|
|
#1
|
|||
|
|||
![]() الكتاب الخاتم : معيار الحكمة التي بها الوحي قد تَنَزَّلَ ، فكان من كتابه حق هو المطلق وَمِيزَانٌ في الدلالة هو المحكم ، فَثَمَّ من كتاب الوحي ما تَنَزَّلَ ، وهو بالحق والميزان قد نَزَلَ ، فكان من ذلك نُزُولُ الجملةِ إلى سماء الدنيا فـ : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، فَثَمَّ القصر إذ عُرِّفَ الجزءان ، الاسم الأعظم ، اسم الله الأعز الأكرم ، وما أسند إليه من الموصول الاسمي "الذي" ، وله من دلالة الأصول عموم يستغرق ، فذلك حد الموصول وهو نص في العموم ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، وإن أُفْرِدَ لَفْظُهُ ، فإنه يصدق في الآحاد في الخارج كافة على حد الشمول المستغرِق ، كما في الموصول الاسمي المشترك "مَنْ" و "مَا" ، فهما المفردان في المبنى ، العامَّانِ في المعنى ، ودلالتهما على العموم أظهر لما كان من معنى اشتراك أَعَمَّ ، لا كالموصول الاسمي المختص ، لا سيما المفرد كما "الَّذِي" محل الشاهد ، وهو مع ذلك ، نص في العموم يستغرق إذ يكون النظر في المعنى الذي اشتقت منه الصلة فهو مما يبين عن إجماله ، من وجه ، وبه عَلَّلَ أهل الشأن بناءَه إذ يُشْبِهُ الحرفَ ، وهو الأصل في المبنِيَّاتِ ، فَغَيْرُهَا عليه يُقَاسُ ، فَقِيسَ الموصول على الحرف في حكم البناء لجامع من العلة وهي المعنى الذي يُعْقَلُ ، فذلك الافتقار إلى ما تَلَا أن يبين عن معناه الذي يُرِيدُ المتكلم ، فالمعنى الذي اشتقت منه الصلة يبين عما أُجْمِلَ من الموصول ، من وجه ، وهو ، من آخر ، مِمَّا يَرْفِدُ معناه إن كان مما يستغرق آحاده في الخارج ، كما يقال مثالا في قوله
![]() ![]() ![]() وثم من رَفَدَ "أُفٍّ" ، بادي الرأي ، بالنظر في المعنى الأعم ، فَهِيَ ، ابتداء ، عنوان لكلِّ مَا اسْتُكْرِهَ من السب والضرب ..... إلخ ، فَدَلَّتْ ، بادي الرأي ، دون افتقار إلى قياس في الشرع أخص ، إذ قياس اللسان قد جَاوَزَ بها المنصوص ، فكان منه آخر أعم لم يخرج عن معيار اللسان فِي حكايةِ المعاني والدلالات ، وكذا قِيلَ في اسم الخمر ، فَثَمَّ من يَتَنَاوَلُهَا تَنَاوُلَ الأجناس المنصوصة في الآثار ، فيجرد منها عِلَّةً هي الإسكار ، وَيُلْحِقُ لأجلها ما حدث من الفروع المسكرة في الأجيال المتأخرة ، يلحقها بالأصول الأولى المنصوص عليها في الخبر ، وثم من يقيس القياس الأعم : قياس اللسان إذ اسم الخمر ذو دلالة في الاشتقاق ، فهو يَتَنَاوَلُ كلَّ ما خامر العقل وستر ، فمادة "خَمَرَ" إذ يجردها الذهن فهي تَحْكِي جنس التغطية والستر ، فَيُقَالُ : خِمَارٌ لِمَا يُغَطِّي الرأس ، ويقال آنية مخمرة إذا غُطِّيَتْ ، ويقال خمر إذ تخامر العقل وَتُغَيِّبُهُ ، وذلك يجزئ في المبدإ إذ يدخل فيه كلُّ ما يصدق فيه اسم الخمر ، مائعا أو جامدا ، فقد تَنَاوَلَهُ التحريم أولا دون حاجة تلجئ إلى القياس على المنصوص الأول من العنب ..... إلخ ، فذلك عنده مما يَجْرِي ، من وجه ، مجرى الْمُثُلِ الْمُبَيِّنَةِ فلا تخصص العام ، وذلك ما يُسَلِّمُ به المخالف مِمَّنْ جَاوَزَ بالقياس فَهُوَ قِيَاسُ الشَّرْعِ الأخص ، فَلَمْ يقصر الخمرَ ، أيضا ، على المذكورات ، وإنما اجتهد أن يحرر منها مَنَاطًا بِهِ يُلْحِقُ الفروع بها لِعِلَّةٍ تَجْمَعُ وهي مما يحصل بالسبر والتقسيم ، وإن كان من النص عَلَيْهَا إسكارًا أَخَصَّ ، وإن كان من ذلك في الخبر ما أجزأ ، فـ : "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" . والشاهد أن من العلم المستغرق للجزئيات ، وإن في التكوين وهو المبدأ ، أن من ذلك العلمِ العامِّ المستغرقِ للكلياتِ والجزئيات كافة ، أن من ذلك العلم ما أبطل دعوى الحداثة إذ تَلَطَّفَتْ بما استعارت ، ولو لازمَ القول ، بما استعارت من مقال الحكمة الأولى فقد قصرت العلم الإلهي على العلم الكلي المجمل دون آخر جُزْئِيٍّ يُفَصَّلُ ، فكان من ذلك تعطيل في الإلهيات يَقْبُحُ إذ قد خالف عن وحي النبوات ، وهو المرجع في بابِ غيبٍ لا يُتَلَقَّى إلا من مشكاةِ صدقٍ تجاوز ، وإن دَلَّ عليه العقل والفطرة ، فذلك دليل مجمل لا ينفك يطلب آخر يُفَصِّلُ ، فكان من الوحي ما أبان ونصح في الباب ، فالعلم الإلهي محيط قد استغرق الكليات والجزئيات كافة ، وهو ما قد عَمَّ ، من وجه آخر ، فكان منه تأويل أول من كلامٍ يُسْمَعُ وَيُكْتَبُ ، فكان من ذلك ما سُطِرَ فِي لَوْحِ تَقْدِيرٍ أول ، وهو المكتوب ، وكان من تأويل آخر له وهو المسموع الذي تحمله الملك وبه نَزَلَ ، فمنه كلام تكوين ينفذ ، ومنه آخر هو تشريع يُخْبِرُ وَيَحْكُمُ ، ومن الأول ، وهو التكوين ، منه نَوْعٌ لِمَا عَلَا من جنسِ الكلام المطلق ، ومنه ، من وجه آخر ، جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ ما دونه من الأعيان والأحوال ، فَثَمَّ من كلم التكوين النافذ : أول به الإيجاد المصدق لما كان أولا من علم محيط يقدر ، وتال به التدبير المحكم بما يكون من إجراءِ أسبابٍ تَنْصَحُ المحالَّ كافة ، وثم من كلم التشريع آخر في قسمة الأنواع في الخارج ، فكان من لَقَبِ التَّشْرِيعِ فَصْلٌ يَمِيزُ في الحد والتعريف ، وتحته آحاد فهو جنس لها من هذا الوجه ، فَثَمَّ آحادُ أخبارٍ تُصَدَّقُ ، وثم آحادُ إِنْشَاءٍ تُمْتَثَلُ ، وبهما جميعا اسم ديني يجزئ في حصولِ توحيدٍ يَنْفَعُ ، توحيدِ الخالق ، جل وعلا ، بما تَنَزَّلَ به الملَك من كلمات الإيجاد والرزق والتدبير ، وتوحيد الشارع ، جل وعلا ، بما تَنَزَّلَ به الملَك من كلمات الأخبار التي ترفد المحل بِعِلْمٍ يَصْدُقُ ، وكلمات الأحكام التي ترفد المحل بعمل يَنْصَحُ , فيكون من ذلك مجموع قِدِ ائْتَلَفَ من الصدق والعدل ، وتلك مادة الكتب ، فذلك الكتاب الذي أنزله الله ، جل وعلا ، بالحق في أخبارِ صدقٍ في نفس الأمر فهي ترفد الجنان بما نصح من العلم ، والميزان ، ميزان العدل في الأحكام ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما جاوز في الحد حكوماتِ الأمرِ والنهيِ ، ومنها المعقول الذي يطرد وينعكس فيكون من ميزان العقل ما يَضْبِطُ ، إذ المعنى يُعْقَلُ ، وهو مناطُ حكمٍ يَنْصَحُ ، إذ يدور معه وجودا وعدما ، وذلك مما جاوز الأحكام إلى الأخبار فلا تخلو من ميزانٍ ، وإن لَطُفَ في الاستدلال ، فذلك قياس الطرد والعكس إذ يَتَنَاوَلُ الخبر كما الحكم ، فَثَمَّ من الأخبار وعد من آمن ووعيد ممن كفر في المقابل ، فكان منهما أصل يطرد وينعكس ، إذ يناط المعنى بِوَصْفٍ يُعْقَلُ ، فهو يدور معه وجودا وعدما ، فذلك الميزان العام المستغرق الذي تناول الأخبار كما الأحكام ، وبكلٍّ : الحق والميزان ، بكلٍّ قد نَزَلَ الكتاب إن في الأخبار أو في الأحكام ، وذلك مما يزيد في دلالة "أل" في "الكتاب" فهو يجاوز ما تَبَادَرَ من عهد أخص ، آي التنزيل المتواتر ، فَثَمَّ من دلالة "أل" ما جاوز فاستغرق الخبر كما الآي ، إذ تَقَاسَمَا جنس الوحي الأعلى ، فمنه كتبُ آيٍ تَوَاتَرَتْ ، ومنه كتبُ أخبارٍ جُلُّهَا آحادٌ تَنْصَحُ في الاستدلال ، وإن لم تُفِدِ القطع ، فَثَمَّ من الشرط مَا أُحْكِمَ ، وهو ما تَنَاوَلَهُ أهلُ الشأنِ في حد الصحيح المجزئ في الاستدلال العلمي والعملي كافة ، ومن الْكَتْبِ : كَتْبُ أخبارٍ تَنْصَحُ الجنانَ بمادة صدقٍ ، وَكَتْبُ أحكامٍ تَنْصَحُ الجنان واللسان والأركان كافة بمادة عدلٍ ، فيكون من ذلك صلاح عام قد استغرق بما نَزَلَ من الكتاب المحكم من عند الرب المهيمن ، جل وعلا ، وذلك ما حَسُنَ معه القصر بتعريف الجزأين في قوله ![]() فَيَكُونُ من التلاوة المعتبرة ما به الاعتبار يَنْصَحُ أَنْ كان له من لسان الوحي ما يفقه ، فَثَمَّ تلاوة مَبْدَؤُهَا نُطْقٌ ، ولا تُجْزِئُ إن لم تُشْفَعْ بالفقه الذي يجاوز الأصوات المنطوقة فَيُسْتَدَلُّ بها على أخرى تُرَادُ لذاتها ، فهي مناط التكليف تصديقا وامتثالا ، فلا يكون من الأصوات المنطوقة ما يَنْفَعُ إِلَّا أَنْ تُشْفَعَ بمدلولاتِها من المعاني المعقولة ، ومنها الخبري الذي يُصَدَّقُ ، ومنها الإنشائي الذي يُمْتَثَلُ ، فتلك تلاوة في الباب ثالثة ، إذ المبدأُ ، كما تقدم ، تلاوة الألفاظ ، وهي مناط الاحتجاج ، ولا يحصل بها أمانيَّ ما يَنْفَعُ حَتَّى تكون ثانية من تلاوةٍ تُفْقَهُ ، تلاوةِ المعاني المعتبرة بما دَلَّ عليه لسان الوحي ، فَفِقْهُهُ ، من هذا الوجه ، فرض عين ، إذ لا يكون تكليف إلا بمعلوم ، وهو ما يجاوز المنطوق فَكَمْ تَالٍ لَا يَفْقَهُ ما يتلو إلا أماني فهو لها يُرَدِّدُ ، فَوَجَبَ تَالٍ من الفقه لا يُنَالُ إلا بفقه اللسان الذي به نَزَلَ الكتاب ، لا جرم كان من جِنَايَةِ الحداثة أَنِ احْتَالَتْ لِتَبُتَّ الصلة بما كان من إِرْثِ اللِّسَانِ نَظْمًا وَنَثْرًا مع دعاوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذابُ والهلكةُ أَنْ يكون ثم تَيْسِيرٌ في النطق بما يواطئ عرف الجيل والعصر ، وإن خالف عن قانون اللسان المحكم فاستبدل به لهجات تخرق قانونه الأول من نحوِ كلامٍ يَنْظِمُ الكلماتِ في سِلْكٍ مُحْكَمٍ ، فكان من ذلك فساد اللسان بما دخله من العجمة واللحن ، وإن زَعَمَ صاحبه أنه يُجَدِّدُ في النطق ، فَهُوَ يأتي على أصله بالإبطال أَنْ يُجَرِّدَهُ من أدلته المحكمة بما أُثِرَ من منظوم ومنثور ، فيكون القدح في صحة النقل أنه مما انْتُحِلَ بَعْدًا فلا أصل له في المبدإ ، فإذا بطل الاحتجاج به في تفسير الوحي ، فقد صار اللفظ بلا معنى فلا يصدق فيه أنه كلام يُفْهِمُ ، وصار كتاب تأويل مفتوح ، فكلٌّ يَتَأَوَّلُ منه ما يواطئ الهوى والذوق ، إذ لم يكتمل بَعْدُ فِي الحدِّ ، حدِّ الكلام المجزئ لدى النحاة ، فقد صار لدى أولئك ألفاظا تُتْلَى أماني بلا معان تأطرها على جادة إِفْهَامٍ فلا بد لها من مرجع من الآثار ، فَهُوَ يحكي مراد القائل الأول الذي بِلِسَانِهِ قَدْ نَزَلَ الكتاب المحكم ، فإذا لم يكن ثم آثار من لسان الجيل الأول وما تَقَدَّمَهُ قَبْلَ تَنَزُّلِ الوحي ، إذ لم يكن من ذلك شيء في الاستدلال ، فَقَدْ بُتَّتِ الصلة بها بل وحجدت أصولها فهي المنحولة المخترعة لا الأصيلة المحققة ، فلم يعد ثم مرجع من أعلى يجاوز في تلاوة المعاني ، وإن سُلِّمَ أَنَّ ثَمَّ مرجعا من أعلى يجاوز في تلاوة الألفاظ ، فما يجدي ذلك في العلم والعمل ؟! ، وما زاد من تصديقِ خَبَرٍ وامتثالِ حكمٍ ، فذلك مما افْتَقَرَ إلى قسيمٍ ثان في الحد ، حَدِّ الكلام المجزئ ، فهو ، كما تقدم ، لفظ ومعنى ، فما يجدي لفظ قد جُرِّدَ من المعنى ؟! ، فصار وعاء يشغر ، فتلك ذريعة أن يُشْغَلَ بما يواطئ لَدَى كُلٍّ : هوى أو ذوقًا هو المحدَثُ فلا أصل ، المتشابهُ الذي يُرَدُّ بِهِ المحكم من عُرْفِ لِسَانٍ أول ، إِنْ فِي دلالاتِه المفردة في المعجَمِ ، أو ما كان بعدا من اشتقاقٍ يَتَنَاوَلُ بِنْيَةَ الكلمات فيكون منه زيادةٌ في الدلالات ، وإن لم تجاوز حد المفرد من الألفاظ ، أو ما زَادَ من أخرى في التَّرْكِيبِ المفهِم ، وله من ذلك نحو هو الأول بما استقر من قانون النظم المحكم ، إن المنطوق وهو الأصل أو المكتوب وهو الفرع فهو لِأَصْلِهِ يُصَدِّقُ بما كان من قانون آخر في الْكَتْبِ وَالتَّشْكِيلِ ، فَثَمَّ من ذلك إعراب يُرْسَمُ ، وَحَدُّهُ ، كما تقدم ، ما يضبط أواخر الكلمات وبه تستبين الدلالات ، ولو أولى بها يدرك المخاطَب المعنى المباشر ، مع ما يَلِي من بَيَانٍ يُفْصِحُ عن معان من الاستدلال تَدقُّ ، فلا تُدْرَكُ إِلَّا بِنَظَرٍ أَخَصَّ لا يحصل لكلِّ أحدٍ ، خلافَ ما يكون من نحوٍ أول فمعناه لدى كل يظهر بما استقر من قانون اللسان المفهم ، فيجري مجرى الضروري الذي يستوي في دركه العقلاء كافة ، لا جرم كان العلم بِاللِّسَانِ شَرْطًا في التكليف ، فلا يكون بألفاظ لا يحسن المكلَّف تلاوتها ، وإن أحسن تلاوة المبنى فما يجزئ إن جهل المعنى فيكون من ذلك أماني لا تَنْصَحُ ، وَإِنْ عَلِمَ ، فذلك بيان وإرشاد تَالٍ ، فما يجزئ ، أيضا ، إن لم يشفع بما يصدق من إرادةِ فِعْلٍ أو تَرْكٍ تواطئ ما قد نَزَلَ به الوحي ، فيكون من الحكم ما يصدق التصور ، ويكون من تلاوة العمل امْتِثَالًا ما يواطئ أخرى من العلم الذي به قيام الحجة الناصحة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مناط التكليف ، فهو العلم الذي به قيام الحجة هدى وإرشادا ، وإن لم يلزم تال من التوفيق والسداد ، فذلك معنى أخص لا يحصل إلا لمحل قد رَجَحَ فيه الإيمانُ الكفرَ بما يكون من مرجِّح من خارج ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كَلَامٍ إلى صدرٍ ، فَثَمَّ من الاستطاعة أول ، وهو ما يناط به التكليف الملزِم إذ يحتمل الأضداد قبل الشروع في الفعل ، فذلك الجائز المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارجه ، فيكون من ذلك إرادة المكلف ، وهي مما يصدر عن أولٍّ من الحب والبغض ، فهما ، كما تقدم مرارا ، أصل كل حركة في هذا الوجود ، وأشرفها حركات التكليف من التوحيد والإيمان ، وما يكون من صالح الأقوال والأعمال ، وما يصدر عنهما من قوى في النفس تَغَارُ أَنْ تُنْتَهَكَ المحارم فهي تُبْغِضُ المخالِف لا عدوانا بلا حق ، وإنما غيرة أن تنتهك حكومات الوحي ، فيكون من قوى في النفس تحب وترضى وتلك مادة ولاءٍ لمن نصح الوحيَ بالتصديق والامْتِثَالِ ، ويكون منها ، أيضا ، ما يباشر الحلال الطيب فهي تواطئ ما رُكِزَ أولا في الجبلة إذا سلمت من العوارض المفسدة ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم الشرع والخلق كافة ، ففطرة توحيد في الأديان تَنْصَحُ ، وأخرى في الأبدان فلا تُرَجِّحُ إلا الحلال الطيب ، فيكون من ذلك تأويل القوة الشهوانية ، والمحبةُ فِيهَا أَصْلٌ ، يكون من ذلك ألا تخالف عن الفطرة والوحي ، فَتَسْلَمَ من التَّنَاقُضِ إِذِ الوحي الصحيح ، كما تقدم ، لا يخالف عن العقل الصريح وكذا آخر من وجدان الفطرة الناصح فلا يخالف عن الوحي النازل ، فَتَلْتَئِمُ قوى النفس بما ينصح لها في القول والفعل ، في التصور والحكم ، وكذا قوة الغضب وباعثها الكره ، ولها من تأويل يَنْصَحُ مدافعةَ مَنْ يخالف عن الوحي المنزل بما كان من غيرة هي علامة حياة في الجنان تحمد دون زيادة من عدوان يَقْبُحُ ، فلا يلجم الاثنين ، الشهوة والغضب ، إلا حكومة العدل ، فـ : (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وهو ما افْتَقَرَ إلى أول من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، وَلَهُ من ذلك ما رُكِزَ فِي الوجدان وله تَالٍ من الوحي يُفَصِّلُ في الأقوال والأعمال وما يَتَقَدَّمُ من الإرادات ، وهي تأويل قوى المحبة والبغض ، وتلك قوى لا تصدر إلا عن تصورِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، فَافْتَقَرَتْ إلى معيار علم يَنْصَحُ ، فهو في الباب أول ، إذ التصور للحكم يسبق ، فالحكم تأويل له يرجح في باب المحبة والبغض وما تلا من إرادةِ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِنْ باطنا من أعمال الجنان ، أو ظاهرا من لسان يشهد ويتلو التلاوة المجزئة في حصول اسم من الدين يُحْمَدُ ، فَهِيَ حق التلاوة ، كما تقدم ، تلاوة اللفظ والمعنى وما تلا من تصديق وامتثال ، وكذا ظاهر العمل ، عمل الجوارح إن بالفعل أو بالترك ، فذلك ، أيضا ، مما يُصَدِّقُ ما يحصل في الجنان أولا من التصور والإرادة ، فيكون من ذلك المجموع المركب الذي استغرق المحال والأحوال كافة ، وبه أسماء الإيمان والتقوى والشكر تنصح فذلك تأويل لها يصدق ، وهو ، كما تقدم ، مما افتقر إلى معيار من النطق أول يجاوز ما يكون من تلاوة الأماني ، فلا يجرد الألفاظ من المدلول المعنوي ، إن المفرد أو المركب ، فتلك جناية الحداثة إذ بَتَّتِ الصلة بأصول من اللسان تَنْصَحُ الناطق إذ تُبِينُ له عن مراد القائل ، فإذا بطلت وصار من دعوى التجديد ما يَكْذِبُ ، فإن تجديدَ الأصلِ إذا انْدَثَرَ أن يجتهد المجدِّد في إظهار ما منه قد خفي ، لا أن يقدح فيه ، فيستبدل به آخر لا أصل له فهو المحدَث الذي اضطرب في المعنى إذ لا معيار له يحكم ، فهو هوى وذوق يتبجح أنه ذاتي لا يجاوز المحل فلا مرجع له من خارج ، وهو مما يتوسع في التأويل إذ يُجَرِّدُ الألفاظ من المدلول الأول ، فصارت أوعية تشغر ، وكل متأولٍّ لها يشغل بما يواطئ هواه وذوقه ، فيضطرب الاستدلال وتبطل حجة اللسان ! ، ويصير الكلام أصواتا قد أفرغت من المدلول فكل متأوِّل يشغلها بما يقترح إذ صارت الكتاب المفتوح ، لا اجتهادا في لطائف من المعنى لا تأتي بالإبطال على الأصول المحكمة ، فالاجتهاد في تلك اللَّطَائِفِ مما يحسن والأنظار فيه تَتَفَاوَتُ والاجتهاد فيه يَتَمَايَزُ فَثَمَّ من إشارة النص وإيمائه وَتَنْبِيهِهِ ..... إلخ ، ثم من ذلك ما به اكتمال النظر إذ يَتَنَاوَلُ أولا ما ظَهَرَ ثُمَّ يُفَتِّشُ تَالِيًا فيما خَفِيَ وَلَطُفَ ، فيكون من ذلك ثان يحمد بعد أول يطلب ، فالناظر يَتَنَاوَلُ الأصول والمسائل الكبار قَبْلَ آخر في فُرُوعٍ ومسائل صغار ، وذلك وصف الربانية ، كما أُثِرَ عن بعض السلف ، فهي تربية الخلق بكبار المسائل من الأصول التي لا يصح إيمان إلا بها فهي أصول الاعتقاد ، وذلك ما يجاوز في حكاية إيمان يجزئ ، ولو أدنى ما يَصْدُقُ فِيهِ الاسم الديني ، فهو الاعتقاد والقول وما يصدق فيه أنه جنس العمل فلا يَتْرُكُهُ المكلَّف التَّرْكَ المطلق فهو مما لا يُتَصَوَّرُ ، أن يكون ثم إيمان بلا حركة في الخارج تصدق ، ولو بَعْضًا لا يخرجه من جنس الوعيد الأعم ، وإن سَلِمَ به من وعيد أخص ، وعيد العذاب المؤبد ، فلا يكون ذلك إلا بأدنى ما يصدق فيه اسم الإيمان ، على التفصيل آنف الذكر ، فَاشْتُرِطَ لَهُ عامة : الاعتقاد والقول وجنس العمل ، واشترط له خاصة الإتيان بأعمال مخصوصة قد نص عليها الخبر أنها شروط صحة فَتَرْكُهَا يَنَالُ من الأصل ، وإن أَتَى المكلَّف بأعمال أخرى يصدق فيها اسم الجنس ، جنس العمل ، كما الخلاف المشتهر في ترك الصلاة ، فقد جعله بَعْضٌ قادحا في أصل الدين ، وإن أتى بأجناس أخرى من العمل ، وذلك محل خلاف قد بسط فيه أهلُ الشأنِ القولَ ، فكان من كبار المسائل قَبْلًا ما به الأصول تثبت ، ثم صِغَارٍ بَعْدًا بما دق من مواضع الخلاف في الفروع ، وهو ، في الجملة ، يسوغ ، فتلك فروع تدق وبها يكمل الاستدلال إذ تأتي تَبَعًا ، وإنما الناظر بها يَنْتَفِعُ إذا كان من الأصول أولا ما ثَبَتَ ، إن أصول الاعتقاد التي تنصح أو أخرى في الاستدلال وهي مما به الصغار تُسْتَنْبَطُ ، فيكون من درس أول يتناول طرائق الاستنباط فإذا أتقنها الناظر فقد صَارَ له من الْمَلَكَةِ ما به يَرُدُّ الفروع إلى أصول ، وهو ، مع ذلك ، يعتبر المصالح والذرائع وما عقل من مقاصد الوحي فلا يُتَّخَذُ ذلك ذريعة إلى نَقْضِ ما استقر من كتاب وخبر وإجماع وقياسٍ هو الجلي فأولئك ما لا يسوغ فيه الخلاف إذ يجري مجرى النص وإن كان ثم من اجتهاد في