا المأزق ، وَيَرْقَى به إلى درجة التكليف ، فلا يكون هو والحيوان في دركة الغريزة المطلقة ، بل الحيوان في تلك الحال أنصح ، فَلَهُ من تَسْبِيحِ الاضطرارِ ما فات العاقل المكلَّف إذ حاد عن جادة الوحي المحكم ! .
فكان من علم التكوين آنف الذكر : عِلْمُ حياةٍ قد عم فاستغرق النبات والحيوان والإنسان ، بل وما دونها من الخلق : دَقَائِقَ ذات ماهية تَلْطُفُ ، وهي كخلق الأجنة في الأرحام ، فَقَدْ خَفِيَ في الماهية أولا ، فصدق فيه أنه من الغيب ، وإن النسبي لا المطلق ، فكان من بَحْثٍ وتجريبٍ قد تَلَا ما أبان عن وجوه من هذا الموجود الدقيق ذي الخلق اللطيف ، وهو مما أعجز بِنَظَرٍ أخص إذ تَنَاوَلَ من السَّنَنِ المحكَمِ في التقدير والإيجاد وما يكون من الحركة والاغتذاء ..... إلخ ، تَنَاوَلَ مِنْهَا مَا لَا يَسْتَقِيمُ في أَيِّ عَقْلٍ يَنْصَحُ أنها قد وُجِدَتْ بلا موجِد أول ، فلم يكن إلا الخبط والعبث الذي قَرَّبَ كُلَّ قولٍ ، ولو الفرض المحض ، وَأَبْعَدَ ما قد دَلَّ عليه صريح العقل من مقدِّمَةِ ضرورةٍ أولى في العلم ، أن لهذا الإبداع في الخلق مبدِعًا ، وأن لهذا الإحكام في السنن محكِمًا ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وحكمة بالغة مع آخر في الخارج يَتَأَوَّلُ من قدرةٍ نافذة ، بها خروج المعلوم المقدَّر من القوة إلى الفعل ، من الغيب إلى شهادة تصدق ، فهي ، أيضا ، لله ، جل وعلا ، وحده ، إذ لا يكون وجود تال يصدق إلا بكلم تكوينٍ يَنْفُذُ ، وهو العلة التامة التي تُرَدُّ إِلَيْهَا العلل كَافَّةً ، وذلك ما نَصَّ عليه الوحي في مواضع من التنزيل تَسْتَغْرِقُ ، فـ : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) ، فذكر الغيب في موضع كما تقدم من قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، ذلك مما يجري ، من وجه ، مجرَى الخاص الذي يُرَادُ به العام المستغرق ، فَكَانَ من طباق الإيجاب مِنْ غَيْبٍ وشهادةٍ ما نَصَّ على أَفْرَادِ العامِّ كافة فاستغرق أجزاء القسمة في الخارج ، فَلَئِنْ سُلِّمَ أن ذكر الغيب في موضعٍ : خاص يُرَادُ به عام يجاوز فهو يَتَنَاوَلُ أجزاء القسمة في الخارج كُلَّهَا ، فيكون من ذلك شاهد به يستأنس من يجوز المجاز في اللِّسَانِ والوحيِ ، فهو مجاز الخصوصية ، وَمَنْ يُنْكِرُ المجاز فَإِنَّهُ يَرَى من ذلك تَكَلُّفًا وتحكما لا يخفى ، لو طُرِدَ في نصوص اللسان والوحي ، لصار المجاز في الكلام هو الأصل ، وهو ما طرده بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ من أهل البيان ، ولو لَازِمًا لِمَا كان مِنْ صَنِيعٍ قد تَكَلَّفَ من وجوه المجاز ما تَكَلَّفَ ، ولو في مواضع حقيقة تَنْصَحُ فهي تدل على المعنى ، بادي الرأي ، دلالة ضرورة لدى كل مخاطَب عَلِمَ المجازَ أو جهل ، كما المثل يضرب بقول القائل : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا ، فذلك عنده من المجاز ! ، مجازِ الجزئية ، إذ لم يَضْرِبْ زَيْدٌ عَمْرًا بِبَدَنِهِ كلِّه ، وإنما ضربَه بِيَدِهِ ، وهي جزءٌ مِنْ كُلٍّ ، وكذا آخر في المفعول ، وهو عمرو المضروب ، فقد ضَرَبَ زَيْدٌ بَعْضَهُ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلِ الضَّرْبُ جَمِيعَ أجزاءِ بدنِه ، فكان من ذلك مجاز جزئية آخر ، أو الأمر قد يَجْرِي مجرى الإيجاز بالحذف على تقدير : ضَرَبَتْ يَدُ زيدٍ بَعْضَ بَدَنِ عمرٍو ، فحذفت اليد وأقيم المضاف إليه مقامها ، وحذف المضافان "بعض" و "بدن" ، وأقيم المضاف إليه الثاني مقامهما ، وذلك مما عَدَّه أهل البيان من أنواع المجاز ، فهو مجاز الحذف ، وذلك ، كما تقدم ، تَكَلُّفٌ لَوْ طُرِدَ في الكلام لصار كلُّه أو جُلُّه مَجَازًا ، ولصار المجاز هو الأصل والحقيقة هي الفرع .

وكذا يقال في الغيب والشهادة في المثال آنف الذكر ، فَثَمَّ من أجرى ذِكْرَ الغيب وحده ، مَنْ أجراه مجرى المجاز ، مجاز الخصوصية أو الجزئية ، إذ أطلق خاصا من الغيب وَأَرَادَ عَامًّا قد استغرق المعلوم كافة ، الغيب والشهادة ، أو هو قد أطلق جزءا من قسمة العقل : غَيْبًا وشهادة ، فأطلق جزءا وهو الغيب ، وَأَرَادَ كُلًّا قد تَنَاوَلَ أجزاءَ القسمة كَافَّةً ، أو هو ، من وجه ثالث ، مما يجري مجرى المجاز حذفا ، على تقدير : ولله غيب السماوات والأرض وشهادتُهما ، فَحَذَفَ الشهادة إذ دَلَّ المذكور من الغيب عليها دلالة الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ ، فهما ، كما تقدم ، قَسِيمَانِ لجنسٍ أعلى في الذهن يجرد ، وهو جنس العلم المطلق ، فكل أولئك من تَكَلُّفٍ لا يخفى ، فإن الغيب يدل على الشهادة من باب أولى ، فَمَنْ عَلِمَ الخفي فهو ، بداهة ، يَعْلَمُ الظاهر ، فلا يجد الناظر حاجة أَنْ يَتَكَلَّفَ من المجاز ما يدق ، وليس كل أحد يفقه منه الدلالة ، مع نص آخر في مواضع قد حسم الخلاف في الباب ، فنص على الغيب والشهادة كافة ، كما في قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) .
فالأول ، وهو الغيب ، مقدور ، والثاني ، وهو الشهادة ، موجود ، وثم من التأويل ما به المقدور المغيَّب يَصِيرُ تَالِيًا من الموجود الذي يشهد ، وهو ما انشعب ، كما تقدم ، فمنه ما يُشْهَدُ بالحسِّ الظاهرِ ، ومنه آخر قد استوجب بحثا يدق ، ومنه ثالث هو الموجود وإن لم يشهد ، فليس بالحس أو البحث يدرك ، وعدم وجدانه بالحس والبحث لا يَسْتَلْزِمُ عدم وجوده في نفس الأمر ، بل قد يوجد ولا يدركه الحس ، فليس علم التجريب إِلَّا مَسْلَكًا من جملةِ مسالك بها العلم يُنَالُ في الخارج ، فليس وحده ، بل وَلَيْسَ في الباب الأول ، إذ اقتصر على المشهودات ، بل لا يطيق منها بَعْضًا يَلْطُفُ ، فَمَا زَالَ منها ما لا يدرك ، والبحث في كلِّ جيلٍ يكشف من ذلك الغيب ما به ، لو تدبر الناظر ، الحجة تُقَامُ ، فتلك آيات الأنفس والآفاق ، وَهُوَ مَا صُدِّرَ في آي آخر قد أحكم ، أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، مَا صُدِّرَ بحرف في الدلالة يستقبل ، ولا يخلو من دلالة بها الفعل يُقَرَّبُ ، فَذَلِكَ مِمَّا اطَّرَدَ فِي كُلِّ جيلٍ ، فَبُذِلَ قَرِيبًا إذ به يستدل العاقل المسدَّد ، أَنَّ ثَمَّ أَوَّلًا يُرَدُّ إليه هذا الآي المحكم ، فلا بد من سَبَبٍ عنه الأسباب تَصْدُرُ ، وبه المحالُّ في الخارج تَنْصَحُ بما يكون من قوى فِيهَا تقبل آثار الأسباب ، فالحكمة ، كما تقدم في مواضع ، حِكْمَةٌ في تقدير أول : تقدير القوى الفاعلة في الأسباب ، والقوى القابلة في المحال ، وأخرى في إجراء الأسباب أَنْ تُبَاشِرَ من المحال مواضع تَقْبَلُ ، فيكون من الإعداد ما بِهِ كُلٌّ قَدْ هُيِّئَ ، ويكون من المباشرة ما به الْأَثَرُ يَظْهَرُ ، آي تكوين محكم إن في التقدير الأول ، وهو من الغيب المطلق ، كما تقدم من الآي المحكم : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فذلك آي محكم من التنزيل لا تنفك آثار منه تظهر في آخر قد أُحْكِمَ مِنَ التكوين ، فَيُرِيهِ الخالق ، جل وعلا ، الخلقَ وبه قيام الحجة بآي من الكون ، إِنِ المذكورَ في الكتاب والأثر ، فيكون من ذلك الإعجاز في الخبر ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما لم يُرَدْ فِي بَابِهِ أولا ، وإن كان له من الباب حظ ، لا سيما في جيل قد تأخر في الزمن والرتبة ! ، فقد فسدت منه الفطرة ، فانحط إلى دركةٍ تُضَاهِي الحيوانَ الأعجم بل وتسفل في مواضع ، فلا يُثْبِتُ من العلم إلا ما يُدْرِكُ بالحس الظاهر ، وَيَجْحَدُ ، في المقابل ، ما جاوز من الغيوب ، وإن ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا ما يُصَدِّقُ خَبَرَ الرسالةِ الأول ، من غيب نسبي لم يكن من المعلوم مبدأَ الأمر ، ثم كان من بحث وتجريب ما كشف ، وله المثل ، كما تقدم ، بما كان من خلق الأجنة في الأرحام ، فذلك مما فُصِّلَ في آيٍ من الوحي ولم يخل الأثر المسند إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لم يخل من إشارات في البابِ تلطف ، في تعيين نوع المولود وَشَبَهِهِ بِأَبٍ أو أُمٍّ ، وما يكون من عرق قديم يظهر كما وصف قد تَنَحَّى وَتَرَاجَعَ ، فلم يظهر في أجيال تعقب ، ثم ظهر بعدا في جيل تال ... إلخ ، فذلك من وجوه إعجاز أخص في الباب ، وإن لم يكن ذلك ، أيضا ، غاية أولى في الباب تُطْلَبُ ، فإنها مما يَرْفِدُ توحيدَ الخلق والتدبير ، وهو ، في نفسه ، ذريعة إلى أول ، وهو المراد من بعث الرسل عليهم السلام ، فذلك شطر تال من التوحيد ، توحيد الإله الحاكم بِمَا أَنْزَلَ من الوحي أن كان الرب الخالق بما قَدَّرَ من الكون ، فَرُبُوبِيَّةٌ هي أول من التوحيد يشهد لتال من الألوهية ، وبهما أول من شهادة تجزئ ، مع ثان من توحيد المرسَل الذي تَحَمَّلَ الوحيَ بَلَاغًا وَبَيَانًا يَنْصَحُ ، فَثَمَّ وقت حاجة بل وضرورة تُلْجِئُ أَنْ يُبِينَ للخلقِ عن أحكام دينهم المجزئ ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما يقول الأصوليون ، فتحمل الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة أَنْ كَانَ من رسالته ما استجمع خلاصة المتقدم فَصَدَّقَهُ ، وهيمن في بعض بما نسخ ورفع من أحكام العمل ، فِعْلًا أو تَرْكًا ، وزاد عليه من البيان والتفصيل ما أَجْزَأَ ، فَتَحَمَّلَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الآي والخبر ما أعجز ، إعجاز بَيَانٍ هو الأول ، مع تال من التشريع المحكم ، فَثَمَّ توحيد في العلم : توحيد الرب الخالق الذي قَدَّرَ في الغيب الأول ما كان من هذا الخلق المحكم ، فذلك من الغيب المطلق الذي اخْتُصَّ به الله ، جل وعلا ، وهو حكاية ما تَقَدَّمَ من الاختصاص في آي الوحي المحكم ، فـ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وثم توحيد في العمل بما يكون من التصديق والامتثال ، فالتصديق ، كما تقدم في مواضع ، عمل في الجنان يجاوز ما يكون أولا من العرفان المجرد ، فَثَمَّ من حركة الجنان ترجيحا يجاوز وبه الإقرار الجازم ، وما يكون من إذعان واستسلام وانقيادٍ يُصَدِّقُ ، فلا يكون إلا بطاعة تنصح التصديق بما يكون من حركة في الجنان مبدؤُها : حب وبغض ، وتأويلها أول يلطف في الوجدان : إِرَادَةَ الفعل وهي تأويل الحب ، وإرادة التَّرْكِ وهي تأويل البغض ، وثم من تال في الخارج : تَصْدِيقٌ بما يجري على اللِّسَانِ ويعمر الأركان فذلك التصديق جِنْسًا عَامًّا قد استغرق المحال والأحوال كافة ، فذلك توحيد يجزئ ، والمبدأ تصديق بغيب تقدم ، فتلك خاصة الإنسان ذي العقل الناصح الذي اخْتُصَّ بالتكليف النازل ، فَلَهُ من قوة في العقل ما به يؤمن بغيب ، وإن حَارَ في الحقيقة والكيف فلا يحيل الوجود ، بادي الرأي ، وهو مع ذلك ، يدرك المعنى ، ولو المجرد الذهني الأول ، فذلك مما يحصل في الوجدان مطلقا ، ولا يكون في الخارج إلا مقيدا ، والإيمان بالغيب قد تَنَاوَلَ الأول من المعنى المجرد في الذهن دون الثاني من الحقيقة والكيف ، فلا يخاطب العقل أن يدرك ماهية المغيَّب ، ولو النسبي الذي يدركه بَعْضٌ ، فغايته في علوم التجريب أَنْ يَكْشِفَ عما كان أولا من الغيب ، فلم يكن المعدوم ، وإنما هو الموجود الذي لم يَتَهَيَّأْ للناظر بَعْدُ سَبَبٌ به يُدْرِكُهُ في الشهادة فهي تُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المغيَّب ، وما وُجِدَ بَعْدًا في الخارج يصدق ، وإن لم يدركه العقل والحس بادي الرأي ، فلم يكن جهله آنذاك دليل العدم : عدم الوجود بل كان موجودا وإنما عُدِمَ وجدانُه بالحس الظاهر ثم كان ، فَدَلَّ على ما كان أولا من إيجاد محكم .

فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، فذلك مما لا يطيق ، وإنما خوطب بالتصديق ، تصديقٍ بِآيٍ وَخَبَرٍ قد أَثْبَتَتْ من المعنى ما يُطْلَقُ في الذهن دون خوض في ماهية أو كيف ، فكان الإثبات من وجه ، والتفويض من آخر ، وليس ثم تعارض ولا تناقض ، إذ الجهة ، كما تقدم في مواضع قد انْفَكَّتْ ، فَالْإِثْبَاتُ لما جُرِّدَ فِي الذهن مِنَ المعانِي وَلَهَا مرجع من اللسان يَتَنَاوَلُ المعجم المفرد وما يكون من اشتقاق أخص ، وَإِنْ تَنَاوَلَ بِنْيَةَ الكلمةِ المفردَةِ فلا يزيد عليها من خارج ، وَإِنَّمَا زِيَادَتُهُ تَتَنَاوَلُ الحد المفرد في النطق والكتب فلا تجاوزه إلى تَالٍ من سياق مركَّبٍ ، فَثَمَّ من مادتها ، مادة الْبِنْيَةِ المفردةِ ، ثم منها في المعجم ما أُطْلِقَ وهي المصدر الذي يُجَرَّدً من زوائد الحرف ذات الدلالة الأخص ، والمصدر ، على راجح لا يخلو من خلاف قَدْ تَنَاوَلَهُ أهل الشأن في مباحث النحو والصرف ، المصدرُ هو أصل المشتقات كَافَّةً ، وثم من بِنْيَةٍ تَتْبَعُ ما يكون من الاشتقاق الأخص في دلالته وإن تَنَاوَلَ من المصدر جِنْسًا هو الأعم ، فَزَادَ عليه من القيد ما خَصَّصَ ، كما زيادة في اسم "الخالق" ، وهو اسم الفاعل ، فَزِيدَ فيه ما اسْتَغْرَقَ مادة "خَلَقَ" لفظا ومعنى ، وزاد عليها معنى أخص وهو الدلالة على الفاعل الذي خلق ، وكذا الخلاف فِي مُثُلِ المبالغة ، فهي مِمَّا اسْتَغْرَقَ المادة نَفْسَهَا ، مادة "خَلَقَ" بالنظر في أصل الوضع الأول في المعجم ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مَمَّا عَمَّ وجوه المعنى : التقدير في الأزل وما يكون من إيجاد في الشهادة يصدق ، فهو يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، وما يكون من تصوير أخص لا على مثال تَقَدَّمَ وَلَوْ في آحادِ الجنس والنوع الواحد ، فكلُّ فَرْدٌ من أَفْرَادِهِ هو صورة لا نظير لها يُطَابِقُ وإن كان من أخرى ما يُشَابِهُ بل قد يماثل في صورة الظاهر كما التوأم بل لا ينفك كلٌّ يمتاز من الآخر ولو بدقيق لا يدرك بالحس المباشر ، وكذا الخلق يستغرق التدبير بما يَتَنَزَّلُ من أسباب تحفظ الأبدان والأنواع ، فذلك مما يصدق فيه ، أيضا ، أنه الخلق ، ولو بمعنى أعم يجاوز ، فهو المحدَث ، وإن كان منه جنس أعم ، فكل مخلوق محدَث ولا عكس ، إذ ثم من المحدَثات ما ليس بمخلوق فَنَوْعُهُ يَقْدُمُ ، كما كلمات التكوين والتشريع إذ تَتَنَزَّلُ ، فكان من مادة "خلق" عموم قد استغرق ، وكان من اسم "الْخَلَّاقِ" ما تَنَاوَلَهَا وزاد عليها مثال المبالغة الأخص بما اطرد في قياس اللسان في الباب ، باب المبالغة ، فَلَهُ من ميزانِ الصرف مُثُلٌ قِيَاسِيَّةٌ ، مِنْهَا "فَعَّال" ، وذلك معيار في الإثبات ، مع تَالٍ يَتَنَاوَلُ سياقا هو المركب بعد المعجم والاشتقاق الذي يقتصر على بِنْيَةِ اللفظ المفرد ، وثم رابع من بَيَانٍ وتداول أخص بما يحتف به من قرائن معتبرة ليست في الإلهيات إلا الخبر فهو من التوقيف الذي لا يثبت إلا بدليل خبري ، إن سياق الخبر الذي فيه قد ورد أو آخر من خارج يزيد في الدلالة ويرفد ، فكل أولئك جهة الإثبات في الإلهيات ، وثم أخرى من تَفْوِيضٍ لا يتناول المعاني فإنها مما يدرك بالعقل ، على التفصيل آنف الذكر ، بل التفويض فيها يَؤُولُ إلى التعطيل الباطل ، وإنما يتناول الحقائق في الخارج فذلك مما اسْتَأْثَرَ به الرب الخلاق العليم ، جل وعلا ، فَانْفَكَّتِ الجهة وزال التعارض وَاسْتَبَانَ وجه التكليف في خبر الإلهيات المحكم .

فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، بل التكليفُ في الباب أَنْ يُصَدِّقَ وَيُثْبِتَ من المعنى ما أُطْلِقَ في الذهن ، ولا يخاطب ، من وجه آخر ، أن يدرك ماهية غيوب سوى الإلهياتِ ، وإن كانت من الخلق المحدَث كما ماهية الملَك والجنِّ ، فذلك مما حَدَّهُ العقل مَبْدَأَ النظرِ : حَدَّ الجائز المحتمل ، فَلَا يُثْبِتُ وَلَا يَنْفِي ، إذ لا يكون ذلك إلا بمرجح من خارج العقل في باب لا يطيق فيه الإثبات أو النفي ، وإلا تَحَكَّمَ فِي الجائز أَنْ رَجَّحَ في الباب بلا مُرَجِّحٍ ، فلا يكون منه إثبات ولا نفي ، ولا يكون من تكليف بِتَصْدِيقٍ وإيمان بغيب ، لا يكون من ذلك شيء إلا أن يكون ثَمَّ مرجح معتبر من خارج ، وهو خبر الوحي النازل الذي رَجَّحَ بما صَدَقَ من الخبر المحكم ، فأخبر أن ثم خَلْقًا في الخارج لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهرِ ، وليس عدم وجدانه بالحس ، كما تقدم ، دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل قد يوجد ولا يطيق العقل دَرَكَهُ ، فلا يَغْتَرُّ بما رُكِزَ فِيهِ من قوى فَلَهَا في الإدراك حد ، ولو في غيوبٍ نِسْبِيَّةٍ يَتَفَاوَتُ فِيهَا الخلق ، فيكون من عقل زَيْدٍ بِمَا حَصَلَ من المعارف وبما نَصَحَ من المدارك وبما تَوَافَرَ من أدوات البحث والتجريب ، يكون من عقله ما يدرك بعض المسائل مما دق من غيوب نِسْبِيَّةٍ في مسائلِ تَجْرِيبٍ ، فيحصل له فيها يقين وجزم وَتَوَاتُرٌ ، وهو الأخص ، إذ لا يستوي فيه عامة الخلق بل قد اقتصر علمه على آحادٍ من أهل الشأن ، فذلك التواتر الخاص في جُمَلٍ من المسائل تجري مجرى العرف ، فمنه الخاص الذي لا يجاوز أهله ، كما اصطلاح الفنون والمعارف ، فَحَصَلَ لِبَعْضٍ من العلم بالغيب النسبي ما لم يحصل لآخر لم يعالج المسائل والأدلة ولم يَتَوَافَرْ له من أدوات البحث ما تَوَافَرَ للأول ، ولم يكن جهل الأخير حُجَّةً عَلَى الأول إذ قد عَلِمَ ، بل من قد عَلِمَ فهو حجة على من لم يعلم ، فمع العالم زيادة علم توجب الانتقال عن أصل أول يُسْتَصْحَبُ وهو العدم ، لا عدم المحال الذاتي الذي يمتنع ، وإنما عدم الجائز الذي لا يَثْبُتُ بَعْدًا في الخارج ثبوتا أخص يجاوز إلا أن يكون ثم من المرجح ما يثبت ، فمن مَعَهُ الدليل فإن دعواه في الجائز تُقْبَلُ ، فقد رَجَّحَ بمرجِّح ، فلم يكن ترجيحه تحكما في الباب ، وإنما رَفَدَ دعواه بِدَلِيلٍ يَنْصَحُ ، فتلك زيادة العلم التي بها قُبِلَ قَوْلُ العالم ، فَلَيْسَ من الجهل ، كما تَقَدَّمَ ، حجة تُعَارِضُ ، فمن علم فهو حجة على الجاهل ، وكذا الوحي ، من باب أولى ، فقد أخبر بما لا يُدْرِكُ العقل ماهيته في الخارج ، وإن كان ابتداء من الجائز ، فكان منه الغيب النسبي الذي أَبَانَ عنه البحث بَعْدًا ، فكان من ذلك إعجاز الخبر ، كما خلق الأجنة في الأرحام ، فليس عدم وجدانها دليلا على عدم الوجود ، وليس لمن جهل علم الأجنة أن يحتج على العالم المحقق في الباب ، وكذا يقال من باب أولى في الخلق الأول ، خلق آدمَ أَبِي البشرِ ، عليه السلام ، فإنه من الغيب المطلق إذ لم يشهده أحد فلم يكن من الدليل المرجِّح إلا خبر الوحي المصدَّق ، وكلٌّ ، الغيب المطلقُ وَقَسِيمُهُ النسبيُ ، كلٌّ مما اختص به الرَّبُّ الْعَلِيُّ ، ، فكان من ذلك الاختصاص آنف الذكر في قَوْلِهِ تَعَالَى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فَثَمَّ مِنَ الخلقِ الأوَّلِ ، خلق الأصل ، ثم منه غَيْبٌ هو المطلق فلا يدرك إلا بِخَبَرٍ يَصِحُّ ، فإذا صَحَّ فهو المذهب ، لا جرم كان اشتغال العاقل في الباب أَنْ يُحَرِّرَ أدلة النبوات ، فإذا صح الأصل ، أصل النبوات عامة ، وَصَحَّ من آخر هو دليل النبوة الخاتمة ، وهي أخص ، وكان من ثالث يُحَرِّرُ أعيانَ الأدلة ، فَمِنْهَا مُتَوَاتِرٌ يفيد علم الضرورة إذ استوى فيه الخلق كافة ، ومنها آحاد تطلب من القرينة ما يَنْصَحُ ، كما قد حَدَّ أهل الشأن خَبَرَ الآحاد فكان من شرطه ما رَجَّحَ ، وإن ظنا غالبا يرجح ، فهو يجزئ ، بادي الرأي ، في الاحتجاج ، إن فِي العلمِ أو في العملِ ، فَيُسْتَصْحَبُ ظاهرا يَرْجُحُ حَتَّى يكون ثَمَّ قرينة تصرف بما يظهر من علة خَفِيَّةٍ تَقْدَحُ ، وإلا فالظاهر أصل أول لا يعدل عنه الناظر إلا أن تكون ثم قرينة معتبرة من خارج ، لا الهوى والذوق الذي يضطرب في القبول والرَّدِّ ، فما حَسَّنَ منه زيد فعمرو يُقَبِّحُ ، وليس ثم حكم من خارج يفصل في الخصومة إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز ، لا سيما في غيوب لا تَنَالُهَا المدارك ، وكذا في الخبر الصحيح ، محل الشاهد ، فما استوفى شروط الصحة فقد حصل له منها ظاهر يرجح ، فلا يعدل عنه الناظر المحقق إلا أن يكون ثم من قرينة الشذوذ أو العلة ما لَطُفَ فلا يدركه أهل الشأن ، وهو في الباب النص فلا يثبت بالاحتمال المجرد أن خالف المتن عن هوى الناظر أو ذوقه ، فذلك ، كما تقدم ، مما اضطرب فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى معيارٍ محكَم وهو ما اخْتُصَّ به أهل الشأن مِمَّنْ تَنَاوَلَ الاصطلاح بالبحث والدرس فحصل له ، أيضا ، تَوَاتُرٌ في الباب وهو الأخص ، فلا يستقل به كلُّ أحدٍ ، وعندهم من القرائن في الباب ما نصح ، بل قد يكون مِنْهَا ما يزيد في دلالة الصحيح من خبر الآحاد ، فَيُجَاوِزُ به الظنَّ إلى العلمِ ، وإن النظرِيَّ بما احتف به من القرائن ، فحصل من آحادِ الأدلة في النبوات : المتواتر الذي يفيد اليقين ، وآحاد تفيد الظَّنَّ الرَّاجِحَ ، وثالث منها يفيد العلم بما احتف بها من القرائن ، مع أول يُثْبِتُ الأصلَ ، أصل النبوات الأعم ، وآخر من نبوة الختم الذي استجمعت خُلَاصَةَ مَا تَقَدَّمَ فصارت هي الحجة الباقية أَبَدًا ، وَذَلِكَ ما تُرَدُّ إليه خصومات العقول فِيمَا خَفِيَ من الغيوب ، وَفِيمَا أَشْكَلَ على الفهوم من حكومات الأمر والنهي ، وإن معقولةَ المعنى ، فالعقل فيها يَنْصَحُ في حد الماهية وَدَرَكٍ معتبر لوجوه الحسن والقبح ، وَلَكِنَّهَا لا تجزئ في حصول الحكم المستيقِنِ لما يطرأ من الْعَوَارِضِ ، وما يَعْتَرِي النفوس من الأهواء والحظوظ ، فلا يسلم منها عقل ، وَإِنْ تَحَرَّى مَا تَحَرَّى من العدل ، مع ما كان أولا من الجهل ، فالعلم مكتسب بعد أن لم يكن ، فَوَجَبَ رَدُّ هذه العقول إلى مرجع قد نصح في العلوم ، فكان منه الأول : علم الغيب المطلق الذي اختص به الرب المهيمن ، جل وعلا ، فأخبر بما لا يدرك بالعقل والحس ، وإن لم يمتنع فليس بالمحال في الأصل ، بل هو المحَارُ في الماهية والحد حتى يكون ثم دليل من خارج يُثْبِتُ ، وهو ما اقْتَصَرَ على المعنى المجرد في الذهن ، لا الحقيقة في الخارج ، ولو أدركها المخاطب ما كان ثم تكليف فقد صار الغيب شهادة فَبِمَ امتازَ المؤمن من الكافر ؟! ، وبما امتاز عقل الإنسان الكامل بما رُكِزَ فِيهِ من قُوَّةِ إيمانٍ بالغيب ، فَلَئِنْ جَحَدَ الغيب ولم يكن منه تصديق إلا بما يدرك بالحس ، ولم يكن ثم دليل علم معتبر إلا التجريب والبحث المجرد ، فلئن كانت تلك حاله فَبِمَ امْتَازَ من الحيوان الأعجم ؟! ، لَا جَرَمَ كَانَ من خَاصَّتِهِ التي بها قد فُضِّلَ ، من وجه ، وَكُلِّفَ من آخر ، كان من تلك الخاصة ما يطلب الخبر المجاوز من خارج ، وَإِنْ فِي غيبٍ محدَث ، كَمَا تَقَدَّمَ من أعيان في الخارج لا تُدْرَكُ بالحسِّ ، كما جنس الملَك والجن ، وكذا يقال ، من باب أولى ، في خبر الخلق الأول ، إذ لم يشهده أحد من البشر ، ولم يكن ثم ما يضاهي في الخارج ، فهو ماض قَدِ انْقَضَى ، وإن كان من مثال الأجنة ما تقدم فهو شاهد بآي من الأنفس هو المحكَم ، أَنْ صَدَّقَ علمُ التجريبِ المحدَثُ ما كان أولا من الوحي المنزَل الذي أخبر في الباب ، باب الأجنة ، أخبر بغيب نسبي لِمَّا يَأْتِ تأويله زمنَ التنزل ثم قد جاء بَعْدًا فَصَدَّقَ ما كان من خَبَرِ الوحي المحكَمِ ، فكان من ذلك دليل خبر يُعْجِزُ ، وكان من الكشف ما به صدقت الشهادةُ الغيبَ الأول من وحي الكتاب المنزل ، فكان من ذلك آي في الأنفس تقدمت أن : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، وهو ما قد عَمَّ فاستغرق بدلالة العامل "سَنُرِيهِمْ" إذ أُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِ الجمع المستتر إيجابا وتقديره في الكلام يَعْدِلُ المنفصلَ "نَحْنُ" ، ضمير الجمع المتكلم ، ، وذلك ما تناول بعدا الآيات في "آيَاتِنَا" ، فَإِضَافَتُهَا إلى الضمير "نَا" ، وهي الدالة ، أيضا ، على الجمع المتكلِّم ، إضافتها تحكي التعريف في المبنى مع عموم في المعنى ، وهو ما يجري ، من وجه آخر ، مجرى التعظيم في سياق الاعتبار بآي محكمات في التكوين ، ولا يخلو من دلالة تكثير لا لآحاد في الخارج تستقل ، قدماء تَكْثُرُ ، فَذَلِكَ شِرْكٌ يَقْبُحُ ، وهو ، مع ذلك ، مما لا يتصور ، أن يكون ثم من المعاني التي تقوم بالذات ، وهي كثيرة ، أن يكون منها أحاد وشخوص في الخارج لَهَا من الوجود ما اسْتَقَلَّ ، بل هِيَ المعاني المطلقة التي لا وجود لها في الخارج يثبت إلا أن تقوم بذات بها توصف ، فتقوم بها قيام المعنى بالذات أو الوصف بالموصوف ، فالمطلقات بشرط الإطلاق مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، تلك مما لا يكون إلا في الذهن مجردا فلا توجد في الخارج مشخَّصَةً كما زعم من زعم من الفلاسفة ، وقد كان من ذلك ذريعة تعطيل لمن التزم ذلك أَنْ يَنْفِيَ الصفات ، ولو المجرداتِ الذهنية ، فقد حصل لها وجود في الخارج يستقل بلازم هذ القول بل وَبِنَصِّهِ ! ، وهو ما استوجب الاحتراز بالنفي ، ولو احترازا مما لا يلزم الاحتراز منه بل ولا يُتَصَوَّرُ ! ، فكان من ذلك الاحتراز نفيُ قدماءَ قد اسْتَقَلَّتْ في الخارج ، من قديم هو الحياة وآخر هو القدرة وثالث هو الحكمة ...... إلخ ، قدماء في الأزل تكثر ، وذلك الشرك الذي يُبْطِلُ العلمَ والعملَ ! ، إذ كان ثم ذوات قد تمثلت بها الصفات في الخارج شخوصا ذات استقلال يثبت ، فهي ، على هذا القول ، تشاطر الذات وصف القدَمِ ، وهي لها تباين إذ قد قامت بِنَفْسِهَا فحصل من ذلك آحاد في الخارج تكثر ، وذلك ، كما تقدم ، شرك يقبح ، ولكنه مما لا يلزم ، إذ الصفات ، وهي المعاني ، الصفات مما لا يكون من تجريده ما يجاوز الذهن ، فليس ثم في الخارج إلا ذات تقوم بها أوصاف ومعان ، إن ذاتية أو فعلية ، إن معنوية أو خبرية ، وبهما ، أي الذات والوصف الذي يقوم بها ، بهما حصول المسمَّى لاسم يَتَنَاوَلُهُمَا جميعا : الذات وما يقوم بها من الصفات ، وذلك مما اسْتُصْحِبَ في الإلهيات : كَثْرَةَ وصفٍ يحمد في محل المدح جلالا وجمال ، وبهما الكمال المطلق يَثْبُتُ توحيدا إذ ليس منه محل شركة في الخارج ، فليس الكمال المطلق إلا لواحد ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، وَإِنْ ثَبَتَ منه لمخلوقٍ شيء ، فالاشتراك في هذه الحال لا يجاوز المعاني المجردة في الذهن دون آخر في الحقائق في الخارج ، وهو ما اصْطُلِحَ لدى أهل الدلالات أنه الاشتراك المعنوي الذي لا يجاوز التجريد الذهني ، فلا وجود له في الخارج يَسْتَقِلُّ ، وليس يمنع تصوره المجرد وقوع شركة فِيهِ في الخارج تُقَيَّدُ بِذَوَاتٍ تقوم بها المعاني المشتركة في الذهن ، وليس يَلْزَمُ من ذلك تماثل أو تشابه في الحقائق في الخارج كما التزم كلٌّ : المشبهة وقد طردوا القول فكان التشبيه في مسائل الباب كَافَّةً فَعَبَدُوا صَنَمًا قد جَسَّدوه في الخارج ، وكان من ذلك ، لو تدبر الناظر ، ما استغرق الحس والمعنى ، فَثَمَّ من صنم المعنى ، وقد عمت به البلوى في جيل قد تأخر ، ثم منه ما به تمثيل الوحي وهو من أفعال الخالق ، جل وعلا ، فهو من علمه وحكمه وكلامه ، كلامِ التشريع الحاكم الذي يقاسم في الجنس الأعلى ، جنس الكلام المجرد ، الذي يُقَاسِمُ آخرَ يضاهي وهو كلام التكوين النافذ ، وبهما ، كما تقدم في مواضع ، بهما توحيد ينصح إذ لأجزاء القسمة قد استغرق ، توحيد ربوبية بكلمات التكوين النافذة ، وتوحيد ألوهية بكلمات التشريع الحاكمة .

فَثَمَّ من صنم المعنى ، وقد عمت به البلوى في جيل قد تأخر ، ثم منه ما به تمثيل الوحي وهو من أفعال الخالق ، جل وعلا ، فكان من ذلك ما تمثيله بحكومات الخلق المحدثة ، فكان القياس مع الفارق في باب التحسين والتقبيح وما يكون بعدا من حكومات التشريع أَنْ قِيسَ الوحي المنزَل على العقل المحدَث ، وذلك من التشبيه المذموم وهو مما يخالف عن صحائح المنقول وصرائح المعقول كافة ، إذ تقضي كلها ضرورةً بالقدر الفارق بين المخلوق والخالق جل وعلا .
والمعطِّلَةُ ، من وجه آخر ، قد قالوا بضد فَنَفَوا ذلك الاشتراك في الحقائق في الخارج ، وهو نفي يصح ، وإن لم يلزم بادي الرأي من إثبات الصفات فهو كما تقدم مما لا يجاوز المطلقات في الأذهان ، وكان من تال ما غلوا به في النفي تَنْزِيهًا حتى جاوزوا الحد تَعْطِيلًا ، فلا يلزم أيهما ، تمثيلا أو تعطيلا ، بل لكلِّ موجود في الخارج من الحقيقة والكيف ما لذاته يواطئ إِنْ في الكمال أو في النقص ، فيكون لله ، جل وعلا ، وهو الكامل في ذاته الكمال المطلق ، يكون له من الصفات ما يواطئ ، ويكون للمخلوق المحدَث وذاته مما لا يَسْلَمُ من النقص بالنظر في أصل الوجود والخلقة ، يكون له من الوصف ما يواطئها ، فكان من ذلك ما به الحقائق في الخارج تَتَمَايَزُ ، وذلك ما يَنْفِي التمثيل ، مع قدر في الذهن هو المشترك إذ يَتَنَاوَلُ أصول المعاني المجردة ، وذلك ما يَنْفِي التعطيل في الباب ، فجادة الحق فيه : إثبات بلا تمثيل وَتَنْزِيهٌ بلا تعطيل ، قد استجمع الحق من كل طرفٍ وسلك جادة وسطى هي الحق بين طرفين كلا قصدهما يُذَمُّ ، إن جفاءً في النفي أو غلوا في الإثبات فهو على ضِدٍّ .

فكان من عموم "آيَاتِنَا" ما استغرق الآفاق والأنفس ، وكان من دلالة الجمع في الضمير ، ضمير الجمع المتكلم "نَا" في "آيَاتِنَا" ، كان من دلالته ما يُكَثِّرُ الوصف في سياق المدح ، على التفصيل آنف الذكر ، إذ الآيات مما كان وجوده بالقدرة وكان من سَنَنِهِ ما يحكي آخر من العلم والحكمة والرحمة ..... إلخ ، فكان من الظرف آفاق وأنفس في قوله : (فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ، وهو مما دل على تقدير أول قد أحاط بما كان من عِلْمِ الغيب الذي استغرق الكلمات كافة ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، إسناد العامل المتعدي في قوله : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) ، حَسُنَ إسناده إل ضمير الجمع حكاية التعظيم ، من وجه ، وآخر قد دل على وصف يُكَثِّرُ ، وهو ، مع ذلك ، بذات واحدة يقوم ، فلا يكون في الأزل إلا واجب الوجود الأول بما قام بذاته من وصف الكمال المطلق وآحاده مما يكثر وهو في الثناء والمدح أظهر ، فإن الآي المحكمة دليل الحكمة البالغة في تقدير أول ، فذلك من غيب السماوات والأرض آنف الذكر إذ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وهي ، أيضا ، دليل قدرة بالغة ، وَتَأْوِيلُهَا ما يكون من ترجيح بالمشيئة وعنها كلمات التكوين تَنْفُذُ ، وَتَأْوِيلُهَا في الخارج يُصَدِّقُ ما كان من المقدور الأول في علم الغيب المحيط .