تحرير وجوه الاستدلال في الأدلة الخبرية ، وتحرير محال الإجماع فلا يَتَوَسَّعُ الناظرُ في حكايته ، ولا يُضَيِّقُ منه وَيُحَجِّرُ ما اتَّسَعَ في مواضع تثبت على تفصيل في أنواعه وحجية كُلٍّ ، فهو ثالث في الباب ، وهو مما يُنْقَلُ كما الأخبار ، وهو آي بها امتازت الأمة الخاتمة إذ شهادتها في غيرِها العادلة ولا يكون ذلك إلا عن عصمة ، هِيَ وصف المجموع لا الجميع فلا يخرج الحق عن مقالها ولا تجمع على خلافه ، فتلك عصمة إن في إثبات الإجماع فلا يكون إلا على حق ، أو في نَفْيِهِ فَلَا تُجْمِعُ عَلَى مَا خَالَفَ الحق في نفس الأمر بل وَلَا تُجْمِعُ على خلاف الْأَوْلَى . فَلَيْسَتْ تلك الدقائقُ من الفروعِ ما يُذَمُّ طلبُه بعد تحرير الأصول المحكمة ، فمن ملك آلة الاجتهاد والترجيح فهو يتناولها بالنظر والتحقيق ، وَإِنَّمَا ذُمَّ من النظر آخر في مواضع تدق فهي تَقْدَحُ في الشريعة الظاهرة بِمَا يكون من تأويلات باطنة إذ تُبْطِلُ مِنَ الأخبار والأحكام ما قد عُلِمَ ضرورةً ، فلا يكون منها حُجَّة في بَيَانٍ ، إذ قد صَارَ ذَاتِيًّا يَتَفَاوَتُ ، فيكون من الاضطراب والتعارض ما لا تسلم منه العقول المحدَثة إن لم يكن لها رائد من نُبُوَّةٍ مُنَزَّلَةٍ ، فما يحسم هذا التناقض وليس ثم مرجع من خارج يجاوز فكلٌّ قَدْ أُعْجِبَ بِمَا يهوى ويجد ، فـ : (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، وإذا تَقَطَّعَ الأمر زُبُرًا ضاع الحق وبطلت حجة الوحي ، بل قد اقْتَرَحَ بَعْضٌ في جيل قد تأخر أن الحق كثير لا واحد ، ولو في الأصول التي لا يتصور فيها الخلاف ، فكان من دعاوى الجمع بين الأديان والنحل ما أَحْدَثَ من الدِّينِ ما لم يُشْرَعْ ، فالدين المحكم واحد لا يَتَعَدَّدُ ، دين التوحيد الذي بَشَّرَتْ به النبوات كافة ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الشرائع التي جُمِعَتْ زُبْدَتُهَا في الخاتمة المهيمنة فهي لِمَا تَقَدَّمَ ناسخة ، نسخ الحجية والإجزاء الأعم ، وآخر قد تَنَاوَلَ مواضع من الأحكام فهي أخص ، وهي ، أي الشريعة الخاتمة ، هي قَبْلًا المصدِّقة ، فكان منها كفاية تجزئ في الخبر والحكم ، فالحق في الاعتقاد وفي القول وفي العمل ، في الأخبار وفي الأحكام ، وإن الفروعَ التي يسوغ الخلاف فِيهَا ، الحق في كلٍّ واحد لَا يَتَعَدَّدُ ، إِلَّا مَا كان من خلافِ التَّنَوُّعِ ، بَلْ فِيهِ ، لو تدبر الناظر ، تَفَاضُلٌ فهو بين مفضول وفاضل فلا يخلو من وجه يُقَدَّمُ ، وَلَوْ سُلِّمَ جدلا أن الحق لم يَتَعَيَّنْ بَعْدُ فلم تقم بالنبوة حجة ، فَإِنَّهُ ، في كلِّ حَالٍ ، لا يكون إلا واحدا ، ولو من باب : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فلا يكون الاثنان على جادة حق ، بل هو واحد وما سواه باطل ، فلئن أعطى أتباع النبوات الدنية فلا يعطيها الخصم ، ولو كان من دينه بَاطِلٌ يخالف النقل والعقل والفطرة والحس . فَثَمَّ من العلم أول ، كما تقدم ، وثم تال من التصور ، وله من معيار الحسن والقبح ما رُكِزَ في الوجدان ، وهو المجمل الذي يَفْتَقِرُ إلى بيان من خارج ، وثم تصديق أخص فهو حركة في الجنان تُرَجِّحُ ، فيكون منها قبول أخص ، وبها تأويل الإيمان قوة بآخر من الفعل ، فالمبدأ : تصديق يُرَجِّحُ في الجائزِ المحتمل ، ثم يكون تال من محبة وَبُغْضٍ ، وما يصدر عنهما من إرادة الفعل والتَّرْكِ ، وما يكون بَعْدًا من تصديق الأعمال ، ما بطن من حركات الجنان ، وما ظهر من أخرى يعمر بها اللسان والأركان كافة ، وكل أولئك مجموعٌ في بَابِ الإرادات هو المركب ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب المحل القابل والسبب الفاعل والشرط الذي يُسْتَوْفَى والمانع الذي يُنْفَى ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، مما افْتَقَرَ إلى سببٍ يَتَقَدَّمُ ، فيكون من التسلسل في المؤثرين أَزَلًا مَا استوجب الحسم ، فلا بد من أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وعنه العلة التامة تصدر فلا تَفْتَقِرُ إلى مُتَمِّمٍ من خارج كما سَائِرُ الْعِلَلِ ، فَكُلُّهَا حادث ، فالعلة الأولى التامة لَا تَفْتَقِرُ إلى غَيْرٍ ، بل كلُّ سَبَبٍ إليها يَفْتَقِرُ أَنْ تُودِعَ فيه قوة التأثير وَأَنْ تُهَيِّئَ له من المحل ما يقبل آثاره ، فتلك كلمة التكوين النافذة التي استغرقت المحال بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ ، والأسباب بما ركز فيها من قوى تُؤَثِّرُ ، ولها في القسمة شطر يكمل ، فجنس الكلمات مما تتقاسمه في الخارج : الكونيات التي تُوجِدُ وَتُدَبِّرُ ، وأخرى من الشرعيات فهي تحكم ، فيكون منها ما به الخبرُ يَصْدُقُ ، وما به الحكم يَعْدِلُ ، فيكون من ذلك تكليف التصديق الأول وما تلا من أعمال الإيمان المجزئ ، إن باطنا والمبدأ فيه الحب والبغض ، وهما ملزومان لما تلا من لَازِمٍ هو إرادة الفعل ، وهي المرجِّح إِنْ في أعمال الباطن أو أخرى من الظاهر تصدق ، والمبدأ ، أبدا ، الجنان ، فهو المحل الأشرف ، وله من الماهية ما يلطف ، فالخمر ، كما تقدم في مواضع ، لا تَنَالُهُ ، وإنما تَنَالُ مَرَاكِزَ الحسِّ من الدماغ ، وذلك ما يواطئ قانون الحكمة في التأثير والقبول ، فالمؤثر المحسوس يَنَالُ من المحل المحسوس ، كما أن الكفر ، وهو مما يُعْقَلُ ، يَنَالُ من الجنان وهو محل التَّعَقُّلِ ، فالدماغ محل الإحساس لا العقل ، وإن كان له من ذلك رُتْبَةٌ أَعْلَى ، فهو في الأعضاء سيد فكل يصدر عن أمره بما يكون من نَبْضٍ وإفراز ، وهو ما يواطئ المحال القابلة في الأعضاء ، فإنها تَتَأَثَّرُ بما يكون من سبب يؤثر ، وذلك قياس الحكمة في الباب ، إذ لكلِّ مُؤَثِّرٍ من المحل ما يَقْبَلُ ، وله من الأثر ما يحكي الحكمة في التأثير ، إذ يَتَأَوَّلُ من كلٍّ القوَى المركوزة ، فَيَتَأَوَّلُ من المحل قوى بها يباشر السبب ويعالجه فيكون من الآثار ما ينصح أو آخر يغش ، فإن في الدماغ قوى يُنْعِشُهَا وَارِدُ الصحة بما يكون من مطعومٍ طَيِّبٍ يزيد في الدماغ بما يكون من مادة تنفع ، فَقِيلَ في اللحم أَنَّهُ مما يزيد في العقل ، وَقِيلَ في الزبيب أنه يزيد في الذَّاكِرَةِ ، فَثَمَّ من المحسوس ما يرصد بما يكون من بحث وتجريب معتبر ، فَثَمَّ مِنَ اللحم والزبيب مادَّةٌ تَسْتَخْلِصُهَا آلة الهضم ، فهي تَسْرِي في دماءٍ تَبْلُغُ الدماغَ الذي يُعَالِجُهَا بما ركز فيه من قوى تدرك بالحس ، فيكون من الأثر النافع بما ركز في الطيبات من قوى تنفع وتزيد في المحال ، وكذا يقال في رضاع الصغير إذ يكون من لبن أمه ما يَنْصَحُ الدماغ خاصة ، والبدن عامة ، وذلك ، أيضا ، مما يقاس ويدرك بالحس ، فكان له من مِعْيَارِ التَّجْرِيبِ ما أُحْكِمَ ، فَثَمَّ محل قد رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ بِهَا يَقْبَلُ السبب ويعالجه ويكون من حياة الحس ما يَزِيدُ وَيَنْمُو ، فَثَمَّ قوة نماءٍ تطلب سبب الإنماء ، فيكون من آخر في الخارج ما رُكِزَتْ فِيهِ قوى تَرْفِدُ المحل ، فالسبب يرفد المحل فيكون من المسبَّب ما يحدث ، إذ واطأ السبب محلا يقبل بما ركز فيه من قوى تَقْبَلُ وهي تعالج السبب كما السبب يُؤَثِّرُ فيها ، فيكون من ذلك ما يواطئ العلة والحكم ، فالعلة تؤثر والحكم أَثَرٌ لها يثبت ، فإذا وُجِدَتْ وُجِدَ الحكم ، وإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ الحكم ، كما تقدم من مثال الخمر فإنها إذا انقلبت خَلًّا فقد زال السبب الجالب للتحريم ، عَلَى تَفْصِيلٍ في الحكم إذ اشترط لها ألا يعالجها أحد قصدا وإنما يكون من ذلك ما اصطلح في الكيمياء أنه التَّأَكْسُدُ إِذَا عُرِّضَتْ للهواء ، فَإِذَا بَاشَرَهَا الهواء أضاف إليها من العنصر ما به تَتَأَكْسَدُ فَتَصِيرُ خَلًّا يباح إذ زال سبب التحريم وهو ما تقدم من الإسكار على قول من يجري القياس في الشرع ، أو هو التخمير ، ودلالته في المعجم المفرد : تَغْطِيَةٌ ، فالخمر تخامر الدماغ فَتُغَطِّيهِ وتحجب منه معادن الصحة ، فَيَصِيرُ إلى غيبوبة تُفْسِدُ الدين والمروءة وتمرض البدنَ ، فذلك السبب الجالب للتحريم وهو ما واطأ مَقْصدا رَئِيسًا من مقاصد الوحي ، وهو حفظ العقل ، إذ لا يحفظ إلا أن تحفظ أداته التي عنه تُتَرْجِمُ المشاعر والإرادات ، فكان من تحريم الخمر ما يحفظ العقل ، إذ يحفظ التحريم الدماغ مما يخامرها من مادة تُسْكِرُ وَتُغْلِقُ ، فلا يحسن صاحبها يميز الأعيان والأحوال في الخارج ، فالسنة قد اطردت ، إِنْ فِي أسبابٍ تَنْفَعُ ، وكذا في أخرى تضر ، ففيها من القوى ما يفسد المحل ، كالخمر إذا خامرت قوى الحس في الدماغ فأفسدتها ، فيكون من الخلل والاضطراب ما تظهر آثاره في حركات الأعضاء ، كما الإيمان فهو سبب به الجنان يصلح فيكون من آثاره في القول والعمل ما يَحْسُنُ ، وكما الكفران فهو سبب به الجنان يفسد فيكون من آثاره في القول والعمل ما يقبح ، فالحكم مما اطرد وَانْعَكَسَ إِنْ في الجنان المعقول أو في آخر من الدماغ هو المحسوس . وكل أولئك مما أحكم ميزانه ، فكان من آي الوحي محل اعتبار إن في الخبر أو في الحكم ، فذلك قياس طرد وعكس كما أخبار النبوات وما جرى عليها وعلى أَقْوَامِهَا من السَّنَنِ المحكَمِ ، إنجاء لمن آمن وإهلاكا لمن كفر ، فَدَارَ الحكم مع العلة ، إِنْ في الوجود أو فِي العدم ، فتلك سنة محكمة لا تَتَبَدَّلُ ، وآيها في الكتاب والخبر قد تَعَدَّدَ ، فبلغ حد التواتر الذي يفيد علما في الباب يجزم ، وذلك حق الكتاب الأول في أخباره ، وَمِيزَانٌ منه قد عَدَلَ فِي أحكامِه ، كما في آي من التَّنْزِيلِ المصدَّق ، فـ : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، وذلك مما تَعَدَّى بلا تَضْعِيفٍ فَتِلْكَ مادة "أَنْزَلَ" التي تعدت بالهمز فأفادت النُّزُولَ جُمْلَةً ، فلم يكن ثم دلالة التَّكْرِيرِ ، فَتِلْكَ دلالةُ أخرى هي مادة التنزيل التي اشتقت من العامل المضعف "نَزَّلَ" ، كما في آي من الذكر المحكم ، فـ : (قُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) ، وَالْفَرْقُ مَئِنَّةُ التِّكْرَارِ نجومًا قد امْتَازَتْ ، فحصل من ذلك آحاد تُنَاطُ بالمشيئة ، وهو ما يرفد القول إِنَّ الكلام وصف الذات بالنظر في نوعه القديم ، وإن كان من آحاده في الخارج ما يَحْدُثُ ، فَهُوَ تأويل له يَنْصَحُ إذ يناط بمشيئة في الفعل تَنْفُذُ ، فالكلام وصف فعل من هذا الوجه ، وهو ، من آخر ، وصف الذات الأول إذ يَقُومُ بِهَا معنى تَتَمَايَزُ آحاده ، فليس بداهة المعنى الواحد ، وإلا اسْتَوَى الخبرُ والإنشاءُ ، الأمرُ والنهيُ ، وهو ما يُبْطِلُ دلالة الألفاظ وهي الحدود المنطوقة والمكتوبة ، فَيَصِيرُ الأمر أَنِ : اقْعُدْ يماثل في الدلالة : لا تقم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، لازِمُه لا عينه ، إذ لكلٍّ من الحد في النطق والنحو ، لكلٍّ من الحد ما يميز وإن كان ثم التلازم ، فهو باب ، والتماثل آخر ، فلا يستويان ، إذ الأمر بالشيء ، كما يقول أهل الشأن ، يَسْتَلْزِمُ النهي عن ضده ، فليس عينه ، وإلا بطل قانون النطق ، فاختلاف المباني لا يحكي آخر من اختلاف المعاني ، فلا يكون ثم مدلول يزيد في ألفاظ تختلف في الحدود الصوتية والصرفية والمعجمية ، مع آخر يزيد في الجناية إذ يُفْضِي إلى تعطيل الدلالات اللسانية كافة ، فيصير الخبر كالإنشاء ، والأمر كالنهي .... إلخ ، بل وتصير النصوص الدينية كُلُّهَا ذات معنى واحد ، التوراة والإنجيل والقرآن ، تَصِيرُ معنى واحدا يقوم بالذات ، وإنما ظهر من الحرف المحدَث ما يدل على هذا المعنى الأول ، وهو واحد لا يتعدد ! ، فَالْتَزَمَ بَعْضٌ أَنَّ الحرف الحاكي لِهَذَا المعنى ، أن هذا الحرف مخلوق ، وَفَرَّ ، من وجه آخر ، من جناية القول بخلق القرآن أَنِ اسْتَثْنَى المعنى الذي يقوم بالنفس ، فليس بالمخلوق ، وهو ما أُلْزِمَ به صاحب هذا القول أَنْ يُوَاطِئَ المثلِّثَة في مقال الأقنوم إذ هو المخلوق المحدَث الذي تَجَسَّدَ فيه الوصف الأول ، فهو غير محدَث ، إذ الحياة أو الكلمة ، وهي أوصاف قديمة غير محدَثة ، قد تجسدت في أَقَانِيمَ مخلوقة محدَثة ، فكذا القول إن الألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة ، فذلك مما يُصَيِّرُ الحرف المنطوق أو المكتوب حكاية الكلام أو عبارة الكلام ، فَلَيْسَ عَيْنَ الكلام ، وهو ، لو تدبر الناظر ، شطر منطوق أو آخر مكتوب ، وكلاهما دليل المعنى الذي يقوم بالنفس وَإِنْ قَاسَمَهُ في الحد ، حَدِّ الكلام إذ هو اللفظ والمعنى ، سواء أكان اللفظ منطوقا أم مكتوبا ، فاللفظ شطر من الحقيقة ، حقيقة الكلام المفهِم ، وإن كان الدليل على المعنى ، وهو المراد الأول ، فالكلام لا يُرَادُ صوتا مجردا لا مدلول له قد استقر في المعجم ، فذلك عهد خاص قد أَكْسَبَ تَرَاكِيبَ تَأْتَلِفُ مِنْ نَظْمِ الحروف في سلك الكلمات المنطوقة والمكتوبة ، قَدْ أَكْسَبَهَا العهد الأخص ، وهو ما تَنَاوَلَ جنسَ المعنى الذي يجرده الذهن ، كما يَتَنَاوَلُ درس المعجم مادة الباء والحاء والراء : "بحر" ، فهي تحكي ما وسع ، فكان من ذلك ما يواطئ "رحب" ، و "حبر" ، فهو ذو العلم الواسع ، فَدَارَتِ المادة فِي صورها كَافَّةً ، على معنى "وسع" ، وثم قيد الاستعمال ، وهو آخر يستصحب ، إذ مناط الأمر ، كما تقدم ، توقيف ينال من أصول أولى تُؤْثَرُ ، إن نَظْمًا أو نَثْرًا ، فهي الأصل الحاكم في الأصوات المركبة ، فَمَا حُكِمَ بِاسْتِعْمَالِهِ أَنْ كَانَ ذَلِكَ من المأثور فِي الكلام الأول ، مناطِ الاحتجاجِ المحكم ، فما حكم باستعماله فهو المعتبر ، وما حكم بإهماله فهو المهمل ، فليست صور الألفاظ جميعا تستعمل ، فَثَمَّ ، من هذا الوجه ، صور تَتَعَدَّدُ بما يكون من تَغْيِيرٍ فِي بِنْيَةِ الكلمة تقديمًا وتأخيرًا في الحروف ، فتلك صور تَحْتَمِلُ : الاستعمال أو الإهمال ، فَتَجْرِي ، من هذا الوجه ، مَجْرَى الجائِزِ المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بِلَا مرجِّح ، فكان من الأصول الأولى ، المنظومة والمنثورة ، كان منها أصل أول ، وهو في الحكم بالاستعمال أو الإهمال يُرَجِّحُ ، فيرجح استعمال بعض ، وإهمال آخر ، وإن كانت الحروف واحدة وإنما اختلف نظمها ، وتلك آية في الباب تشهد إذ حصل من اختلاف المبنى وهو العلة ، حصل منه اختلاف في المعنى ، وهو الحكم ، إذ الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، فثم أول إذ حصل من هذا الاختلاف في النظم ، نظم الحروف في الكلمة الواحدة ، حصل منه استعمال بعض وإهمال آخر ، ثم كان مناط أخص إذ حصل من اختلاف المستعمل في الحد بما يكون من تغاير في النظم بالتقديم والتأخير ، حصل من ذلك حكم وهو اختلاف المعنى ، وإن كان ثم معنى أعم يدور عليه الباب كما مادة الخاء والراء مثالا آخر ، فَثَمَّ مادة "رَخَّ" وهي تحكي الكثرة ، كثرة الماء كما في قول القائل : رَخَّ العجين إذا كَثُرَ ماؤه ، وقد تحكي آخر يَقْرِنُ الكثرة بِمَا يكون من التَّنَزُّلِ الشَّدِيدِ ، كما يقال : رَخَّ المطر ، فحصل بالإسناد ، ولو في المادة الواحدة ، حصل اختلاف في المعنى ، ولو الفرع ، فَثَمَّ المشترك الدلالي الذي يجرده الذهن ، وهو جنس المعنى ، معنى الكثرة ، وَثَمَّ امْتِيَازٌ قَدِ اخْتُصَّ بِهِ المطرُ إذ كان من المعنى الزائد : التَّنَزُّلُ مِنْ أَعْلَى ، وهو ما لا يكون ، بداهة ، في ماء العجين إذ يُعْجَنُ ، فإذا اختلف الترتيب في "خَرَّ" لم يخرج عن المعنى الكلي الجامع فَخَرَّ الماء إذا تَنَزَّلَ من عال إلى سافل ، وكان من ذلك شديد ينهمر ، فالأصول الأولى من النظم والنثر تميز المستعمل من المهمل ، من وجه ، وتميز في المستعمل وُجُوهًا من المعنى ، فَلِكُلِّ مادة استعمال أخص ، وإن كان ثم أول أعم ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كلامٍ إلى صدر ، فَثَمَّ من اختلاف المبنى ما يدل على آخر من المعنى ، فهو قسيمه في الحد ، حَدِّ الكلام لدى أرباب النحو ، فلئن كان المظهِر لما بطن من المعنى وهو الأول الذي يُرَادُ لِذَاتِهِ ، فلئن كان اللفظ مظهِرا له ، إلا أَنَّهُ ، من وجه آخر ، قَسِيمُهُ في الحد ، فالكلام هو المعنى الذي يقوم بالنفس ، والمعنى الذي يظهره النطق والكتب ، المعنى إذ يختلف فليس واحدا يقوم بذات المتكلم ، فمنه الخبر والإنشاء ، وَمِنْ آحادِ كُلٍّ ما لَا يُحْصَى ، فَكَذَا اللَّفْظُ الَّذِي يحكيه في الخارجِ ، إِنْ بِالنُّطْقِ أَوْ بِالْكَتْبِ ، فاختلافه في الخارج حكاية آخر في الباطن ، فذلك اختلاف المعنى ، وَإِنْ دَقَّ ، فيكون من الاشتراك في المعنَى الكليِّ الجامعِ ، يكون من ذلك جنس عام يجرده الذهن ، وله في الخارج آحاد أخص بما يكون من قيد يزيد ، إن باختلاف المادة تقديما وتأخيرا ، كما في "خَرَّ" و "رَخَّ" ، أو بالإسناد ، كما في : رَخَّ العجين ، وَرَخَّ الماء ، فتعددت المعاني التي تقوم بالنفس ، ولو في مادة معجمية واحدة ، على التفصيل آنف الذكر . والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
![]() وذلك المدلول الضروري الذي يَثْبُتُ لَدَى كُلِّ عاقلٍ ، فالأحاسيس والمشاعر والدوافع والبواعث وما يكون من تصديقات أولى بجمل من الاعتقادات والأخبار ، وما يصدر عنها من حركات في الجنان تَالِيَةٍ ، وهي ، كما تقدم في مواضع عدة ، أصل في كل حركة في الخارج ، وبها الإرادات تَتَمَايَزُ وَعَنْهَا تصدر ، فالحب مادة الفعل ، والبغض مادة التَّرْكِ ، فيكون من إرادةِ كلٍّ أَوَّلٌ في الجنان ، وهو يُصَدِّقُ مَا كان أولا من التصور الذي يُنَالُ أولا بمرجع العلم ، إِنِ المحسوسَ أو آخر يجاوز بما يكون من خَبَرٍ من خارج ، فهو يرفد المحل بما يغيب عن مدارك الحس ، إذ العلم منه شهادة تُدْرَكُ بالحسِّ بما يكون من غرائز قد رُكِزَتْ فِي الجسد ، فهي تعالج أسباب اللذة والألم في الخارج ، وهو ما يَسْتَوِي فيه جنس الحيوان كافة ، بل قد يكون للأعجم منه ما ليس لعاقل ينطق ، فَحَاسَّةُ الشم لدى الكلب أقوى منها لدى الإنسان ، فهو يدرك من المحسوس الذي يُشَمُّ ، يدرك منه ما لا يدرك العاقل الناطق ، فامتاز بآخر ، في المقابل ، وهو علم الغيب ، وذلك في الوصف أَشْرَفُ ، وهو مناط التكليف بالوحي الذي بِهِ فُضِّلَ الإنسانُ وَكُرِّمَ ، وإن أَبَى في الجيل المتأخر إلا أن يَنْحَطَّ إلى دركة سُفْلَى ، فَسَلَكَ جَادَّةَ الحيوانِ الأعجم ، حقيقة لا مجازا ، فَأَكَلَ أَكْلَهُ وَمَشَى مشيته ، وانحط بالتقويم الأحسن أن يمشي على أربع ، فجحد المنة الربانية في خلق تقدير وإيجاد على هيئة باطن وظاهر هي الكاملة ، وبها يناط التكليف بالشرعة النازلة ، تصديقا وامتثالا ، لا يطيقه من الخلق إلا الجنس المكلف من الجن والإنس ، وقد نهض الأول به ، فكان من الجن ما تقدم ، وكان منهم إفساد يعظم ، فاستبدل بهم آدم ، عليه السلام ، ومن خرج من ذريته ، حكمة في الابتلاء لكلٍّ ، الجن والإنس ، فقد تقدم بكلٍّ العلم المحيط ، وكان من الحكمة البالغة في الابتلاء ما به تأويل العلم الأول بما كان بعدا من الإيجاد والتدبير ، ومنه التيسير ، تيسير لكلٍّ لما له قد خُلِقَ ، مع إرادة بها يختار ، وتصور أول به تعليل ، وهو ما يحكي معيار التحسين والقبيح ، ولا بد له من مرجع ودليل ، فإذ عدل الخلق عن مَرْجِعِ الوحي المنزل فَلَمْ يكن ثَمَّ إلا الوضع المحدَث الذي ضَلَّ به من كفر ، فكان من الوصف أنهم أنعام بل هم أضل ، فـ : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) ، فكان من القصر ما حُدَّ بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، مع إضراب انْتِقَالٍ إلى أعلى من وصف يقبح ، وذلك آكد في الذم ، فهم كالأنعام إذ تتمتع وتأكل ، فـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ، فكان من عام هو التَّمَتُّعُ ، وَخَاصٍّ بعده قد أطنب إذ نص على الأكل وكان من التشبيه بالأنعام ما يقبح ، وهو آكد في الذم ، إن بالإطناب في المبنى حكاية آخر في المعنى ، أو بالنص على شهوة البطن خاصة ، وهي مناط تقبيح وذم إذ بها الانحطاط إلى دَرَكَةِ غريزة لا تطلب إلا الشبع من مادة سفلى من الأرض ، فلم يكن من همة النفس أن تعالج أخرى من الوحي المنزل فيحصل لها من شبع الروح ما يحمد ، مع مآل آخر يفدح فتلك النارى مثوى ، فكان من النكاية ما استغرق وصفهم في الأولى ومآلهم في الآخرة ، فقد ضاهوا الأنعام ، ووحدها ، كما يقول أهل الشأن ، ما يحمد بكثرة الأكل ! ، فَثَمَّ من الخلق إذ عدلوا عن الجادة وَصَيَّرُوا اللذة غاية تُقْصَدُ ، فهي منتهى السؤل ، وذلك انحطاط في الوصف ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجري مجرى الخاص الذي يراد به عام يستغرق أوصاف الحيوان كافة ، فيأكلون ويشربون وينكحون كما الأنعام ، بل ويمشون مشيتها ! في جيل قد عمت به البلوى أن خفيت معالم النبوة ، فكانت منهم حكاية الحيوان في الباطن والظاهر ، وإن كان لهم من الهيئة في الخارج صورة بني آدم ، وكان لهم من العقل ما يناط به التكليف فالحجة فيهم قائمة ، وإن ضاهوا الحيوان ، فلم يكن ذلك ليرفع التكليف ، بل هو ثابت فمناطه عقل يدرك الحجة ، وإن خُذِلَ فلم يصدق ويمتثل ، فكان من ذلك ما لا واسطة فيه ، فَإِمَّا درجة الإنسان المكلف ، وإما دركة الحيوان الأعجم ، وهو ما يصدق ما قال بَعْضٌ من فلاسفة الحداثة في الجيل المتأخر ، فكان من مقاله موت الإنسان بعد موت الإله قبلا ، فقد خلفه الإنسان إلها في الأرض يحكم بما يهوى ويجد فقد جحد المرجع المجاوز من خارج ، ثم لم يلبث أَنِ اسْتُدْرِجَ بخطوت شيطان يمكر ، فكان من موته ما أتى على أصله بالإبطال ! ، فَثَمَّ ما بعد الحداثة من خَلْقٍ قد كُرِّمَ وَشُرِّفَ فهو يروم الانحطاط إلى دركة الحيوان الأعجم مع ما اعتقد أن الأصل واحد ، والنسبة تتقارب ! ، فليس ثم خلق تكريم يمتاز من غير ، وهو ما أُنِيطَ به التكليف بالوحيِ ، فَاسْتُبْدِلَ آخر به ، وهو مضاهاة الحيوان في المظهَر والمسلَك ! ، وصار ذلك مما يُعَلَّمُ وَيُبْذَلُ له عوض من المال والوقت ! ، مع أول قد سوى في الأصل والنشأة ، أو قد قَارَبَ في النسبة ، فَثَمَّ أصل واحد ، وإن لم يخرج الخلف من السلف الخروجَ المباشر ، وإذا سأل العاقل فَطَلَبَ دليلا واحدا يشهد ، فَمَنْ شهد ذلك ؟ ، وهل له نَظِيرٌ فِي الشِّهَادَةِ يَتَكَرَّرُ فَيُدْرَكُ بالحس الذي يرصد ، وهو عمدة أولئك في الإثبات ، فَلَا يُثْبِتُونَ إِلَّا مَا تَنَالُهُ مدارِكهم في عالم الشهادة ، وما جاوزها فهو عدم ! ، تحكما لا يخلو من عُجْبٍ بالرأي وَتَبَجُّحٍ في القول ، أن صار العقل والحس المحدَث نهايةَ الاستدلال المحكَم ، كما إنسان الحداثة المتأخر قد بَلَغَ سقف الحضارة فهو نهاية بها ختم التاريخ حتميَّةً لَا تُنْقَضُ ، إذ يَسْلُكُ الوجود جَادَّةَ التَّطَوُّرِ جَبْرًا ، فلا إرادة بها اختيار ، وإنما حتمية لا يتخلف منها شيء ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما نَقَضَهُ التجريب والرصد الذي يَتَبَجَّحُ به القوم ، فكان من العجب والتبجح ما ائتلف ، فإنسانٌ أخيرٌ لا إنسان بعده فكما كان الخلق الأول خبط عشواء فَلَمْ يكن ثَمَّ علم ولا قدرة ، فليس إلا الترجيح بلا مرجِّح أَنْ كان الخلق بلا خالق ، أو ثم من قانون الرياضة مَا يُجَوِّزُ حصوله من العدم أو أنه قد خلق نفسه بما رُكِزَ فيه من قانون محكَم ، فهو يحكي ما يكون من حَوَادِثِهِ أَنْ يَرُدَّهَا إلى أسباب تُؤَثِّرُ ، فإذا الأسباب تصنع بِنَفْسِهَا فلا مسبِّب لها ! ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، هو ما لا يرضاه الإنسان من فعله أَنْ يَقُولَ : إِنَّ السنة أَنَّ الطعام يُشْبِعُ بما ركز فيه من قوة الإشباع ، وما ركز في الآلات من قوى تهضم ، فذلك يغني عن فعل الطاعم أن يَطْعَمَ ! ، فكذا سنة الخلق تُغْنِي عن فعل الخالق الذي يخلق ! ، فكما كان التحكم في المبدإ : ترجيحا بلا مرجح مع جادة تطور تسلكها الكائنات جبرا ، وهو ما يخالف عن الخبط الأول ، فكيف يكون جَبْرٌ على جادة ، مع عشواء لا تَنْتَظِمُ ؟! ، وإنما هو الكذب الذي يفتقر إلى كذب ، فَتَهَافُتُ القولِ يلجئ صاحبه أَنْ يَلْتَزِمَ من اللَّوَازِمِ ما لا يُعْقَلُ ، فكما كان هذا التحكم في المبدإ : مبدإ الخبط ، كان التحكم في المنتهى أَنْ كان الإنسان الأخير ترجيحا آخر بلا مرجح فما حال دون تطور إلى إنسان آخر يجاوز التاريخ ؟! ، وإنما يضع التاريخَ المنتصرُ الذي اغْتَرَّ بقوة ولم يكن ثم رَائِدٌ يَنْصَحُ من وحي أو شرعة ، فكان من حاله حالُ الأوَّلِ إذ تَبَجَّحَ فقال : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فكان التحكم في المبدإ والمنتهى إِنْ صح هذا القول ، بادي الرأي ، مما يصدق به عقل ! ، فَبَدَأَ الخلقُ بِلَا مرجِّح وَانْتَهَى بلا مرجِّح ، وكان لهذا الإنسان من الاستدلال آخر لا يخلو من تحكم إذ قَصَرَ مدارك العلم المعتبر على ما يَنَالُ بالحسِّ المحدَث دون آخر يجاوز من خارج ، فَصَيَّرَ جهله دليلا على العالم الذي نال من المعارف ما لم ينل ، ومن علم ، كما يقول أهل الشأن ، حُجَّةٌ على من جهل ، وليس عدم وجدان الشيء بالحس يستلزم عدم وجوده في نفس الأمر إلا اغترارا بالعقل والحسِّ المحدَث أنه سقف الاستدلال المحكم ، فهو ينكر ما جَاوَزَ مِنْ خَارِجٍ ، فَجُرِّدَ من خاصته الأشرف ، أنه مناط التكليف بما جاوز الحس ، وبه امتاز من الحيوان الأعجم ، فَقُوَّةُ العقلِ الكامل خاصَّةٌ أولى بها التقويم الأحسن ، وكذا قوة اللسان الناطق ، وإن لم يكن من تأويله في المبدإ ما يصرح ، فهو المتكلم بالقوة بما ركز في وجدانه من قوة التعقل وتصور المعاني واستجماع المعجم الدلالي من خارج بل وَنَحْوِ الكلام الناظم ، كما يَنْقِلُ بَعْضُ من حَقَّقَ مِنْ دَرْسِ العلمِ المحدَث ، فلا تمر سَنَةٌ من عُمْرِ مولودٍ بل أقل ، إلا وقد استجمع قانون النحو قُوَّةً في الباطن فَلَمَّا يَكْمُلِ العقل والنطق بَعْدًا ، فَيَصِيرَ المتكلِّم بالفعل بما عقل من المعاني وجمع من المباني ، فعنده ، كما يقول أهل الشأن ، خاصة التجريد بما استجمع من مادة المعجم وقانون النطق ، وَلَمَّا تَكْمُلْ فيه بَعْدُ خاصة التوليد ، أَنْ يَتَأَوَّلَ معجم الدلالات ونحو الكلمات فَيَنْظِمَ من الجمل ما به يصير المتكلم بالفعل تأولا لما كان أولا من قوة النطق ، فالتوليد تأويل التجريد ، والفعل في الخارج مبنى تأويل لقوة في الباطن هي المعنى ، وبهما جميعا ائْتَلَفَ حَدُّ الكلام المفهم ، فهو المبنى والمعنى ، فليس المعنى المجرد في الوجدان ، دون آخر يُوَلِّدُ من الكلمات ما يُفْصِحُ عَمَّا اسْتَكَنَّ في وجدان المتكلِّم ، فَلَئِنْ حُبِسَ فلم ينطق ، فَلَمَّا تكتملْ فيه بعد آلة بها يتكلم ، وهي مجموع مركب من مراكز في الدماغ ليست المنشأ : منشأ التجريد فذلك عمل العقل ، وهو غَرِيزَةٌ أدق إذ مَنَاطُهَا روحٌ تَلْطُفُ ، فهي تجاوز الدماغ المحسوس ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، رَائِدُ الأعضاءِ إذ تَصْدُرُ عن نَبْضِهِ وإفرازِه ، ولكنه ، من آخر ، ليس الرائد الأول ، فذلك العقل وهو الألطف ، فيكون من وجدانه حبا أو بغضا ..... إلخ ، وتلك معان تقوم بالنفس فلا تدرك في الخارج بالحس ، خلافا لمقال الحكمة الأولى ، وقد تَقَدَّمَ مِرَارًا ، إذ جَوَّزَتْ حصول المطلقات المجردة في الذهن ، جَوَّزَتْ حصولها في الخارج مطلقةً بشرط الإطلاق دون ذات تقوم بها قيام الوصف بالموصوف ، فحصل من تلك المواجيد النفسانية أول يقوم بالجنان ، وهو ، كما تقدم ، محلُّ العقلِ لا الدماغ ، فالدماغ تال إذ يَتَأَوَّلُ مَا يَقُومُ بالعقلِ أولا من المشاعر والمواجيد ، فَتَأْوِيلُهَا تال ، كما تأويل التجريد بالتوليد ، تجريد المعاني بتوليد المباني ، فيكون من المواجيد الباطنة وهي معانٍ تَتَغَايَرُ بداهة من حب وبغض .... إلخ ، فليست واحدة تقوم بالنفس ، فما اختلاف آثارها في الخارج من المنطوق الحادث إلا حكاية أول من المعقول السابق ، فهو أول في النفس والنطق تال في المحل إذ يُبِينُ عنه ويظهر بما يكون من قوة النطق التي ركزت في الناطق ، وإن كانت أولا مما أجمل ، فهو ناطق بالقوة ، وهي من تقدير أول هو المحكم ، ومن تال في الخارج ماهيةً تُصَدِّقُ بما اطرد مِنْ سَنَنِ الخلق المتقن ، وَبِهِ امْتَازَ من غَيْرٍ من جنس الحيوان وَفُضِّلَ ، فكان من تقويمه الأحسن ، أول في النفس إذ تُدْرِكُ من المعاني وَتُجَرِّدُ ما يجاوز مدارك الحس من لذة وألم ... إلخ ، فذلك ما استوت فيه الأنواع كافة ، فمن قصر المعنى على ذلك فلم يجاوز به فيكون من الغيب الذي لا يدرك بالحس ، يكون به مَنَاطُ امْتِيَازٍ أخص ، من قصر المعنى على المحسوس فقد نال من التقويم الأحسن ، تقويم العقل الناصح الذي يُجَرِّدُ المعاني ، مع آخر في الحس يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ تقويم أحسن في الدماغ وما احتمله من مراكز الحس ، ومنها مركز الكلام الذي يحكي أولا لدى الميلاد : قُوَّةً قد أُجْمِلَتْ فَلَمَّا تَكْتَمِلْ بَعْدُ فيكون من تَأْوِيلِهَا تَالٍ في نطق أخص ، فَيُوَلِّدُ من الألفاظ بِجِهَازِ نُطْقٍ يَكْمُلُ ، يُوَلِّدُ منها ما يحكي آخر من التقويم الأحسن ، فَثَمَّ توليدُ معانٍ في الجنان وهو قوة أولى تحصل مبدأ الميلاد عاما أو أقل ، كما تقدم ، وثم توليد مبان تجري على اللسان إذ اكتمل جهاز النطق من لسان ولهاة وأحبال مع ما تقدم من مركز نطق في الدماغ ، هو رائد في الحس ، فعنه الأعضاء تصدر بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، وهو ، في نفسه ، لا ينفك يطلب رائدا من خارج ، رائد العقل الذي يجرد المعاني أولا قبل أن يُوَلِّدَ اللسان المباني تاليا ، مع دلالات تجتمع ، المعجم الأول بما يكون من تجريد المادة ، وميزان صرف ذات دلالة مخصوصة من صوت يحكي وجوها من المعنى أخص ، كما اسم الفاعل والمفعول ..... إلخ ، وثالث من النحو المركب أولا ، ورابع هو في الاستدلال ألطف بما تَنَاوَلَ من مَعَانٍ ثانوية لا يُفَتِّشُ فِيهَا مُسْتَدِلٌّ إلا أن يستوفي المعنى الأولي في النحو ، فلا يفتش بداهة في فَرْعٍ لَمَّا يَثْبُتْ أصله ، ولا يكون من لطف الفرع تَأْوِيلٌ يَبْطُنُ ، فهو يأتي بالإبطال على أصل المعنى الأول ، كما كانت جناية الباطنية في جيل قد تَقَدَّمَ ، والحداثة في آخر قد تأخر ، فلم يخرج عن جادة الأول ، وإن كَسَى المذهب لحاء جديدا ، فالمعنى واحد وإن اختلفت المباني ، فلا جديد في باب التأويل ، بل لا تجحد الحداثة ذلك فهي تُعَظِّمُ من المتقدِّمين من سلك جادتها فكان السلف ، وإن كانت تجحد الرجوع إلى أول ، فذلك مئنة رجوع وتخلف ! ، فَرَجَعَتْ وتخلفت أن اختارت من مذاهب تقدمت ما اتخذته سلفا في تأويلاتها التي تنقض أصول الاستدلال ، ولو معجَمَ اللسان المفرد ، فكان من ذلك سفسطة تُنْكِرُ العلم الضروري المستقر في وجدان أي ناطق ، وهو ، كما تقدم ، ما عمت به بلوى في جيل قد تأخر أن صار هذا الضروري الذي كان في جيل تَقَدَّمَ : مقدماتٍ لا يخالف فيها عاقل ، أن صار هذا الضروري محل خلافٍ وَنَظَرٍ بل قد استحدث له من المعنى ما ينقض أصول الدلالة الأولى التي استقرت في المعجم والصرف والنحو والبيان ...... إلخ ، فلا يسلم له هذا المذهب إلا أَنْ يُزْرِيَ بِمَا تَقَدَّمَ من مأثورِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فَيُشَكِّكَ في نقله ، فهو المنحول ، أو يُقَبِّحَ من نظمه في النحو أن صار عسرا يستعصي على الفهم ، فكان من دعوى التجديد ما تَذَرَّعَ بالتبسيط وَإِنْ أَفْضَى إلى التسطيح الذي يَنْتَهِي بصاحبه إلى جهل مطبق بما تقدم من قانون اللسان الأول ، فلا يفقه صاحبه بداهة يقرأ آيةَ تَنْزِيلٍ أو بَيْتًا منظوما أو كَلِمًا مَنْثُورًا ، فكيف بما تلا من تفسير ؟! ، فلا يفقه منها لا المبنى ولا المعنى ، فَتَصِيرُ الكلمات والجمل أوعيةً شاغرةً إذ لا معان ناصحة تشغلها ، فَلَيْسَ إلا الأماني تلاوةَ نُطْقٍ دون أخرى من الفقه وما تلا من تأويل في القول والفعل ، فإذا شغرت فليست تحكي المعاني المفهمة ، وَكُلٌّ يَشْغَلُهَا بما يُوَاطِئُ معياره فِي التصور والحكم ، ولو تَعَسَّفَ في الاستدلال وتحكم بما تَقَدَّمَ من عُجْبٍ بالرأي أن صار العقل المحدث هو السقف فما جاوزه من خبر الغيب فهو عدم ! ، وإن كان الجائز بل ومنه الواجب ضرورةً في معيار العقل الذي تَنْتَحِلُهُ الحداثة ، فمنه : واجب الوجود الأول ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، حتم لازم وإلا ما كان هذا الوجود الحادث مع ما أبان عنه درس التجريب والبحث الذي يتبجح به الخصم ، مع ما أبان عنه من إتقان وحكمة ، فلا تكون ، بداهة ، خبط عشواء ، فيكون منها تقويم هو الأحسن ، قد استغرق الآفاق والأنفس ، فكان منه تقويم أحسن في العقل الذي يجرد المعاني ، وآخر من الدماغ وجهاز النطق الذي يولد المباني ، وثالث في الخلقة الظاهرة ، وبها امتاز الإنسان وَفُضِّلَ ، وهو ما تجحد الحداثة وتنكر ، إن تقويم العقل الأحسن ، أو آخر في الخارج يظهر ، فكان من أولئك جميعا ما يدخل في حد الوصف المطلق في آي التين المحكم ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما احتمل من وجوه التوكيد جملا ، منها المعنوي كالقسم المقدر باسم الله ، جل وعلا ، وإن صح لمخالف أن يقول : إن ثم من المقسَم به أول يغني عن تقدير اسم الله ، جل وعلا ، فكان من أولئك مُقْسَمٌ أول قد استغرق مخلوقات محدَثة ، فجاز لله ، جل وعلا ، من ذلك ما لا يجوز لخلقه ، فَلَهُ ،
![]() ![]() ومنها ، أي المؤكدات في الآية ، منها اللفظي كما لام الابتداء الأخص التي دخلت على جواب القسم في قوله ![]() وثم من العموم تال إذ تحكي منه "أل" في "الْإِنْسَانَ" : بَيَانَ الجنسِ ، جنسَ المدخول ، وهي ، من آخر ، تستغرق آحاده في الخارج ، فذلك أول في كلِّ إنسانٍ يَعْقِلُ ، وهو مناط التكليف إذ كان من حسن التقويم ما استغرق المحال كافة ، الجنان واللسان والأركان ، الروح والبدن ، الفهوم والجسوم ، فالتقويم الأحسن قد استغرق كل أولئك ، وبه امتاز الإنسان من سائر أنواع الحيوان الأعجم ، وإن كان من آحاد من البشر ما انحط في الدركة ، فـ : (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ، وشاهده ما تقدم من زيادة قد عمت بها البلوى في جيل قد تأخر ، فكان من آحاد من البشر ما التزم طريقة الأنعام حقيقة لا مجازا ! ، وإن زعم أنه إنسان الحداثة الأخير الذي بلغ في العلوم والمعارف سقف الكمال المطلق وإن أفضى به أن يسلك جادة الحيوان الأعجم ، فلا ينفك ذلك يحكي ، ولو من طرف يخفى ، ما تقدم من تأويل باطن يبطل خاصة الإنسان العاقل أن يؤمن بغيب يجاوز مدارك الحس ، فلا يعطل الأدلة ويجردها من المدلول ثم هو يقترح آخر ولو خالف عن المنقول والمعقول والمحسوس الذي به يتشدق ، فكان من ذلك خروج عن الجادة الحسنى من تقويم عام قد استغرق الباطن والظاهر ، وذلك ، كما تقدم ، الخبر المؤكد في قوله ![]() وله ، كما تقدم ، قانون من النحو قد أُحْكِمَ ، فهو السلك الذي يَنْتَظِمُ المباني على وجه مخصوص ، فلا يخلو من تقديم وتأخير في النطق ، كما المثال يُضْرَبُ في باب الاستفهام بما خُصَّ به الهمز دون غير من ألفاظ الباب ، فَلَهُ الصدارة مطلقا ، ومنه قوله ![]() والشاهد أن الاستثناء من الأصول المحكمة لا يكون إلا بالنص ، إلا ما يكون من أحكام تُسْتَثْنَى وبها حفظ المقاصد ورعاية المصالح ما لم تخالف عن النص ، فهو ، أبدا ، العمدة ، فَلَئِنُ جاز التخصيص بالقياس ، وهو اجتهاد ، ولئن كان من العرف آخر معتبر في درك مراد المتكلم ، فيكون التخصيص به كما اصطلح في الأصول أنه التخصيص بعرف الكلام المقارِن ، فاقترانه بالعام مما يقصره على بعض أفراده ، فَلَئِنْ جَازَ التخصيص بما تقدم من وجوه الرأي المعتبر ، فإن الاجتهاد إما بقياس أو باستثناءٍ أو برعاية مصلحة ... إلخ ، الاجتهاد عامةً لا اعتبار به إذا خالف عن نص ، ولو فرعا جزئيا ، فالنص في نفسه أصل فلا يعارض إلا بأصل مثله ، والاجتهاد فرع في الاستدلال إذا لم يكن ثم نص في الباب ، فالمصلحة محل الاعتبار ليست ما اعتبر الشرع فقد أغنى عن النظر بادي الرأي ، وليست ما ألغى فلا اعتبار لما لم يعتبر إذ هو في الأحكام المرجع المعتبر ، فالعبرة ، أبدا ، بالنص ، بل من الاجتهاد الأخص ، وهو القياس ، منه ما لا يجري إلا ردا إلى نص أول ، فلا اعتبار باستثناءٍ يَأْرِزُ إلى مصلحة ما لم تكن مما به البلوى تَعُمُّ ، فهي ضرورة أو حاجة ، وهي ، من وجه آخر تقدم ، مما لا يخالف عن نص ، ولو فرعا يَدقُّ ، فالنص ، كما تقدم ، أصل فلا يرد إلا بِآخَرَ مثله ، وبه رَدَّ بعض من حَقَّقَ عمل أهل المدينة إذ لم يجر عنده مجرى الأصل ليقدم على خبر الآحاد ، فخبر الآحاد ، في نفسه ، أصل لا يُعْدَلُ عنه إلا إلى أصل يضاهي من آحاد أو يجاوز من متواتر فَيُقَدَّمُ عليه من باب أولى إذا تعذر الجمع فهو ما يأرز إليه الناظر بادي الرأي . ومحل الشاهد منه ما تقدم من الهمز فإن الاستثناء أن قُدِّمَ مطلقا ، ولو على عاطف له من الكلام صدر أول ، ذلك مما لم يقترح تَحَكُّمًا ، وإنما رود به كلام العرب المحتج به فذلك نص في الباب ، وهو مما جَوَّزَ الاستثناء ، فالاستفهام بالهمز له عهد أخص فَسَاغَ لأجله الخروج عن الأصل ، وهو الضرورة التي تقدر بقدرها فلا يجاوزها الناظر ، فَيُقَدِّمَ بَقِيَّةِ أدوات الاستفهام على العاطف قياسا على الهمز ، بل يَقْتَصِرُ بالضرورة على موضعها ، ولا يتعدى بالاستثناء إلى غَيْرٍ من أفراد الباب ، فهو خلاف الأصل ، فَافْتَقَرَ إلى دليل هو النص ، فلا يقاس عليه ، إذ ما خالف عن القياس فغيره عليه لا يُقَاسُ ، فقد خالف الهمز في هذا الموضع عن القياس ، فلم يقس عليه غَيْرٌ من أدوات الاستفهام ، فكان من الهمز أول قد اسْتُثْنِيَ ، وهو ما لا يكون إلا بدليل ، وهو