فكان من العامل ما تَنَاوَلَ الاستقبال ، وتلك دلالة السين في "سَنُريِهِمْ" ، فذلك دَلِيلُ نُبُوَّةٍ قد اتصل إسناده بما يكون من أَدِلَّةِ رُبُوبِيَّةٍ تَنْصَحُ ، وبها آخر هو مَدْلُولُ تَلَازُمٍ في العقل يَثْبُتُ ، وهو ما كان من ألوهية تحكم ، فمن أدلة الربوبية اختراعا وعناية ، آفاقية أو نفسانية ، من ذلك ما يشهد وله غاية من التكليف تَنْصَحُ قَدْ أَبَانَ عَنْهَا تَالٍ يجري ، من وجه ، مجرى التخصيص بالغاية في قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، وهو من التخصيص المتصل ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، كما في قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، فغاية الإفطار أكلا وشربا ونكاحا هو ما يكون من تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وذلك ميقات الإمساك الواجب ، فكان من غَايَةِ الآياتِ الآفاقية والنفسانية أن يكون ثم تَبَيُّنٌ للحق المحكم ، وهو ، من آخر ، مما يجري مجرى الجواب عَنْ سُؤَالٍ قَدْ دَلَّ عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من ظهور الآي الآفاقية والنفسانية في كل جيل يحدث ؟ ، فكان الجواب : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، فدلالة "حتى" ، من هذا الوجه ، دلالة تعليل كما هي على تأويل تقدم : دلالة غاية بها التخصيص المتصل في السياق الواحد ، فَصَحَّ لها من ذلك وجهان ، وليس ثم تعارض إذ الجهة قد انفكت ، وبه يستأنس ، ولو من وجه ، من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، أن يدل واحد من المبنى على أكثر من معنى فَيُثْرِي السياق وَيَزِيدَ فيه من الدلالة ما يَنْصَحُ ، فكان من غايةٍ لما تقدم من آي الآفاق والأنفس ، كان من غايته أَنْ يَتَبَيَّنَ لهم أنه الحق ، وهو العلة لما تقدم من الآي المنظور ، فيعلم الناظر حقا في الآي المسطور ، إذ مرجع الضمير في "أَنَّهُ" يتناول الوحي عامة ، والكتاب الخاتم خاصة ، وهو مرجع التشريع الذي يَرْفِدُ في الدلالة أَوَّلًا من آي التكوين ، وبهما توحيد يَنْصَحُ ، إن في التصور أو في الحكم ، إن في العلم بآي الربوبية تصديقا ، فذلك توحيد الخالق ، جل وعلا ، بأفعاله ، أو في العمل بآي الشريع امتثالا ، فذلك توحيد الله ، جل وعلا ، الإله المعبود بحق ، توحيده بأفعال المكلَّف ، وَهُوَ يَتَأَوَّلُ ما نَزَلَ من الحق ، من عند الحق ، جل وعلا ، فَيَتَأَوَّلُ الحقَّ المنزَّل أَنْ يُصَدِّقَ بأخبارِه ويمتثل أحكامَه ، فهو "الحق" الذي استجمع وجوه المعنى ، فدلالة "أل" من هذا الوجه : دلالةُ بَيَانٍ لِجِنْسِ المدخولِ من مادة الحق وهو الثابت في نفس الأمر ، وهي ، من آخر ، دلالة عموم يستغرق وجوه المعنى وآحاده ، فهو الحق المطلق ، وهو الحق الذي استجمع الْأَدِلَّةَ كَافَّةً ، الخبرية والإنشائية ، الآي المتواترة وما رَفَدَ بَعْدًا من سُنَّةٍ تُشَاطِرُهَا قِسْمَةَ الوحيِ في الخارج فَهُمَا قَسِيمَانِ لجنسٍ أعلى يُجَرِّدُهُ الذهن ، وهو ما أُطْلِقَ مِنْ مَادَّةِ الوحيِ ، وكلُّ أولئك مما رفد دلالة "أل" في "الحق" إذ تحكي العهد الأخص ، فهو الكتاب الخاتم خاصة ، أو الوحي الخاتم عامة إذ استغرق الآي والأخبار ، وهو ما حَسُنَ لأجلِه التوكيد بالناسخ ، مع تال من اسمية الجملة ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : هو الحق ، والاسمية ، كما يقول أهل الشأن ، دليل الثبوت والاستمرار ، مع آخر مِنْ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الجزأينِ : "هُوَ" و : "الْحَقُّ" ، وذلك ، أيضا ، آكد في تقرير المعنى حصرا وتوكيدا ، ومن ثم كان الاستفهام الذي يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، وفيه يقال ما اطرد في مقال النحاة أَنْ قُدِّمَ الاستفهام على العاطف استثناء في الباب ، إذ الهمز أم الباب ، باب الاستفهام ، فَلَهُ من ذلك خَاصَّةٌ أَنْ يُصَدَّرَ مطلقا فَيَتَقَدَّمَ ، ولو العاطف الذي محله أبدا صَدْرُ الجملة المعطوفة ، فَقُدِّمَ الاستفهامُ استثناءً لا يقدح في الأصل ، صدارة العاطف مطلقا ، وثم من أجرى الباب مجرى الأصل ، فالعاطف أبدا يَتَقَدَّمُ المعطوف ، فَقَدَّرَ لأجل ذلك ما وَجَبَ مِنَ الحذفِ ، جملةً تواطئ السياق توبيخا ، على تَقْدِيرٍ مِنْ قَبِيلِ : أغفلوا عن دلالة الربوبية في الآفاق والأنفس ولم يكفهم من تلك الأدلة أَنَّ رَبَّكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ شهيدٍ ، فكان من ذلك إيجاز حذف ، وهو خلاف الأصل ، فَمَنْ رَجَّحَهُ فَقَدْ نَظَرَ من وجهين : أَنْ يطردَ الأصلَ في تَصَدُّرِ العاطفِ مُطْلَقًا ، وَأَنْ يَرْفِدَ السياقَ بمعنى يزيد بما كان من اللفظ المقدر ، فَزِيَادَتُهُ في المبنى تحكي أخرى في المعنى ، كَمَا قَرَّرَ أهلُ الشأن من أرباب المعاني والبيان ، مَعَ نَصٍّ عَلَى مناطِ تَوْبِيخٍ أَخَصَّ ، وبه شاهد ، من وجه ، لمن يُجَوِّزُ المجازَ في اللسان والوحي ، فذلك من مجاز الحذف ، ومن يُنْكِرُ فَإِمَّا أن يَنْفِيَ الحذف ، بادي الرأي ، بما تقدم من خاصة الهمزِ ، همزِ الاستفهامِ ، أَنْ يَتَصَدَّرَ مُطْلَقًا ، وَلَوْ تَقَدَّمَ العاطِفَ ، ويرجح قوله أن آل إلى الأصل الأعم ، وهو عدم الحذف ، وإن خالف عن آخر وهو تَقَدُّمُ العاطفِ مطلقا ، أو هو يجري ذلك مجرى المشتهر في اللسان والوحي ، وإن كان ثم إيجاز بالحذف ، وَمَا اشْتُهِرَ في الاستعمال فَهُوَ حقيقة في العرف أَخَصُّ تَقْضِي في أخرى أَعَمَّ وهي أصل الوضع الأول من حقيقة اللسان المطلق .
فكان من الاستفهام ، كما تقدم ، ما أنكر وَوَبَّخَ ، ولا يخلو من آخر يُثْبِتُ مَا وُبِّخَ المخاطبون أن جحدوه ، وهو شهادة الله ، جل وعلا ، على كل شيء ، شهادةَ إحاطةٍ تَسْتَغْرِقُ ، وتلك دلالة " كُلِّ شَيْءٍ" ، فذلك العموم المحفوظ الذي يَتَنَاوَلُ آحاده كافة ، ولو فَرْضَ المحالِ فالعلم يَتَنَاوَلُهُ ، وَلَوْ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وثم من اسم "شَهِيد" : وصف مشبه إذ اشتق من عامل لازم لا يتعدى ، وهو "شَهِدَ" ، فيقال : شهد على كذا ، أو شهد بكذا ، فَحُدَّ حَدَّ مِثَالِ المبالغة من "فَعِيل" ، وهو ما أكسبه معنى من المبالغة يؤكد ، فكان من القياس في المعنى ، وَلَوْ بَعْضًا ، أَنْ كَانَ ثَمَّ من العلة اشتراك في المبنى "فَعِيل" ، فاكتسب الْوَصْفُ المشبَّه "شهيد" معنى المبالغة ، وَلَوْ بَعْضًا ، وإن لم يكن فيه نَصًّ ا، إذ شرط النص في باب المبالغة أَنْ يُشْتَقَّ من عاملٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد يُقَالُ ، من وجه آخر ، إِنَّ "شَهِدَ" مما يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، فَيُقَالُ : شَهِدَ الأمرَ إذا حضره ، فكذا الرب ، جل وعلا ، فهو حاضر بعلمه المحيط المستغرق ، فيكون ذلك من المبالغة قياسا إذ اشتق من عاملٍ مُتَعَدٍّ ، فهو "فعيل" من "فاعل" ، "شهيد" من "شاهد" ، وذلك مَا حَسُنَ فِي إثباتِه جُمَلُ تَوْكِيدٍ تَنْصَحُ من ناسخ يؤكد وهو النَّصُّ في الباب "إِنَّ" ، واسمية الجملة على تأويل : هو على كلِّ شيءٍ شهيد ، مع تقديم الظرف " كُلِّ شَيْءٍ" ، وحقه التأخير مَئِنَّةَ الحصرِ والتوكيدِ ، كما يقول أهل الشأن ، فكان من ذلك سياق قد استجمع دلالة التوحيد في الخبر والحكم ، وذلك تكليف الخلق عامة ، وهو ما يرفد دلالة الضمير ، ضمير الغائب في "سَنُرِيهِمْ" ، إذ يجاوز جيل الوحي إلى كل آتٍ بَعْدًا ، وإن لم يوجد حَالَ التَّنَزُّلِ ، فَلَهُ من الآي في جيله ما يعجز بما قد بَلَغَ من آلة تجريب وبحث بها يظهر له من غيب الإتقان والإحكام ما لم يظهر لجيل تقدم ، فإسناد الآي ، كما تقدم ، قد اتصل فاستغرق الأجيال كافة ، آيةَ تَدَبُّرٍ في الكون ، ولها غاية من آخر ، تدبرا لآي الكتب المنزل ، فكان من ذلك مناط تعليل آخر قد نص عليه الوحي ، فَكِتَابُهُ : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فكان من حذف المسند إليه وهو المبتدأ ، كان من ذلك ما اطرد في لسان العرب على تقدير : هو كتاب ، فيكون الباب من تعدد الأخبار ، فكان أول وهو "كِتَابٌ" ، وذلك الخبر المفرد ، وكان تَالٍ وهو الجملة "أَنْزَلْنَاهُ" ، وهي مما أُسْنِدَ عامله إلى ضمير الجمع ، حكاية ما تقدم في موضع ، من تعظيم وثناء بِوَصْفِ كمالٍ يَكْثُرُ ، وإن كان الموصوف واحدا في الخارج لا يَتَعَدَّدُ ، فكان من تعدد الأخبار ما يبين ، وهو جار على المعهود في لسان العرب أَنْ يَتَقَدَّمَ الخبر المفرد إذا اجتمع مع آخر هو الجملة ، فهو كتاب قد جُمِعَتْ حروفُه وكلماتُه وجملُه ، أخبارُه وأحكامُه ، قَدْ أَنْزَلَهُ الله ، جل وعلا ، إِنْزَالَ الجملةِ ، من وجه ، وَتَنْزِيلَ الْبَيَانِ آحَادًا ، من آخر ، وثم من العلة ما نص عليه السياق ، فكان من لام التعليل ، وإن احتملت غيرا ، فالسياق في هذا الموضع قد رَفَدَ مِنْهَا دلالة التعليل ، وهو ما يُصَيِّرُهَا ، على قول ، ظاهرا في الدلالة ، دلالة التعليل لا نَصًّا ، إِذِ احْتَمَلَ غَيْرًا ، وإن كان من قرينة السياق ما رَفَدَ التعليل ، فذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى التأويل ، أو الترجيح في مشترك هو الجائز الذي يحتمل وجوها في الخارج ، فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج ، فكان من السياق ما رَجَّحَ التعليل ، فَرَفَدَهُ بِقَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ قد صَيَّرَتْهُ النَّصَّ في الباب ، وإن احتمل غَيْرًا في سياق آخر ، فكان من العلة : أَنْ يَتَدَبَّرَ الخلقُ آي التنزيل المحكم ، وهو ما قد عَمَّ فتلك دلالة الإضافة في "آياته" ، وهو ، بادي الرأي ، يحكي جمع القلة ، الجمع المزيد بالألف والتاء ، فكان من الإضافة إلى الضمير في "آيَاتِهِ" ما عَرَّفَ لفظه وَزَادَهُ العموم المستغرِقَ في مَعْنَاهُ ، وذلك تكثير يجاوز أصل الوضع من جمع القلة ، فآي الوحي ، بداهة ، تَكْثُرُ ، وهو ما جاوز الكتاب المتواتر ، وإن كان منه ظاهر يتبادر ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استغرق نصوص الوحي كافة ، آيا وَخَبَرًا ، وثم تال بعد التدبر وهو ما يكون من التذكر : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، وعطفه ، من هذا الوجه ، عطف المسبَّب على سببه ، فإن التدبر سبب في حصول ذكرى تَنْفَعُ ، وهو ما اخْتُصَّ به أولو الألباب تعريضا بمن غفل فلم يتذكر فلا لُبَّ لَهُ يَنْفَعُ ، وإن كان منه ما به التكليف يثبت ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ به إلا إقامة الحجة على نفسه ، إِذًا لكان عدمه والحال تلك أفضل ! ، ولا يخلو السياق الخبري من آخر إنشائي يأمر أن يتدبر الناظر الآي ويتذكر ، كما في آي أول قد تقدم أن : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فذلك ما استوجب إنشاء أخص ، أن تدبروا آي التكوين ، واستدلوا بها على حق من التشريع ، وله من التكليف أخص ، أن آمنوا بالله ، جل وعلا ، وما أَنْزَلَ من الكتب ، وهو ما كان النص عليه في موضع آخر قد استغرق ، فـ : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، وذلك من تكليف يَعُمُّ إذ تَوَجَّهَ إلى اعتقادٍ يستوي فيه الخلق كَافَّةً ، فكان من ذلك تكليف يُوجِبُ ، فالإيمان أصل الأصول الأول ، وهو يضاهي التوحيد ، أَوَّلَ واجبٍ على العبيد ، أن يكون الإيمان بالله ، جل وعلا ، وحده ، وهو مَا نَصَّ عليه السياق ، وإن لم يقصر ، فَاسْتُفِيدَ ذلك ضرورة إذ يُقَدِّرُ الذهنُ عَهْدًا أخص ، وهو الإيمان المعتبر فلا يكون إلا أن يُفْرَدَ به الرب المهيمن ، جل وعلا ، على تقدير : آمنوا بالله ، جل وعلا ، وحده ، فلا تشركوا به أحدا في إيمان أخص ، الإيمان بالرب الخالق والإله الحاكم ، فكان من اسم "الله" ، جل وعلا ، الاسم الجامع لأوصاف الكمال المطلق ، وهو المستغرق لوصف الرب الخالق ، وذلك توحيد الله ، جل وعلا ، بأفعاله ، ووصف الإله الحاكم ، وذلك توحيد آخر في النسك والعبادة ، وهو ما لا يكون إلا بشريعة تحكم ، ومن يُبَلِّغُهَا هو الملَك فالرسول الأرضي الذي خوطب بها أولا خطاب المواجهة ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم تال يَتَنَاوَلُ الجمعَ المكلَّف كلَّه ، وذلك خطاب الاستغراق الذي يعم بوضع أول ، وإن كان ثم استثناء فهو خلاف الأصل المطرد ، كما في خطاب يخصص العموم بصورة السبب ، فيكون واقعة العين فلا عموم لها يجاوز ، وذلك خروج عن الأصل الأول ، أصل العموم المستغرق في خطاب الشرع المنزل ، فلا يكون التخصيص تحكما بلا دليل يُرَجِّحُ فهو نَصٌّ يقصر العام الذي ورد عليه الخبر على عين السبب ، أو آخر أعم ، وإن خُصَّ من وجه آخر ، وهو ما اصْطُلِحَ أنه تخصيص العام بصورة السبب التي تَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا في الخارج ، وكل أولئك مما لا يثبت إلا بدليل أخص ، إذ يخالف عن الأصل ، وإلا تَذَرَّعَ كُلُّ أحدٍ رَامَ تَعْطِيلَ حكمٍ بِعَيْنِهِ ، بل وحكومات الوحي عامة ! ، أنها وقائع أعيان تَتَنَاوَلُ آحادا ، أو أُخْرَى تَتَنَاوَلُ أجيالًا ، فَقَالَ مَنْ قَالَ بالتاريخانية أن النبوات لا تجاوز أجيالها التي انْقَرَضَتْ ، فكانت حكوماتها المنسوخة بَعْدًا ، إذ لكلِّ جيلٍ من العرف ما يخصص ، وذلك مما له أصل في الوحي يَنْصَحُ ، بل هو من أصول التشريع كما تناولها أهل الشأن ، فالعرف محكم ، ولكنه ، من وجه آخر ، المقيد ، فلا يخالف عن الوحي المنزل إذ له من ذلك وصف المرجع المجاوز من خارج العقول والأعراف ، ولو كانت مما اصطلح أنه المجموع ، فالعقل الجمعي ، من وجه ، عُرْفٌ عام يستغرق ، وهو معيار يجاوز الأفراد ، من وجه ، إِنْ صَحَّ أنه مما ينضبط فقد قَدَحَ بعضٌ من أهل الاجتماع في حصوله وضبطه إذ غَلَا فيه من أثبت ، فأهدر لأجله الفرد ، وصار الجمع هو من يصنع ، ولا امتياز لفرد بملكات بها يجاوز إطار الجمع فَهُوَ يُؤَثِّرُ فيه وَيُغَيِّرُ بما حاز من أسباب سواء أكانت وهبية كما النبوة فقد قام بها أفراد أَثَّرُوا في أممهم ، وإن كَذَّبُوا فَقَدْ أقاموا عليهم الحجة ، وما كان ذلك يحدث لو كان العقل الجمعي هو الصانع الذي يقهر الأفراد على طريقة من العادات والأعراف ، فسواء أكانت الأسباب التي بها امتاز الفرد ، سواء أكانت وَهْبِيَّةً أم كَسْبِيَّةً كما العلوم والمعارف التي يكتسبها فَرْدٌ فيكون من أَثَرِهِ في الجمع ما يظهر ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما قد يستغرق المفسِد كما المصلِح ، فقد خرج عن ناموس الجمع وأتاهم بما لا يعرف من طريقة تُذَمُّ ، إن في الأخلاق أو في السياسة ..... إلخ ، لا جرم كان المعيار الحاكم الذي يَنْضَبِطُ هو ما يجاوز الفرد والجمع كافة ، فيحكم فِي كُلٍّ الحكمَ السالم من الهوى والحظ .
والشاهد أَنَّ بَعْضًا قَدْ قَدَحَ في حصولِ العقل الجمعي وَضَبْطِهِ ، وإن كان مما يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُثُلٍ من التحكم بها الاستبداد يمكر بالجمع إذ يَأْطِرُ العرفَ أَنْ يُوَاطِئَ رَغَائِبَ الملإ الغالب الذي استجمع أسباب الجاه والمال والسلطان ، مع نفوذ الأمر في سائر الجمع ، فَيَأْطِرُهُ على مثالٍ يَصْنَعُ العرفَ والعادةَ بما يكون مِنْ قَهْرِ السلطان ، وإن لم يَضْرِبْ وَيُعَنِّفْ ، فلا زال يوسوس بما يقول ويكتب ، وبما يصنع من مُثُلِ الاقتداءِ إِمَّا به أو بِغَيْرٍ يُصْنَعُ عَلَى عين الملإ ، فيكون من ذلك ما يُبَدِّلُ العادة والعرف المباح إلى آخر يحرم ، فمن فساده ما يعظم ، وإن حَجَبَتْهُ سكرةً تحدث ، فيكون من مكر القول ما يُبَدِّلُ العرف ، على مكث ، فيكون من عقل الجمع أو العرف العام ما لا يسلم من المؤثِّر من خارج ، فَلَيْسَ منه ما يُعْصَمُ ، وإن جَاوَزَ عقل الفرد ، فَثَمَّ معيارُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، ولو أعم ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الجمعَ بما استقر من العرف ، فلا ينفك يَتَعَدَّدُ ، وهو ما يضطرب إذ كلُّ جَمْعٍ يَرَى عُرْفَهُ هو الأنصح ، وَلَهُ يَتَعَصَّبُ ، إِنْ صحيحًا أو فاسدًا ، فلا يُسَلِّمُ جَمْعٌ لآخر ، كما لا يُسَلِّمُ فَرْدٌ لآخر ، فكلٌّ قَدِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ ، فَلَا يحسم النِّزَاعَ إلا مَرْجِعٌ من خارج يجاوز الأفرادَ والجماعاتِ كَافَّةً ، فَثَمَّ من المرجع الأعلى ما يأطر العرف ، وإن كان المعتبر في مواضع ، لا في تشريع أول يَتَنَاوَلُ مناط الحكم ، وإنما في تحقيقه في الخارج ، كما آخر في مباحات قد سكت عنها الوحي ، أو مصالح قد أَرْسَلَهَا ، فكل أولئك مما سَاغَ الخلاف فيه ما لم يخالف عن منصوص صحيح صريح ، فلا يكون من العرف ما يَنْقُضُ أصلَ الحكمِ ، وَبِهِ قد جَاوَزَ الوحيُ جِيلَهُ في التكليف والاستدلال ، فَلَهُ من الإسناد ما اتَّصَلَ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى جيلٍ قد انقرض ، ويكون من تَالٍ ما يسعه الخروج عن حكم الوحي الذي وسع بالمنطوق والمفهوم كافة ، بالنص وبالقياس ، فَثَمَّ من العرف ما صار الحاكم لا المحكوم ، فخالف عن المنقول والمعقول كافة ، إذ العرف المحدَث لا يسلم من الهوى والحظ ، على التفصيل آنف الذكر ، فلا ينفك يطلب المرجع من خارج إذ يأطر غَيْرَ المعصومِ على جادة عصمة قد جاوزت العقل بما كان من الوحي ، وهو ما لا يُسَلِّمُ به ، بداهةً ، إلا من يُؤْمِنُ بالنبوات نَوْعًا ثم آحَادًا ، فجداله في الباب أيسر ، إذ آمن بالجنس المطلق ، وهو أول ما يُطْلَبُ في النبوات ، وبعده يكون آخر يَتَنَاوَلُ الآحاد ، وإذا طَرَدَ الناظر الأمر وَتَجَرَّدَ من الهوى والحظ لم يجد في النبوات السابقة ما يخالف عن أخرى هي الخاتمة ، وهو ما استوجب القيد ، قَيْدَ الدينِ لا الشَّرْعِ ، فالدين واحد ، وإن تعددت الشرائع ، والسابق قد شهد لِلَاحِقٍ ، وكان من حكمة الرب الشارع ، جل وعلا ، أَنْ أَبْقَى ذكر الخاتمة في نُسَخٍ من الكتب الأولى ، فكان من البشارة ما لم تَنَلْهُ يَدُ التَّبْدِيلِ والتحريف ، وإن نَالَتْ من أخرى قد بَدَّلَ الكهان فِيهَا وَحَرَّفُوا ، وهو مما يُلْجِئُ المخالفَ في الجدال فإن جحد البشارة أَنَّ نُسْخَتَهَا هي المحرَّفة ، فتلك دعوى لا دليل عليها ، فمن له بأصل محكم من الكتاب الأول قد سَلِمَ من التبديل والتحريف ، فَيُبِينَ عن تحريف في نُسْخَةِ الخصم الذي يحتج بما دُوِّنَ فيها من البشارة ، فلم يكن من ذلك إلا دعوى مجردة فيجزئ في رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي دون أَنْ يَتَكَلَّفَ صاحبها دليلا أخص ، بل له من الدعوى ضد ، فنسخة الأول هي ما بُدِّلَ فيه وَحُرِّفَ أَنْ تُحْذَفَ الْبِشَارَةُ ، وكلٌّ لا يملك دليلا أخص إلا الدعوى المجردة ، فكان من ذلك تَكَافُؤٌ فَتَسَاقُطٌ ، وهو ما استوجب آخر يجاوز كِلَيْهِمَا من خارج ، فَيَقْضِي فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ من الدَّعْوَى ، إذ كلٌّ لَا يَسْلَمُ من النَّقْدِ ، وإن احْتُجَّ بالبشارة من باب : وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها ، فإن لم تُرْضَ شهادته ، فلازم ذلك أفدح ، فلا ينفك المنكِر يُقِرُّ أن التبديل والتحريف قد وقع في نسخ من كتابه ، وإن لم يُقِرَّ بها ، فما بِيَدِهِ ليس بِأَسْلَمَ من القدح مما زعم فيه التحريف والدس ، إذ ليس ثم ، كما تقدم ، معيار من خارج يَسْلَمُ ، وهو ما شهد به علماء الكتاب الأول أن التبديل والتحريف قَدْ وَقَعَ وأن ليس ثم أصل واحد ، ولو بإسنادِ آحاد يَسْلَمُ ، لا أصل يُحْتَكَمُ إليه مما كتب بين يدي النبوة الأولى بِلِسَانِهَا الذي به قد نَطَقَتْ ، في مقابل ما أَقَرَّ به كل ذِي عقل ينصح ، وله مع ذلك إنصاف يحمد ، أن الكتاب الخاتم وحده هو السالم من دعوى القدح بالزيادةِ أو بِالنَّقْصِ ، بالتبديل أو بالتحريف ، وإن لم يُؤْمِنْ أنه الكتاب المنزل ، فَقَدْ ثَبَتَ عنده إسنادُه المتواتر إلى مخرج واحد ، وهو صاحب الدعوى الخاتمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في مسلكِ نَوْعٍ يتناول ما جاء به النبي من الوصايا والأحكام أَهِيَ مما علم حُسْنُهُ ضرورةً أم قد جاء بما يقبح وهو ما امتنع بداهة في دعوى النبي الصادق لا المتَنَبِّئِ الكذاب ، فالنبي الصادق لا يأمر بالشرك أو الفحش ، ولا يأتي بما هو كهانة أو سحر ، وثم آخر بَعْدَ نَوْعٍ ما جاء به ، فهو يَتَنَاوَلُ شخصه وما كان من سيرته في الخلق أكان من أهل العفة والصدق أم هو على ضد من الفحش والكذب وما نَسَبُهُ في قومه وهل ثم ذريعة أَنْ يَدَّعِيَ هذه الدعوى ليطلب بها ملك آباءٍ قد فاته ، كما سؤالات هرقل لأبي سفيان وهي نص في الباب قد نطق به عالم بالكتاب الأول وإن حال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإيمان ملك زَائِلٌ قد ضَنَّ به فأورده المهالك ، فكل أولئك من دَلَائِلَ لِلنُّبُوَّةِ تَعُتَبَرُ مع ما قد اشتهر من بشارة لدى علماء الكتاب الأول ، ومنهم من استفتح به واستنصر ، فَلَمَّا بُعِثَ جَحَدَ رسالته حسدا ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في عين الدعوى الخاتمة بعد أول في الجنس ، جنس النبوات الأعم ، فَتَنَاوَلَ الناظر المدقِّقُ منها حاجة الناس إلى النبوات إذ تخبر بما لا يطيق العقل منفردا ، وإن أَثْبَتَ مُجْمَلًا أَنَّ ثم ضرورة في الوجدان تُلْجِئُ بما تقدم من الإيمان بالله ، جل وعلا ، خالقا هو الأول ، بما استوجبه دليل الاختراع والإتقان ، وآخر يمنع التسلسل في المؤثِّرِينَ أزلا ، فَوَجَبَ رَدُّ الكونِ ، وهو ، مَبْدَأَ النظرِ في قسمة الوجود في الخارج ، هو الجائز فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يطلب واجِبَ الوجودِ الأول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وليس إلى سبب من خارج يفتقر ، بل الأسباب كافة إليه تَفْتَقِرُ أَنْ يُوجَدَ عَلَى هَيْئَةٍ مخصوصةٍ مُحْكَمَةٍ ، وَأَنْ تُرْكَزَ فِيهِ قُوَّةُ تَأْثِيرٍ تَنْصَحُ ، وَيُهَيَّأَ لَهَا من المحل ما يقبل ، فكل أولئك مما يثبته العقل ضرورة ، وإن لم يَرِدْ به وحيٌ مُنَزَّلٌ ، فذلك من رِكْزٍ أول في الوجدان ، مع آخر من فطرةِ تَوْحِيدٍ تحكي الافتقار إلى الخالق الغني القدير الذي يدعوه الخلق كافة في شِدَّةٍ تَطْرَأُ ، فعندها تَزُولُ الحجب المانعة ، فَيُقِرُّ كلٌّ بأولَّ وحده من يغيث المضطر ، فكل أولئك من أدلة من المنقول والمفطور والمحسوس من أدلة في الخارج إن في الآفاق أو في الأنفس ، فوجودها المجرَّد أولا يدل على موجِد أول ، كما تقدم من امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، ووجودها تاليا على هذا المثال المحكَمِ ، ذلك مما يشهد بالإتقان أنها لم تكن خبطا ، فلا يكون من الخبط والعبث هذا الخلق المحكم ، ولو فُتِحَ باب الإحصاء تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فقد أَثْبَتَ البحث أن ذلك يعدل في الاحتمال الرياضي الرقم صفر ! ، فهو عدم يمتنع ، وهو المحال بالعقل والحساب ! ، فكل أولئك من المجمل الذي يفتقر إلى ما يشهد ، فكان من خبر الوحي ما صَدَّقَ فِطْرَةَ النَّفْسِ الأولى ، وكان من تَالٍ مَا فَصَّلَ المجمَلَ ، وكان من ثالث قد قَوَّمَ ما اعْوَجَّ من فطرةٍ أولى تشهد بالتوحيد ضرورة ، وكذا في إيمان بِيَوْمٍ آخر ، إذ العدل مما قد أَجْمَعَ العقلاءُ كَافَّةً أَنَّهُ الْحَسَنُ الْحُسْنَ المطلقَ ، وهو ما لا يُسْتَوْفَى جميعا في هذه الدار ، ولو في الظاهر ، وإلا فَثَمَّ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ثم من العقوبات القدرية ما يَنَالُ من الظالم إذا لم تَنَلْ منه العقوبات الشرعية ! ، ففي الظاهر سلامة وفي الباطن خسران وضنك هو أول ، والساعة تَالٍ وهي أَدْهَى وَأَمَرُّ ، فالإيمان باليوم الآخر ضرورة أخرى قد رُكِزَتْ في العقل والفطرة ، فجاء الوحي لها ينصح بما يُفَصِّلُ من أحوال تغيب فلا يدركها العقل بالتفصيل ، وإن أدرك منها المجمل ، كما الإلهيات في باب الإيمان بالله ، وَكَمَا رُكِزَ في الوجدان ضرورةً من حُسْنِ العدلٍ ، وهو ما به ينصح الحكم ، وذلك محل إجماع آخر لا ينفك يجمل ، فهو يطلب مرجعا من خارج يفصل ، فلا يحسمه عقل الفرد ولا الجمع ، على التفصيل آنف الذكر ، فكل أولئك من أدلة النبوات الأعم ، وثم أخص قد نالت منه الخاتمة حظا أوفر ، إذ كان منها ختام محكم ، فلا نبوة تَلِي بَعْدًا ، فكان من أدلتها الأخص : إعجازٌ في البيان ، وآخر في جُمَلٍ من أخبار الغيب ، وثالث من إعجاز في دقائق من الكون ، ورابع في دقائق من الشرع ...... إلخ ، فَكُلُّهَا تشهد للخاتمة ، وهي الجامعة المصدقة ، من وجه ، المهيمنة مَرْجِعًا من خارج الكتب الأولى يحكم ، إذ قد سَلِمَ من التبديل والتحريف المحدَث .