الخاصة التي امتاز بها الهمز من غير ، أنه أم الباب ، وله من ذلك الاستثناء ، فَمُقَدَّمُ القبيلِ أو القوم له من الخاصة ما ليس لآحاد ، وله من باب : "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ" ، فالهمز في الاستفهام صدر له رياسة كما أمير القوم ، فيقدم مطلقا حال القول ، فكذا الاستفهام في النطق ، فساغ لأجل ذلك تقدمه على العاطف وهو الأول ، فتلك القاعدة المطردة أن العاطف رباط بين اثنين ، فبعده صدر كلام أول حَالَ العطفِ جملةً على أخرى ، فيكون من ذلك علة بها يتقدم العاطف ، فذلك الأصل الثابت ، ويكون من الاستثناء تأويل يخالف عن الأصل ، فهو عدول عن ظاهر من القول يرجح ، بادي الرأي ، إلى آخر هو المؤول ، فهو مرجوح لا يَتَبَادَرُ ، فخالف عن الأصل إذ الظاهر هو الراجح حتى يكون ثم من قرينة ما يرجح ضدا لا يَرْجُحُ فِي المبدإِ ، فيكون من ذلك تأويل به العدول عن الراجح إلى المرجوح لا تحكما بلا دليل ، فذلك الترجيح بلا مرجح ، بل ثم ما اعْتُبِرَ في النظر المحقق ، فكان من القرينة ما تَقَدَّمَ مِنْ تَصَدُّرِ الهمز قَبِيلَهُ ، فتلك خاصة سوغت الخروج عن الأصل والعدول عن الظاهر إلى المؤول ، استثناء لا يقاس عليه ، إذ العلة قد غابت في غير ، فلم يكن منها شيء في الأداة "أين " في قوله ![]() ![]() والشاهد أن الخروج عن الجادة مما يحمد في مواضع من النطق ، فيكون من الإغراب ما يحسن ، غِلْظَةَ نُطْقٍ تحكي قُبْحَ القول أو الفعل الذي ورد عليه الوعيد ، وتلك رتبة من النطق أولى ، فهي ، كما تقدم ، حروف ذات مخارج وخصائص ، فَيَحْسُنُ من كلٍّ في موضعه ما يواطئ ، إن جلالا أو جمالا ، فتلك الحكمة التي اطردت في كل موضع ، إن الخبرَ أو الإنشاءَ ، فيوضع الحكم في المحل الذي يواطئ أَنْ حَصَلَ من العلة أو السبب ما يلائم . والشاهد أن النطق المحتج به مما قُيِّدَ في الحد ، فَلَهُ من الأدلة كلام جيل أول ، فهو الحاكم فِيمَا تَلَا بَعْدًا ، فغيره محكوم بما استقر من مراتبه الأولى في نَظْمٍ وَنَثْرٍ يُؤْثَرُ فهو أصل في الدلالة أول ، فكان من ذلك : الصوت ، وقد تقدم ، وله من خاصة المخرج والوصف ما به امتازت من بَعْضٍ ، ولا تخلو من أَثَرٍ في الدلالة ، بما كان من تفخيم وترقيق ، وذلك مما يواطئ السياق ، إن طردا أو عكسا في الدلالة فهي تَتَرَاوَحُ بين الجليل كالوعيد الزاجر واللطيف كالوعد الصادق ، فإذا جَلَّ المقام فهو يفتقر إلى المفخَّم ، وإذا لطف فهو يفتقر إلى آخر هو المرقق ، وثم تال وهو دلالة المعجم بما انتظم الحروف المقطعة من كلمات مفردة ، فَلَهَا من دلالة المعجم ما اسْتَقَرَّ ، وهو ما تناولته المادة المجردة في المعجم ، مع ما تَقَدَّمَ في مواضع من استعمال بعض وإهمال آخر ، فليس كل نظم لحروف تجمع يدل على معنى في الذهن يثبت ، وإن الجنس المعنوي المجرد الذي لا وجود له في الخارج ، فعمل المعجم ، لو تدبر الناظر ، كعمل الطفل ولما يبلغ بعد حد النطق ، ولو بعض كلمات مفردة فلما تكمل بعد آلته في النطق والنظم ، فذلك التوليد ، وهو تال لما يكون من تجريد ، ولو لدى الطفل الرضيع ، فقد استجمع في المبدإ بعد الميلاد ، استجمع من نحو الكلام ما به التجريد في الذهن ، فتلك قوة الكلام التي تَبْطُنُ ، فالمعاني في معجمه قد استقرت ، ونظمها في نحو مركب قد ثبت لما سمع من الأبوين أو عُلِّمَ أو قَلَّدَ من خارج ، فيكون من المحاكاة ما أوله مجموع من المعجم والنحو قَدِ اخْتُزِنَ في الوجدان قُوَّةً فَلَمَّا يَكْمُلْ بَعْدُ ما به الفعل في الخارج يصدق من مراكزِ النطق في الدماغ وآلته من اللسان واللَّهَاةِ والحنجرة والأحبال التي تَتَقَارَبُ حال النطق ، ويكون من هَوَاءِ الزفير ما يُحْدِثُ الصوت ، فاختزن الطفل المجموعَ الأول من المعجم والنحو في الوجدان قُوَّةً لَمَّا يَكْمُلْ بَعْدُ من مركز النطق وجهازه ما به تأويلها بالفعل ، فعل النطق : حروفا وكلمات وجملا ذات دلالات معتبرة بما يواطئ معجم المفردات وَنَحْوَ الجملِ ، فإذا بلغ الطفل حد النطق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، حد التمييز ، ولو في الجملة وذلك ، لو تدبر الناظر ، مَمَّا يتفاوتفي الخارج كما حديث المجة ، وفيه : "«عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ»" ، فعقل محمود بن لبيد ، ![]() ![]() وكذا يقال في علوم الصوت والنطق ، فالتصنيف تجريد لها في السطر لا يغني عن تَلَقٍّ لها بالنطق ، فذلك توليد تال يصدق ما سُطِرَ في الصحف التي دونت فيها علوم الرواية والدراية ، فالتجريد ، وإن نفع في حفظ المعاني ، إلا أنه لا ينفك يفتقر إلى تال يصدق في الخارج من نطق المباني ، كما تقدم في مواضع من حد الكلام أنه المعنى المجرد في النفس ، فذلك شطر ، وهو المراد لذاته في باب الاستدلال إذ العبرة بالمعاني لا بالمباني ، كما يقول أهل الشأن ، إلا أن المباني ، من وجه آخر ، دليل ينصح ، بما يكون من تَوْلِيدٍ لألفاظٍ تُفْهِمُ بِمَا يُوَاطِئُ قانون المعجم والنحو ، فهي دليل المعنى القائم بالنفس ، فَثَمَّ من التوليد ما يصدق أولا من التجريد الذي حصل في وجدان الوليد ثم كان بَعْدًا التَّمْيِيزُ ، وهو ما لا يحصل دفعة ، بل يكون من ذلك التدرج ، فَيَنْطِقُ لَدَى المبدإ : مبدإ التوليد وهو لما بطن من التجريد تأويلٌ يُظْهِرُ إذ يخرجه من القوة إلى الفعل المفهِم ، يَنْطِقُ الطفل لدى المبدإ كلمات مفردة بلا نظم ، وقد يخطئ في الحد فيخالف مادة المعجم بتقديم حرف أو تأخير آخر أو مخالفة عن الضبط في الضم أو الفتح ..... إلخ ، ثم يكون من زِيَادَةٍ في الدماغ مع اكتمالٍ في آلة النطق ، يكون من ذلك تال به زيادة في التوليد ، فَيَنْظِمُ جملا ، وإن قصيرةً ، ولم يَزَلْ كُلَّ يومٍ يزيد حتى يكون من التوليد ما يَتِمُّ ، فيحسن حكاية المعاني المجردة في الذهن بكلمات وجمل مفهمة مع تال في البيان يلطف بما يكون من معنى ثان يحصل بطرائق مخصوصة في الْبَيَانِ ، وأخرى في الصوت كَمَا تَقَدَّمَ من دلالة التَّنْغِيمِ فهي كبساط الحال الذي لا يفقهه إلا من شهد ، لا جرم كان لجيل أول من الرسالة ما به امتازوا من تال لا أنهم جيل النطق المحكم فحسب ، بل قد حصل لهم من شهود الوقائع فَضْلُ علمٍ زائد ، فَلَيْسَ مَنْ شَهِدَ كمن سمع ، فالشاهد يعقل من المعنى ما لا يعقل آخر قد سمع ولم يشهد ، وإن اجتهد الحاكي ما اجتهد أَنْ يَنْقِلَ ، لا جرم قُدِّمَ في باب الترجيح بين الأخبار إذا تعذر الجمع ، قُدِّمَ صاحبُ القصةِ على من يَرْوِي بَوَاسِطَةٍ فَلَمْ يَشْهَدْ ، فَعُلُوُّ الإسناد في هذا الموضع يَنْفَعُ نَفْعًا يجاوز شَرَفَ القرب من صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى آخر فِي الفهم والفقه الأخص . فالمبدأ ، كما تقدم ، تجريد في الذهن ثم توليد له في الخارج يصدق إذا اكتملت أداة النطق فحصل من اللفظ ما يدل على المعنى القائم بالنفس ، من وجه ، وهو قَسِيمٌ له ، من آخر ، إذ يقاسمه حد الكلام المفهم ، فحده ، كما قرر النحاة ، أَنَّهُ : اللفظ والمعنى ، أو لفظ يفيد معنى تاما يحسن السكوت عليه ، وله من المراتب : صوت أول بما كان من درس الوصف والمخرج لحروف من المعجم هي المقطعة ، وثم تال في الباب بما يكون من نظم الحروف المقطعة في كلمات مفردة ، وهو ما يرجع إلى عهد خاص في اللسان ، إذ ليس كل نَظْمٍ لحروفٍ في سلكِ لَفْظٍ يُسْمَعُ ، لَيْسَ كُلُّ نَظْمٍ يُفْهَمُ ، بل قد يكون المهملَ لا المستعمل ، كما النحاة يضربون المثل بديز مقلوب زيد . وثم ثالث في الباب وهو المعتبر من المستعمل بما كان من عهد خاص في النُّطْقِ ، وذلك مما يدرك باستقراء الماثور من النظم والنثر مع ما يحصل من مَلَكَةِ النطق لا سيما في جيلِ فصاحةٍ وَبَيَانٍ يحتج بِنُطْقِهِ فيحصل له من ذلك أول هو الضروري فلا يفتقر إلى نظر أو استدلال كما حال الجيل المتأخر إذ فسد اللسان فصار ما كان أولا ضروريا صارا بَعْدًا من النَّظَرِيِّ الذي تَتَفَاوَتُ فِيهِ العقول وتختلف فيه الفهوم ، وقد كان قَبْلًا محلَّ إجماعٍ يقطع وذلك مما قد عمت به البلوى في جيل قد تَأَخَّرَ بما دخل اللِّسَانَ من لحن وعجمة قد نالت من آلة البيان المفهِم وذلك أعظم ما ينال جمعا من البشر أَنْ يَفْسَدَ منهم النطق فأنى يدركون دلالات الأحكام والعقود ... إلخ من صيغ الكلام المعتبر ، إن المنطوق أو المكتوب . فالمعتبر من الألفاظ لَهُ في المعجم دلالة هي المجردة ، وثم تال من الاشتقاق ، وهو من المعجم بمنزلة المولَّد من المجرَّد ، كما تقدم من تجريد المعنى والنحو أولا في الذهن ، ثم توليد تال لألفاظٍ وَجُمَلٍ تُصَدِّقُ ، فيكون من الاشتقاق ما يُوَاطِئُ مُثُلًا قَدِ استقرت وهي مما استقرئ من المأثور الأول ، فهو العمدة في المعنى المفرد والنحو المركب وثالث من البيان يَلْطُفُ ، فحصل من تجريد المثل الاشتقاقية كفاعل ومفعول ، حصل من ذلك أول في الذهن وهو المعقول ، ثم كان تال يُتَأَوَّلُ بالمنطوق ، فهو تَوْلِيدٌ لألفاظ تواطئ مع اختلاف المادة في المعجم ، فَقَارِئٌ ومقروء ، وكاتب ومكتوب ...... إلخ ، ثم تلا ذلك النحو ، وهو ، كما تقدم ، مما امتازت به الْأَلْسُنُ ، فَلِكُلٍّ منه قانون يغاير ، وثم ما تلا من معنى ثان يلطف ، فتلك طرائق في البيان أخص بعد قانون من النحو أعم ، وكل أولئك ، كما تقدم مرارا ، مما افتقر إلى المأثور الأول ، فالقدح فيه والتشكيك ، ولو تحكما بلا دليل إلا شبهات تَضْعُفُ وَبِرَدِّهَا إلى المحكمات تُدْحَضُ ، فذلك القدح والتشكيك ذريعة الإبطال والتعطيل إذ لا يجدي ، بداهة ، قالب بلا شاغل ، فالقالب الفارغ لا شيء فيه قد استقر لِيُفِيدَ صاحبه زيادةً ، فإذا أُفْرِغَتِ الألفاظ وهي القوالب من المعاني وهي الشواغل ، فصار القالب شاغرا فذلك مما يفتح ذرائع التلاعب بأصول الكلام المفهم ، ولو مخالفةً عما استقر ضرورة من معجم الألفاظ المفرد ، فيكون من ذلك تأويل باطن يقبح ، وهو ما يُفْضِي إلى إبطالِ النصوص كافة ، وليس يَعْصِمُ من ذلك إلا أَنْ يُرَدَّ الكلام إلى أصل أول قد استقر من النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فهو المعيار المحكم وهو الحاكم على ما قد أَحْدَثَ الناس بَعْدًا من لحن وعجمة ، إِنْ في نُطْقِ الكلمات المفردة أو نَحْوِ الجمل المركبة أو تأويلِ النصوص المحكمة بلا قرائن تعتبر فليس إلا التلاعب بالأدلة المنزلة أن تواطئ الأهواء والأذواق المحدثة . ولا يسلم الناظر من هذا التلاعب إلا أن يكون له حظ من أدلة الوحي المنزل ومعيار النطق المحكم ، فيكون من اسْتِقْرَائِهِ ما يَجْتَهِدُ يقينا يجزم أو غَلَبَةَ ظَنٍّ يَرْجُحُ ، يكون من ذلك اجتهادٌ فِي تَنَاوُلِ فُرًوعِ الشرعِ المنزَّل ، ومنها يَسْتَنْبِطُ المقاصد العامة وقواعد من الأحكام تُبِينُ عن اطِّرَادٍ في الشرع ، إن في الخبر أو في الحكم ، فَلَا تَعَارُضَ ولا تَنَاقُضَ ، مع إعجاز محكم قَدْ تَنَاوَلَ الوقائع كافة بما كان من دلالات أصول وَبَيَانٍ قد أوجزت كثيرا من القول في قليل من النطق ، فتلك جوامع الكلم إذ يجمع قَلِيلٌ من المبنى كَثِيرًا في المعنى ، مع قياس قد عم فاستغرق : قياس الأصول الأخص ، أو ما جاوز من دلالة اجتهاد ورأي ، فذلك مما جاوز القياس ، وهو أصل ، إلى أخرى من أصولِ نَظَرٍ مُحْكَمٍ قد احْتَرَزَ لها مَنْ حَقَّقَ أن لم يُطْلِقْ مِنْهَا ما به ذريعةٌ إلى نقض الأصول المحكمة أو إبطال الأدلة المنزلة ، ولو فروعا ، فكان من المصالح والمقاصد ما اعتبر ، وكان لأدلة الوحي ما احْتَرَزَ ألا يكون التوسع في نظر العقل ، وَإِنِ اعْتُبِرَ آلةَ استنباطٍ في الحكم ، ففيه من المدارك ما صح في الاستدلال ، وذلك رِكْزُ الكلام ، وهو خاصة الإنسان إذ به يبين عما قام بالنفس ، وهو ذو معيار في الفهم والفقه ، إذ يجاوز نطق اللسان ألفاظا إلى ما قام بالنفوس من معان تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، حد الكلام المجزئ في اصطلاح النحاة ، فهو معنى يجرده الذهن ، ولفظ يُوَلِّدُهُ اللِّسَانُ ، والتجريد يسبق التوليد ، كما يقول بعض من حقق ، فَثَمَّ فطرة أولى وإن رَدَّهَا إلى الحس فَهُوَ يُنْكِرُ ما جاوز من الخلق الأول ، فكان من ذلك فسادٌ فِي الاعتقادِ يَفْحُشُ ، وإن كان مِنْ درسِه في الباب حَقٌّ يُصَدَّقُ ، وبه نقض لمذهب في النطق قد تناول الإنسان ذا العقل المفضل فهو في النبوات محل التكليف بما تَنَزَّلَ من الخبر والحكم ، فكان من مَقَالٍ تَقَدَّمَ ، وَإِنْ جَحَدَ الخلقَ الأول ، كان منه ما نَقَضَ ذلك المذهب الذي أَنْزَلَ الإنسانَ في التعلم منزلةَ الحيوان الأعجم ، فأثبت من توليد الجمل المركبة المفهمة ما يجاوز تعليم الحيوان ! ، فقد خرج الطفل وهو ينطق ، خرج عن هذا التعليم المجحف ، فَنَظَمَ من الكلام ما لم يُعَلَّمْ تَعْلِيمَ التلقين المباشر ، كما الحيوان يُعَلَّمُ موعد الأكل بما يكون من الجرس الذي يُنَبِّهُ فيكون من ارْتِبَاطِ الشرط ما اقتصر على معيار الحس فلا يقر ، بداهة ، بما جاوز من معنى يلطف ، فخرج الطفل عن هذا المعيار الصارم ، وكان له من خاصة الكلام : قوة أولى قد ركزت في وجدانه ، وفعل في الخارج يتأولها ، وهو ما يكون على مكث ، فَثَمَّ التجريد أولا قبل التوليد ، إذ يُجَرِّدُ نَحْوَ الكلامِ في وجدانه وإن لم يحسن يَنْطِقُ بَعْدُ إذ لم تكتمل له أداة النطق من مركز في الدماغ وآخر من جهاز النطق ، فإذا اكتمل ، وهو ما لا يكون دفعة ، لا جرم يكون من توليد الكلام في المبدإ ما يضطرب ، إذ الآلة لما تكتمل ، كما الصغير إذا بدأ السير ، فإنه يتعثر ويقع حتى ينتصب ويمشي ، فَكَذَا في نُطْقِهِ ، وإن كانت قوة المشي وقوة النطق مما ثبت أولا في فطرة الخلق ، وإنما يكون تأويلها بَعْدًا ، ولو على مكث ، فكان من تجريدٍ أول في العقل فإذا اكتمل ، فَثَمَّ التوليد شَيْئًا فَشَيْئًا حتى يكتمل له جهاز نطق يفصح ، فهو يحكي ما قام بالنفس من المعنى ، فَثَمَّ قَسِيمٌ له يرفده في حد الكلام لدى النحاة أنه لفظ ومعنى مع نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، ولا يكون ذلك إلا عن تصور وعلم ، فذلك المبدأ في أي فعل اختياري يناط بالمشيئة ، فثم عقل يقوم به المعنى وثم لسان به يَظْهَرُ في المبنى ، وثم واسطة هي الدماغ المحسوس ، فهو ، كما تقدم في مواضع ، لا يحكي العقل ، بل العقل ألطف في الماهية ، وهو سابق له في تصور المعاني ، فالدماغ يترجِمها بما كان من نَبْضٍ وإفراز يُصَدِّقُ مَا كَانَ من المشاعر والإرادات ، وذلك ما يجاوز الكلام المنطوق إلى ما يظهر في قسمات الوجه من مشاعر الحب أو البغض ...... إلخ ، فمنزلة التوليد للكلام المنطوق من التجريد لأول من النحو يقوم بالنفوس ، منزلة الأول من الثاني أنه تأويل له يصدق ، والمعنى مما يكون أولا في الوجدان ، إن معيارَ النطق الأعم الذي يحصل لكل مولود لدى المبدإ ، ففطرة النطق قوة أولى قد أجملت في الوجدان ، وثم من الفعل أول بما يجمع المولود من قانون النحو ، فهو يجرده أولا ، فتلك قوة التجريد أولا ، تجريد المعيار الحاكم في النطق ، وهو ما يختزنه العقل الذي رُكِزَ في الجنان ، ومعدنه روح تَلْطُفُ ، وتلك مادة غيب لا يعلمها إلا من خلقها ، فوحده ، جل وعلا ، مَنْ يَعْلَمُ مَا لَطُفَ من هذه الماهية المخصوصة ، ماهية الروح المخلوقة ، فهي معدن العقل الذي يجاوز الدماغ الذي يدرك بالحس ، فمركز النطق فيه يصدق بما يكون من نَبْضٍ أو إِفْرَازٍ ، فليس يستقل بإنشاء الكلام بالنظر في شَطْرٍ أَلْطَفَ وهو ما يقوم بالجنان من المعنى ، وإنما الدماغ يَتَأَوَّلُ هذا المعنى بألفاظ تصدر إذ يكون من الدماغ تأويل يصدق ، وهو ما به مركز النطق يَنْفَعِلُ ، فيكون من ذلك حركة لسان ولهاة ..... إلخ ، فذلك عمل أخص يحكي إعجازا آخر في الخلق كما أول في التصور بما قام بروح هي ، كما تقدم ، غيب يعجز ، فلا يدرك العقل أو الحس ماهيته وإن وجد آثارَه بما يكون معان هي بواعث الفعل والترك ودوافع الحب والكره ، وما يكون من إرادات وحركات ، فليست كما يزعم من قصر النظر على الحس ليجحد ما جاوزه من خبر الغيب ، ويتخذ ذلك ذريعة أن ينكر الغيب ، إِنِ المخلوقَ من الروح التي تَعْمُرُ الجسدَ ، أو المشروع مما كان من أمر قد نزل ، فـ : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) ، فتلك روح التكليف خبر وحكما ، وهو مما جاوز دلالة الأمر في اصطلاح الأصول الأخص وهو ضِدُّ النَّهْيِ ، بل الأمر في الآية قد عَمَّ إذ أُضِيفَ إلى ضمير الجمع في "أَمْرِنَا" حكايةَ تَعْظِيمٍ تَحْسُنُ فِي موضعِ مِنَّةً تَشْرُفُ ، وكذا كان الإسناد إلى ضمير الجمع في فِعْلِ الوحيِ صدرَ الآيِ المحكم : (أَوْحَيْنَا) ، فذلك من حسن التلاءوم بين أجزاء المعنى مع حكاية تَعْظِيمٍ أخرى ، فهي تحسن في سياق المنة روحا من الوحي محلها أول من العقل ، وهو ما عُدِنَ في روحٍ من الخلق بها قام البدن وَعَمُرَ ، ولولاها لفسد واضمحل ، وهو مآله بعد الموت ، فالروح اللطيف مادة بها صلاح الأبدان ، كما الوحي المنزل أخرى بها صلاح الأديان التي تعمر الجنان بما نصح من العلوم والإرادات ، ويكون من تأويلها آخر يصدق في الأركان من الأقوال والأعمال ، فتلك منة تعظم ، بل هي أشرف المنن إذ بها امتاز الإنسان من سائر الخلق بما كان من محل يقبل آثار الوحي ، فكان من إِنْزَالِهِ مَا وَاطَأَ المحل بما رُكِزَ فيه من معادن التصديق والامتثال ، وما كان من بَيَانٍ وإفهامٍ ذي مراتب مبدؤها كما تقدم في موضع : أصوات تحكي حروف المعجم المقطع فلا تفيد معنى ، ولو الكلمةَ المفردة ، فَهِيَ لبنات بها صَرْحُ الكلام يُشَيَّدُ ، وإن كان من آحادها في النطق ما يَصْدُقُ أنه صوت مفرد ، ولكنه مما يحكي دلالة تجاوز ، فهو الكلمة المفهمة بل والجملة المركبة في مواضع ، كما يقال في أفعال الأمر من المعتل : وَقَى فهو "قِ" ، وكذا اللام مثالا آخر يُبِينُ فَثَمَّ من الفعل مَاضٍ هو ولي ، وثم من الأمر أن "لِ" ، أي تَوَلَّ الأمر ، فكان من الصوت حرف واحد ، وهو ، مع ذلك يحكي معنى تاما يحسن السكوت عليه ، فَهُوَ الجملة التي ائْتَلَفَتْ مِنَ الفعلِ وهو الأمر فَخُوطِبَ به الواحد المذكر ، واستتر فيه إيجابا ضمير المخاطَب المفرد ، فكان من المجموع المركب ما واطأ قانون النحو الأول في باب الإسناد إذ أُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل ، فتلك جملة تامة من صوت مفرد لم يجاوز ، بادي الرأي ، حَدَّ الحرف المعهود في المعجم ، وإنما اكتسب الدلالة الأخص بما كان من نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، مع بساط حال هو القرينة إذ تحكي أمر الآمر ، فهو يتوجه إلى المأمور ، ويكون من ذلك ما يميز اللام : صوتَ المعجم المقطع ، و : "لِ" : فعل الأمر ، لا جرم اشترط بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، اشْتَرَطَ في الكلام ألا يكون لفظا ومعنى فحسب بل لا بد من نية وقصد ، فخرج كلام النائم والساهي وكلام من لا يعقل