فكان من ذلك نبوة تجاوز جيل التَّنْزِيلِ الأول ، فَثَمَّ من عموم لفظها ومعناها ما يجاوز ، وإن خوطب بها واحد في مقامِ التبليغ والتبيين الأول ، فخطابه ، من هذا الوجه ، عام يستغرق ، وَإِنِ انْفَرَدَ مِنْهُ بمعنى أخص ، معنى الصدارة إن فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، أو في التبليغ والتبيين ، فهو أول من خوطب أن يقول ، والجمع له يَسْمَعُ ، وذلك ما قد عَمَّ فَجَاوَزَهُ إِذِ استغرق الجمع المكلَّف كله ، فَثَمَّ قَرِينَةُ العمومِ في خطاب التكليف ، وهو مَا جَاوَزَ الجمع المخاطَب مواجهةً ، وَإِنْ حَصَلَ له ، أيضا ، معنى أخص إذ له من شهود التنزيل ما به عَقْلُ مَعْنًى أخص ، فليس من شهد كمن سمع ، وليس من حضر كمن غاب ، وَثَمَّ من عَدَالَةٍ مَا ثَبَتَ ضرورةً بالنقل والعقل ، فَإِنَّ إثبات النبوة يستلزم تعديلهم إذ قد شهدت لهم بِذَا ضرورة تلجئ وإن لم يكن ثم عصمة في القول والعمل تُرْجَى فذلك مقام النبوة حصرا وقد قُبِضَتْ بِقَبْضِ النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَهُمْ من الهنات ما لا يَسْلَمُ منه بشر ، وإنما نَظَرُ المنصِف نَظَرُ الغالب الذي لا يَنْهَضُ له نادر ، فلا حكم له يَرُدُّ مَا غَلَبَ من الحال مع سلامة من الكذب في النقل وذلك معيار الصحة في بلاغ الوحي وبيانه ، ولهم مع ذلك سلامة اللسان المفصِح ، وبه قد نَزَلَ الكتاب المحكم ، فَسَلِمَ لسانهم من اللحن والعجمة ، فَهُمْ أَعْلَمُ الناس بِمُرَادِ الشِّرْعَةِ التي نَزَلَتْ بهذا اللسان العربي المبين ، لا كَمَا حَالُ جيلٍ قد تلا ، إذ فَسَدَ منه النطق الباطن في تصور المعاني ، والظاهر في لفظ المباني ، فكان من الفَسَادِ ما قَد نَالَ التَّصَوُّرَ والحكمَ جَمِيعًا ، تَصَوُّرَ المعاني وَحُكْمًا في الخارج يُصَدِّقُ ، وهو حكم النطق الذي يُظْهِرُ المعاني في مَبَانٍ مفردة ، وما رُكِبَّ مِنْهَا جُمَلًا ذات دلالات أخص إذ يكون من قَيْدِ السياق ما يزيد في المعنى بما اطَّرَدَ من قانون النحو المركب ، مع تلاؤم بين الصوت والمدلول ، فكان من مادة المعجم ما اسْتُقْرِئَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ أول ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جعله الخصم غَرَضًا أن يَنَالَهُ من شبهاته ما يقدح في النقل والتحقيق ، فَلَيْسَ إلا المنتحلَ الدخيلَ ، فلا أصل له يَنْصَحُ كما زعم رُوَاتُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا ، فإذا نال من ذلك غرضا ، انتقل إلى تال يَتَنَاوَلُ الشريعة لفظا ومعنى ، فإن فاته منها النقل المتواتر ، فهو يقدح في الآحاد مع ما حُرِّرَ من اصطلاح يُدَقِّقُ في التصحيح والتضعيف وما يكتنف كُلًّا من قَرَائِنَ قَدْ تَنَاوَلَهَا أهلُ الشأنِ ما لم يَتَنَاوَلْهَا آخر ، وَإِنْ في كتابِ تشريعٍ جامع ، كما الكتاب الأول فإنه لم يحظ من ذلك بشيء ، ولو نَقْلَ الأخبار الآحادية في الشريعة الخاتمة ، مع توافر الهمم أَنْ تَجْمَعَ وَتُحَرِّرَ الكتاب الأول ، فلم يكن من أهله حِفْظٌ بل كان منهم بَعْضٌ من كهنة قد عَظُمَتْ جنايتهم إذ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا ، وكتبوا من الكتاب ما كتبوا بخطهم ، فكان من ذلك ما يواطئ أهواءهم وحظوظهم ، وذلك مما استوجب دَفْعَ الصائل باسم الدين في جيل اصطلح بعدا أنه التنوير ، فكان من ذَلِكَ غال في آخر لم يسلم من الغرض ، وَإِنِ اتَّخَذَ حجة ناصحة من البحث والنظر ، فَنَقَدَ ما بُدِّلَ من الكتاب الأول ، وإن لم يكن ثم زيادة إنصاف أن يطلب الكتاب الحق ، بل قد رَامَ نَقْضَ الأصل ، أصلِ الوحي مَرْجِعًا من خارج يجاوز ، فَرَدَّ الأمر إلى العقل ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، ولا يَسْلَمَانِ ، كما تقدم في مواضع ، لا يَسْلَمَانِ من الهوى والحظ ، وهو ما انْتَقَلَ به القوم من غُلُوٍّ إلى آخر ! ، ولم يكن من الدليل ما يَنْصَحُ إلا المقال المحدَث ، إن مقالَ كَهَنَةِ دين مبدَّل ، أو قبيل آخر لم يسلم من وصف الكاهن تحكما واستبدادا وإن باسم التجريب والبحث إذ تحكم في الحد ، فَحَدَّ العلم أنه ما يدرك بالحس حصرا ، وذلك من التحكُّمِ بما لا يخفى ، وقانون النظر له يَنْقُضُ ، إذ عدم الوجدان بالحس الظاهر لا يستلزم عدم الوجود في الخارج ، بل قد يُوجَدُ الشيء ، ولو غَيْبًا نسبيا في هذا العالم المحدَث ، ولا يدركه بعض فهو عنده غيب ، وليس ذلك ، بداهة ، دليلَ العدم في نفس الأمر ، بل هو الموجود وإن لم يدركه القاصر إذ عجزت منه المدارك ، فليس عجزه دليلا على قادر ، وليس جهله دليلا على عالم ، بل القادر والعالم حجة على ضد من عاجز وجاهل ، فمن علم فهو حجة على من لم يعلم ، وثم من الغيب ما لا يدرك إلا بالخبر ، فكان النظر في أدلته أولى من معارضتها بالحس ، فالجهة تَنْفَكُّ ، إذ الغيب يجاوز مدارك الحس ، وإن لم يجاوز أخرى في العقل ، ولو التجويز العقلي المحض ، فهو أول في الاستدلال إذ لا يأتِي الوحي بالمحال الذاتي ، وإنما يأتي بمحار هو في المبدإِ : الجائزُ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، إن في إيجاده أو في إثباته ، فيكون من خبر الغيب ما يرجح في العقل إذ قد تَوَقَّفَ ، بادي الرأي ، فلم يُثْبِتْ وَلَمْ يَنْفِ ، فالباب من الجائز المحتمل ، فهو يطلب من خَارِجٍ الدليلَ المرجِّحَ ، وليس في الغيب المطلق دليل ينصح إلا ما كان من خبر وحي يَنْزِلُ ، فهو مرجع من خارج يجاوز العقل والحس كافة ، فينصح لهما بإثبات أخص ، فكان من تحكم جِيلٍ يَنْهَضُ ، وإن تَدَرَّجَ في الدعوى ، فلم يَفْجَإِ الكهنة بخصومة تُعْلَنُ ، بل قد رَامَ من نصهم ما يشهد ، ولو لدعوى تُبْطِلُ أصلَ الوحي إذ تَنْزِلُ به من السماء إلى الأرض ، فيصير الإنسان فيها هو المركز ، ويصير العقل ، كما يقول أهل الشأن ، هو المعيار الحاكم فَإِلَيْهِ قد رُدَّتِ السلطة المطلقة ، ولو فيما جاوز مداركه ، فصار يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ في الوصف ، وصار بَعْدًا يحكم بإباحة أو بِحَظْرٍ مع ما تَقَدَّمَ مرارا من نَقْصٍ فِيهِ جِبِلَّةً ، وما يعتريه من الأهواء والأذواق ، إن الفرد أو المجموع ، فكان من ذلك ما اتخذ من العقل اسم شريعة ودين ، فهو دين الطبيعة الذي يَقْتَصِرُ على كُلِّيَّاتِ العقل المجملة ، وهو الدين الذي يواطئ حاجة الإنسان فهي باعث التشريع وليس للوحي إلا أن يستجيب ! ، وهو ما ضاهى مقالا في جِيلٍ قد تَأَخَّرَ قد نال من الوحي الخاتم أَنْ صَيَّرَهُ مثالا يستجيب لحاجة الجمع بما يكون من سبب عليه تَنْزِلُ الآي ، أو آخر عليه يَرِدُ الخبر ، فالإنسان هو الأصل والوحي فَرْعٌ لَهُ يَتْبَعُ ، فما كان وَحْيٌ إلا أن يحقق مآرب الخلق ، لا أن يكون محل ابتلاء بالخبر والحكم تأولا لغاية الخلق التي جاء بها الوحي نصا يجزم ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وهو ما اصطلح في مذاهب محدثة أنه المنفعة التي لم تجاوز في الحد ما يدرك بالحس ، فصنع الإنسانُ الدينَ الذي يواطئ حاجته ، كما صنعت الحكمة الأولى آلهتها ، وكان من تجسد اللاهوت في الناسوت ، وَصَلْبِهِ أَنْ يُحَرِّرَ الخلق فيدخلوا الملكوت ، كان من ذلك ما صَيَّرَ الإنسان هو الغاية والمقصد ، فليس الوحي إلا تاريخ الإنسان ، وقد اشْتُقَّ له من ذلك نسبةٌ إلى الإنسان ، فذلك وحي لم ينزل من السماء ، وإنما من الأرض قد خرج ! وإن تَذَرَّعَ بوحي ذي نسبة إلى السماء ، صَحَّتْ أو بَطَلَتْ ، فلا يكون من ذلك إلا انتقاء وتحكم ، أن يتخذ من الوحي دليلا يشهد لما انتحل من مذهب محدَث ، فالوحي يحكي احتياج الخلق إلى مثال كامل في الوصف ، فَعَجْزُ الإنسان قد ألجأه أن يصنع في الخارج إلها يَقْدِرُ ، فالوحي من العقل قد صدر ، وليس إلا حكاية حاجة تلجئ ، والإنسان ، كما تقدم ، هو المركز ، وهو ما قد رَفَدَ بَعْدًا جُمَلًا من المقالات قد غَلَتْ في الإنسان ، فَصَيَّرَتْهُ الخارق الذي لا يعجز ، فليس يحتاج إلا رب يقدر ، وذلك ما رام في مواضع ، ولو هدنة حتى يكون من القوة ما يدفع ، ما رام الاقتباس من الوحي أدلة تشهد لما أَحْدَثَ من القول ، صَحَّ النَّقْلُ أو بَطَلَ ، فإذا صح فهو يحتال بالتأويل الباطن إذ أَحْدَثَ من أدوات التفسير الباطل ما يخرج بالألفاظ عن دلالاتها الأولى ، ولا يَسْلَمُ له ذلك ، وَثَمَّ إرث من لسان ينصح ، فهو عمدة في الاستدلال المحكم الذي يقضي على تأويلاته بالبطلان إذ تخالف الضروري من اللسان : معجما واشتقاقا ونحوا وبيانا ، فهو يخالف عن معيار اللسان كَافَّةً ، فلا يسلم له هذا المذهب من التأويل الباطن إلا أن يقدح في الإرث المحكم من النَّثْرِ والنَّظْمِ ، وتلك ذريعة تأويل لا منتهى له ، وهو عوض من آخر قد جبن عنه ، ولو حتى حين ! ، أن يقدح في نقل الوحي ، وإن جعل من ذلك غَرَضًا يُقَرِّبُ أن يقدح في صحة آحاد تُنْقَلُ ، فإن لم يطق ، فهو يقدح في أصل الاحتجاج بها ، ولو في بعض من المسائل ، تفريقا بين متماثلات ، فيحتج بها في باب ويردها في آخر ، وتلك ذريعة لمن تلا أن يَرُدَّهَا في الأبواب كافة ، وأن يَزِيدَ فيقدح في أصل الصحة ، بل ويقدح بَعْدًا في أصل الوحي المنزل ، فلا يطلب مرجعا من خارج يفصل ، إذ لم يكن ثم من ذلك إلا دين الكهنة وليس من دين النبوة في شيء إلا الاشتراك في الاسم وأصل النسبة مع بَلْوَى قد عمت بما قارف الكهنة من جناية في الحس وفي المعنى ، فَنَفَرَ الخلق من الحق ، وكان من ضِدٍّ في الفعل ما قد غَلَا أن صار العقل والحس وحدهما مرجعَ التصور والحكم ، فما خالف عنهما فهو العدم ، وتلك حكاية خصومة قد استحكمت في عصر وسيط يظلم بين دين كهنة محدث ، وآخر من عقل يروم التحرر ، فَغَلَا في ضِدٍّ من الفعل ، وكان ما كان من خصومة الوحي أن لم يكن منه مثال في الخارج إلا دين الكهنة الباطل ، فضاهى به من ضاهى وحي النبوة الخاتم قِيَاسًا مع الفارق ، أي فارق ، فاقترح من الخصومة ما لم يكن في النبوة الخاتمة إذ لا يعارض منقولُها الصحيح المعقولَ الصريح ، بل هو له يَرْفِدُ رَائِدَ صدقٍ يَنْصَحُ ، وهو ، أبدا ، يتصدر ، فذلك الرائد الذي لا يكذب أهله ، وهو ما تَوَجَّهَ به الخطاب ، على التفصيل آنف الذكر ، فمنه خطاب أول قد توجه إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كما في قوله : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وثم من آخر يجاوز بما كان من قرينة عموم في خطاب التكليف المنزل ، وهو المستصحب قَرِينَةً أخص في عرف شريعة هو المشتهر فهو الحاكم في أول من عُرْفِ لسانٍ يُطْلَقُ ، فالمفرد من خطابه بأصل وضعه لا يجاوز المخاطَب المواجه ، فَثَمَّ من قرينة العموم في خطاب الوحي ما جاوز ، إِنْ قِيَاسًا على الأول ، أو قد يجري ، من وجه ، مجرى خَطَابٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فهو يُجَرِّدُ من المخاطب شخصا في الاعتبار يجاوز فَيَصْدُقُ في أَيِّ أحدٍ في الخارج ، وهو ، كما تقدم ، خطاب العموم المستغرق جمعَ التكليف كُلَّهُ ، كما قال أهل الشأن في خطاب أبي الطيب واحدا غير معين في بيت قد اشتهر فصار كالمثل السائر :
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمرَّدَاً .

فلا يخاطب واحدا مُعَيَّنًا في الخارج وإنما يصدق ضمير الخطاب "أَنْتَ" في كل مخاطب حضر أو غاب ، وجد أو عُدِمَ فَلَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ .

وقد يقال إن الجمعَ قَدْ دَخَلَ ، بادي الرأي ، فَزِيدَ في حد المفرد من الحد ، سواء أقيل إنه خاصٌّ يُرَادُ به عام ، أو العموم قد ثَبَتَ ، مَبْدَأَ النَّظَرِ ، وقد شهد له آخر في مواضع من التنزيل ، كما في قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، وذلك ما قد عَمَّ ، من آخر ، فَثَمَّ من التغليب ما استغرق الجمع المؤنث كما آخر هو المذكر ، فقولوا وَقُلْنَ ، وله من خطاب الوحي ما به يستأنس ، كما في قوله : (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) ، وثم من خطاب الاثنين ما توجه في محل أخص إذ بُعِثَ الكليم وهارون ، عليهما السلام ، إلى فرعون أَنِ : (أْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وثم من خطاب الأنثى المفردة في مواضع ما واطأ عين الواقعة ، إذ كان السائل امرأة ، كما في حديث عائشة ، ا ، وقد سألت ما تدعو من جوامع الكلم ، فكان من الجواب أَنْ : "قُولِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا - أَوْ قَرَّبَ مِنْهَا - مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ - أَوْ قَالَ: مِنْ أَمْرٍ - فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ لِي رَشَدًا" ، وكل أولئك ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، مما جاوز بعموم المعنى المخاطَب الأول ، مفردا أو مثنى أو مجموعا ، مذكرا أو مُؤَنَّثًا ، فتلك معان من الحق تنصح قد خوطب بها جمع التكليف كله .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #9  
قديم 17-05-2023, 05:59 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 26
افتراضي

وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما خالف عنه خصوم النبوات ، إذ كان من قياسهم ما قد فَسَدَ ، فقد رَدَّ الغائب وهو الخالق العليم ، جل وعلا ، إلى الشاهد من المخلوق المحدَث ، فكان من ذلك ظَنٌّ باطل فهو المذموم في آي الوحي النازل ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، وله من سبب النزول ما يُؤْثَرُ ، إذ : "كانَ رَجُلَانِ مِن قُرَيْشٍ وخَتَنٌ لهما مِن ثَقِيفَ -أوْ رَجُلَانِ مِن ثَقِيفَ وخَتَنٌ لهما مِن قُرَيْشٍ- في بَيْتٍ ، وفي رواية أخرى تبين عن وصفهم "كَثِيرَةٌ شحومُ بطونهم ، قَلِيلٌ فقهُ قلوبِهم" ، فَقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أتُرَوْنَ أنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا؟ قالَ بَعْضُهُمْ: يَسْمَعُ بَعْضَهُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ، فَأُنْزِلَتْ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ)" ، فَكَانَ من وصفهم ما أَفَادَ كَسَلًا فَلَا حَرَكَةَ تَنْفَعُ في دين أو دنيا ، وتلك ذريعة أن يكثر الشحم بما يعالج القاعد من الترف والنوم ، وهما مما به القلب يقسو ، والعقل يضعف ، فكان من ذلك فَسَادُ التَّصَوُّرِ في باب الإلهيات ، أَنْ قَاسُوا وصف الخالق ، جل وعلا ، على وصف المخلوق ، في وصف السمع خاصة ، والعلم عامة ، فعلم الخالق ، جل وعلا ، العلم المحيط الجامع إِنْ فِي تَقْدِيرٍ أول قد استغرق المقدورات كافة ، الكونية والشرعية ، ومنها ما يكون من تقدير الأعيان في الأزل ، وما يقوم بها من الأوصاف ، ولا يخلو ذلك من حكمة في التقدير الأول ، فليست كما زعم من قال بالخبط والعشواء ، فَإِنَّ إعطاءَ كُلِّ ذي خلق الخلقةَ التي تواطئ ، ذلك مما اطَّرَدَ في الأجناس والأنواع كافة ، وهو ما لا يكون بداهة ، وهو الوصف الأخص ، ما لا يكون بلا عَلِيمٍ أول يُقَدِّرُ تَقْدِيرَ الحكمة في الهيئة والسبب الذي يُبَاشِرُ ، ولا يكون قَبْلًا وهو الوصف الأعم ، لا يكون بلا مُوجِدٍ أول ، فذلك مما امتنع في القياس المصرح إذ يوجب ، كما تقدم مرارا ، الأول الذي لا أول قبله ، فإليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، تقديرا وإيجادا وتدبيرا أن هُيِّئَ لَهَا من المحالِّ مَا يَقْبَلُ ، وكان من رِكْزٍ في كُلٍّ ما قد أُحْكِمَ ، رِكْزِ التَّأْثِيرِ في السبب ، وَرِكْزِ القبولِ في المحلِّ ، وهو ما لا يكون إيجادا مطلقا لماهيات قد جُرِّدَتْ من وصفٍ أخص يجاوز مطلق الوجود ، فذلك مما لا حقيقة له في الخارج تثبت ، بل ثم من وجودِ كُلٍّ في الخارج ما امتاز من غير بما كان من وصف أخص ، وبه يمتاز من بقية الموجودات ، ويكون من ذلك قسمة في الذهن تنصح ، إذ ثم من الوجود جنس في الحد والتعريفِ يُضَاهِي مطلقَ الحصولِ والثبوتِ في الخارج ، فلا يلزم منه خلق وحدوث من العدم ، كما المخلوق المحدَث ومنه ما يغيب فلا يدرك إلا بخبر يأرز إلى مرجع مجاوز من خارج ، كما الملَك والجن والعرش وما كان من أول في قصة الخلق ، ومنه آخر يُشْهَدُ بما تناولته مدارك الحس الظاهر ، فذلك الموجود المحدَث ، حدوث الأعيان وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام وعامة الأحوال ، وثم آخر لا يصدق فيه وصف الحدوث من العدم ، وإن كان من آحاد أفعال ما يحدث إذ يناط بمشيئة تَنْفُذُ ، فليس ذلك مما يحدث الحدوث المطلق من العدم ، كما وصف المخلوق المحدث ، وإنما يُحْدِثُ الخالقُ ، جل وعلا ، من آحادِ أفعالٍ ما يُنَاطُ بالمشيئة ، ونوع الوصف ، مع ذلك ، قديم أول ، كما الذات التي يقوم بها ، وذلك أصل يستصحب في أوصاف الأفعال كَافَّةً ، فَثَمَّ شطر آخر في القسمة ، قسمةِ الوجودِ ، إذ ثم واجب وجود أول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو الأول فَلَا أول قبله ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الذَّاتَ وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام ، وإن كان من أفعال التكوين آحادٌ تُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ فَهِي المرجِّح في الجائز ، أن يكون له بَعْدًا من الحقيقة في الخارج ما يصدق علم التقدير الأول ، وهو العلم الذي يجاوز ، فليس العلمَ الموجِد إذ يُثْبِتُ الحقيقة مطلقا ، فَذَلِكَ العلم الكلي المجمل الذي اقتصر عليه أرباب الحكمة الأولى فَمَنْ بَلَغَ منهم في الباب شَأْنًا ! ، لم يجاوز أن أَثْبَتَ أولا لهذا الخلق طَرْدًا لِمَا دَلَّتْ عليه ضرورات العقل ، ولكنه لم يحسن القول ، فذلك باب غيب لا يُتَلَقَّى إلا من مِشْكَاةِ الوحيِ ، فَمَا أُجْمِلَ فِي الوجدان مقدماتٍ في الاستدلال هي الأولى ، ومنها أصل يستصحب في باب الفعل والتأثير أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فلا يحسم هذه المادة إلا أول لا أول قَبْلَهُ ، له من الوجود وصف أخص ، فالوجود الثَّابِتُ في حقه ليس كالوجود المحدَث من العدم ، كما المخلوق ، إِنِ المغيَّب أو المشهود ، على التفصيل آنف الذكر ، فوجود الأول ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، يقتصر في دلالة المعجم المفرد على الحصول والثبوت ، لَا مَا زَادَ في حَقِّ المخلوقِ من الوجود بعد عدم ، فذلك مما انْتَفَى بَدَاهَةً في حق الأول ، فإنه إن كان الموجود بعد عدم ، فذلك مَا يُسَوِّيهِ بالمخلوق المحدَث ، فيكون الجائز مثله ، فلا ينفك يفتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجوده ، بداهة ، إِنْ سُلِّمَ أنه الجائز ، بادي الرأي ، لا يكون وجوده بلا موجِد ، فيكون من ذلك ما امتنع في القياس المصرح أن الممكن أو الجائز لا بد له من موجِب أو مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجود محدَث من العدم بلا موجِد يتقدم ، ولا يكون ترجيح في جائز بلا مرجِّح ، فذلك مما يوجب أبدا ، رَدَّ الجائزات أو الموجودات المحدَثة من العدم ، إلى أول لا أول قبله ، فَلَئِنْ شاطرها جنس الوجود الأعلى ، فقد امتاز منها ، إِنْ في معنى أخص في معجم اللسان المفرد ، فوجود الخالق الأول ، جل وعلا ، وجود واجب أول له من ذلك الوصف المطلق ، واجب الوجود الأول ، وله من ذلك توحيد يَنْصَحُ في العلم ، وهو ما يواطئ الضروري من مقدمات الاستدلال في العقل ، أَنَّ الجائزات كافة مما يَتَسَلْسَلُ ، فكلُّ جائزٍ يطلب قَبْلًا موجِبًا له فهو فيه يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح حتى تُرَدَّ هذه الجائزات كَافَّةً إلى واجب أول ، له من وصف الوجود ما به امْتَازَ مِنْ سَائِرِ الموجودات المخلوقات ، فهو واجب وهي جائزة ، وَعَنْهُ جَمِيعًا تصدر ، صدورَ الجائز الممكن عن الواجب المرجِّح ، وهو ما امتاز ، كما تقدم ، بقيد أخص ، قيد الأولية المطلقة ، والذاتية التي لا تُعَلَّلُ ، فوجوده الواجب لا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح أول يَتَقَدَّمُ ، بل له ، كما تقدم ، من الوصف أولية مطلقة فلا أول يَتَقَدَّمُهُ في الوجود ، بل كل الأوليات سواه ، فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ ، إذ ليس من وصف الأول الأخص ، الوصف المطلق الذي لم يسبق بأول ، ليس من هذا الوصف الأخص إلا واحد يثبت لأوَّلٍ وَاحِدٍ دون غيره ، وإلا أفضى الأمر إلى التسلسل الممتنع في العقل ، تسلسل المؤثِّرين في الأزل ، فلا يكون الوجود المحدَث من هذا العالم ، لا يكون إلا أن يُرَدَّ إلى واجبٍ أوَّلَ ، مِنْ غير قد امتاز أَنَّ وجوبه ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليه فهو يفتقر ، وهو ما زاد في دلالة "أل" في اسمه "الأول" ، فهي تحكي أولا يُبِينُ عن جنس المدخول من وصف الأولية ، وهو مما يقبل الشركة في الخارج كما الوجود ، إذ ثم من الأولية : أولية مطلقة لا أولية تَتَقَدَّمُهَا ، بل هي الواجبة لذاتها فلا تفتقر إلى سبب من خارج ، وذلك ما رفد "أل" إذ تحكي ما زَادَ من استغراقٍ قد تَنَاوَلَ وجوه المعنى كافة ، وكذا آحادها ، فذلك ما يصدق في الذات أولا ، ويصدق بَعْدًا فِيمَا يَقُومُ بِهَا من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَلَهُ من وصف الخلق أول لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله منه ما عم وجوهَ المعنى فذلك خلق التقدير في الأزل بما كان من العلم المحيط الجامع ، وَثَمَّ خَلْقٌ تَالٍ يُصَدِّقُ ، خلقُ الإيجادِ من العدم ، مع تصويرٍ لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وذلك تأويل اسمه البديع ، وهو مما قُيِّدَ في نص التنزيل ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وذلك "فعيل" من "فاعل" ، فهو البديع من المبدِع ، وهو اسم الفاعل من الرباعي "أَبْدَعَ" ، وهو ، من وجه آخر ، مما يجري مجرى المثال لعام يستغرق ، فلا يقتصر الوصف ، بداهة ، على السماوات والأرض ، بل يجري الباب ، لو تدبر الناظر ، مجرى التنبيه بالأعلى على الأدنى ، كما في قوله : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو ما اسْتُؤْنِفَ بلام تحكي التوكيد : لامَ ابتداءٍ بها قد صُدِّرَ السياق ، فَلَا تَعْمَلُ في اللفظ ، كما لام الجر ، وإنما زيادتها في المبنى تحكي أُخْرَى تُضَاهِي في المعنى ، مع معنى تَالٍ يزيد فهو أخص في الباب قد أكسبها من الاسم : اسم الابتداء ، فذلك موضعها من النطق والكتب ، فكان من خلق السماوات والأرض ما عَمَّ بالإضافة ، مع آخر في المعنى بما كان من إطلاق المادة ، مادة الخلق ، فَاسْتَغْرَقَ ، كما تقدم في مواضع ، خلق التقدير الأول بما كان من علمٍ في الأزل يستغرق ، وهو كما الخلق ، فذلك أول لا أول قبله ، كما تقدم من دلالة "أل" في "الأول" التي استغرقت الآحاد من الذات وما يقوم بها من الأسماء ومنها اسم العليم والخالق ، والأوصاف ومنها وصف العلم ، والأفعال ومنها فعل الخلق ، فكان من الخلق : خلق أخص ، خلق التقدير الأول قَبْلَ تَالٍ في الخارج يُصَدِّقُ بما يكون من إيجادٍ تال يُرَجِّحُ بما يكون من مشيئة تَنْفَذُ بكلم تكوين هو ، أيضا ، من العلم الأول المحيط ، فخلق الإيجاد في الخارج ، وما يكون بَعْدًا من خلق التصوير لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، وله من معنى الإتقان والإحكام ما يشهد ، فهو يوجب الثناء والمدح بما بِهِ يشهد المخلوق المحدَث ، مِنْ إِتْقَانٍ في الخلقة وإحكامٍ في السنة ، مع عناية بالمخلوق بما هُيِّئَ له من المحل ذي القوة التي تَقْبَلُ آثارَ مَا يُبَاشِرُ من سبب ، وله ، أيضا ، من الإتقان والإحكام قوى فيه قد رُكِزَتْ ، وبها يُرَجِّحُ في المحل المؤثر ، وليس ذلك الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، بل قوَاهُ كما سَائِرُ الخلقِ المحدَثِ ، قوَاهُ مِمَّا افْتَقَرَ إلى مقدِّر أول في الأزل ، فذلك خلقه الأول ، ثم إيجاد يصدق ما كان من تقدير أول ، ثم تَدْبِيرٍ أَنْ هُيِّئَ لَهُ من المحلِّ ما يَقْبَلُ ، وَرُكِزَ في كلٍّ من القوى ما يُوَاطِئُ ، قوى التأثير في السبب وقوى القبول في المحل ، مع سَنَنٍ محكَم يجري عليه السبب في تأثيره ، والمحل في تَأَثُّرِهِ ، وذلك ، بداهة ، مما لا يستقل بالتأثير ، كما يزعم بَعْضٌ أَنَّ السَّنَنَ المحكَم الذي جرى عليه هذا الكون المحدث ، أنه هو الخالق ، وهو الفعل الذي لا يعقل ، فهو يفتقر ، أيضا ، إلى الفاعل الذي يُقَدِّرُ قبل الفعل ، وله من الإرادة ما به يرجح في آحاد من الفعل تصدق نوعا هو القديم الأول ، فالسنن يفتقر إلى من يقدر أولا ، ثم يجري بَعْدًا بما يواطئ التقدير الأول ، فهو له يصدق ، تصديق الآحاد المحدَثة لنوع أول هو القديم ، فَلَهُ من الأولية ما يضاهي أولية الذات الواجبة الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فالسنن لا بد له من سَانٍّ ، والمحل والسبب لا بد لهما من خالق أول فهو يقدر ويحكم ، ولا يكون ذلك إلا بعلم أول يستغرق ، فلا يكون بداهة خبط عشواء لا تعقل ، بل لا حياة لها تثبت ، وهي الأصل لكلِّ وصف ذاتي أو فعلي ، فالعقل يقضي في عالم الحس أن الفعلَ المحكَم الذي يصدر عن تَقْدِيرٍ أول ، أَنَّهُ لا يكون إلا من حَيٍّ فَاعِلٍ بالإرادة لا بِالطَّبْعِ ، فلا يكون من فِعْلِهِ اضطرار يُلْجِئُ ، فهو المطلق بشرط الإطلاق إذ تَجَرَّدَ مِنْ كُلِّ وصفٍ ، كما زعمت الحكمة الأولى في أول قد اقْتَرَحَتْهُ ، وليس إلا العدم ، إذ لا وجود له يجاوز الذهن فَرْضًا يُقَدَّرُ ، أَنَّ ثَمَّ من الموجود : مطلق بشرط الإطلاق ، فلا وصف له ، وإنما يفعل بالطبع فِعْلَ الاضطرار فلا علم ولا إرادة ، وذلك ما يُنْبَزُ به المخلوق العاقل المكلَّف ، بل ذلك مما يَنْفِي عنه التكليف فلا يكون إلا وثم علم وتصور ، فَيَنْحَطُّ به إلى دركة ما لا يعقل كَنَارٍ تحرق بما رُكِزَ فيها من قوة الإحراق ، فلا علم لها يجاوز ولا إرادة بها تختار ما تحرق وما تدع بما كان أولا من علم به التصور قبل الحكم ، فلا شيء من ذلك بداهة لِنَارٍ لا تعقل ، وهو ما يأباه العاقل المكلف وَصْفًا له ، وإن كان الجاحد المنكر ، فكيف صح في الأذهان أن يمتنع ذلك في آحادِ أفعالِه ولا تخلو من الخطإ والنقص ..... إلخ ، بل هو يأبى ذلك فهو ذَمٌّ له بما يَقْبُحُ من الجهل والاضطرار فلا علم ولا إرادة ، فكيف صح في الأذهان امتناع ذلك في وصفه وفعله ، وتجويزه بل وإثباته ولو فرضا لا يَتَصَوَّرُهُ العقل ، مما يُذَمُّ به المخلوقُ ، فالخالقُ ، جل وعلا ، أولى أن يُنَزَّهَ عنه ، فهو المحال الذاتي وغايته في العقل الفرض ، وتجويزه بل وإثباته في هذا العالم بما أُتْقِنَ من خَلْقِهِ وَأُحْكِمَ من سَنَنِهِ ، وهو ما يبين عنه البحث والتجريب الذي يَتَبَجَّحُ به المنكر ، وهو ، لو تدبر ، دليل عليه يشهد ، فانتفاء الخبط والعشواء والجهل والاضطرار ، انتفاؤه عنه يثبت من باب أولى قياسا على فعل المخلوق المحدث الذي يمدح بعلم أول يقدر وإرادة تالية تنفذ ، فالخالق ، جل وعلا ، أولى بذا ضرورة قد دل عليها النقل والعقل والفطرة والحس ، وكلُّ دليلٍ في النظر يعتبر ، وإنكاره سفسطة تجحد العلوم الضرورية ، ولو المسلمات العقلية ، كما تقدم من رَدِّ المحدَث أبدا إلى محدِث ، وهو مما يتسلسل حتى يجب فيه حسم ، بِهِ تُرَدُّ الجائزاتُ كَافَّةً إلى واجبِ وجودٍ أول لا أول قَبْلَهُ ، فذلك وصف ذاته الذي لا يُعَلَّلُ ، فوجوده حاصل ثابت في الأزل وذلك حكم الواجب في العقل المصرح وبه قد أَتَى النَّقْلُ المصدَّق ، فكان منه رائد صدق بما نصح أولا من ضرورات العقل ، وهو ، مع ذلك ، موجِدٌ لِمَا تَلَا بما كان من تَرْجِيحٍ في الجائزات يُوجِبُهَا فَلَيْسَ وجوبها الذَّاتِيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، بل هو الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، فكان من وصف الخالق جل وعلا : وجوب ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فَلَهُ من ذلك أوليةُ الذاتِ المطلقة ، وله من ذلك إيجاب ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وتلك أولية الفعل المطلقة ، وهو فعل بِعِلْمٍ وإرادة ، لا إيجابا بالذات ، كما زعم أرباب الحكمة الأولى بما التزموا من مقال التعطيل المطلق ، فلم يجاوز إثباتهم الذاتَ المجردة من الوصف ، فَبِمَ تُرَجِّحُ في الجائزات من هذا العالم المحدَث ؟ ، فكان الترجيح عندهم بذات لا وصف لها ولا فعل ، وهو ، كما تقدم ، مما يخالف عن بدائه العقل ومقدماته الضرورية ، فَلَيْسَ ذلك إلا العدم في الخارج ، وَإِنْ فَرَضَهُ الذهنُ الفرضَ المجرَّد فلا يجاوز حَدَّ الجدالِ لخصمٍ في مناظرة ، فَلَيْسَ له وجود في الخارج ابتداء ، لِيُرَجِّحَ بَعْدًا في تال من الموجودات المحدثة ، فكان من مقال الإيجاب الذاتي ، أو الإيجاب بالذاتِ المجردة من الوصف فِعْلَ الاضطرار بلا مَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ ، كان من ذلك تَعْطِيلٌ لأوصاف الذات والفعل من العلم والخلق ..... إلخ ، وهو ما يُفْضِي إلى محالٍ في العقل المصرح ، أن يكون ثم تَرْجِيحٌ في هذا العالم المحدَث مَرْجِعُهُ إلى عدم ! لا وجود له في الخارج يجاوز حد الفرض المحض في العقل ، فيكون هذا الوجود من غير شيء ، وهو ما قد نَفَاهُ الوحي إذ استفهمَ استفهامَ المنكِرِ الموبِّخِ ، فدلالته دلالة النفي لِمَا امتنع في النقل والعقل والفطرة والحس كافة : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ) ، مع استيفاء لأجزاء القسمة يسبر ، وهو لخصم يلزم أن يقر بما سكت عنه الوحي من جزء به اكتمال القسمة في العقل ، وبه إقامة الحجة من منطق الخصم ، فلا يكون هذا العالم المحدَث ، بداهة ، إلا أن يكون ثَمَّ أَوَّلٌ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، له من وصف الوجود : ذَاتِيٌّ لا يُعَلَّلُ ، وله من أوصافٍ تقوم بالذات مَا به التقدير والإيجاد ، فليس الموجِب بالذات المجردة من الوصف ، بل له أولية قد دل عليها العقل ضرورة أولى قبل ورود الشرع الذي صَدَّقَ مبادئ الاستدلال ومقدماته ، وهي أولية الْعَالِمِ الخالقِ ، فَلَهُ من ذلك وصف هو الفاعل ، وآثاره ما يكون في الخارج ، من إيجادٍ تال هو المحدَث فليس القديم لا مادة ولا صورة ، وإنما هو المحدَث من كل وجه ، نَفْيًا لآخر من مقال الحكمة الأولى قد الْتَزَمَ المحالَ أَيْضًا ! ، مِنْ قِدَمِ هَذَا العالَمِ ، ومضاهاته لِعِلَّتِهِ في الوصف فكلاهما أول ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُ العلة الفاعلة فَفِي الرُّتْبَةِ لا غير ، وهو ما لا يستقيم في أَيِّ نَظَرٍ ، إلا أن يكون لهذه المادة موجِد أول يَتَقَدَّمُ ، وعنه علة وجودها تصدر ، فيكون من ذلك ما به حَسْمُ التسلسل ، فلا توجد مادة في الوجود بلا موجِد ، ولا يكون من صورة تالية ما يحدث خبطا ، بل العالم المحدث مادةً وصورةً ، كل أولئك مما له من العلة أولى : وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، وصف العلم المحيط المقدِّر ، وما تلا من خلق إيجاد يصدق ، ومن ذلك إبداع لا على مثال تقدم ، كما في الآي آنف الذكر : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وهو المثال لعام قد جاوز المذكور من السماوات والأرض ، فَثَمَّ بدع قد استغرق كل شيء ، كما الخلق والعلم ، وله من محكَمِ الذِّكْرِ دَلِيلٌ يَشْهَدُ ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو مما يجري مجرى القياس ، قِيَاسِ الأولى ، فمن أبدع الأعلى فهو يُبْدِعُ الأدنى من باب أولى ، وذلك الخبر المصرح ، وكذا كان الإنشاء اسْتِفْهَامًا هو المنكِر الموَبِّخُ : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فهو قادر من باب أولى أن يخلق مثلهم من البشر إذ خَلْقُ السماواتِ والأرضِ أكبر ، فكان من ذلك البدع ما استوجب أولية في الذات والوصف ، فلا يضاهيها غير ، ولا يشاركها في حقيقة أو وصف في الخارج ، وإن كان ثم اشْتِرَاكٌ في الباب فلا يجاوز حد الإطلاق في الذهن لِمَعَانٍ تَصِحُّ فيها الشركة ، فهي الأجناس الدلالية المطلقة كما العلم والحكمة والخلق والقدرة ..... إلخ ، لا جرم كان الاستفهام بعدا ، فأثبت البدع لواحد في الأزل هو الأول ، أولية الإطلاق ، وهو ما رفد "أل" في "الأول" بما تقدم من استغراق لوجوه المعنى وآحاده إذ كان من ذلك أولية في آحاد من المعاني : العلم والخلق ، مع كمال في الوصف ، وذلك ما زاد في "أل" معنى العهد الأخص فلا يطلق الاسم وقد زِيدَتْ في "أل" ، على التفصيل آنف الذكر ، كما في آي محكم مِنَ الكتاب المنزل ، فـ : (هُوَ الْأَوَّلُ) ، لا يُطْلَقُ إِلَّا على واحد هو الرب الخالق ، جل وعلا ، وتلك أولية قد اسْتَغْرَقَتْ فِي الدلالة : الألوهيَّةَ والحكمَ ، فَهُوَ الرب الخالق بِعِلْمِ تكوينٍ أول يحيط ، وهو الإله الحاكم بعلم تشريع أول يحيط ، وبهما جميعا مادة توحيد تكمل ، وَهِيَ ما جاءت به النبوات لدى المبدإ أَنْ : (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، فَثَمَّ نداء القوم نِدَاءَ البعيد تَأَلُّفًا أَنْ يُخَاطَبُوا خطاب الْمُعَظَّمِ ، وإن لم يكونوا كذلك ، فَبُذِلَ لهم من أمر الدنيا ما به تَأَلُّفُهُمْ لِأَمْرِ الدين وهو أعظم ولا يخلو النداء ، أيضا ، من تَنْبِيهٍ لغافل ، وذلك مَئِنَّةُ نَقْصٍ ، فاجتمع في النداء : التعظيم من وجه ، ووصفُ نَقْصٍ هو على ضد ، من آخر ، ولا تعارض إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فجهة التأليف لِمَارِقٍ تُخَالِفُ جهة التَّنْبِيهِ لغافل ، ومن ثم كان الأمر الذي أُطْلِقَ أَنِ : (اعْبُدُوا اللَّهَ) ، فاستغرق أجناس العبادة كافة ، ما بطن من الاعتقاد والإرادة ، وما ظهر من قول يشهد وعمل يصدق ، فلا يكون ذلك إلا لواحد هو الله ، جل وعلا ، وَثَمَّ بَعْدًا من الاسْتِئْنَافِ ، وقد حُدَّ حَدَّ القصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء في قوله : (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، ثَمَّ من ذلك ما يحكي العلة جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ تَقَدَّمَ قَدْ دَلَّ عليه السياق اقتضاء بعد أمرِ تَكْلِيفٍ يُلْزِمُ ، فَمَا عِلَّةُ الأمر بتوحيد الله ، جل وعلا ، في العبادة ؟! ، فكان الجواب : (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، فكان من الإبداع آنف الذكر ما استوجب إطلاق الأولية في الذات والوصف ، فلا شريك له فيهما ولا ند ، ولا شَبِيهَ يضاهي في الخارج ، ولو مِنْ وَجْهٍ ، كما الصاحبة والولد ، وهو ما نَفَاهُ الوحيُ بَعْدَ إثبات البدع ، فكان من ذلك استفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ مع تَالٍ يُبْطِلَ الدعوى المحالة لذاتها مع قبحٍ في المدلول فهو الشرك الذي يَنْقُضُ أصل التوحيد المحكم ، فكان من ذلك الاستفهامُ بَعْدًا في قوله : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فخلق كل شيء إذ هو الخالق الأول الذي انْفَرَدَ بأولية في الذات والوصف تُطْلَقُ ، فكيف تكون له صاحبة أو ولد ، وَذَلِكَ ما يَنْفِي توحيد الذات والوصف ، وَيَنْفِي ما وجب له أولا من الغنى المطلق ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل كُلُّ سَبَبٍ إليه يفتقر إذ يُرَدُّ إليه رَدَّ الأول الذي لا أول قبله ، إن في الذات أو ما يقوم بها من وصف الكمال ، فهو الخالق الفاعل فيما تلا من هذا الوجود المحدَث ، وذلك ، كما تقدم ، ما لا يكون بإيجاب ذاتي يُعَطِّلُ الوصف الفعلي ، وَيَنْفِي المشيئة المرجِّحة فيكون الفعل فعلَ الاضطرار الملجِئِ ، بل كان من ذلك ضِدٌّ هو الخلق المحكَم بِوَصْفِ تَقْدِيرٍ أول ، فذلك العلم المحيط الذي استغرق ، وبه حَسُنَ الختامُ لآيِ الأنعام المحكم ، فـ : (هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وثم من المشيئة بَعْدًا ما يُرَجِّحُ ، وبه تأويل المعلوم المقدر في الأزل فذلك الخلق الأول ، به تأويله بخلق تال يوجد ويبدع ويدبر .

فالوجود الذي يَصِحُّ به إطلاق لفظ الموجودِ على الخالق ، جل وعلا ، إنما يقتصر في الدلالة اللغوية على الثبوت والحصول دون الحدوثِ من عَدَمٍ ، وإن كان من وصف الباري ، جل وعلا ، ما يَصْدُقُ فيه وصف الحدوث ، لا أنه من العدم ، فَثَمَّ من وصف الفعل والحكم ما يصدق فيه أنه حادث ، لا حدوثَ نَوْعِهِ بل هو قديم أول ، وإنما يحدث منه في الخارج آحاد تصدق ، فهي لنوعه الأول تَتَأَوَّلُ ، كما تقدم من خلق أول ، فذلك ما يكون بعلم محيط يستغرق ، وهو ما قَدُمَ نوعه ، وثم من آحاده في الخارج ، كلمات تكوين تحدث ، وبها تأويل ما كان أولا من علم محيط يقدر ، فذلك علم تال ، والكلمات الكونية منه ، فيصدق فيه حُدُوثُ آحادٍ بمشيئة تُرَجِّحُ لا حدوث نوعٍ ، بل هو القديم الأول ، والمشيئة له تَتَأَوَّلُ بما يكون من وجود في الخارج يصدق ، فذلك خلق الإيجاد الذي يصدق ما كان أولا من التقدير المحكم ، فيصدق فيه أنه علم الظهور والانكشاف لما كان أولا من تقدير قَبْلَ الإيجاد ، وثم من العلم بعدا : علم الإحصاء الذي يصدق إذ يستنسخ ما كان في هذا الوجود المحدَث فلا يقع إلا تصديقا لما تقدم من علم أول يحيط وما سطر بَعْدًا في لوح التقدير .

فكان من اعتياد التَّرَفِ ما أفسد تصور أولئك النفر الذين جَلَسُوا في بَيْتٍ وَتَنَاوَلُوا بَابًا من الإلهيات ، باب السمع والعلم ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فلم تطق أذهانهم البليدة التي أفسدها الترف إذ راكم من الشحوم في أبدانهم بِطْنَةً أذهبت الفطنة والفكرة ، فلم يكن منهم إلا قياس الغائب على الشاهد ، مع القدر الفارق ، أَيِّ قَدْرٍ ! ، فكما الإنسان لا يملك من السمع إلا المدارك المحدودة بأصل الخلقة فلا يسمع إن جاوزها الصوت ، فكذا الرب الخالق ، جل وعلا ! ، فليس إلا التشبيه المذموم الذي يدل على طبع أدنى قد انحط إلى مدارك الحس السفلى ، وهو ما عَمَّتْ بَلْوَاهُ في الجيل المحدَث أن صار الحس هو المرجع فَحُدَّ به العلم فما جاوزه فليس بِعِلْمٍ ، بل العلم هو التجريب والوضع حصرا فَنَشَأَ جِيلٌ من الحضارة على هذه القاعدة التي تُعَزِّزُ في النفوس الأثرة والشح طلبا لِلَذَّةِ حِسٍّ قد صارت هي منتهى السؤل مع جحود ، يصرح تارة وَيُكَنِّي أخرى ، فليس ثم بعد هذه الدار أخرى تجاوز ليعمل لأجلها العامل ويحتمل من الجهد والنصب ما به يَدَّخِرُ الأجر في دار غيب ، فلو كانت لأدركها الحس الذي صار وحده معيار العلم ! ، فلم يحسن أولئك النفر الرجوع في هذا الباب الشريف ، باب الإلهيات ، إلى مرجع يجاوز من الوحي الصحيح ، فلا يخالف عن قياس العقل الصريح الذي يَقْضِي ضرورة بِقَدْرٍ مشترك في الباب ، وهو المعنى المجرد في الذهن ، وآخر فارق في الحقيقةِ والكيفِ في الخارج ، فَلَيْسَ السمعُ كالسَّمْعِ ، وإن اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، إذ ليس السامع كالسامع في الخارج ، فَثَمَّ من قيد الإضافة إلى الموصوف ما يميز الحقائق في الخارج ، فَسَمْعُ الخالقِ ، جل وعلا ، يُغَايِرُ ، بَدَاهَةً ، عن سمع المخلوق ، إذ القول في الوصف فرع عن القول في الموصوف ، كما يقول أهل الشأن ، وإنما اعتادت النفوس التَّرَفَ الذي يفسد النظر ، وَيَنْحَطُّ بِصَاحِبِهِ إلى دركة الحس فلا يحسن ينظر في المعقولات ، وإن عالجت المشهود من ظواهر الاجتماع والسياسة ..... إلخ ، فكيف بالإلهيات وهي مادة من غيب أَعْلَى يُجَاوِزُ طَوْرَ العقلِ في درك الحقائق ، وإن لم يَتَكَلَّفْ من ذلك ما يُلْجِئُ العقل ويحرج أن يؤمن بالمحال الذاتي الذي لا وجود له في الخارج يصدق ، فلا يجاوز ، كما تقدم في مواضع ، حَدَّ الفرضِ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فالغيبيات ، عامة ، والإلهيات خاصة ، مما لا يَتَنَاوَلُهُ العقل إلا الإيجاب في مواضع كَمَا رِكْزْ الفطرة الأولى التي تشهد ضرورة بخالق أول ، وصفُه العلم المحيط المستغرق لِمَا خَلَقَ ، فذلك ما جاوز الجليل من الأعيان إلى الدقيق من الأوصاف والأحوال ، فَثَمَّ ، من ذلك تأويل قد استغرق من الأسماء ثلاثة : العليم والخبير واللطيف ، فهو عليم قد استغرق علمه العاملَ وعمله ، الذواتَ وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، إِنِ الاختياريَّةَ أو الاضطراريَّةَ ، إن الدينيَّةَ أو العاديَّةَ ، فذلك علم قد تَنَاوَلَ تَقْدِيرًا هو الأول ، وبه الخلق كان ، فهو علم يُؤَثِّرُ في المقادير ، وهو مرجع في الأزل قد ثَبَتَ ، وتلك الأولية التي أُطْلِقَتْ فَاسْتَغْرَقَتْ ذَاتَ الخالقِ ، جل وعلا ، وما قام بها من وصفِ الذَّاتِ والفعلِ ، الخبري الذي يجري مجرى الجائز فلا ترجيح فيه من خارج بما يكون من رِكْزِ فطرةٍ أو عَقْلٍ ، بل مرجعه إلى الوحي مطلقا ، كما المثل يضرب بأوصاف اليد والوجه ...... إلخ ، فذلك مما لا يوجبه العقل ولا يمنعه ، بل هو الجائز المحتمل ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ ، إذ ليس ثَمَّ مَرْجِعٌ يُثْبِتُ أو آخر يَنْفِي ، وإن كان ثَمَّ نَفْيٌ في الباب فهو المستصحب في باب الأصل فيه التوقف ، فَلَيْسَ النفي أَنْ كان ثَمَّ دليل أخص يَنْفِي الوصف محل البحث ، وثم من الوصف آخر ، وهو محل الشاهد من العلم والخبرة واللطف ، فذلك مما اصطلح أنه من أوصاف المعاني ، فإن العقل يَتَصَوَّرُهَا ، بادي الرأي ، بل وَيُوجِبُهَا بما رُكِزَ فيه من مقدمات الاستدلال الضرورية ، فلا خَلْقَ إلا بِعِلْمٍ أَوَّلَ يَتَقَدَّمُ ، وذلك خلق التقدير ، ولا خلق إلا بِقُدْرَةٍ بها إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، ودليل الخلق الشاهد إِنْ أَجْرَامًا أو أعيانًا وما كان من سنن محكم به التدبير ، كل أولئك يشهد ، أَيْضًا ، ضَرُورَةً فِي العقل تُلْجِئُ أَنَّ ثَمَّ من العلم ما هو أخص ، حِكْمَةً تَتَنَاوَلُ المحالَّ وما يُبَاشِرُهَا من الأسبابِ ، وَمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى في المحل تَقْبَلُ ، وأخرى في السبب تُؤَثِّرُ ، وَخِبْرَةً تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وَلُطْفًا وَخَفَاءً في التأثير والفعل ، فَيُسْتَدَلُّ عليه بما كان من آثار في الصنعة فَهِيَ تحكي أولا من وجود الصانع إذ لا حادث بلا محدِث ، فذلك مما يخالف عن ضرورات العقل المحكم ، وتحكي بَعْدًا من حكمة في التقدير ، وخبرةٍ تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وخفاءٍ قد تَقَدَّمَ ، خفاءِ اللطيف فلا تدركه الأبصار المخلوقة في دار التكليف ، فذلك ما يُبْطِلُ خاصة الابتلاء في باب الاعتقاد أن يؤمن المكلف بغيب لا يخالف عن قياس العقل المحكم ، وإن ابتلاه بما يحار في حقيقته وكيفه لا ما يحيله من الممتنعات الذاتية ، وإن أَدْرَكَهُ بَعْدًا في دار الجزاء ، فلا يحيط به ، وذلك ، أيضا ، قياس العقل المحكم إذ يقضي ضرورة أن المحدود من نظر المخلوق لا يحيط بغير المحدود من حقيقة الرب المعبود ، جل وعلا ، فَكُلُّ أولئك مما يدل عليه العقل ضرورةً بِمَا رُكِزَ فيه من مقدمات استدلال أولى ، وكذا ما يكون بَعْدًا من قدرة تَنْفُذُ ، وبها ، كما تقدم ، إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، من الغيبِ إلى الشهادة ، فكل أولئك من أوصاف المعاني التي يَزِيدُ العقل فيها دلالة إيجابٍ تُرَجِّحُ ، فليس يَتَوَقَّفُ العقلُ فِيهَا عند التجويز العقلي المحض ، فهي مَعَانٍ يُدْرِكُهَا العقل إِدْرَاكًا أَخَصَّ ، ولكنه ، مع ذلك ، لا يستقل فيها بإثبات أخص ، إذ الوحي ، أَبَدًا ، رَائِدٌ فِي التَّكْلِيفِ مَرْجِعًا يجاوز من خارج ، إِنْ فِي الأخبارِ أو في الأحكامِ ، فهو رائد العقل في باب الأمر والنهي ، مُصَدِّقًا لأول قد رُكِزَ فِي العقلِ من معيار الحسن والقبح المحكم وهو ، مع ذلك ، يُفَصِّلُ مَا أُجْمِلَ منه ، وَيُقَوِّمُ ما اعوج منه إذ فسدت الفطرة بما يكون من وسواس من خارج ، ما خَفَيِ من شيطانٍ وحديثِ نَفْسٍ وما ظهر من مَلَإٍ قد استجمع أسبابا بها يأطر الجمع على ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه وما يطرأ من المصلحة والمنفعة الخاصة ، وإن اكتست لحاء العام فهو الموضوعي المجاوز لعقول الأفراد ، فلا يَنْفَكُّ ، وهو أعلى ، يخضع لمؤثرات أدنى إذ لم يفارق وصف الأرضي المحدَث ، فَثَمَّ أسباب يمتلكها قليل وبها يأطر كثيرا على ما بِهِ طغيان الأول يَرْسَخُ ، فَيَرُومُ أَنْ يكونَ إِلَهًا يُعْبَدُ ، كما يحكي بعض النظار في جيلٍ قد تَأَخَّرَ من موت حضارة وأمة قد امتلكت الأشياء ولم تأطرها بناصح من الأفكار ، بل قد صارت ذريعة الطغيان ، فالإنسان فِيهَا قَدْ أَعْلَنَ التمرد والعصيان لِأَمْرِ الخالقِ ونهيه ، بل وَتَبَجَّحَ أَنْ خَالَفَ عن فطرة التكوين الأولى بما سلك من بُنَيَّاتٍ حَادَتْ بِهِ عن الجادة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، ولو لم يكن لهم من دين الوحي ما يَعْصِمُ ، فَثَمَّ من فطرة التكوين الأولى بَقِيَّةٌ تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ، فكان من مكرِ الملإِ أَنْ يأطر الجمع على رَأْيٍ يُوَاطِئُ طغيانه ، فقد صار الإله الحاكم إذ مات الإله الخالق وَاسْتُبْدِلَ به الإنسان الذي طَغَى فَنَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، مَنْصِبَ التشريع في إباحة وحظر ، وَتَقَصَّدَ المخالفة في الأمر والنهي أن يكون هو المرجع المجاوز في الحكم ، وإن لم يكن له من علم ما يعصم من الخطإ مع ما جُبِلَ عليه من نَقْصٍ ، وَطَلَبِ حَظٍّ ، وَطَارِئِ مَرَضٍ وهرم .... إلخ ، فكل أولئك مَئِنَّةُ اتِّهَامٍ أن يكون المرجعُ هو الهوى والذوق ، وهو ما اضطرب فلا يستقر ، وقد صار أوله منفعة أو مصلحة ، إن لفرد أو لجمع ، فَلَا تَنْضَبِطُ في الخارج إذ يَتَنَازَعُهَا أصحابها ، وهي لمن غلب ، فيكتب من الشرع ما يُرَسِّخُ غَلَبَتَهُ ، فإذا غَلَبَهُ آخر نَسَخَ شريعته بأخرى ، فالمرجع لا يستقر أَبَدًا بما يطرأ لكلٍّ من وجوه المصلحة ، معتبرة أو مهدَرَةٍ ، ودليل النسخ ليس المحكم من خارج الخصوم ، فَلَيْسَ إلا القوة التي يمتلكها الغالب فَيَقْهَرُ المغلوبَ على حكمه وَيُصَيِّرَهُ الشرعَ المحكمَ حتى يأتي آخر يَغْلِبُ ، فالشريعة لِمَنْ غَلَبَ كَمَا الدولة والسلطان ! ، وذلك ما يُؤْذِنُ بالفساد إذ ثم اضطراب في المرجع بما كان من تَنَازُعِ خُصُومٍ تَكْثُرُ ، فَلِأَيِّهم يُسَلِّمُ الجمع المغلوب ، وَإِنْ قُضِيَ الأمر باسمه في مُثُلٍ تَمْكُرُ ، فَتُفْسِحُ له أن يختار فهو الحر الممَكَّنُ ، وهو ، مع ذلك ، لَا يَخْتَارُ إلا ما اختارت له إذ تحكمت في القسمة سَبْرًا وَتَقْسِيمًا ، فآل الأمر إليها ، وَإِنْ بَاشَرَهُ الجمعُ بِيَدِهِ لا بِيَدِ عمرو ! ، فَلَيْسَ يَسْلَمُ عقلُ الفرد ولا الجمع ، إلا أن يكون ثم مرجع من أعلى يجاوز العقول كافة ، فهو الموضوعي المطلق ، كما اصطلح أرباب المنطق ، فليس الموضوعي المقيَّد من عَقْلِ جَمْعٍ يصدق فيه أنه موضوعي يجاوز عقول الأفراد ، ولكنه ليس المطلَقَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عوامل في الأرض تُؤَثِّرُ ، مكر الملإِ إذ يُوَسْوِسُ ، فلا يحسم هذا الوسواس إلا وحي من السماء قد تَنَزَّلَ ، وإلا رُدَّ كُلٌّ إِلَى عَقْلِهِ الأخص فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ الفردِ ، أو إلى آخر قد صُنِعَ عَلَى مُكْثٍ بِمَا كان من دعاية وَتَزْيِينٍ ، فَحَصَلَ منه معيار تحسينٍ وَتَقْبِيحٍ لم يسلم من التأثير بل والتبديل والتحريف حتى يَرَى القبيحَ حَسَنًا ، والحسنَ قَبِيحًا ، كما تقدم من نظم أبي الطيب في مواضع ، فـ :
يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ حتى يرى حَسَناً ما ليسَ بالحَسَنِ .

فذلك نكد في أمر سياسة أو حرب ، فكيف بما جاوز من أمرِ دِينٍ يَتَنَاوَلُ الكليات والجزئيات كافة ، إِنِ الخبرَ المبيِّن أو الشرع المحكَّم الذي استغرق الجليل والدقيق كافة من أحوال الاختيار ما بطن من الاعتقاد والإرادة وَجُمِلَ من أعمال الجنان ، وما ظهر فَصَدَّقَ على اللسان وبه قد شهدت الأركان في امتثال الأمر فِعْلًا والنهي تَرْكًا ، فكان من أولئك الطواغيت إذ استجمعوا من السبب ما به اغْتَرُّوا ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، بِضِدِّ دعواهم يشهد ، إذ ليس الإلهُ المستغني مَنْ يَطْلُبُ السبب الذي به يَسْتَغْنِي ، بل له من وصف الغنى ما أطلق ، فالأسباب والمحال وكل شيء في هذا الكون المحدَث فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ الافتقارَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، كما غِنَى الخالق الحق هو الأول فَلَيْسَ قبله شيء ، فهو ، أيضا ، مما تناولته الأولية المطلقة ، إذ استغرقت الذات المقدسة وما قام بها من أوصاف الكمال المطلق ، فكان من أولئك الطواغيت ما خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس الشاهد بِنَقْصِ جِبِلَّتِهِمْ وطريقتهم ، فكان منهم أَنْ نازعوا الإله الحاكم ، جل وعلا ، منصب التشريع ، بل وَنَازَعَ جيل آت قد عَظُمَ فُحْشُهُ في الاعتقاد والعمل ، نَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، منصب التكوين في إيجادٍ وخلقٍ على فطرة أولى رَامَ الطاغوت المحدَث إفسادها بما وَسْوَسَ ، فَخَرَجَ عَنْ كُلِّ معقول ولا زال ، فلا منتهى له في الضلال إذ قد حاد عن معدن الهداية في الفطرة والشرعة ، في الفكرة والحركة ، فذلك وحي النبوة الذي جاوز من خارج ، وَهُوَ رَائِدُ العقلِ فِي بابِ الإثباتِ والنفيِ مُصَدِّقًا لأول من معاني الكمال المطلق وهي مما أُجْمِلَ في الذهن من أوصاف المعاني ، وَمُفَصِّلًا بما كان من أدلة أخص في الباب ، كما في هذا الموضع الذي ذم النفر السمين السفيه أن أنكر من وصف الخالق ، جل وعلا ، ما دل عليه العقل ضرورة ، فهو من صفات المعاني التي يدركها العقل ، بادي الرأي ، وليس ، مع ذلك ، يستقل بالإثبات ، وإن كان منه دليل ناصح في معاني الكمال المطلق ، فالوحي ، أبدا ، أول وَثَمَّ تَالٍ له من العقلِ كما في صفات المعاني ، والفطرةِ التي تحكي من التوحيد الخبري والحكمي مادة ضرورة مجملة لا تنفك ، أيضا ، تطلب بَيَانًا من خارج يفصل ، مع معيار في التقويم إِنِ اعْوَجَّتْ وخالفت عن الجادة ، والحسِّ فهو شاهد بدليل الإتقان في الخلقة والإحكام في السنة مع العناية بالخلق كافة ، فتلك رحمة عامة قد استغرقت ، فكل أولئك دليل علم وحكمة ، ومشيئة وقدرة ، مع رحمة بالخلق بما تَنَزَّلَ من أسباب الرزق ، وهداية في الباب أعم بها تقام الحجة على الخلق ، وأخرى أخص قد امتن بها الخالق ، جل وعلا ، على قَبِيلٍ مؤمن قد استجاب لداعي النبوة إذ يُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ ، فكان من هذا النفر السمين السفيه ما جحد ضرورة في العقل من إحاطة علم وسمع ، مع أخرى أقبح إذ خالفت عن نص الوحي المنزل ، فكان من الآي ما سجل الجناية ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وحسن لأجله إيراد الكينونة الماضية فهي مئنة ديمومة في الوصف وذلك آكد في الإثبات ، مع آخر أعم يستصحب في بَابِ الزِّيَادَاتِ كَافَّةً ، فزيادة المبنى لا تنفك تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، وثم من الشهود ما أطنب في ذكره إِنْ فِي حَدِّهِ مِنْ "أَنْ" وما دخلت عليه من العامل المضارع "تَسْتَتِرُونَ" ، فهي في تأويل المصدر ، على تقدير : وما كنتم تستترون من شهادة السمع والأبصار والجلود ، وقد حذف الجار "مِنْ" على ما اطرد ، أَيْضًا ، في لسان العرب من الحذف والإيصال أن يَتَعَدَّى اللازم بواسطة تُحْذَفُ وهي في الكلام تُقَدَّرُ ، وكان من آخَرَ في الإطناب أَنِ اسْتَوْفَى مَدَارِكَ الحسِّ الظاهرِ من السمع والبصر والجلد ، مع تكرار النفي وأداته "لَا "، فذلك ، أيضا ، من زيادة المبنى التي تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، ومن ثم كان الاستدراك الذي يجري مجرى التعليل ، فما كنتم تستترون ، وذلك خطاب الجوارح إذ تشهد ، لأنكم ظننتم الظن الفاسد : (أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ التوكيد بالناسخ ، وذلك ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية ، وقد سَدَّ مَسَدَّ المفعولين للعامل "ظَنَّ" ، ولا يخلو من الإطناب بالناسخ ومدخوليه إذ ناب سِيَاقُهُمْ عن مفعولين يُقَدَّرَانِ في الكلام ، فَظَنَنْتُمْ عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، مُنْتَفِيًا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تعملون ، وذلك ظن يحكي الاعتقاد الجازم ، وإن فَاسِدًا ، وهو ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية أَنْ حصلت منهم جزما يقطع ، فالظن ، كما يقول أهل الشأن ، مادة يجردها الذهن ولها في الخارج آحاد تَتَفَاوَتُ على سبيل الاشتراك ، فَثَمَّ ظن يجري مجرى الجزم ، ومنه الصحيح كما في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، ومنه الفاسد ، كما في هذا الموضع ، وثم ظن قد حدث بعدا في اصطلاح قد تأخر في الأصول ، إِنْ فِقْهًا أو رِوَايَةً ، فَثَمَّ ظن غالب يفيد رجحانَ وجهٍ من الرواية أو الدراية مع احتمال ضِدٍّ مرجوح ، فيجري مجرى الظاهر الراجح الذي يستصحب دليلا يجزئ في الاستدلال إن في العلم أو في العمل حتى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الباب ، فيكون من ذلك تأويلٌ يُقْبَلُ إِنْ أَقَامَ المؤَوِّل على دعواه ما يشهد شهادةَ صدقٍ معتبَرَةٍ ، فمعه زيادةُ علمٍ تُوجِبُ الانْتِقَالَ إلى قوله عن أصل أول هو المستصحب بما كان من ظاهرِ دلالةٍ يَرْجُحُ رُجْحَانَ الظَنِّ الغالب ، فلا يكون الانتقال إلى قول المؤوِّل تحكما بلا دليل ، فذلك من الترجيح بلا مرجِّح ، وهو من الدعوى المجردة التي يجزئ في رَدِّهَا أخرى تضاهي وتعدل دون تَكَلُّفِ دليلٍ أَخَصَّ في الباب ، فإن صاحب الدعوى لم يُقِمْ عليها دليلا لِيَشْتَغِلَ المخالفُ بِنَقْضِ دَلِيلِهِ روايةً أو درايةً مع إقامةِ ضِدٍّ يُخَالِفُ ، فَلَا يَتَكَلَّفُ من ذلك شيئا لِيَنْقُضَ دعوى لا دليل عليها إلا هي ! ، فصاحبها قد استدل بصورة الخلاف فَفَسَدَ استدلاله إذ صَادَرَ عَلَى المطلوبِ ولم يكن له في أحسن أحواله إلا الاستدلال بالجواز العقلي المحض ! ، فذلك مما استوى طرفاه في الإثبات والنفي فلا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ دليلا من خارج يرجح ، فالجائز لا يستدل به وإنما يستدل له بما يرجح طرفا من أطرافه ، وإلا كان التوقف حتى يرد دليل من خارج يرجح ، فيستصحب الظاهر الراجح إذ يفيد الظن الغالب المجزئ في الاستدلال ، على التفصيل آنف الذكر ، فيستصحب هذا الظاهر حتى يرد دليل يُرَجِّحُ ضِدًّا من مؤَوَّل لا يظهر ، بادي الرأي ، فيصير المرجوح راجحا لا تَحَكُّمًا وإنما ثَمَّ دَلِيلُ تَرْجِيحٍ أخص يزيد على التجويز العقلي المحض ، وذلك ، من وجه آخر ، ظاهر مركب ، وإن خالف عن ظاهر أول هو البسيط المفرد ، إذ ثم ظاهر قد ائْتَلَفَ من دلالة أولى في المعجم المفرد مع ثَانٍ من قرينةٍ تُرَجِّحُ ، فذلك ، أيضا ، من ظَنٍّ راجح ، وإن خالف عن الظاهر المتبادِر أَنْ كَانَ من القرينة الأخص دليل هو الشاهد المرجِّح ، فَهُوَ ظَنٌّ أخص قد تَنَاوَلَ الرواية والدراية جميعا ، كما في حَدِّ الصحيح من خبر الآحاد ، فهو ، أيضا ، يفيد ظَنًّا يرجح إذ استوفى شرط الصحيح في الاصطلاح ، فأفاد من الظن الراجح ما يُسْتَصْحَبُ ، وهو استصحابٌ يُجَاوِزُ استصحابَ العدَمِ الأصلي ، فإن العدم الأصلي يوجب التوقف في قَبُولُ الخبرِ أو رَدِّهِ ، بل هو إلى الرَّدِّ أقرب احتياطا في باب الشرع ، وتلك فحوى التَّوَقُّفِ في القبول فيصير كالمردود ، ويصير ذلك هو الأصل في أي خبر لم تثبت صحته ، فالأصل فيه التوقف الذي يضاهي الرد ، فلا يستدل به في تصور أو حكم ، في علم أو عمل ، وكذا يقال في خبر آخر قد جاء من طريق ضعيفة لا تستقل بالحجية ، وَضَعْفُهَا ، مع ذلك ، ليس الضعف الشديد ، كما يضرب المثل بالمرسَلِ أو المدلَّس إذا لم يصرح الراوي فيه بالتحديث ، فتلك أنواع من الضعيف : ضعفُها الضعفُ المحتمل الذي يصلح في الاعتبار ما لا يصلح في الاحتجاج ، فلا يستقل به الناظر دليلا في إثبات إذ ضعفه مانع من ذلك ، ولكنه ، من وجه آخر ، مما يقبل الاعتضاد لا كالضعيف ضعفا قد اشتد ، فذلك ما يَتَوَقَّفُ الناظر ، بداهة ، أن يحتج به ، بل ويجاوز إلى رَدٍّ مُطْلَقٍ ، ولو في باب الاعتبار ، فضعفه الشديد مما لا يَنْجَبِرُ في نفسه ولا يَجْبُرُ غَيْرَهُ ، من باب أولى ، إذ فَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ ، فالضعيف ضعفا يَنْجَبِرُ مما يقبل الاعتضاد بآخر ، فَيَصْلُحُ فِي الاعتبارِ متابَعَةً أو شاهدًا لآخر ، وبهذه الصورة المجموعة يحصل من الاحتجاج ، ولو أدنى درجة في الباب ، ما لا يحصل بكلٍّ إذا انفرد ، فقد أفاد الجمع ما لا يفيد الفرد ، وحصل بذلك من الاعتضاد ما زاد في درجة الضعيف المنجبر ، فهو ، كما تقدم ، مما يوجب التوقف حتى يرد الدليل المرجح ، فَيُسْتَصْحَبُ في هذا الموضع : العدمُ ، عدمُ الاحتجاج به حتى يَرِدَ دليلٌ يُرَجِّحُ ضدا من الاحتجاج بما يكون من صورة الاعتبار المجموعة ، على التفصيل آنف الذكر ، وكذا الجائز الذي استوى طرفاه ، فالأصل في الخبر ، بادي الرأي ، التوقف ، حتى يكون ثم دليل يرجح إما القبول وإما الرد ، فيكون من ذلك بحث مدقق يَتَنَاوَلُ الإسناد والمتن كافة بما اصطلح في البحث التاريخي المحدَث أنه النقد الخارجي الذي يثبت صحة الوثيقة المكتوبة أو الرواية المنطوقة ، خلافا لمنهج البحث المحدَث الذي لم يعتبر في باب الخبر إلا الوثائق إذ ليس له من الرواية الشفوية حظ ، وليس له من معيار النقل في باب الرواية آخر ، بل وليس له من الإسناد ، بادي الرأي ، ما يَتَنَاوَلُهُ بالنقد ! ، فجعل ذلك القصور في نقل الأخبار الدينية والتاريخية ، جعله حُجَّةً على من عنده من ذلك إرثٌ عظيم من المرويات وَمِعْيَارٌ محكم في النقد الذي تَنَاوَلَ الرواة بالتعديل والجرح ، وَتَنَاوَلَ ظاهر الإسناد نَقْدًا خارجيا يُفَتِّشُ في الاتصال والانقطاع والإرسال ..... إلخ ، مع آخر قد تناول المتن بنقد داخلي بما اصطلح أنه علم العلل ، فإنها لا تقتصر على علل الإسناد ، وإنما ثم أخرى في المتن ، وهو ما استقرأه أهل الشأن ، فكل أولئك من المعيار المحكم في نقد الأخبار المنقولة نطقا أو أخرى كتبا ، خلافا لمن تَقَدَّمَ ذكره ممن بحثه المحدث لا إسناد له يَتَّصِلُ ، فَجَعَلَ نقصه دليلا يقدح به في كمال غيره ، فلا رواية له بإسناد ، ولو واحدا ، فَتَحَكَّمَ أَنْ قَصَرَ الباب على الوثائق حصرا ، وَصَيَّرَ جهلَه دليلا على غيره وإن عَلِمَ من الإسناد وطرائق الرواية ما لم يعلم ، فمن علم حجة على من لم يعلم ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، وكان آخر يحكي جهلا أعظم إذ زَعَمَ أن بحثه التاريخي المحدَث هو الأول من نوعه ، فقد انفرد به دون سائر الأمم ، وتلك ، كما يقول بعض من حقق ، تلك جهالة مركبة تحكي ضحالة في الاطلاع ، بل وَعَدَمًا ، فيكاد صاحبها يكون ممن أنكر البدهيات الضرورية لدى آحاد الباحثين في باب الرواية وقد علموا من تَفَرُّدِ الأمة الخاتمة بهذا العلم ما صَيَّرَهُ من خصائصها ، فَأَقَرَّ بذلك الوليُّ والخصمُ ، بل شهادة الخصم على ذلك مما اشتهر ، وإن فحشت عداوته للدين الخاتم ، فَثَمَّ ، وهو محل الشاهد ، ثَمَّ نَقْدٌ محكم في باب الرواية قد تَنَاوَلَ الإسناد نَقْدًا خارجيا قد استغرق المنطوق والمكتوب كافة ، والمتن نقدا داخليا ، فذلك بحث أخص به الترجيح في جائز من الخبر لا يُقْبَلُ ولا يُرَدُّ ، بادي النظر ، فإذا كان من ذلك البحث ما رَجَّحَ الرَّدَّ ، فالخبر يُرَدُّ إِمَّا الرَّدَّ المطلق لِمَا اشْتَدَّ ضعفه فلا يصلح ، ولو متابعة أو شاهدا في باب الاعتبار ، وإما رَدًّا دونه فيما لم يشتد ضعفه ، فَيَتَوَقَّفُ فيه حتى يَرِدَ دليل يُرَجِّحُ ضِدًّا من القبول بما يكون من الاعتضاد المعتبر بمتابعة أو شاهد ، وإن كان من ذلك البحث ما رجح القبول ، فهو ظاهر يُسْتَصْحَبُ إذ استوفى شروط الصحة المعتبرة ، إيجابا من اتصال الإسناد وثقة الراوي وضبطه ، وَسَلْبًا أَنِ انْتَفَى الشذوذ والعلة القادحة ، فَيُسْتَصْحَبُ هذا الظاهر ، وهو ما يفيد الظن الراجح الذي يجزئ ، كما تقدم ، في العلم والعمل ، فَيُسْتَصْحَبُ هذا الظن ، حتى يَرِدَ دليل أخص من شذوذ أو علة تَقْدَحُ ، فهو يوجب الانتقال عن أصل الصحة المستصحب بادي النظر .
فكان من ذلك دَرْسٌ مقارن إن في رواية الأخبار الدينية أو نظيرتها التاريخية ، وهو درس يَتَنَاوَلُ النقد الخارجي لإسناد الرواية المنطوقة أو المكتوبة ، وذلك ما استوجب جَمْعَ الطرق والكتب والمقارنة بَيْنَهَا على قَاعِدَةِ نَظَرٍ يدق فهو يَتَنَاوَلُ منها الاختلافات ، وَإِنْ دَقَّتْ ، ويميز منها المخارج ، فَلَا يُسَوِّي بَيْنَ ما ظاهره تَعَدُّدُ المخارج وأصله واحد ، وما تعددت مخارجه ، فَثَمَّ من الطرق المجموعة زيادات بها يَسْتَبِينُ الخطأ ، وأخرى يستفاد منها إن في الإسناد أو في المتن كما اصطلح في علم الرواية أنه زيادة الثقة .... إلخ من معايير النقد والنظر المحكمة ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، أمر يستوجب التحرر من نَزْعَةِ التَّقْلِيدِ في تدوين التاريخ ، والتي تعتمد الرواية المجردة دون نَظْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ اصطلح في الدرس التاريخي المعاصر أنها النقد الداخلي لمتن الخبر ، وهو محل نِقَاشٍ في الدرس الإسلامي المعاصر ، فَثَمَّ من ينظر في نشأة التدوين لدى كل فريق ، ففي الدرس الإسلامي كانت نشأة الرواية التاريخية التي غلب عليها الجمع والتدوين ، كانت هذه النشأة على قاعدة فكرية مستقرة ، فالوحي قد أعطى العقل المسلم جواب السؤالات الكونية الكبرى التي انطلق منها العقل على قاعدة محكمة من النقل ، وهو ما يُشَبِّهُهُ بَعْضُ المفكرين بشهود النبوة وشهود التصوف ، فشهود النبوة في الغار وما كان بَعْدًا في المعراج ، كان قوة روحية كبرى باشرت بها النبوة التأثير الفاعل في ضبط حركة التاريخ ، خلاف الشهود الصوفي ذي الطابع التجريدي الذي خَرَجَ من دائرة الفعل الإصلاحي بعد سلوكه مسلك الفلسفة الباطنية ذات الأصول اليونانية التي غلب عليها الطابع التجريدي ، فالوحي ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، بدايةٌ ، بدايةُ الفعل المؤثر في الخارج دعوة وفتحا ، فتلك حركة فاعلة تضبط التاريخ إذ تأطره على جادة تَنْصَحُ ، والكشف عند صاحبه نهاية سالبة للفعل والحركة ، لا جرم كان من اليقين المحدَث ما لم تَأْتِ به نُبُوُّةٌ إذ صَارَ الغاية من العبادة ! فالتكليف يسقط عندها ! ، والتكليف يَبْدَأُ عند النبوة ، فشتان ! ، فكان صراع العقل المسلم الذي أكسبه الوحي خاصة التجريب والبحث في منهج استقراء في مقابل منهج استنباط في الفلسفة اليونانية ، فَخَاصَّةُ النقد في العقل الاسْتِقْرَائِيِّ أصيلة ، وهو ، كما تقدم ، ما انطلق منه العقل المسلم في فِعْلِهِ الفكري والعلمي والسياسي من قاعدة مستقرة من الوحي الذي امتاز بخاصة العصمة ، فمنح الأمَّةَ الخاتمة هذه الخاصة ، لا عصمة الأفراد ، وإنما عصمة المجموع التي تَمَثَّلَتْ فِي الدليل الثالث من أدلة الأحكام ، دليلِ الإجماعِ ، فعصمة الأمة في إجماعها قد نابت عن عصمة النبوة في أخبارها وأحكامها ، وعصمة الأمة ، كما يقول بعض المحققين ، قد أغناها عن عصمة الأئمة ، فالإمام في الدرس الإسلامي السياسي السني : نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حفظ الوحي وسياسة الدنيا به ، ونيابته المثلى إنما تكون باختيار الأمة ، وإن لم يشترط فيه الإجماع إلا أنه الصورة السياسية للإجماع الأصولي ، فَلَهُ صورة فقهية في الأحكام ، وله صورة سياسية في السلطان ، فالإمام في الفكر السني ليس المعصوم الذي لا تجوز مخالفته ، وليس نائب المعصوم الذي ينوب عنه حتى خروجه ، وإنما الإمام في الفكر السني نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، من وجه ، ونائب عن الأمة ، من آخر ، فينوب عنها باختيارٍ ، إِنِ الإجماعَ أو الرجحان ، فلا يشترط الإجماع القطعي المقرر في الدرس الأصولي ، فخلاف الواحد أو الاثنين يضر في الإجماع الفقهي ما لا يضر في الإجماع السياسي ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ البيعة السياسية الإجماع القطعي ، وإنما تنعقد البيعة الخاصة باختيار أهل الحل والعقد ، وهي ما لا يَكْتَسِبُ الشرعية السياسية المثلى إلا أن تُتْبَعَ بالبيعة العامة ، بَيْعَةُ السقيفة وهي بَيْعَةُ أهلِ الحل والعقد من رءوس المهاجرين والأنصار وإن غاب عَنْهَا بعض السابقين من الْقَبِيلَيْنِ ثم البيعة العامة في المسجد فذلك مثال قياسي للبيعة السياسية في الفكر السياسي السني ، فانتقلت العصمة من النبوة إلى الأمة ، فإجماع الأمة معصوم كما الوحي ، وإن كان الوحي أصل الأدلة كافة ، فالكتاب المنزَّل ، كما يقول الأصوليون ، هو الذي دل على حجية السنة ، وهما جميعا قد دَلَّا على حجية الإجماع ، وهو الذي أغنى الأمة الخاتمة عن نُبُوَّةٍ بعد النبوة الخاتمة التي كانت روح الفكر والحركة الفاعلة حتى قيام الساعة ، وإن كان ثم فُتُورٌ في أجيال ، وَهُوَ مَا يُبِينُ عن عظم الجناية التي قَارَفَهَا الاستبداد في العصر المتأخر الذي سَلَبَ الأمة الخاتمة خَاصَّةَ الاجتهاد الفاعل في الفقه والسياسة والحرب والاقتصاد والتجريب والبحث وقواعد العمران والاجتماع على قاعدة محكمة من الدين والأخلاق ، فَتَعَطَّلَتْ فِيهَا القوى الفاعلة إذ قَيَّدَهَا الاستبداد الذي انْتَزَعَ منها أدوات القوة الفكرية والحركية ، المعنوية والمادية ، فلم يَعُدْ ثَمَّ منها فِعْلٌ يُبَادِرُ ، وغلب عليها التقليد والجمود وذاعت فِيهَا مذاهب الجبر والقعود التي غَلَتْ في الاحتجاج بالقدر الكوني النافذ ، وذلك الحق الذي يُرَادُ به الباطل ، فَثَمَّ آخر قد جفاه النظر الجبري القاعد وهو الاحتجاج بآخر من القدر الشرعي الحاكم الذي يَتَنَاوَلُ الأسبابَ معالجةً ومدافعةً ، فلا يستقر إيمان إلا على قاعدة تسليم بالقدر الأول ومعالجةٍ لأسباب الشرع المنزل الذي به يَتَأَوَّلُ الفاعل ما قُدِّرَ أولا فلا يخرج عن محكم سَطْرِهِ ، وإن لم تكن تلك ذريعة إلى قعوده وكسله ، فإنه لا يعلم ما قُدِّرَ لدى المبدإ لِيَحْتَجَّ به على نَقْصٍ وَفَشَلٍ ، وإيمانه ، لو الْتَزَمَ قسمته في نص الشرع المحكم ، إيمانه قد استوجب آخر قد أمر بمعالجة الأسباب المشروعة ، فلا يكون حَظُّهُ مِنَ الوحيِ المحكَمِ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ ويكفر بآخر ، فكان من ذلك ما أوجزه بعض المتأخرين من نظار المركز في عبارة ناصحة ، وإن من خصمٍ يناجر فهو العدو العاقل ! ، أَنْ جَعَلَ الإيمان بالقدر لدى القبيل الرسالي الخاتم : سَبَبًا فِي نَهْضَةٍ أولى ، وآخر في قُعُودٍ وَكَسَلٍ لدى الجيل المتأخر ، فالسبب واحد ، وإنما اختلف تأويله لدى كُلٍّ تَصَوُّرًا وَحُكْمًا ، فَتَصَوَّرَهُ الجيلُ الأوَّلُ التَّصَوُّرَ الناصح الذي صَيَّرَ الاعتقاد قوة باعثة من الروح بها تحركت الأجساد والجوارح فَتْحًا للأرضِ وعمارة ، وحملانا للوحي إلى الناس كافة ، رسم الخيرية الخاتمة ، فـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، وهي خيرية التكليف وبه التشريف إِنِ امْتُثِلَ دعوةً إلى الهدى ودين الحق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، ما استوجب شَطْرَيْ قِسْمَةٍ قد اطردت في نصوص الوحي كافة : الجمال والجلال ، جمال الكتاب إذ يَهْدِي ، وجلال السيف إذ لِوَسَاوِسِ الخصم يشفي ، فذلك ما تَصَوَّرَ الجيل المتقدم من إيمان بالقدر الأول ، في مقابل آخر قد عمت به البلوى إذ تصوره الجيل المتأخر أنه سبب في القعود والكسل وَتَرْكِ المعاجلة للأسباب ، وترك المجاهدة لِذِي الظلم والعداون ، إِنْ مِنَ المستبِدِّ الذي يحكم أو المحتل الذي يَغْزُو ، فتمام الإيمان أن يُسَلَّمَ لهم ، فَهُمْ قدر التكوين النافذ وليس ثم مؤمن ينصح وهو مع ذلك يُدَافِعُ القدر المنزل ! ، وإن بقدر آخر قد تَنَزَّلَ بشريعةٍ تَنْهَى وَتَأْمُرُ ، وتعالج من أسباب الكون ما به صلاح الحال والمآل كافة ، فالسبب واحد وشتان التأويلان في الخارج .
وكان من أَسْبَابِ النَّقْصِ ، أيضا ، نَزْعَةٌ روحيَّةٌ رياضية قد سَرَتْ إلى العقل المسلم من قَبِيلِ العجم الذي احتفظ بإرث رياضي ذي مسلك باطني يَغْلُو في التجريد في مقابل مَا تَقَدَّمَ من خاصة العقل المسلم الفاعل في البحث والتجريب ، فالتجريد الروحي والنظري يَسْتَنْزِفُ طاقة العقل في بحث سالب لا أَثَرَ له في الخارج ، لا في تجديدِ فكرٍ ولا سياسة ..... إلخ ، لا جرم دعم الاستبداد المتأخِّر هذا السلوك الروحي المحدَث الذي منح السلطان شرعية مطلقة تَسْتَبِدُّ إذ تَسْتَنِدُ إلى حق إلهي قد أَمْلَاهُ القدر نَظَرًا في الباب قد أهمل عين الشرع الحاكم وما أوجبه من بذل السبب الفاعل في الاختيار والإنكار والتغيير .... إلخ ، فذلك ما اجتهد الاستبداد في حسم مادته من العقل الرسالي في الجيل المتأخر مع ما أصابه ، بادي الرأي ، من خمول وكسل ، ورغبة في التقليد لا الاجتهاد وإعمال النظر ، فَمَنَحَ ذلك القعودُ في الفكر والحركة ، مَنَحَ الذريعةَ لاستبدادٍ في الداخل ، وكان من الغزو المحتل من خارج ما دعم كُلًّا ، فَدَعَمَ المسلك الروحي الخامل ، ودعم الاستبداد الحاكم ، فتلك البلوى التي تَعَدَّدَتْ روافدُها من النفس : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ومن غَيْرٍ قد تسلط إن في داخل يَظْلِمُ وَيَقْمَعُ ، أو من خارج يدعم ويمد بالأسباب الفاعلة بما يُضْفِي من شرعية سياسة قد احتكر أدواتها في الجيل المحدث ، وأخرى أخص فهي دعم ذو طابع مادي مباشر ، فعمت البلوى بِرَوَافِدَ تكثر منها بَعْضٌ من نَفْسٍ قد استوجبت الإصلاح ، ومنها آخر من خارجها قد استوجب المجاهدة والدفع بِمَا تَيَسَّرَ من أسباب بها يتأول المدافع سنن الشرع المحكم في مجاهدة الخصم ، وذلك ما استوجب الفقه الأخص في نَظَرِ حِكْمَةٍ يضع أسباب المجاهدة في الموضع الذي يلائم ، فَلَا يَتَعَجَّلُ فِي دَوْرٍ ، وإنما يُعْطِي كُلَّ ذي حق الحقَّ ، ويحسن يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال ، بما حصل له من وصف ضعف يستوجب المداراة مع دعوة إلى السبيل بحكمة وموعظة تحسن ، فـ : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، فالجمال فيها غالب وإن لم تخل من جلال عابر يزجر الخصم أَلَّا يجاوز الحد إن آنس الضعف الذي نال من قَبِيلِ الحق في أجيال الابتلاء بالشر فتنة قَدْ عمت فَتَنَاوَلَتْ أعظمَ أجناسها : فتنة في الدين قد جاوزت في الوصف القتل ، فـ : (الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، فَيُحْسِنُ يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال بما حصل له من أسباب تضعف في مواضع أو أخرى من قُوَّةٍ في السياسة والحرب ، فهي تستوجب الدفع بِعُدَّةٍ تُنَاجِزُ ثم الطلب بأخرى تُبَادِرُ إن كان من ذلك قوة ترهب الخصم مع جمال في دعوة الخلق إلى الحق ، فتلك الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يعبد الله ، جل وعلا ، وحده ، ولا يكون ذلك إلا بدعوة الخلق إلى الحق ، ومبدؤه حملان الوحي بِرَسْمِ الدعوة أو الفتح ، ولكلٍّ كما تقدم ، فضاء فيه يتحرك بما يواطئ معيار النظر المحكم أن يوضع كُلٌّ في الموضع الذي يواطئ ، وذلك ما استوجب الرجوع إلى الوحي ، ولو بعد خمول وكسل ، قد ضمرت به خاصة العقل الرسالي أن يجتهد في النظر على قاعدة من النقل قد استقرت ، فالوحي قد احتفظ بأصوله الناصحة وقوته الفاعلة في إحياءٍ وتجديدٍ يَتَكَرَّرُ تأويلَ الوعد المصدق في آي الوحي المنزل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان من ذلك قاعدة محكمة انطلق منها العقل وقد استقر له منها نقل صحيح قد أجاب عن سؤالات الخلق الأول وما يكون من المصير والغاية ، وما يحتاج الناس من شريعة الأمر والنهي المحكمة التي اتسعت مدلولاتها بما انضاف إليها من روافد الرأي والاجتهاد المعتبر الذي عَزَّزَتْهُ خاصة النقد في العقل الاستقرائي الذي تحرر من قيد الدرس اليوناني الاستنباطي ذي الطابع التجريدي ، وهو ، مع ذلك ، لم يخرج عن قاعدة النقل الصحيح الذي أغناه عن سلوك جادة البحث في سؤالات الفلسفة الأولى ، سؤالات الخلق وأصل الكون وغاية الأمر .... إلخ ، فذلك ما جعله بعض الباحثين سَبَبًا في غلبة النقل والتدوين دون بحث أخص في التحليل والتركيب طلبا لنظرية تفسر الكون ، فالقاعدة الفكرية قد استقرت ، ثم جاء التدوين التاريخي الذي اهتم بالجمع ، ولم يشترط من نقد الأخبار التاريخية ما اشترطه في الأدلة الشرعية ، فإن النقد الخارجي والداخلي قد انصرف جُلُّهُ إن لم يكن كُلُّهُ إلى الأدلة الشرعية التي عمت بها البلوى ما لم تَعُمَّ في الأخبار ، وذلك خلاف ما كانت الحال في المثال الغربي العلماني الحديث ، فإنه قد نشأ في سياق مغاير ، فكان من ذلك ، كما يقول بعض الباحثين ، الانتقال من هيمنة الكنيسة ذات الدرس الفلسفي المجرد ، الفلسفة المدرسية مثالا ، وقد أخذت من الرُّشْدِيَّةِ تقريراتها الأرسطية ، فكان من ذلك جمود غلب على العقل الغربي في العصر الوسيط ، فكان الانتقال الإصلاحي المتدرج في عصر النهضة ، والانتقال الثوري الحاد في عصر الأنوار ، وهو ما قَوَّضَ أركان النظرية الكونية والدينية لدى الكنيسة ، فاحتاج العقل الغربي إلى إجابة جديدة عن سؤالات الوجود والغاية بعد أن أخفقت الكنيسة في الإجابة إذ لم يكن من دِينِهَا إِلَّا دِينٌ مُبَدَّلٌ مُحَرَّفٌ قد نالته أيدي الكهنة بالعبث مع ما كان من طغيانهم ذي الطابع الهرمي المركزي الصارم الذي انطلق من قاعدة عصمة للبابا والإكليروس ، فَمَا عَقَدُوهُ فِي الأرض فَلَيْسَ يُحَلُّ في السماء ، وما حَلُّوهُ في الأرض فليس يعقد في السماء ، وتلك عصمة الأعيان التي احتكرت منصب النيابة عن الوحي ، كما الأئمة في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي ، فَأُخْرِجَ المجتمع من معادلة الفكر والحركة ، بل وَأُخْرِجَ من التاريخ وصار القوة المعطلة التي تنتظر المخلَّص ، أو هي تابعة للإمام أو البابا المشرِّع ، واضمحل الإجماع الفكري والسياسي فلا حاجة له وثم معصوم يَتَصَدَّرُ المشهد ! ، فكل أولئك مما ألجأ العقل الغربي وقد أَبَى الانقياد للوحي ، إذ لم يَرَ منه إلا الصورة المبدلة المحرفة ، ولم يكن من الإنصاف لديه أن ينظر في الوحي الحاكم على الضفة المجاورة ، فَثَمَّ إرث من الأحقاد المركوزة في الوجدان الغربي من لدن الحملات الصليبية ذات الطابع الديني المتعصب ، وهو ما لم ينجح الوجدان الغربي في التخلص منه ، وهو الفرع ، وَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْ سلطان الكنيسة وهو الأصل ! ، فانطلق في فضاء من الشك والحيرة وقد كفر بالدين القديم كله ، ولم يجد من القاعدة الفكرية الصلبة ما يصدر عنه في تصوره وحكمه ، فكان ذلك سَبَبًا رَئِيسًا في ظهور المدرسة النقدية التاريخية التي اهتمت بالتأصيل والتدوين معا ، فكان نظرتها الفلسفية في التاريخ طلبا لنظرية جديدة تفسر بها الظاهرة الكونية والإنسانية بعيدا عن الدين الذي لم تجد من مُمَثِّلِهِ في الحياة العامة ، وهو الكنيسة ، إلا كلَّ استبدادٍ وظلم ، وكان الانتقال الحاد من تجريد غال إلى تجريب غال قد جاوزت فيه المدرسة الوضعية حدود العلوم التجريبية فتناولت بالبحث التجريبي : القيم والمبادئ المستقرة ، وصارت الأخلاق وقواعد الاجتماع .... إلخ ، صارت نسبية لا موضوعية مطلقة من خارج .