إن الطفل الذي لا يميز وَإِنْ نَطَقَ بِحَدٍّ من اللفظ يُفْهِمُ بالنظر في معجم الكلام الذي استقر في الوجدان ، فهو عرف الجماعة الذي بِهِ تَنْطِقُ ، فقد يصيب غَيْرُ المميز منه صوتا مركبا ولا يكون ثم قصد وإرادة تكتمل ، فَلَمَّا يُغَادِرْ بَعْدُ وصفَ الناطقِ بالقوة لا بالفعل ، وهو المجرد في الوجدان دون المولد فلما تكتمل له بعد الآلات من مركز في الدماغ يتأول المعنى الذي يحصل في العقل أولا ، العقل الذي يحصل في الجنان الألطف فلا ينفك يطلب الوسيط ، وبه التأويل ، تأويل المعنى باللفظ ، وآخر من تأويل القوة المركوزة في الإنسان العاقل ، قوة الكلام والنطق ، فهو لدى المبدإ : ناطق بالقوة ، وهو بَعْدًا يجتهد في تجريد المعيار الذي يواطئ نحو الجمع الذي فيه ينشأ وقانونه في الكلام إذ ينطق ، فيحصل له ذلك قُوَّةً ثانية تطلب التأويل بالفعل ، وختامه ما يكون من لفظ ونطق ، فيكون من ذلك توليد يصدق التجريد الأول ، ويكون من الكلام المسموع تأويل آخر ينصح لما قام بالوجدان من المعنى الألطف ، فثم معنى يُتَعَقَّلُ وهو أول في الكلام ، وهو شطر من الماهية المركبة من لفظ ومعنى ، كما حدها النحاة ، مع ما تقدم من نِيَّةٍ وقصدٍ بها امْتَازَتِ الكلمات والجمل بما كان أولا في النفس من علم وإرادة لمعنى دون آخر فذلك ترجيح به يختار المتكلم فيكون من معجم الألفاظ والجمل ما يصدق مع ما يَتَنَاوَلُ ذلك من معيار صحة أول وهو معيار الصوت آنف الذكر وما له من دلالات أخص بما كان من مخارج وأوصاف تكسب الحرف قرينة أخص في حكاية المعنى ، وبعده ينتظم سلك الكلمة المفردة : حروفا من المعجم المقطع ، ويكون من معيار لسان أول ما يميز المستعمل من المهمل ، فتلك دلالات المعجم المفرد ، وثم من يجعلها بَعْدًا فَيَتَقَدَّمُهَا مِيزَانُ صَرْفٍ مخصوصٍ يحكي المأثور من المنظوم والمنثور ، فهو ذو دلالة صوتية ذات معيار يحكي من المعنى ما يجاوز المجموع المركب من حروف معجم تقطع ، فله دلالات أخص في حكاية الأفعال والذوات ، ذات الفاعل والمفعول .... إلخ ، فَثَمَّ من يقدم ميزان الصرف على دلالة المعجم التي تحكي أولا من المعنى المجرد في الذهن ، وقد يقال ، من وجه ، إن القياس يوجب تقديم المعنى المجرد قبل أن تَتَنَاوَلُهُ مُثُلُ الاشتقاق فَتَحْكِي من الدلالات ما يزيد ، فهو المعنى المجرد أو ما اصطلح في النحو أنه المصدر إذ هو الأصل في باب الاشتقاق على قول معتبر في الباب إذ يحكي المعنى الذي يجرده الذهن أولا فهو المطلق الدلالي أو جنس المعنى العام فلا أعم منه ، فيكون من تَالٍ فِي الميزان ما يقيد إذ يأطر المصدر على معنى مركب فهو يجاوز دلالة المعنى المفرد ، فالقياس أن يثبت المعنى المجرد في الذهن أولا ، ثم يكون من بِنْيَةِ الاشتقاق ما يُقَيِّدُهُ بِصِيَغٍ هي القياس في الباب بما استقرئ من الكلام الأول ، مناط الاحتجاج ، فَجَرَّدَ مَنْ جَرَّدَ معاجم أخص فَهِيَ تَتَنَاوَلُ بِنْيَةَ الكلمةِ ، اسما أو فعلا ، فيكون من ذلك معيار أعم يجري في بَابِهِ مجرى الجنس العام الذي يجرده الذهن ، فيكون منه قالب ذو معيار في دلالة أخص بما زَادَ عن المصدر أو المعنى الذي يجرد في الذهن ، فَثَمَّ من فاعل ومفعول وفعيل وفعال وأفعل .... إلخ ، ثم منها أجناس أعم هي معيار في النطق وقالب فِيهِ تَتَشَكَّلُ المصادر المطلقة ، لا سيما عند من يقول إن أصل المشتقات هو المصدر لا الفعل ، فيدخل الفعل في جملة المشتقات آنفة الذكر ، وهي ذات دلالة صوتية أخص بما يكون من ميزان يميز بما استقرئ من النظم وَالنَّثْرِ المحتج به فحصل من ذلك تجريد في الصرف كما آخر في النحو تَقَدَّمَ ، فيجرد الذهن بِنًى منه تنصح في بَيَانِ معان أخص تجاوز جنس المعنى المجرد مِنْ زِيَادَاتِ الاشتقاق التي تُقَيِّدُ ، فيكون من معيار الصرف ما يَتَنَاوَلَ مادة "عَلِمَ" ، فَيَشْتَقُّ منها ألفاظا أخص ذات دلالات تجاوز المعنى المجرد في الذهن ، معنى العلم المطلق ، فيكون من "عَلِمَ" فِعْلٌ ماض قَدْ دَلَّ على الحدث والزمن نصا ، والفاعل لزوما ، إذ لا يكون الفعل بداهة إلا وثم فاعل هو الأول إذ يَتَأَوَّلُ ما قام بِنَفْسِهِ من العلم والإرادة ، فيكون من ذلك فعل في الخارج يصدق ، فكان من ذلك ماض وآخر يضارع ودلالته حال واستقبال ، وإن كان ثم من القرينة أخص إذ يمحضه في مواضع لحالٍ ، وفي أخرى لاستقبال كما السين وسوف وكما "أَنْ" المصدرية ، ولو في الجملة ، وثم أَمْرٌ ودلالته دلالة الاستقبال إذ يكون منه إنشاء يَطْلُبُ مَا يعقب النطق ، فَتَأْوِيلُهُ ما يكون بَعْدًا من امتثال الفعل ، فكان من ذلك الماضي : "عَلِمَ" وميزانه في الاشتقاق "فَعِلَ" ، وكان منه المضارع "يَعْلَمُ" وميزانه في الاشتقاق "يَفْعَلُ" ، وكان منه الأمر أَنِ "افِعْلَ" وميزانه في الاشتقاق "افْعَلْ" ، وكان من ذلك جملة أخرى من المشتقات إذ تحكي ، أيضا ، المعنى الأخص ، معنى الفاعل في اسم الفاعل "عَالِم" وميزانه في الاشتقاق "فاعل" ، ومعنى المفعول في "مَعْلُومٌ" وميزانه في الاشتقاق "مفعول" ، ومعنى المبالغة في "عليم" و "عَلَّام" وميزانه في الاشتقاق "فعيل" و "فَعَّال" ، مع دلالة أخص قد دَلَّ عليها كلُّ مثال وإن كان من المبالغة جنس عام ، فَعَلِيمٌ يستغرق دفعة ، لا جرم كان من معموله الغيب المفرد ، وإن كانت دلالته دلالة الجنس المستغرق ، وَعَلَّامٌ ، في المقابل ، يستغرق بالنظر في الأجزاء ، وهي المعلومات في الخارج ، إن المقدورات قوة في علم أول يحيط ، أو الموجودات بَعْدًا بكلمات التكوين إذ تنفذ ، إِنِ المغيَّبَاتِ ومناطها في التكليف التصديق ، دون الخوض في ماهية أو كيف ، فيكون من الإثبات ما اقتصر على المعنى العام الذي يجرده الذهن ، ومناطه أن يأت به الدليل المعتبر فإذا صح فهو المذهب الذي يجاوز ما تَبَادَرَ من مذهب الفقه في الأحكام ، فَثَمَّ مذهب آخر في الاعتقاد ، ومناطه ، أيضا ، أن يصح الدليل ، فاستغرق "عَلَّامٌ" من هذا الوجه ، استغرق المغيَّبات على التفصيل آنف الذكر ، والمشهودات في الخارج ، لا جرم كان المناط في "عَلَّام" هو الجمع فهي الغيوب لا الغيب ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
![]() والشاهد أن الكلام في الاصطلاح هو : لفظ يظهر ومعنى هو أول في الوجدان يبطن ، مع نية وقصد فلا يكون الكلام لفظا يُقَلَّدُ دون معنى في الوجدان يثبت ، لا جرم كان من قِيَامِ الحجة ما تَنَاوَلَ الألفاظ والمعاني فلا تحصل حجة بمبنى لا يفقه السامع له معنى ، لا جرم كان من شرط التكليف أولا أن يكونَ المعلومَ ، فلا تكليف بما يجهل المخاطب وإن سمع لفظا فهو لا يفيده كلاما إذ لا يفقه ما وراءه من المعنى ، فالمعنى ، من وجه ، قسيم المبنى في الحد ، وهو من آخر أول عنه يصدر المبنى ، فَبَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ في الدلالة قد أحكم ، فلا يكون بأحدهما دون الآخر كلام يفهم ، وذلك البَيَانُ الذي عَلَّمَهُ الله ، جل وعلا ، الإنسانَ ، فكان من ذلك عقل يَتَصَوَّرُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع عدة ، ذلك تصور الجنان لدى المبدإ ، فهو علم يجرده الذهن ، وبه قيام الحجة في الخبر والحكم ، فلا يبلغ حد التصديق الأخص إلا أن يكون ثم زيادة من الإقرار والتسليم وتال من الانقياد بِطَاعَةٍ تَأْوِيلُهَا في الخارج الامتثالُ ، ولها من ذلك آخر أعم فهو يَتَنَاوَلُ الأخبار إذ تُصَدَّقُ ، فالتصديق ، كما تقدم ، عمل أخص يجاوز ما يحصل من العرفان المجرد ، بادي الرأي ، مع ما يكون في مواضع من دلالةِ إنشاءٍ يُضَمَّنُ ، إن الأعم كما في أخبار الوعيد والوعد ، فَلَهَا دلالة إنشاء أعم إذ تحض على الفعل حال الوعد رَغَبًا ، وتحض على ضِدٍّ من التَّرْكِ حالَ الوعيد رَهَبًا ، أو الأخص بما يكون من التضمين المباشر ، كما اصطلح أهل الشأن ، إذ من الخبر في المعاني ما دل على إِنْشَاءٍ ، كما في قوله
![]() وَمَرَدُّهُ ، كما تقدم مرارا ، إلى التحكم في الاستدلال بما كان من ترجيح بلا مرجح ، وهو مما عِيبَ ، إِنْ فِي الخلقِ أو فِي الشرعِ ، فكان من تَحَكُّمِ الحداثة في الجيل المتأخر أَنِ الْتَزَمُوا ما لا يعقل في باب الخلق الأول ، وهو الغيب الذي لم يشهد ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب الدليل المجاوز للعقل ، وليس ذلك إلا خبر الوحي ، إذ الخلق الأول من الغيب المطلق ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب الدليل من خارج ، وهو ما جاوز العقول كافة ، فَلَوْ كان من الغيب النسبي إذن لكان مِنْ بَعْضٍ مَنْ شهد ، فأخبر من لم يشهد ، وكان من الأول حجة على الثاني ، إذ علم ما لم يعلم ، فكان من زيادة العلم ما به رَجَحَ قولُ العالم قولَ الجاهل ، وإنما الشأن أن يصح الخبر ، وكذا يقال في الوحي الذي يخبر بما جاوز من الغيب المطلق ، ومنه ما لم يشهده أحد إلا الخالق الأول ، جل وعلا ، لا جرم كان الاشتغال آنف الذكر ، الاشتغال بأدلَّةِ الأصلِ من خبر الوحي ، كان ذلك من آكد مَا يَنْصَرِفُ إليه العاقل المسدَّد ، فَأَمْرُ الدِّينِ أَعْظَمُ ، ومآله أشرف إذ يَبْقَى فمن حَازَهَ فَقَدْ حَازَ كُلَّ شيءٍ ، ومن فاته فقد فَاتَهُ كُلُّ شيءٍ ، فكان من الاشتغال بأدلة منها الْكُلِّيُّ الَّذِي يُحَرِّرُ أدلة النبوات في الجملة ، فهي تَتَنَاوَلُ الجنس العام ، جنس النبوات من الجواز في المبدإ ، وذلك حكمها لدى من حقق ، فالنبوات جائزة في حق الله ، جل وعلا ، إذ لا أحد يوجب عليه شيئا إلا ما أوجبه على نفسه بما كان من الكمال المطلق فهو الأول ، وله من آثارٍ في الفعل ما يَظْهَرُ ، ومنه فعل النبوات إذ تَتَنَزَّلُ بالكلمات الدينية ، الخبرية والإنشائية ، فكان منها أعظم رحمة قد امْتَنَّ بِهَا ذُو الجلال والعزة ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فهي صلاح الأولى والآخرة وهي مناطُ سعادةٍ في الأولى ونجاةٍ في الآخرة ، فكان من الاشتغال أولا بأدلة الجنس العام المستغرق ، ثم تَالٍ لآحادٍ من الجنس ، وأعظمها ما كان من الختم ، لا جرم كان من أَدِلَّتِهَا ما تَكَاثَرَ وَتَوَاتَرَ ، فثم أدلة بها تحرير المرجع ، مرجع الخبر الذي يرفد العقل بما جاوز من الغيب المطلق ، فلا يبلغه دون مخبرٍ من خارج ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطغيانِ مَا أَفْسَدَ بِمَا كَانَ من أسبابٍ تُجْمَعُ ، فكان من الكبر أن يخضع العقل لما نَزَلَ من الوحي ، فلا ينفك يطلب دليلا آخر ، ولو آل به أن ينطق بالمحال الذاتي فهو أهون من تصديق الخبر الرسالي ! ، فَقَالَ من قال في أصل هذا العالم : إن الكون قد خلق نفسه ، أو أن ثم سنة محكمة هي الحتم فَهِيَ الخالقة ، وقد أثبت علم التجريب ، كما يقول بعض المحققين ، أن الحتمية لا تَطَّرِدُ ، فَثَمَّ هامش الخطإ ، وذلك ما يدل ، من وجه آخر ، أن ثم دليلا في الكون يحكي تأويلا ينصح لاسم الرب المهيمن ، جل وعلا ، فهو من يخلق الشيء وَضِدًّا ، فَلَوْ كَانَ الخلقُ عَلَى سُنَّةٍ واحدة لقال من قال : إن ثم معيارا يضطر ، فلا اختيار في فعل أو ترك ، بل ثم حتم يغني عن وجود مدبر ، فالكون يدبر نفسه ، ولو سُلِّمَ بذلك فلا يجاوز السُّؤَالَ المتقدم : سؤالَ التسلسل ، فإن كان ثم سنة فلا بد لها من سَانٍّ ، ولو أجراها اضطرارا فلا إرادة ولا اختيار مع ما يلزم من خلق أول لمادة هذا العالم فإنها لا تقدم ، فلا يُحْسَمُ بها سؤال التسلسل فهي مادة أولى أو هيولى ، لا تنفك تطلب من يُوجِدُ أولا من خالقٍ هو الأول ، وما يصورها تاليا فهو الفاعل ، فهي ميتة لا حياة فيها ولا فعل ، فكيف وجدت بلا موجِد ، ثم صُوِّرَتْ بلا مصوِّر ، فكان من صورها ما تغاير ، ولو سلم بمقال الحكمة الأولى في قدم الجوهر وتعاقب الأغيار عليه ، فالمادة واحدة ! ، وهو ما يخالف عن دليل الحس الضروري إذ يبين بما كان من تجريب وبحث ، يبين عن اختلاف في الماهية وهو ما يحكي حكمة رَبَّانِيَّةً بَالِغَةً ، أَنْ هُيِّئَ كلُّ مخلوقٍ وَيُسِّرَ لما لأجله قد خلق ، فكان من تغاير الأعيان ، وكان من آخر في الأنواع والأجناس ، كان من ذلك ما يبطل القول بقدم الجوهر واحدا بالعين ، فقد يكون ثم تشابه في أصول أدق ، كما حروف المعجم في الجمل ، فالحروف في كل جملة تحكي من الألفاظ والمعاني ما لا يحكي غير ، وإن كانت كُلُّهَا : حروفَ المعجم الواحد ، فإن مِنَ اختيارِ بعضٍ ، ونظمه في سلك بعينه ، مع ترتيب بتقديم وتأخير مع ما يكون من معيار نحو في النطق فذلك تال لِمَا كان من نظم الحروف في كلمات مفردة ، فَثَمَّ نحو مركب به انتظام الكلمات في سلك محكم فتحكي من المعنى ما يغاير آخر ، فَثَمَّ اختلافٌ في أعيان الجمل ، وإن كان من حروف المعجم واحد ، فلا يلزم منه ، بداهة ، وحدة المعنى الذي يقوم بالنفس ، وإنما تَغَايَرَتِ الألفاظُ في النطق وَتَغَايَرَ المعنى تَبَعًا وإن كان من التَّرَادُفِ ما يَثْبُتُ ، فهو مما يتناول الألفاظ لا الجمل ، فمناطه الدلالات المعجمية المفردة لا أخرى من جمل تتراكب فيكون من مدلولها في الخارج ما يختلف ، والترادف ، مع ذلك ، ليس الأصل ، بل لا يطلق القول به مطلقا ، فَثَمَّ مِنَ المحققين مَنْ نَفَى الترادف التام بين لفظين في اللسان ، بل لا بد من قدر فارق ، ولو في ثان من الدلالة بعد أول هو الأصل المشترك وإلا كان ذلك ذريعة إلى إبطال الدلالة اللسانية إن توسع الناظر في الترادف فأهمل الافتراق في الصيغ المنطوقة والمكتوبة ، وهو ما كان مِنْ مُعَطِّلَةٍ في باب الإلهيات قد عمت بهم البلوى في كل جيل إذ طردوا القول بالترادف التام في باب الأسماء والصفات ، فالرحيم عين العليم مطلقا ، دون تفصيل يميز ترادفهما من جهة الْعَلَمِيَّةِ إذ يدلان على مسمى واحد في الخارج ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، دون تفصيل يميز ترادفهما من جهة الْعَلَمِيَّةِ وتغايرهما من جهة المعنى الذي اشتق منه كلٌّ ، إذ الرحمة بداهة تغاير عن العلم ، وإن كان الموصوف بهما في الخارج واحدا ، وهو ما اصطلح أهل الدلالة أنه التَّكَافُؤُ الذي يجمع الترادف والتغاير كَافَّةً ، إذ يكون الترادف من وجه وهو الدلالة الْعَلَمِيَّةُ في باب الاسم والوصف ، ويكون التغاير من آخر وهو الدلالة الوصفية ، فلا تعارض إذ الجهة قد انفكت ، كما يقول أهل الشأن ، وبه يَزُولُ التعارض إذ سَاغَ الجمعُ ، فكان من تَوَسُّعِ بَعْضٍ في الترادف ما أفضى إلى إبطال اللسان كافة ، فذلك لازم طرده بعض في الخبريات ، كما تقدم من مقال المعطلة في الأسماء والصفات ، بل ثم من زَادَ فَطَرَدَهُ في الحكميات ، فأبطل من الوحي خبره وحكمه ! ، كما باطنية تأويل في الأمر والنهي ، وهم ، أيضا ، ممن عمت بهم البلوى في كل جيل ، فكان من ذلك ما لأجله احترز بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَنَفَى الترادف التام من كل وجه إذ قصره على الجنس المعنوي العام إذ لكلِّ مرادفٍ من المعنى الأخص ما به قد استقل ، فالاختلافُ في أعيان الجمل يثبت ، وإن كان من حروف المعجم واحد ، فلا يلزم منه ، بداهة ، وحدة المعنى الذي يقوم بالنفس ، بل ذلك ما يشبه ، ولو من وجهٍ ، مقال الحكمة الأولى إذ قالت إن الجوهر واحد وإنما تغايرت الأعراض في الخارج ، وهو ما فتح ذرائع لما كان بَعْدًا من وحدة الأديان أن تجمع في دين واحد ، وإن المحدَث من الأرض ، فوحدة الجوهر دليل على وحدة العين فليس إلا اختلاف الصور إذ الحقيقة واحدة ، فكان من ذلك وحدة أعيان بما كَانَ مِنَ اتِّحَادٍ قد جاوز العين المخصوصة في الخارج ، فقد تناول الأعيان كَافَّةً ! ، وتلك ذريعة توسل بها أهل الباطن في الجيل المتقدم إذ لَفَّقَ من الدين ما يشبه ياسق جنكيز خان ، فَجَمَعَ من كلٍّ طَرَفًا ، وَصَيَّرَ نفسه هو المعيار المجاوز من خارج ، فهو يختار من الأديان والمذاهب ما يواطئ الهوى والذوق ، فاختار من واحد لا آحاد ! ، إذ الدين واحد وَإِنْ تَغَايَرَتِ المقالات بل وتناقضت فالجمع بينها يَمْتَنِعُ ، إلا أن يكون من التأويل الباطن ما يُصَحِّحُ كُلًّا ، فهي طرق ومسالك تُفْضِي إلى واحد ، وإن تعددت السبل ، كما ضوء المصباح فهو يسري في كُلِّ جهةٍ ، ويفضي إلى واحد ، فلا يستقيم ذلك إلا أن يكون من الوحدة ما جاوز الأديان إلى الأعيان ، فيكون الجوهر واحدا وإن تغايرت الأعراض ، فالحقيقة واحدة في الخارج فليس ثم من الصور ما يحرم أو ينجس ، كما الْتَزَمَ مَنِ الْتَزَمَ من أصحاب المذاهب الباطنية ، إذ كلٌّ في واحدٍ ، وإن اختلفت الصور في الخارج ، إذ الحقيقة تَقْدُمُ ، وليس الوجود إلا واحدا بالعين فلا فرقان يميز زيدا من عمرو ، بل ولا آخر يميز أُمًّا من زوجةٍ ، فالفرج واحد يَحِلُّ وإن اختلفت الصور ! ، وهو ، أيضا ، ما الْتَزَمَ بَعْضٌ من الباطنية بما ذاع من مذاهب إباحية أبطلت الشرع إذ نفت الْفَرْقَ في الوجود والكون ، فوحدة الأعيان أول ووحدة الأديان ثان يَلْزَمُ ، وهو ما تَوَسَّلَ إليه بَعْضٌ في جيل قد تَأَخَّرَ ، ما تَوَسَّلَ إليه باسم الخليل ، عليه السلام ، وهو من ذا بَرَاءٌ يَسْلَمُ ، فـ : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهو ما يرد الأمر إلى مرجع أول يحكم ، وبه الامتياز في الوجود ، فليس واحدا ، وإنما منه أول هو الواجب ، وهو في الأزل قد تَقَدَّمَ حَسْمًا لِمَادَّةٍ تَمْتَنِعُ لَدَى كلِّ مَنْ يَعْقِلُ ، مادة التسلسل في الأزل ، فلا بد من أول له من الكمال الذاتي ما لا يُعَلَّلُ إذ لا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل له من وصف الفاعل : أولية تُطْلَقُ ، فهو الفاعل بِوَصْفِ فِعْلٍ يُرَجِّحُ في الخارج ، وبه الجائزات توجد في الخارج وجودا تاليا يصدق ما كان أولا من وجودٍ في علم التقدير المحكم ، فَثَمَّ واجب أول إليه تُرَدُّ الموجودات كَافَّةً ، فهي عنه تصدر ، صدور المخلوق عن الخالق ، الجائزِ عن الواجبِ بما كان من علة تصدر عن واجب وجود أول ، وهي كلمة تكوينٍ تَنْفُذُ بمشيئةٍ تُرَجِّحُ ، وهي لعلم أول تصدق ، فتلك حكاية النبوات في الوجود والخلق الأول ، فَلَيْسَ الخلق في خبرها خبطَ عشواء ، فلا يكون من خبط وعبث ، لا يكون منه هذا الخلق المحكم ، فتلك دعوى تخالف عن العلم الضروري المستقر لدى العقلاء كافة ، ولو سُلِّمَ جدلا أن ذلك مما جاز في الحكم ، فتلك الدعوى المجردة من دليل يشهد ، فأجزأ في رَدِّهَا أخرى تضاهي مع تحد أخص ، كما يذكر بعض من حقق ، فإن هذا المقال المحدث لا ينفك يَتَبَجَّحُ أنه ينكر الغيب ، فلا يرضى المرجع المجاوز من خارج الحس ، فوحده معيار الإثبات والنفي ، فَهَلَّا كان منه تجريب يُصَدِّقُ ؟! ، أن يكون من عبث في التجريب ما عنه يصدر الإحكام في التكوين والتدبير . فكان من خبر النبوات في باب الوجود ، وهو الجنس العام المجرد في الذهن ، فلا جنس يتقدمه ، وهو العام الذي لا أعم منه ، فلا يكون منه في الخارج إلا واجب أول قد كَمُلَ في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، فَثَمَّ من الفعلِ ما يَحْكِي آثارَ اسمٍ ووصفٍ أول ، فهو له يَتَأَوَّلُ ، فذلك الفعل بالعلم الأول إذ يُقَدِّرُ ، ودليله ما كان من إِتْقَانٍ في الخلقَةِ وإحكامٍ في السنة ، فحصل من ذلك قِسْمَةٌ في العقل الصريح تَنْصَحُ ، وبها جواب سؤال عن الخلق الأول ، فَثَمَّ الخالق الأول بالعلم ، فذلك خلق التقدير ، وثم تال في الخارج يصدق بالإيجاد والتكوين ، مع ثالث به الرَّزق والتدبير ، فالقسمة : واجب أول في الوجود ، وجائز يحتمل ، والجائز لا ينفك يفتقر إلى المرجح وإلا كان من ذلك ما يخالف عن العقل المصرح ، فيكون منه الْتِزَامُ المحال الذاتي في القياس الْعَقْلِيِّ ، إذ يَلْزَمُ التسلسلُ في المؤثرين أزلا إن التزم الخصم أن ثَمَّ ترجيحا من خارج لا يَأْرِزُ آخرَ أمرِه إلى أول قد امتاز وجوده الواجب من وجودِ غَيْرٍ فهو الجائز ، فهو المرجِّح من خارج ، ويلزم آخر يُحَالُ إِنِ الْتَزَمَ الناظرُ القولَ بمادة أولى دون خالق أول ، مع ما يكون بَعْدًا من حركة فيها فذلك فعل لا بد له من فاعل من خارجها ، فلا يكون فعل بلا فاعل ، فكيف بما كان من حياة أخص ، هي مما أعيى وأعجز الخصم ، فكان منها سِرٌّ يَلْطُفُ ، فلا يطيق له مثلا ، وإن ضاهى من المادة بَعْضًا في المعمل ، فما جاوز في تجريبه إلا مَوَاتًا لا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى من ينفخ فيه الحياة ، مع ما يكون من خلق محكم قد عَمَّ فاستغرق الأنواع كافة ، فلكلٍّ من الماهية ما هو أخص ، وله من الخلق ما به قد اسْتَقَلَّ ، فالجواهر ، بادي الرأي ، تَتَغَايَرُ ، وإن كان ثم تشابه في عناصر تدق ، فَمِنْ نَظَمِهَا في جزئيات مخصوصة ما به الأنواع قد تمايزت بما كان من خلق تقدير أول ، وما تلا من إيجاد هو المحكم ، وهو في الباب آي يعجز ، باب الربوبية التي استغرقت الخلق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، جنس عام يستغرق ، فَثَمَّ منه تقدير هو الأول في العلم المحيط المستغرق ، فهو العلم بالماهيات ، وإن دَقَّتْ ، والعلم بما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، وما يصلحها من الأسباب إذ أُعِدَّتِ المحال أن تقبل آثارها ، وكان من قوة الفعل والتأثير ما رُكِزَ في السبب ، فتلك قوة تأويلُها فِعْلٌ يُصَدِّقُ إذا باشر السبب محلًّا يَقْبَلُ ، وثم من الخلق إيجاد يصدق ما كان من علم محيط يستغرق ، وثم تدبير قد تناول المحال كافة ، فلكلٍّ سبب يواطئ ، فذلك السنن المحكَم الذي جَاوَزَ الأعيان ، فكان منه آخر في مواضع أدق ، فسنن الأديان في الأخبار والأحكام تحكي آخر من التوحيد ينصح ، فهو لأول من ربوبية يصدق ، وهو لازم له في القياس المصرَّح ، مع غائية قد جاءت بها الرسالات السماوية ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فتلك العبودية التي بها امتاز الخلق العاقل المكلَّف ، فَلَيْسَتْ عبوديةَ الاضطرار التي تثبت في كل محل ، آمن أو كفر ، كما في عموم قد استغرق في آي مريم المحكم : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، وذلك من القصر بأقوى الأساليب ، النفي وأداته في هذا السياق "إِنْ" النافية ، والاستثناء وأداته "إِلَّا" ، وهو قصر الحقيقة الذي تَنَاوَلَ الأعيان كَافَّةً ، ولو العجماوات كما في الخبر أَنْ : "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ" ، فكان من العموم : عموم "كُلُّ" وهي نص فِي الباب ، كان منه المحفوظ الذي تَنَاوَلَ آحاده كافة ، وذلك ما جاوز في الدلالة : دلالة "مَنْ" : الموصول الاسمي المشترك ، ودلالته ، بادي الرأي ، بما يكون من نَظَرٍ أول في وَضْعِ اللسان المجرد ، وضع المعجم المفرد ، دلالته تَقْتَصِرُ على الجنس العاقل ، فكان من دلالة العموم في "كُلُّ" بما رفدها من معنى العبودية الأعم الذي يستغرق الأعيان كافة ، كان من تلك الدلالة ما زَادَ فِي دلالة "مَنْ" فَصَيَّرَهَا نَصًّا يجاوز العاقل إلى غير ، على تأويل : إن كل من في السماوات والأرض ، وإن كل ما في السماوات والأرض ، فالقرينة قد رَفَدَتِ الخَاصَّ فَصَيَّرَتْهُ نَصًّا في عام يجاوزه ، وهو ، من وجه ، شَاهِدٌ به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فذلك من مجاز الخصوصية إذ أطلق خَاصًّا يَقْتَصِرُ عَلَى العاقلِ ، وَأَرَادَ عاما يجاوز فهو يستغرق الأعيان كَافَّةً ، ومن ينكر المجاز فَهُوَ جَارٍ على أصل يطرده في مواضعِ الخلافِ كَافَّةً ، فهي مما يُرَدُّ إلى حقيقة أخص ، حقيقة العرف المشتهر ، فذلك مما تكرر في شواهد اللسان المحكمة مما به احتجاج في مسائل النحو والبيان ، فَهُوَ من الحقيقة بما كان من تَوَاتُرٍ في الاستعمال ، وإن خالف عن حقيقة اللسان المطلقة بالنظر في وضع أول قد جُرِّدَ في معجم اللسان المفرَدِ ، وهو ، من وجه آخر ، مما قد يجري مجرى الإيجاز حذفا ، فقد ذَكَرَ شَطْرًا وهو العاقل ، وحذف آخر به القسمة تكتمل ، فَحُذِفَ غير العاقل فهو تبع للأول ، والمذكور منهما قد دل على المحذوف ، إذ لَا حَذْفَ إلا بدليل فقد خالف عن الأصل فَافْتَقَرَ إِلَى الدليل من هذا الوجه ، وتلك دلالة تضاهي التلازم استيفاءً لأجزاءِ القسمةِ في الخارج ، فتأويله من هذا الوجه : إن كلُّ مَنْ في السماوات والأرض ، وإن كُلُّ مَا في السماوات والأرض ، إن كلٌّ إلا آتي الرحمن عَبْدًا يخضع ، فتلك ، كما تقدم ، عبودية التكوين الأعم ، فهي اضطرار لا اختيار ، فلا يناط بها ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ ، بادي الرأي ، فَتُشْبِهُ ، من وجه ، أحكام التكوين في الخلقة فلا ثواب ولا عقاب أَنْ خُلِقَ آدمُ ذَكَرًا وَخُلِقَتْ حَوَّاءُ أُنْثَى ، إذ ليس ذلك مما يقدر عليه الخلق ليخاطبوا باكتسابه ، ولو جَاوَزَ بَعْضٌ فَهُوَ يَطْغَى إذ يُنَازِعُ الرَّبَّ الْأَعْلَى ، عَزَّ وَجَلَّ ، منصبَ التكوين بما يكون من تلاعب وتحويل ..... إلخ ، فلا يَتَنَاوَلُهُ التَّكْلِيفُ ، وإن صارَ المقدور الذي يُكْتَسَبُ ، فإنه مما لا يتناوله مدح ولا ذم ، بالنظر في أصل الوصف ، وصف الجبلة : ذكرا أو أنثى ، فليس فيه معنى تَعَبُّدٍ يُرَادُ لِذَاتِهِ ، بل التحكم في اكتسابه بما تقدم من التلاعب والتحويل الذي يصدر عن روح تأله تروم الحرية مطلقا فَتَأْبَى الانقياد لحكم التكوين النافذ فضلا عن التشريع الحاكم فذلك ما أَبَتْ أَوَّلًا ، ثم كان البلوى آخِرًا أن بَلَغَ الطغيان أصلَ الخلقة ، فذلك التحكُّمُ ، بَدَاهَةً ، مما يُذَمُّ وَيَحْرُمُ ، سواء أخرج عن القدرة أم لم يخرج ، بل الخروج قد أفسد الأديان والأبدان كَافَّةً ، والتجريب المحدَث بِذَا يشهد اضطِّرَابًا وَفَسَادًا في الأعيان والأحوال كَافَّةً ، فهو يدخل ، من هذا الوجه ، في عموم الأمر أَنْ : (لْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فإن المخالفة مِنْهَا ما يَتَبَادَرُ من سياق الآي : خُرُوجًا عن الأمر الشرعي الحاكم ، وثم تال قد حدث في جيل تأخر بما عظمت به بَلْوَى قد استغرقت ، فمنها خروج عن الأمر الكوني النافذ بما كان من جبلة الخلق ..... إلخ ، فكان من عبودية التكوين مَا لَا ثَوَابَ فيه ولا عقاب بالنظر في المعنى المجرد ، معنى الاضطرار الذي لا يطيق الخروج عنه أحد ، وَإِنْ جَحَدَ أَوْ سَفْسَطَ ، فَشَاهِدُ الحال لِدَعْوَاهُ يَنْقُضُ نَقْضَ الضرورةِ الملجئة ، وإن كان ثَمَّ وجهُ تكليفٍ بما يكون من الانقياد والتسليم في أقدار ماضية لا تكليف يَتَوَجَّهُ بِمُدَافَعَتِهَا ، لا جَبْرًا يُذَمُّ كما التسليم بالظلم والقعود عن مدافعته وتحصيلِ أسبابٍ بها يُنَاجَزُ تأولا لنصوص الأمر والنهي على تفصيل يتناولها بالقيد الذي يحترز من المفاسد العظمى وهو مع ذلك ليس الذريعة إلى إبطال هذه الشعيرة المثلى ، كَمَا بَلْوَى قَدْ عَمَّتْ في هذا الجيل وكان من فُحْشِهَا أَنِ اتَّخَذَتِ الدين ذريعة لإقرارِ الظلم بما كان من الغلو في نصوص الطاعة والسمع أَنْ تُوضَعَ على غير مواضعها ، مع كَتْمِ بَعْضٍ يشهد بضدٍ لما ذهب إليه صاحب هذه الدعوى . فَثَمَّ تسليم وانقياد يحسن في أَقْدَارٍ لَا تُدْفَعُ ، كما المصائب الكونية التي لا يطيق العبد دَفْعَهَا من الموت والهدم ..... إلخ ، وإن خوطب ، من وجه آخر ، أن يصبر ، وأن يباشر من السبب ما ينفع إن كان ثم وُسْعُ في الدَّفْعِ كما الاستشفاء من المرض أو إغاثة من نَالَهُ الهدمُ ، وكذا جبلة الخلق ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فكلُّ أولئك مما لا يتوجه به تكليف ، وكذا عبودية الاضطرار ، إلا ما يكون من تصديقٍ بها يتناول التوحيد : خلقا وتدبيرا ، وإلا فليست مناط النجاة الأخص ، فلا تُنَالُ إِلَّا بِعُبُودِيَّةِ العابدِ المنقادِ لا العبد المضطر الذي يَصْدُقُ في كُلِّ محلٍّ ، فكلٌّ آتٍ يَوْمَ القيامةِ إِتْيَانَ العبدِ ، فذلك العموم المؤكَّد بأقوى الأساليبِ نَفْيًا وَاسْتِثْنَاءً ، وَثَمَّ تَالٍ يُؤَكِّدُ وهو لجنسِ العبودية يُبَيِّنُ ، فذلك الإحصاء الذي تَنَاوَلَ الأعيان والأعمال كافة ، فـ : (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، وهو مما أُكِّدَ ، أيضا ، بِجُمَلٍ في الباب قِيَاسِيَّةٍ ، فَثَمَّ لام هي في الباب أعم ، لام الابتداء في "لَقَدْ" ، وَلَهَا مِنْ ذلك وصف أخص ، إذ بها ابْتُدِئَ جوابُ القسمِ خَاصَّةً ، فهي دليل قد تَأَخَّرَ لِقَسَمٍ أول قد تَقَدَّمَ ، فاحتملت من الأدلة : دليل التوكيد ، إِنِ الْأَعَمَّ بِنَظَرٍ أول يستغرق كلَّ زيادةٍ في المبنى أَنْ تَحْكِيَ أخرى تُضَاهِي في المعنى ، أو آخر أخص بما اختصت به من اسم الابتداءِ ، فَحُصُولُهَا مَبْدَأَ النُّطْقِ مِمَّا به الذهن يُسْتَحْضَرُ ، إذ ليست العاملة فيما تَلَا ، فزيادتها دونَ عَمَلٍ قَدْ مَازَهَا من أخرى هي نَصٌّ في التعليل أو الجحود أو الأمر إذا دخلت على المضارع ، أو ثالثةٍ هي نَصٌّ في الملكِيَّةِ أو الاختصاص أو الاستحقاق ، فحصل من لام الابتداء ما ضاهى أولئك في الرسم والنطق ، وهو ، مع ذلك ، يخالف عنهم في العمل والمعنى فَلَا تَعْمَلُ لام الابتداء كما قَدْ عَمِلَا النصبَ والجزمَ في الفعل ، والجرَّ في الاسم ، ومعناها ، كما تقدم ، توكيد لدى المبدإِ ، فصار لها من ذلك اسم الابتداء الأخص ، مع ثالث من الوصف إذ دخلت على جواب القسم ، فكان من ذلك ابتداء أخص ، ابتداء الجواب ، وبه اكتسبت اسم الجواب ، فهي لام ابتداء أخص قد دخلت على الجواب خَاصَّةً ، فَصَارَتْ لَامَهُ ، من هذا الوجه ، وهي ، من آخر ، دليل لما تَقَدَّمَ من القسم المقدر ، على تأويل : والله لقد أحصاهم وعدهم عدا ، وثم من التحقيق تال في الباب يؤكد ، إذ دخلت "قد" على العامل "أَحْصَاهُمْ" مع ماضوية تحكي ما تقدم من علم أول قد استغرق ، وما تلا بَعْدًا من علمِ إحصاءٍ يُصَدِّقُ ، فـ : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، مع تَالٍ من كتاب ينطق بالحق إذ يستنسخ القول والفعل ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . والإحصاء في الآية : وصفُ فعلٍ كما العد بَعْدًا ختام الآية : (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، فحصل منه آحاد تُنَاطُ بالمشيئة قد صَدَّقَتْ منه الأول نَوْعًا في الأزل يقدم ، وهو ، كما تقدم ، من علم محيط قد استغرق الأعيان والأحوال كافة ، وثم من التوكيد قِيَاسٌ بالمصدر "عَدًّا" ، ومن ثم كان تِكْرَارٌ يَتَنَاوَلُ المعنى ، فـ : (كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ، وإن كان ثم زيادة تفيد ، فكلهم آتِيهِ إِتْيَانَ العبدِ فَرْدًا فلا جمع ، فَزِيدَ وصف الفرد ، فهو الْمُسْتَنْطَقُ في الحساب بعد نَشْرِ الكتاب ، فـ : (كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) . فتلك العبودية الأعم ، وليست ، كما تقدم ، مناط التكليف الأخص بعبودية الاختيار : تصديقا وامتثالا ، لما قد جاءت به النبوات ، فتلك غاية الخلق كما آي الذاريات آنف الذكر أَنْ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . والله أعلى وأعلم . |
#4
|
|||
|
|||
![]() فلا يستوي عابد الرب ، جل وعلا ، وعابد الوثن ، فليس كل عن مشكاة واحدة يصدر ، إلا ما يكون من مذهب حلول واتحاد قد أفسد الأديان إذ أفسد اللسان قَبْلًا ، فَسَوَّى في دلالته بين المفترقات ، وهو ما يخالف عن الحكومات الصريحات ، إذ تقضي ضرورة بالتفريق بين المختلفات ، فلا تُسَوِّي بَيْنَهَا في الخارج بالنظر في حقائق وماهيات أخص وإن اشتركت في أجناس دلالية أعم ، هي ما يُطْلَقُ مِنَ المعنى وَيُجَرَّدُ في الذهن ، وليس الاشتراك فيها ذريعة إلى آخر في الخارج فيصير الوجود في الخارج واحدا بالعين فليس ثم وجود أخص في الخارج تمتاز آحاده بل الجوهر واحد لا يتعدد وإنما تعددت الصور والأعراض ، فما الأعيان التي تدرك بالحس في الخارج إلا صور تحكي مظاهر من وجود واحد هو الحقيقة فهي مجاز يحكي أوصافه جلالا كما صورة فرعون إذ نطق باسم الربوبية والألوهية ! ، فكان من ذلك عرفان صحيح قَدْ صَيَّرَ فرعون المؤمن العارف الذي أدرك من سِرِّ الخلق ما لم يدرك موسى الكليم ، عليه السلام ، إذ بُعِثَ إليه بكلمات النبوة توحيدا يبطل الوحدة ، فالأعيان في الخارج ، ولو لازم المقال الاتحادي ، الأعيان في الخارج ليست إلا صورا تجري مجرى المجاز إن جلالا كما صورة فرعون إذ طغى فجاوز الْحَدَّ في باب التوحيد ، أو جمالا كما صورة الكريم يوسف الصديق ، عليه السلام ، فما أَحَبَّتِ امرأة العزيز فيه إلا حقيقة الإله الذي تحكيه صورة يوسف مجازا ! ، وكذا اتحاد الكلمة ، وهي الوصف ، اتحادها بالناسوت وهو الأقنوم ، كما قد غلت النصارى في عيسى المسيح ، عليه السلام ، أو ما جَاوَزَ من اتِّحَادٍ أعم من جهة الذات والوصف ، فقال إن الإله ذَاتًا وَوَصْفًا قد اتحد بالناسوت الأرضي المحدَث صورةً تحكي حقيقة اللاهوت ، فذلك اتحاد أعم من جهة الذات والوصف ، وإن كان أخص من وجه آخر ، أَنِ اقتصر الاتحاد على عين واحدة ، عين المسيح ، عليه السلام ، في الخارج ، وكذا ما عمت به البلوى بَعْدًا في جيل قد تَأَخَّرَ ، من حلول واتحاد قد تناول المعنى ، كما قد حَلَّ المطلق الأعلى في شخصِ اعتبارٍ في السياسة والحرب قد اصطلح أنه الدولة الإله التي تحكم في الأفراد حكمَ الإلهِ في عبادِه بما احتكرت من أسباب التشريع والإنفاذ ، وكما حلت روح التشريع العليا في كاهن ينتحل نيابة تكذب عن وحي من السماء ينزل ، أو مشرِّع أرضي ظالم قد نازع الإله الحاكم ، جل وعلا ، وصفا من أخص أوصافه بل ما بَعَثَ الرسل ، عليهم السلام ، إلا لينطقوا بتوحيده العام الذي استغرق التكوين والتشريع كافة ، فكان من ذلك الأمر الذي أُطْلِقَ أَنْ : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، بل الخصومة في التشريع كانت أعظم ، فقد أقر المخالف الأول بالتكوين ، ولو في الجملة ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ، خلاف ما عمت به البلوى في الجيل المتأخر فقد صار التوحيد كله محل جحود وإنكار ! ، وإن ضرورةً في خلق هذه الأعيان ، فالعقل قَاضٍ بداهة أنها لا توجد إلا بموجِد ، فالحادث لا بد له من محدِث ، وذلك قانون ضرورة قد استقر في العقل والفطرة ، وإن لم يأت به خبر شرعة ، فهو من مقدمات البداهة في أي استدلال ينصح ، فلا يكون موجود محدَث إلا وثم موجِد أول يتقدم ، فذلك من الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، فلا يكون التحكم أنه قد وجد بلا موجِد ، فذلك الترجيح بلا مرجح ، بل لا بد في الباب من مرجح من خارج الجائز ، فذلك وصف الموجود المحدَث ، بادي الرأي ، فهو الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وذلك ، كما تقدم ، في مواضع مما يتسلسل فلا يكون منه وجود في الخارج يثبت إلا أن يرد ذلك إلى مرجح يتقدم ، فَثَانٍ فَثَالِثٌ ...... إلخ ، فلا يكون وجود في الخارج يثبت إلا أن يُرَدَّ كل أولئك إلى واجبِ وجود أول ، فوجوده قد امتاز من وجودهم ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، وإلا اطرد التسلسل فلم يكن ثم أول عنه تصدر الأعيان والأسباب كافة ، فلا يكون إلا العدم ، فليس ثم وجود في الخارج يثبت ، فلا يكون ذلك إلا أن يثبت أول واجب ، وجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وبه حسم التسلسل في الأزل إذ يمتنع ، فالوجود ليس واحدا بالعين ، كما زعم مقال الاتحاد والحلول في كُلِّ جيل ، وإن تَلَطَّفَ لكلِّ جيلٍ بما يواطئ من التأويل ! ، بل الصحيح أنه واحد بالجنس فتحته أنواع منها واجب الوجود الأول الذي تَنْتَهِي إليه الموجودات كافة ، إن أنواعا أو آحادا ، فهي تصدر عنه صدور المخلوق المحدَث عن الخالق المحدِث فهو الأول فلا أول قبله ، فلا يستوي الإله الحق ، جل وعلا ، وما سواه من آلهة الباطل ، من أوثان حس أو معنى ، بها نازع الطاغوت ذَا الملكوت والجبروت ،