والشاهد أَنَّ من ظن أولئك النَّفَرِ الذي جلس في بَيْتٍ وقد كَثُرَ منه الشحم وخف منه العقل ، كان من ظَنِّهِ : ظن فاسد ، وإن اعتقدوه جزما فذلك من خذلان في الباب يَعْظُمُ ، أن يفسد التصور فَيَرَى صاحبه الباطِلَ حقا ، ويعتقده جزما ، فكان من ذلك : ظَنُّهُم الذي يقبح إذ : (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُكِيَ ماضيا فأفاد من ذلك تسجيلا أخص لجنايةٍ تَعْظُمُ ، وهو ما حَسُنَ معه الإطناب بالناسخ المؤكد ومدخوليه : جملةً سدت ، كما تقدم ، مسد المفعولين ، وثم من التوكيد أخرى قياسية في الباب ، كما الاسمية : اسمية الجملة حكايةَ الثبوت والاستمرار ، مع إطناب في الخبر : (لَا يَعْلَمُ) ، فقد حُدَّ جملةً ، مع تكرار الفاعل إذ اسْتَتَرَ في العامل "يَعْلَمُ" الاستتار الجائز ، ومرجعه المبتدأ الأول ، اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، فهو ، من هذا الوجه ، رابط قياسي في الباب إذ افْتَقَرَ إليه الخبر الذي حُدَّ جملة فلا بد من رابط يرجع إلى المبتدإ ومنه الضمير آنف الذكر ، فَتَكَرَّرَ الفاعل : فاعل اللفظ الذي استكن في العامل "يَعْلَمُ" ، وفاعل المعنى وهو المبتدأ : اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، وثم من المضارعة في العامل "يَعْلَمُ" ما به استحضار الصورة وهو آكد في تسجيل الجناية ، مع عموم قد استغرق وهو في الباب أقبح ، فكان منه نَفْيُ العلم عن الله ، جل وعلا ، النَّفْيَ العام المستغرق إذ تسلط النَّفْيُ على المصدر الكامن في الفعل "يَعْلَمُ" .
ومن ثم كان الإطناب إشارةَ البعيدِ إلى ما تَقَدَّمَ قريبا ، فـ : (ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فكان من ذلك إشارةُ بعيدٍ إِمَّا جريا على معهودِ لِسَانٍ أول به الوحي قد تَنَزَّلَ ، أو هو ذو دلالة أخص إذ يحكي البعد تحقيرا لذلك الظن الفاسد فمنزلته من الوصف منزلة السافل ، وثم من الخبر : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) ، وهو ما أجراه بَعْضٌ مجرى التعدد في الأخبار حكاية الإطناب ، فكان من ذلك زيادة مبنى تحكي أخرى تضاهي من المعنى ، فكان من الأخبار : "ظَنُّكُمُ" و : "الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ" ، و : "أَرْدَاكُمْ" ، وكان من الأخير أخص يحكي المآل الذي يقبح ، وهو مما به العاقل يعتبر ، فيخالف عنه لئلا يكون من مآله ما يفجع ، وهو ما حسن معه الإطناب في خبر تال : (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فذلك آكد من القول في غير التنزيل : فأصبحتم خاسرين ، فَزِيدَتْ "مِنْ" ، وَهِيَ تحكي بَيَانَ جِنْسٍ وابتداءَ غايةٍ ، فَكَأَنَّ وصفهم قد ابْتُدِئَ من معدن الخسران ، وذلك أقبح في الوصف ، مع استغراق قد دلت عليه "أل" ، فَثَمَّ منه المعنوي الذي استغرق وجوه الخسران كافة ، ولا يخلو الخبر ، من هذا الوجه ، أن يدل على إنشاء به الاعتبار نهيا عن انتحال هذا الظن الفاسد ، وَأَمْرًا بِضِدٍّ من اعتقاد في الله العليم ، جل وعلا ، اعْتِقَادًا يَنْصَحُ أَنَّهُ قد أحاط بكلِّ شيءٍ علما .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

BB code is متاحة
رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
هل نشر القاموس المحيط مضبوطا و مشكولا ؟ أحمد عبد اللـه أخبار الكتب وطبعاتها 0 19-10-2012 05:40 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 02:42 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