![]() وهو ، أيضا ، مما يزيد في الدلالة شطرا آخر يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِيَاذُ على حَدِّ المقاسمة ، مقاسمة جنس أعلى يَتَنَاوَلُ الطَّلَبَ فَهُوَ بَيْنَ جَلْبٍ وَدَفْعٍ ، جلبِ المصالح وهي الخير ، فذلك اللِّيَاذُ الَّذِي يطلب ، وثم آخر يشاطره الجنس الأعلى ، على التفصيل آنف الذكر ، وذلك العياذ الذي يدفع المفاسد وهي الشر ، فَحَالُ الخلقِ ، أَبَدًا ، بين خَيْرٍ يُطْلَبُ ، وَشَرٍّ يُدْفَعُ ، وَدَفْعُ الشرِّ أولى إِذْ دَفْعُ المفاسِدِ يقدم على جلب المصالح ، كما يقول أهل الأصول والمقاصد ، فَيُسْتَعَاذُ أولا ، وذلك تطهير المحل مما يدنس ، فتكون التخلية قبل التحلية ، ويكون دَفْعُ الْوَارِدِ الفاسدِ قَبْلَ جَلْبِ الصَّادِرِ النَّافِعِ ، فإن الاعتقاد لا يَنْصَحُ إِنْ حَصَلَ إِقْرَارٌ وإذعانٌ أَنَّ الله ، جل وعلا ، معبود بحق ، وحصل آخر يشرك فهو يُعْطِي المخلوقَ بَعْضًا من وصف الإله الحق ، وإن أَقَرَّ أَنَّهُ دُونَهُ ، فلا يساويه مساواةَ الند لآخر ، كما قال بعض من حَقَّقَ ، فَلَيْسَ ثَمَّ أمة تعتقد إلهين معبودين قد استويا من كل وجه ! ، بل من أشرك فَلَا يَنْفَكُّ يُعْطِي أحد الشركاء رُتْبَةً أعلى ، كما النصارى المثلِّثة ، فقد أعطوا الأب رُتْبَةً تَعْلُو الابنَ وروحَ القدسِ ، وكما المثنوية ، فإن النور خير من الظلمة ، وإن كانا عندهم إلهين قد اشتركا في وصف القدم ، فإن النور أفضل ، فكان من ذلك اشتراك في جنس القدم مع حصولِ تَفَاوُتٍ في الرتبة ، وكذا المجوس ، من باب أولى ، فإن الظلمة عندهم محدَثة ، فَثَمَّ قديم واحد وهو النور ، فَعَلَا في الرُّتْبَةِ وجاوز الظلمة ، ولم يسلم كُلُّ أولئك من الشرك ، وإن كان في مقالهم أَوَّلٌ يفضل في الرتبة فَثَمَّ شريك له في الأمر ، لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أولهم حق ، كما في مقال المثلِّثة ، فإن الأب عندهم هو الإله الذي خلق ، وهو الخالق الحق ، ولكنهم قد ضاهوا به الابن وروح القدس في وصف القدم ، مع ما أحدثوا من مقال الأقانيم ، أنها أوصاف ، من وجه ، فَهِيَ معان كالعلم والحياة ، وهي ، مع ذلك ، أقانيم ذات مَاهِيَّةٍ فِي الخارجِ تَسْتَقِلُّ ، فكان من الشرك في وصف القدم ، وَإِنْ أَثْبَتُوا الأب الخالق الأول ، وله من الرُّتْبَةِ مَا قد عَلَا ، ولكنهم لم يَسْلَمُوا من شركٍ به قد غَلَا في المشرَكات ، وإن كانت دون الرب الأول ، جل وعلا ، فَلَمْ يحصل بهذا الإثبات ، إِثْبَاتِ الخالقِ الأول ، بل وإثبات رُتْبَةٍ له تجاوز بقية المشرَكات من الأقانيم ، لم يحصل بذلك توحيد يجزئ ، إذ كان الشرك ، ولو في بَعْضٍ من الوصف ، مع اختلاف في الماهيات الحاصلة في الخارج ، فكان الشرك في وصف القدم أَنِ الْتَزَمَ أولئك ما لَا يُتَصَوَّرُ إلا الفرضَ المجرَّد فِي الذهن ، أَنَّ الأوصاف تحصل فِي الخارج على حد الاستقلال كما الذوات ، وليس المعنى مما يقوم في الخارج إلا بالذات ، فهو يقوم بها قيامَ الوصفِ بالموصوفِ ، وبهما جميعا الحقيقة الواحدة في الخارج تثبت ، حقيقة المسَمَّى الذي يدل عليه الاسم ، فهو الْعَلَمُ على الذات وما يقوم بها من الوصف ، فَلَيْسَ ثَمَّ وصف يستقل كما الذات ، فيكون الجوهر أو الأقنوم الذي يُضَاهِي الذات ، فهو يشاطرها وصف القدم ، وذلك الشرك ، وإن تقدمته الذات في الرتبة ، على التفصيل آنف الذكر . فكل أولئك مِنَ الشِّرْكِ وَهُوَ الشر والمفسدة التي يُسْتَعَاذُ مِنْهَا لَدَى المبدإِ قَبْلَ طَلَبِ خَيْرٍ من التوحيد الذي يجزئ ، توحيد النبوات ، إِنْ ربوبيةً بأفعال الخالق ، أو ألوهيةً بأفعال المكلَّف ، فَقَبْلَ طَلَبِ الهداية والرشاد ، وذلك إيجاب ، يكون دفع الغواية والضلال ، وذلك سلب ، فإذا سُلِبَ المحلُّ أوصافَ النَّقْصِ التي تُكَدِّرُهُ ، كان إيجاب يُحَلِّيهِ وَيُزَيِّنُهُ بأوصاف الكمال ، وقد تهيأ لها المحل ، فليس ثم نقص يكدرها ، فيقدح في كمالها ، بل قد يذهب به ، كما الشرك إذا كَدَّرَ صفاءَ التوحيد أن لم يكن ثم اجتهاد من المكلَّف أَنْ يُطَهِّرَ المحلَّ وَيُخَلِّيهِ من أوضار الشرك ، فَثَمَّ بَعْضٌ لِمَّا يَزَلْ بالقلبِ عَالِقًا ، فإذا لم يَتَحَرَّ العبد ما استطاع فَتَوْحِيدُهُ لَا يَسْلَمُ من شائبةٍ تُكَدِّرُ صفوه بل قد تَنْقُضُ أصله ! ، فَوَجَبَ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَحَرَّى دون أن يوسوس ويتكلف في التفتيش والتدقيق ، فيكون من ذلك بحث بالمناقيش يَغْلُو فِي تَحَرِّي النَّوَايَا والقصودِ ، فَيَجْهَدُ صاحبُه إذ قد كَلَّفَ نفسه ما لا يطاق أَنْ يُحَصِّلَ الحاصلَ ، فالفرض الواجب أن يحرر النية لدى المبدإ ، فإذا حَرَّرَهَا شَرَعَ بَعْدًا في العمل ، فهو المراد من العلم ، وإن شاطره قسمة الدين ، فالدين هو : العلم وذلك الاعتقاد ، والعمل وذلك الشَّرْعُ ، فالدين : عُلُومٌ يَنْتَحِلُهَا الباطن ، وأعمال يمتثلها الظاهر ، وإن كان من الأعمال ما بَطَنَ ، وإنما القسمة : قسمةُ الغالبِ ، إذ أغلب الأعمال مما يظهر في حركات الجوارح ، وإن كان ثم نوع أشرف من حركات الجنان الباطن ، ومبدأ الجميع ، كما تقدم ، النية والقصد ، فإذا حَرَّرَهَا صاحبُها شَرَعَ في العمل ، فلا يتكلف مراجعةً بعد أخرى ، فَيُحَصِّلَ من النية ما قد حُصِّلَ ، فلا ينفك يوسوس في نفسه وهو ما يُجْهِدُ وَيُمِلُّ فَيُفْضِي إلى الترك ، أَنْ غَلَا ، ولو في خيرٍ يعظم ، فما خير أعظم من إخلاص النوايا والقصود ؟! ، فذلك خير ما لم يخرج بصاحبه عن حد المعقول ، فيكون من ذلك وسواس يضجر ، وإنما العدل أن يجتهد في تحرير النية أولا وَدَفْعِ ما يَعْرِضُ تَالِيًا من المفسِدَاتِ ثم يشرع في العمل بِرَسْمِ التوكل والأخذ بالأسباب تأولا لباطن من توحيد الوجهة ، وظاهرٌ يمتثل أحكام الشرعة ، ومدارها على أَسْبَابٍ يباشرها العبد ، وذلك نظام الشرع مع إيمان أول بالقدر ، وذلك نظام التوحيد ، فإذا كان ذلك فَلْيُحْسِنِ الظن بِرَبِّهِ ، جل وعلا ، مع استحضارِ مقام الرهب كما الرغب تأولا لما كان من حال النبوة الأولى ، فـ : (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) ، ولا يَغْلِبَنَّ أحدهما الآخر بل يَعْدِلُ المكلَّفُ بَيْنَهُمَا في القسمة ، فَرَغَبٌ وَرَهَبٌ ، وبهما حد العبادة المجزئة ، فإذا عرض بَعْدًا من خَاطِرٍ يفسد النية ، فهو يدفعه ولا يتكلف في تَتَبُّعِهِ ، بل يعرض عنه ولا يضره حديث النفس ما لم يَرْسَخْ فَيَصِير اعتقادًا يجزم ، فَعُفِيَ من ذلك ، وهو مما تجاوز الرب الرحيم ، جل وعلا ، ما لم يتكلم أو يعمل ، كما في الخبر المصدق ، فـ : "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا، ما لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ بهِ" ، فذلك حد يجزئ في تطهير المحل وَتَخْلِيَتِهِ من أوضارِ الشرك قَبْلَ تَالٍ يطلب من خَيرٍ ، وبه تحلية المحل وعمرانه بما نصح من حكومات الوحي الخبرية والإنشائية ، فَبِهَا عمارة المحال كافة بما ينفع في الأولى والآخرة ، فلا تَنْفَعُ تحليةٌ وَلَمَّا يُطَهَّرِ المحلُّ بَعْدُ من الكدر ، فذلك مما يفسد ما يَرِدُ من المادة النافعة ، فإذا كان في المحل بقية شرك لم يستعذ منه العبد قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَ لِيَاذًا به يطلب خَيْرًا يَنْصَحُ المحل بما كان من توحيدٍ هو واجب التكليف الأول ، إذا كان في المحل بَقِيَّةُ شركٍ ، لَمْ يَسْلَمِ التَّوْحِيدُ الْوَارِدُ من كدر ، وهو مِمَّا يتفاوت ، فقد يكون من بقية الشرك ناقض لأصل التوحيد الجامع ، فيكون من شعبِ الشرك الأكبر ما لم يُغَادِرِ المحل ، كما تقدم من حالِ مَنْ عَبَدَ الإله الحق ، جل وعلا ، وغلا في آخر من معبود باطل ، فَعَبَدَهُ ، ولو لم يعتقد المساواة من كلِّ وجه ، فجعل الإله الحق هو الأول ، فلا يسلم له ذلك إلا أن يجعله الأوحد فلا يكون في منصب التعظيم والتأليه إلا هو ، وقد يكون من شعب الشرك أصغر يَنْقُضُ الكمال الواجب فلا يَنْفَكُّ يَنَالُ من التوحيد الناصح ، وإن لم ينقض الأصل الجامع ، فلا يأمن صاحبه وإن كانت حاله أحسن من الأول الذي أَفْسَدَ الشركُ أصلَ توحيدِه الجامع ، لا يأمن أن يَصِيرَ الشرك الأصغر سَبَبًا فِي آخر أكبر ، لا جرم كان النهي عنه سَدًّا لذريعةِ مَا هو أفحش من شركٍ أكبرَ فهو لأصل الدين يَنْقُضُ ، فَكَانَ الْعِيَاذُ قَبْلَ اللِّيَاذِ ، على التفصيل آنف الذكر ، وكان دفع المفسدة قبل جلب المصلحة ، وكانت التَّخْلِيَةُ قَبْلَ التَّحْلِيَةِ ، فَيُسْتَعَاذُ من الشرك قَبْلَ لِيَاذٍ تَالٍ يطلب التوحيد ، لا جرم كان حد الشهادة المجزئة في حصول اسم ديني ينفع ، كان حدها ابتداء النفي الذي يُخَلِّي المحل من آلهة تبطل ، فالعبد يستعيذ منها وَيَنْفِرُ ، فـ : "لا إله" ، وذلك كفران بكل معبود باطل سوى المعبود الحق ، جل وعلا ، لا جرم كان مِنْ حَدِّ العروة الوثقى ، عروةِ التوحيد العظمى ، كان من حَدِّهَا أولٌّ هو الكفران بالطاغوت ، وتلك تخلية المحل قبل التحلية بَعْدًا بإيمان بالله ، جل وعلا ، يَنْصَحُ ، فكان من "لَا إِلَهَ" : كُفْرَانٌ بِالطَّاغُوتِ الذي يُضَاهِي به عُبَّادُهُ الإلهَ الحقَّ ، جل وعلا ، فيكون من ذلك الغلو في المعبود أو المتبوع أو المطاع ، وهو ما استغرق طاغوت الحس وآخر من المعنى ، طاغوتا من اعتقاد باطل أو تشريع جائر يضاهي به صاحبُه الحقَّ من اعتقاد التوحيد وتشريع الوحي الذي جاءت به النبوات ، وإن اختلفت الأمهات ، فكان من دين واحد أبٌ يجمع ، وكان من الشرائع أمهاتٌ تَكْثُرُ ، قد رُدَّتْ إلى خاتمة من الرسالات تستغرق ، فهي خلاصة ما تَقَدَّمَ من الأصول ، وهي شَارِحَةٌ بما فَصَّلَتْ من الفروع ، وليس ثم بعدها دينٌ يُقْبَلُ إلا أن تكون هي المرجع ، فذلك توحيد تال يَرْفِدُ توحيدَ المرسِل ، جل وعلا ، فَثَمَّ توحيد المرسَل الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فالإيمان به يُرَادُ لذاته ، وَيُرَادُ لِغَيْرٍ بما كان من بُشْرَى نُبُوَّةٍ تقدمت وميثاق أول قد أخذ على الأمم كافة ، فإيمانهم به ونصرته امتثال لما جاءت به نبواتهم ، من وجه ، فـ : (إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، فذلك إيمان بأولى ، مع إيمان بِثَانِيَةٍ هي المرادُ لِذَاتِهِ ، من كلِّ وجهٍ ، أن كان ثم من عقدها ما نصح في الخبريات كافة ، لا سيما الإلهيات وهي قطبُ رَحًى في الباب ، ولأجلها قد تَنَزَّلَتِ النُّبُوَّاتُ بما صَحَّ من الأخبار ، وتلك خلاصة العبادة التي لأجلها خلق الجن والإنس ، كما قد أبان عنه محكم الذكر ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، ولا يحصل ذلك ، بداهة ، حقيقةً لا دعوى ، إلا أن يأخذ المكلَّف الدِّينَ كُلَّهُ بِقُوَّةٍ ، فَيَأْخُذَ من كتابه توحيدا يُصَدَّقُ ، وتشريعا يُمْتَثَلُ ، فَيُصَدِّقُ العلمَ بالعمل ، ولا يكون العلم دعوى تجرد لا دليل عليها من العمل يشهد ، فالنبوة الخاتمة قد جاءت بما يكفي في حصول الاسم الديني المجزئ إِنْ في الاعتقاد بما صدق من الخبر ، أو في التشريع بما عدل من الحكم ، فكان من ذلك حَدُّ عبادةٍ تجزئ إذ لمحال التكليف كافة تستغرق ، فهي ، كما حدها بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، الاسم الجامع لما يحب الله ، جل وعلا ، وَيَرْضَى من الأقوال والأفعال كافة ، ما بطن منها وما ظهر ، وذلك مما لا ينال إلا من مشكاة النبوة تَوْقِيفًا ، وإن كان ثم من معاني الحسن والقبح ما رُكِزَ في الوجدان والعقل ، فهو آلة تصح في درك المعاني الكلية ، فلا تنفك مع ذلك تطلب الرائد المصدِّق من وحي قد تَنَزَّلَ ، وهو ، مع ذلك ، يُبِينُ لها عما أُجْمِلَ من كلياتها الجامعة ، فَثَمَّ من فروع الخبر والحكم ما يُفَصِّلُ مجمل التوحيد والعدل ، فالتوحيد تُفَصِّلُهُ الأخبارُ والعدل تُفَصِّلُهُ الأحكامُ ، ولا ينفك كلٌّ يطلب من الناصح ما يُقَوِّمُ إذا كان ثم اعوجاج يطرأ ، فكان من النبوات ذلك المقوِّم الناصح بما صَدَقَ من أخباره وَعَدَلَ من أحكامه ، كما كان منه قَبْلًا المفصِّل ، وكذا المصدِّق لركز الفطرة الأولى لدى المبدإ ، فالعقل ، كما تقدم ، قَدْ رُكِزَتْ فيه قوى من التوحيد الخبري ، وأخرى من التحسين والتقبيح الحكمي ، فكان ذلك فطرة خلق أولى قد باشرتها شِرْعَةُ نُبُوَّةٍ تَنْصَحُ ، فهي رائد يَصْدُقُ في خبره وحكمه ، وكل أولئك توحيد لمرسَل هو شطر شهادة يَتْبَعُ أن : "محمدًّا رسولُ الله "، وهو لأول يلزم إذ يبين عن التكليف المجزئ في حصول عروة وثقى هي المحكمة التي بها الدين النافع يثبت ، ولا تكون ، كما محل شاهد أول ، إلا بالنفي "لَا إِلَهَ" ، وهو ما يعدل العياذ ، العياذ من كلِّ معبود باطل ، ثم يكون الإثبات بَعْدًا إذ خُلِّيَ المحل مما يَقْبُحُ من الاعتقاد والتصور والإرادة ، فتكون التحلية بالإثبات "إِلَّا الله" ، فذلك إثبات المعبود بحق واحدا لا شريك له في الوصف أو الحكم ، قد انْفَرَدَ بأجناسِ التوحيد كافة ، علما وعملا ، ربوبيةً بها يدبر العالم ، وألوهيةً بها يَتَنَسَّكُ العابد ، وهو يعدل في الدعاء لِيَاذًا يطلب ما يَجْمُلُ من توحيد وتشريع يَنْصَحُ صاحبَه في الأولى والآخرة ، فيكون عياذ به التخلية ، كما العياذ من علم لا ينفع ، ثم يكون تال من لِيَاذٍ هو قسيمه في الحد ، وبه التحلية بِعِلْمٍ يَنْفَعُ ، فذكر الخبر شطرا وهو العياذ من علمٍ لا ينفع ، وقد دل على تال هو لِيَاذٌ يطلب من العلم ما يَنْفَعُ ، فذلك ما لَزِمَ في القسمة شطرا يضاهي وبهما اكتمال القسمة في العقل ، فَثَمَّ من الدعاء آنف الذكر أن : "اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ" ، ثم منه دليل مطابقة بالنظر في المنطوق ، فهو يطابق المدلول الذي لأجله قد وَرَدَ ، استعاذةً من علم لا ينفع ، فدلالة الدعاء على هذا القدر من المعنى : دلالة مطابقة ، وثم أخرى وهي دلالة الالتزام بِالنَّظَرِ فِي قَسِيمٍ له يشاطره الحد ، فيكون من لَازِمَ ذَلِكَ طَلَبُ ما يَنْفَعُ من العلم ، وبهما جميعا مطابقة أخرى تستغرق من الجنسِ ما علا ، وهو حركة الجنان إرادةً ، فمنها إرادةُ تَرْكٍ بما يكون من فحوى استعاذة مما لا ينفع ، وذلك مظنة الترك والمفارقة ، ومنها أخرى تشاطرها وهي إرادة الفعل وتلك فحوى اللِّيَاذِ طَلَبًا لما ينفع من العلم ، ولا يكون ذلك إلا أن ينصح القصد أولا ، وأن يعقب العلمَ عملٌ يصدق . فلا ينفك العالم المسدَّد يَتَأَوَّلُ الخبر أَنْ : (مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، وذلك ، كما تقدم ، من القصر حقيقةً بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، مع دلالة العامل "أُوتِيَ" ، فهو دليل يَنْفِي ذاتيةً في الاكتساب ، إذ ثم مُؤْتٍ له أول ، فَلَيْسَ ذلك من العلم الذي حَصَلَ لهم بلا مُعَلِّمٍ ، كما اقْتَرَحَ بعض من مذاهبِ فَيْضٍ من عَقْلٍ فَعَّالٍ ، فيحصل الاتصال بما يكون من فناء وجود ، ويكون الاتحاد بين الإنسان والطبيعة ، كما يحكي بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، من مُثُلِ حكمةٍ أولى قد صارت بَعْدًا ذريعة إلى حلول واتحاد يصير الوجود وَاحِدًا لا يَتَعَدَّدُ ، فهو واحد بالعين ، لا بالجنس الذي تمتاز آحاده في الخارج ، كما تقدم في مواضع من قسمة الضرورة التي بها يثبت وجود هذا العالم المخلوق ، فلا يكون ذلك إلا أن يُرَدَّ وهو الجائز المحتمل إلى أول قد وجب الوجوبَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فإليه تُرَدَّ الموجودات المحدَثات كافة ، إذ يرجح فيها ، وهي ، كما تقدم ، من الجائز ، بادي الرأي ، فيرجح فيها ما به تجب في الخارج ، لا الوجوب الذاتي فليس ذلك إلا لواحد تنتهي إليه الموجودات المحدثات كافة إذ تصدر عنه صدور المخلوق عن الخالق ، وتلك قصة النبوات في خلق هذا الكون المحدَث بأعيانه وأحواله كَافَّةً ، فلم يكن صدوره الصدور الاضطراري عن علة فاعلة بالطبع مجردةٍ من الوصف الفاعل بعلم ومشيئة ، وإنما كان الخلق بالعلم الأول المقدِّر الذي أحاط واستغرق ، مع مشيئة تالية ترجح ، فهي لذلك العلم الأول تَتَأَوَّلُ أن تخرجه من القوة إلى الفعل ، فتلك حكاية النبوة في قسمة الوجود ، وفي حصول هذا العالم المخلوق من العدم ، فلم يكن في المبدإ له ثبوت في الخارج ، بل كان من ذلك ثبوت في علم أول تقدم ، وهو الأزلي الذي استغرق ، فالخلق المحدَث وهو الجائز ، لا ينفك يطلب مُوجِبًا من خارج يرجح ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ فلا ينفك يطلب حسما ، وإلا كان العدم إذ لم يبلغ الإسناد نهايةً هي الأصل والمخرج ، فيكون التسلسل الممتنع في المؤثرين أزلا ، يكون من ذلك ما امتنع ضرورة في النقل والعقل والفطرة والحس ، وكذا ما كان من مثال حكمة تقدم ، قد غلا في هذا الإنسان المحدَث ، فَصَيَّرَهُ الأصل ، وكان من اتحاد بالطبيعة ما يضاهي مقال الاتحاد والحلول بما يكون من تهيئة المحل رياضة بها فناء واضمحلال لوجود فيتحد بالمطلق أو الموجود الأعلى ، ويحصل له اتصال بالعقل الفعال فتفيض عليه العلوم بلا معلِّم ، وذلك مما قد خالف بصاحبه عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فلم يمز بين واجب الوجود الأول ، وله من الوصف ذاتي لا يُعَلَّلُ ، ومنه العلم فعلمه ، جل وعلا ، الأول الأزلي ، وعلم المخلوق على ضد فهو المكتسب بعد جهل ، إذ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، فالمحل محدَث وما يقوم به من الوصف مثله ، فلا يكون العلم في حق المخلوق إلا اكتسابا ، إلا ما كان من علوم النبوات فهي استثناء أخص لا يقاس عليه ، فذلك العلم الوهبي بما يكون من وحي إلهي يتحمله الملَك النوراني ، فلا ينال بكسب أو رياضة ، كما قد غلا بَعْضٌ في الباب ، فكان من ذلك ، كما تقدم ، ذريعة إلى فناء واتحاد بالواجب الأول ، وصيرورة كلٍّ واحدًا بالعين فلا امتياز لخالق من مخلوق ، وذلك من شؤمِ حكمةٍ أولى قد جَفَتِ النبوة فَغَلَبَ عليها مقال أرضي محدث يأرز إلى مثال وثني مُبْطِلٍ قد صير الآلهة صناعة تحكي حاجات الخلق فهي تسدها فَلَيْسَ الوحي إلا الانعكاس في الخارج لما حصل في العقل والوجدان من حاجاتٍ وَرَغَائِبَ فمصدرها من الإنسان ذاتي ، وإنما تَنْزِلُ من سماء عقله فيحصل من صورتها في الخارج مَلَكٌ يكلم العقل بما عنه قد صدر أولا فيصير الإله المشرع والنبي المكلَّم في آن واحد ، وله من ذلك سيادةٌ تُطْلَقُ ، وعلم محيط قد استغرق ، والصحيح أن العلم في حَقِّهِ جائز لا واجب ، وأنه المحدَث بعد أن لم يَكُنْ ، كما وجوده مبدأ الأمر ، فَلَيْسَ العلم في حق المخلوق : الذاتيَّ الذي لا يعلل ، بل المخلوق قد جُبِلَ على ضِدٍّ من الجهل فهو الأصل فيه وَصْفًا هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا ينفك يطلب من خارج المعلِّم الذي يُؤْتِيهِ من العلم ما به يَرْفَعُ وصف الجهل ، وإن لم يكن من ذلك إلا قليل ، وإن بلغ صاحبه من العلم ما بلغ ، فـ : (مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) . فكان من الإشارة آنفة الذكر في قوله ![]() فكل أولئك مما تدحضه هذه الإشارة إلى قريب يعجز من خلق الله ، جل وعلا ، المتقن في الماهية المحكم في السنة الجارية ، في قوله ![]() ومن ثم كان الإضراب انتقالا ، في قوله ![]() وثم من اسم "الظالمون" ما يحكي من الدلالات ما تَعَدَّدَ ، فهو أولا يَحْكِي من المعنى ، معنى الظلم ، وهو ضد من العدل أن يوضع الشيء في غير الموضع الذي يُوَاطِئُ ، وأعظمه ، بداهة ، الظلم الأكبر في باب الاعتقاد ، أَنْ تُوضَعَ العبادة توحيدا وتشريعا في محل محدَث لا يستحق إذ لم يخلق ولم يوجد ولم يصور ولم يدبر ، ولم يكن له من علم محيط ما استغرق وبه يشرع من الأحكام ما به صلاح الحال والمآل ، بل الجهل وصف المحدَثات كافة ، إذ وجدت من العدم وخرجت إلى الوجود أولا وهي لا تعلم ، فلا يحصل لها العلم إلا تاليا يُكْتَسَبُ ، فليس وصف الذات الأول ، بل هو مما اكتسب بالأسباب من خارج ، لا كعلم الرب الأول ، جل وعلا ، العلم الأول الذي ثَبَتَ فِي الأزل ، فَلَا يُكْتَسَبُ بالأسبابِ ، بل الأسباب كافة عنه تصدر فهي من آثارِ تَقْدِيرِهِ وَفِعْلِهِ ، فالعدل قَاضٍ أَنْ تُرَدَّ العبادة إلى الرب الخالق إذ هو الإله الحاكم ، فَلَهُ من ذلك كلمات تكوين تَنْفُذُ وأخرى من التشريع تَحْكُمُ ، وليس أحد له في هذا الوصف يَشْرَكُ ، لِيَصِحَّ ، ولو فَرْضًا ، أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرٌ من تلك الآلهة الباطلة ، بل خاصة الإنسان الشريف ، كما يقول أهل الشأن ، أَنَّهُ يَسْتَنْكِفُ أن يخضع لمخلوق مِثْلِهِ ، فَبِمَ امتاز عنه ليخضع له ؟! ، وكلٌّ محدَثٌ ذو عقل ، فَبِمَ امتاز عقل زيد من عقل عمرو ؟ ، ليخضع الأخير للأول ، فلا ينفك كلٌّ يطلب أعلى يجاوز ، فَهُمَا له يخضعان خضوعَ الاضطرارِ إن في التكوين أو في التشريع فلا رَبَّ يخلق ولا إله يحكم إلا هو ، فالعرب مثالا ذكره صاحب "المقدمة" ![]() وَأَيَّـامٍ لَنَـا غُـرٍّ طِــوَالٍ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() وذلك قانون الحكمة إن لم يكن ثَمَّ بَعْدُ وحيٌ هو المرجع الأعلى ، فلا يخضع أحدهم لآخر ، فلم يكن منهم ذلك بَعْدًا إلا أن آمنوا بالوحي مرجعا يجاوز من خارج قد أذهب عنهم عصبية النفس والجمع ، فَصَارَ الوحي هو وحده المرجع المجاوز من خارج ، فلا يخضعون وقد جُبِلَتْ نفوسهم أن يَنْفِرُوا من أي قيد حاكم ، لا يخضعون إلا للوحي ، لا جرم كان من مَنْعِ بَعْضٍ لِزَكَاةِ المالِ في حروب الردة ، كان من ذلك حكاية لهذا الطبع ، طبع الأنفة ، أن غَلَا فيه صاحبه فلم يأطره على جادة الوحي ، فإن الصديق ، ![]() وكذا يقال في خضوع المرأة لزوجها ، فإنها إن جردت المثال في العقل فلم يكن ثم مرجع يجاوز من وحي ، فما يحملها أن تسمع وتطيع لبشر مثلها ؟! ، وإن كان من خلقه ما قد فُضِّلَ ، وذلك الغالب لا القاطع ، المجموع لا الجميع ، فإذا حصل من امرأةٍ قُوَّةٌ في النظر والحكم وبه تروم الاستبداد بالرأي ، فما يحملها أن تسمع وتطيع لزوج قد يكون دونها في العقل والنظر ؟ ، فلا تَنْقَادُ إلا إذا جردت النية والقصد أن تسمع وتطيع الأمر ، أمر الشرع فهو ما أمرها أن تسمع وتطيع لزوج , وكلُّ ذلك من العدل في الحكم أن يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ، وهو ما ينسخ الظلم الذي ذُمَّ في الآية : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فالإضراب قد انتقل إلى ذَمِّ الظالم الذي ضاهى خلق الله ، جل وعلا ، المحكم بآخر هو الناقص المحدَث ، فَثَمَّ من اسم الظلم عام يستغرق كلَّ حكومةٍ تكون في غير الموضع ، ومنها واحد قد حكاه السياق مِثَالًا وهو التسوية بين مختلفين : خلق الله ، جل وعلا ، المحكَم ، وما كان من آخر هو الناقص المحدث ، فذلك مثال يُبِينُ عن معنى الظلم العام الذي يستغرق ، كما تقدم ، كل حكومة تكون في غير الموضع ، وهو ما عَمَّ ، من وجه آخر ، إذ احتمل في الدلالة : الظلم الأكبر الذي ينقض أصل الدين الجامع ، وهو ما يَتَبَادَرُ من سِيَاقِ الآيِ ، وإن احتمل آخر يشاطره القسمة ، قسمة الظلم الذي يجرده الذهن ويطلق ، إذ منه ظلم أكبر ينقض أصل الدين الجامع ، وآخرُ أصغر فهو يَنْقُضُ الكمالَ الواجب ، فكلاهما مما يستغرقه جنس الظلم المطلق في الذهن ، إذ تحته أنواع وآحاد على التفصيل آنف الذكر ، وكلا الوجهين ، لو تدبر الناظر ، مما يصح في النظر ، وبه شاهد به يستأنس من يُجَوِّزُ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فذلك لفظ واحد يحكي معنى الظلم ، وهو ، مع ذلك ، يستغرق من الدلالة ما يكثر ، فحصل الاشتراك في الاسم ، وحصل الاختلاف في المسمى في الخارج إذ احتمل ما تقدم من ظلم أكبر ينقض الأصل الجامع وآخر أصغر ينقض الكمال الواجب ، فيكون من ضلالِ كُلٍّ ما يواطئ ظلمه ، فضلال الأول إذ نقض الأصل الجامع ، ضلاله أعظم ، وإن حصل لكلٍّ من معنى الظلم ما يوقعه في الضلال المبين الذي استغرقه بدلالة الظرفية وذلك آكد في الذم أن صار الضلال كالوعاء الذي استغرق الظالم وأحاط به من كل جهة إحاطة تامة تستغرق ، فالظلم سبب في الضلال ، وهو ما يرفد "أل" في "الظالمون" بمعنى تال وهو الوصل على تقدير : بل الذين ظلموا في ضلال مبين ، فيكون من المعنى الذي اشتقت منه الصلة ، وهو الظلم ، يكون منه علة لِمَا تلا من حكم الوقوع في ضلال مبين لا يخفى ، فهو مما استبان لدى كلِّ ذي عقل ينصح إلا أن يخذل فَيَرَى القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، فقد فسدت منه مقدمات الضرورة في الاستدلال المحكم ، وهو ما يحكي آخر يخالف بما كان من مفهوم أن العدل سبب في حصول الهدى المبين كما أن الظلم سبب في حصول الضلال المبين ، فاطرد الخبر وانعكس مع دلالة إنشاء تنهى عن الظلم إذ هو سبب في حصول الضلال المبين ، وتأمر بضد ، فهو لازم للأول ، فتأمر بالعدل إذ هو سبب في الهدى المبين ، وثم من دلالة "أل" في "الظالمون" ، أيضا ، ما يكون لدى المبدإ من بَيَانٍ لجنس المدخول وهو الظلم ، فهو مناط الحكم ، على التفصيل آنف الذكر ، مع دلالة عموم يستغرق ، فهو يستغرق وجوه المعنى ، وذلك ما يصرفه إلى الظلم الأكبر الناقض لأصل الدين الجامع وإن احتمل ضدا من ظلم أصغر ينقض الكمال الواجب ، وهو ، أيضا ، العموم الذي يستغرق آحاد المدخول من القبيل الظالم ، وهو ما حُدَّ جمعا مذكرا ، فذلك حَدُّ التغليب وليس يقتصر بداهة على القبيل المذكر بالنظر في أصل وضع أول في اللسان ، بل ثم من دلالة التغليب ما يجاوز فهو يستغرق كلَّ محلٍّ قد تَوَجَّهَ إليه التكليف لقرينة العموم المستصحب في خطاب التشريع المنزل إلا أن يكون ثم دليل يخصص ، وليس من ذلك شيء في وصف الظلم أن يكون سببا في حصول الضلال المبين ، فذلك ، بداهة ، مما يستوي فيه الذكر والأنثى ، فالظالمون في ضلال مبين ، والظالمات في ضلال مبين ، وهو ما تحكيه ، أيضا ، دلالة الوصل على تقدير : بل الذين ظلموا في ضلال مبين ، فاستغرق تغليبا الجمع المؤنث على تقدير : بل اللاتي ظَلَمْنَ في ضلال مبين ، مع ما تقدم من التعليل أَنْ أُنِيطَ الحكم وهو حصول الضلال المبين بالمعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو الظلم ، فكل أولئك مما دلت عليه "أل" في "الظالمون" ، وهو ، أيضا ، شاهد به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فذلك لفظ واحد في النطق وله من الدلالات في الخارج ما يكثر ، وقد صح الجمع بينها في سياق واحد إذ لا تعارض ، فحسن ذلك إِثْرَاءً له بالمعنى أن يَرِدَ منه كثير على واحد من المبنى . والله أعلى وأعلم . |
#5
|
|||
|
|||
![]() فكان من بَعْضٍ أن ناجز الخالق الأول ، جل وعلا ، وصفَ الخلق المطلق ، فَرَامَ أن يضاهي خلقه بما تَنَاوَلَ من أدوات البحث والتجريب في المعمل ، فَعَبَثَ بمادة الوراثة الأولى بالتقديم والتأخير ولم يخرج في جمل قد أحدثها ، نصحت أو فسدت ، لم يخرج عن معجم أول فليس يحدث من ذلك ما لم يكن في المبدإ ، فلا يطيق الخلقَ من العدم ، وإنما غايته أن يضاهي ما وجد من مادة الخلق الأولى ، وإن لم يطق تاليا أخص أن يَبُثَّ فيها الحياة فهي سر ألطف ، فلا يضاهي إلا مصنوعا أول ، وإذا ضاهاه فَفٍي المادة الميتة دون الحياة فلا يكون ذلك إلا يدخل مَيِّتَهُ الذي نحت في الخارج في نظام حي ، فيكون من ذلك ، كما يذكر بعض من حَقَّقَ ، فيكون منه أَنْ يَنْقَسِمَ وَيَتَكَاثَرَ فلم تدب فيه الحياة إلا أن أُدْخِلَ نظام حياة محكم ، فليس من خلقه ولا يطيق له صنعا ، ولو بَسِيطًا يأتلف من وحدة واحدة من خلية في الخارج ، فلا يطيق المخالف أن يَصْنَعَ واحدة ، وإن ضاهى الأجزاء فمن أين له بالحياة إلا أن يقتبسها من نظام حي فلا يكون من مَيِّتِهِ ما يَحْيَى إلا أن تُقْتَبَسَ له حياة من نظام حي ، وهو ما يَرُدُّ الحياة إلى ذلك النظام لا إلى ما ضاهى المخالفُ في المعمل ، فلا يطيق الحياة التي هي أصل لمادته التي لا حياة فيها لدى المبدإ ، مع حاجة وافتقار ، فلا صانع يزعم طَلَاقَةَ قدرةٍ وهو يفتقر إلى آخر يكمل به ما صنع بل ويفتقر إلى أول عنه يصدر في مضاهاة مِثَالٍ حياة قد ثبت لدى المبدإ ، فهو ، من وجه ، يفتقر إلى مادة أولى ، وهو تال يُقَلِّدُ فلا يُبْدِعُ الجديد ولا يخرج عن سنن التكوين ، وهو ثالث لا يبث في مصنوعه الحياةَ إذ لا يطيق ، فذلك مما استأثر به الرب المهيمن ، جل وعلا ، وبه نَصَحَ توحيد أول في التكليف ، توحيد الرب ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، بأوصاف الخلق والرزق والتدبير ، وكان من ذلك ما نصح في القياس المحكم ، إذ تَنَاوَلَ الباب على حد التلازم بين ملزوم ولازم ، فكان من الملزوم أول ، وهو ما كان من هذا الخلق المتقَن المحكَم ، وما كان من وجوه عناية في التدبير ، وهو ما صَيَّرَهُ نُظَّارُ الإسلاميين دليلا في الباب ، باب الربوبية ، فذلك دليل الاختراع لا على مثال تقدم ، وهو ، كما تقدم في موضع ، دليلُ إِبْدَاعٍ منه قد اشْتُقَّ الاسم المقيد ، اسم البديع في آي الذكر المحكم : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فذلك "فعيل" من "فاعل" ، فهو المبدِع فأضيف إلى المبدَع المحدَث من السماوات والأرض ، وذلك من إضافة الخالق إلى المخلوق ، المسبِّب إلى المسبَّب ، إذ كان من الاسم وجه اشتقاق يدل على المعنى ، معنى الإبداع ، وهو سبب في حصول الخلق في الخارج لا على مثال سابق ، فذلك وجه تعليل كائن ، وهو ما قد عَمَّ فاستغرق الكون ظرفا تَنَاوَلَ الأعلى من السماوات والأدنى من الأرض ، وذلك طباق إيجاب قد استغرق ، وهو دليل لما تلا من طلاقة القدرة ، فـ : (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وذلك من عطف السبب على المسبَّب ، إذ القضاء النافذ في التكوين عِلَّةُ مَا تَقَدَّمَ من إبداع لا على مَثِيلٍ ، فذلك الإبداع الذي تَنَاوَلَ السماوات والأرض جميعا ، وهو مَا يحكي المثالَ لعام قد استغرق كل شيء فجاوز المذكور من السماوات والأرض ، وذلك ما صَيَّرَهُ المثالَ لعام يَسْتَغْرِقُ ، فَذِكْرُ آحادٍ منه في سياق التمثيل المبيِّن ، ذلك مما لا يُخَصِّصُ عمومه المستغرق بل يبين عنه ويوضح ، فالله ، جل وعلا ، بديع كل شيء ، لا على مثال تقدم ، آحادا من الأنواع ، فالأول منها لم يكن قبلا ، وإن كان له من الوجود ما تَقَدَّمَ في علم تقدير يحيط ، وهو ما به الخلق المصدِّق في الخارج يكون ، فيحصل له من الكينونة تال أخص ، فذلك وجود ثان يصدق الأول ، إذ يكون كما كَانَ في الغيب المقدَّر ، فعلم التقدير الأول سبب في تال من الوجود المصدِّق ، فهو علم يُؤَثِّرُ في الخلق ، إذ يكون منه أولا هو المقدور ، وهو ما تناوله من العلم أخص ، فذلك علمُ حكمةٍ وخبرةٍ وَلُطْفٍ ، كما آي التنزيل قد أبان في موضع تال من الذكر المحكم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من العلم ما تَنَاوَلَ دَقَائِقَ التَّقْدِيرِ عَلَى حَدِّ الإتقان في الخلقة والإحكام في السنة ، فكان من ذلك خبرة ولطف يخفى ، فَثَمَّ من السنن المحكم ما لا يدركه الحس الظاهر ، وإن تَنَاوَلَ من ذلك بحثَ تجريبٍ قد حصل له من الآلات حديثٌ لم يُعْهَدْ ، فَأَبَانَ عَنْ بَعْضٍ من الغيب النسبي ، وهو ، مع ذلك ، لا يَنَالُ من العلم إلا قليلا ، وإن تَبَجَّحَ بما بَلَغَ من علمٍ أنه يملك من نظرية الحتم معيارَ رياضة في حساب الحركات الكونية ، فلا يجد من ذلك إلا قانون طبيعة محكم لا يفتقر إلى أول يهيمن ، وما وجد ، لَوْ تَدَبَّرَ وَفَقِهَ ، فهو دليل على ضدِّ ما ذهب ، فمن أجرى هذا السنن المحكم ؟! ، فإنه لا يكون ، بداهة ، عن أول هو الجوهر الذي لا يَعْلَمُ بل لا حياة له تَثْبُتُ ، فكيف كان من الحياة أول ؟! ، فذلك ، أيضا ، من بدع لا على مثال تقدم ، وإن رَامَ مَنْ رَامَ لَهُ نِدًّا في المعمل ، فلم يجاوز إلا أَنِ اسْتَنْبَطَ المادة دون روح الحياة ، ذلك المعدنِ اللطيف الذي لا يَعْلَمُ مَاهِيَّتَهُ إلا مَنْ خَلَقَ الخلق الأول ، خَلْقَ الإبداع لا على مثال تقدم ، ولم يكن من ذلك خلق لأول من لا شيء ، بل ثم من العناصر والجواهر ما تَنَاوَلَ في المعمل ، وهو لأول من الخلق يحاكي فلا إبداع في الأمر ، فَلَوْ صدق في الدعوى لخرج عن قانون الخلق المحكم ، واقترح آخر يضاهي ذا ماهية وسنن يغاير ! ، وإنما أخذ ما وَجَدَ فَلَمْ يَخْلُقْ من العدم ، فليس له من ذلك أولية مطلقة كما أخرى للخالق الأول ، جل وعلا ، بل لو كان الأوَّلُ ، كما زعم ، الخبطَ والعشواء بلا غاية تُحْكَمُ ، فهو بلا علم بل ولا حياة ، فليس إلا اقتراحا لجوهر قديم في الأزل ، تَرْجِيحًا بلا مرجح ، فمن أَوْجَدَهُ أولا ثم بث فيه الحياة والحركة تَالِيًا ، فكان من التحكم أول أَنْ وُجِدَ بلا موجِد ، وكان ثان يُرَجِّحُ في الحركة ، أيضا ، بلا مرجِّح ، فدبت حركة في المادة الميتة بلا محرك ، بل قد وجدت دفعة في الخارج بلا موجد ، فذلك الترجيح بلا مرجح إن في وجود الجوهر القديم أولا ، أو فيما تلا من حركة قد تناولت هذا الجوهر بمعدن حياة تلطف ، فكان من ذلك خلق مبدَع لا على مثال تقدم ، فَلَوْ سُلِّمَ جدلا أن أول هذا الخلق المعجز هو ذلك الجوهر القديم الذي لا يعلم ولا حياة فيه أولى تَثْبُتُ ، ولا إرادة له بها يُرَجِّحُ ، فليس ثم شيء إلا التعطيل المحض ، فَلَيْسَ إلا وجودًا أول لا يجيب عن سؤال الخلق فمن أوجد ؟! ، فكان من ذلك ترجيح بلا مرجح ، مَاهِيَّةً قد وجدت في الكون صُدْفَةً ، وهو ما تَنَاوَلَهُ بَعْضٌ قَدْ صَيَّرَ جهلَه دليلا عَلَى مَنْ يعلم ممن قد أتى له من ذلك خبر مصدَّق ، بما كان من وحي منزَّل قد ثبت بأدلة قد تَنَاوَلَهَا أهل الشأن ، ومنها العام والخاص ، ومنها النوع الذي يُثْبِتُ جِنْسَ الوحي الأعم ومنها آحاد هي أدلة بها إثباتُ كُلِّ نُبُوَّةٍ في الخارج ، فكان له من الخبر ما ليس للأول الذي جعل ما لم يعلم من السُّنَنِ صُدْفَةً ، وهو ما أبان عنه بعض من حقق ، إذ يحكي من اصطلاح الصدفة أخص عند أصحاب الوضع المحدَث ، فإن الاستثناء أو الصدفة عندهم وليد الجهل بقوانين وسنن لم يعلمها الناظر ، فهو يلجأ إلى هذا التأويل إذا جهل ما كان من أول من الخلق وتال من السنن المحكم الذي عليه يجري في الحركة ، فلا يكون ذلك إلا بكلمات منها أول به التكوين ، فذلك خلق الإيجاد المصدِّق ، ومنها تال بِهِ التدبير على سنن محكم ، فعجز من جهل إذ لم يؤت من العلم إلا قليلا ، فَرَدَّ الأمر إلى الصدفة إذ جهل ، فهلا سأل إذ لم يعلم لا أَنْ يُصَيِّرَ جهلَه دليلا به يَتَحَكَّمُ ، فليس العلم إلا ما يعلمه ، وإن قصرت مداركه فلم تجاوز الحس الظاهر بما حصل له من أداة تجريب وبحث ، ولو تدبرها ما وَجَدَ من ذلك إلا تسلسلا في المؤثرين ، فهو من خلق هذه الآلة ، وإن خلق التحويل من ماهيات أولى بسيطة إلى أخرى مركبة تَتَعَقَّدُ ، فمردها أبدا إلى أول بسيط ، فما صنع إلا أن تناول هذه الأوليات وأجراها على سَنَنٍ مُحْكَمٍ فِي الجمعِ ، فَتَنَاوَلَ مِنْ سَنَنِ الكون ما به اجتماع هذه العناصر فهي آحاد أولى لم يزعم بداهة أنه قد أوجدها من العدم إِبْدَاعًا لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وإنما تَنَاوَلَ منها ما وَجَدَ ، وهو بَعْدًا لم يحدث من السنن جديدا يُجْرِي عليه العناصر الأولى فيبلغ من الخلق بَدِيعًا لا نظير له في الخارج ، فلا إبداع له في خلق العناصر الأولى ، وإنما له من ذلك كشف أول يتناول الماهيات البسيطة ، فَقَدْ كَانَتْ موجودة قَبْلَ أن يَكْتَشِفَ ، بل قد كانت قبل خلقه على هذه الأرض ، إِنْ أَصْلًا أو آحادا ، ولا إبداع له ثان في السنن فإنه لم يحدث منها ما لم يكن قَبْلًا ، وإنما عالج منها أيضا ما اكتشف فقد كانت السنن ثابتة قبل وجوده ، فليس له من الإبداع ما بِهِ يَتَبَجَّحُ إن في إيجاد العناصر البسيطة ماهياتٍ أولى هي مبدأ ما يصنع ، أو في اقتراح سنن جديد به يخلق ما ليس له في الخارج ند ، بل لا ينفك يحاكي ما وجد أولا ، كما صنع بَعْضٌ وقد رام صناعة مادة الحياة الأولى من شفرة وراثة في المعمل ، فَتَنَاوَلَ من ذلك ما وجد ، فلم يخلق مادة من العدم ، وإنما ضاهى ما وجد ، وتناوله بعدا بمضاهاة تارة ، وتغيير أخرى ، بما يكون من طفرات تحدث بِزِيَادَةٍ أو نَقْصٍ ، بما يكون من قطع في شريط الوراثة وعزل لبعض وحداته أو قواعده البسيطة ، أو دَمْجٍ لآخر بما يكون من لصق يزيد في الأول : طَفَرَاتٍ منها ما ينفع ومنها ما يضر ، منها ما يصدر عن قاعدة علم ، ولو في إجراء التجربة وإن افتقرت إلى غاية تحمد ، فقد يكون من الفعل حسن ، أو هو ابتداء من الجائز فلا يحظر ، بل له في الخارج وجوه تَنْفَعُ ، ولو إجراء في دقائق وتفاصيل ، ولكنه يفتقر إلى إطارٍ كُلِّيٍّ من نِيَّةٍ تَتَقَدَّمُ ، وغاية يطلبها الفاعل ، فيكون منها ما يَشْرُفُ إذ يُوَاطِئُ ضرورات في باب الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ، عبوديةً بها يَتَأَوَّلُ الناسك ما وجب في قياس العقل المصرح أن يشكر من قَدَّرَ في الأزل ، وأوجد بَعْدًا في الشهادة الإيجادَ المصدِّق لما كان أولا من علم تقدير محكم ، وأجرى على سنن يَنْفَعُ ، وَرَزَقَ بِمَا يَسَّرَ من أسبابٍ في الشهادة ، وَدَبَّرَ بما أتقن من الخلق ماهياتٍ قَدْ رُكِزَتْ فيها قوى تقبل آثار الأسباب من خارج ، وأخرى في الأسباب من قوى قد رُكِزَتْ وَبِهَا تأثير في المحال يَنْفَعُ بما أُحْكِمَ من السَّنَنِ الذي يجري ، فذلك ما تَنَاوَلَهُ العلم المحدَث إذ تحكم في حَدِّ العلم أنه ما يُدْرَكُ بالحس ، فَتَنَاوَلَهُ التَّنَاوُلَ الساذج الذي يحكي الجهل المطبق مع فساد في القصد والنظر كِبْرًا أَنْ يُقِرَّ أنه مخلوق من العدم ، قَدْ خَلَقَهُ أول له من وصف العلم والحكمة والقدرة ما أطلق ، فأبى الانقياد في باب الربوبية أنه مخلوق مربوب ، وَتَوَسَّلَ به إلى تال هو غاية ما يَرُومُ الوسواس المتربِّص أن يأبى الانقياد في باب الألوهية أنه العبد الذي لا يصدر إلا عن أمر سيده إن في التصور أو في الحكم ، إِنْ من فَرْدٍ يَتَنَسَّكُ أو جمع يَتَحَرَّكُ ، وبه مادة الطغيان تُحْسَمُ فلا يكون من المخلوق فَرَحٌ بما كان من علمٍ لو تدبره لوجده دليلا على ضِدٍّ مِمَّا يَطْغَى إذ افْتِقَارُهُ وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فهو يَفْتَقِرُ إلى الأسباب التي بها يطغى في الحس أن يجد من الماهيات عناصر هي الأوليات التي يتناولها بالمعالجة على ما تقدم من سنن محكم ، فَثَمَّ افْتِقَارٌ ثَانٍ أن يكتشف هذه السنن وَيُحْسِنَ إِعْمَالَهَا بما به يعالج الأوليات فَيَتَوَسَّل منها إلى أخرى مركبة بها ينتفع في الإجراء والفعل ، وهو ما افتقر أولا إلى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ يَنْصَحُ وتال من غاية تحمد ، لا أن يطغى به وهو ، كما تقدم ، دليل افتقاره ، فإن الأسباب من عناصر هي الأوليات ما لم يخلق ، بل إليه يَفْتَقِرُ ، ولو ظلم وَسَفَكَ واستباح من الأمصار واسترق من الأبدان ما يَقُصُّهُ تاريخ محدَث من رِقٍّ فَاحِشٍ قَدْ تَنَاوَلَ الأرضَ ومن عليها فكان من جُمْلَةِ بَوَاعِثِهِ في حروب الصليب الأولى ، وفي تال من حملاتها في العصر المحدث ، كان من ذلك الطمع في ثرواتٍ منها الأولياتُ ، محلُّ الشاهدِ ، إِذِ افْتَقَرَ إليها مَنِ احتكر الآلة ، وله في صناعتها فَضْلٌ لا يُجْحَدُ ، ولكنه ، كما تقدم ، لم يَبْتَكِرْ من السنن بَدِيعًا لا مثل له يَتَقَدَّمُ ، بل قد تَنَاوَلَ ما استقر من السنن المحكم ، وأحسن يستعمله في صناعة آلة تَنْفَعُ ، ولو مباحةً فذلك الأصل في الأشياء ، فلا ينفك يفتقر إلى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ يَتَقَدَّمُ ، وغاية تشرف ، أن يكون من ذلك نُسُكٌ يُصَدِّقُ قياسَ العقل المحكم أن يشكر مَنْ خلق هذا الكون وأجراه على هذا السنن المحكم لا أن يكون من ذلك ذريعة إلى ضد من الجحود والطغيان بما حصل للإنسان من أسباب ، وهي دليل افتقاره الذاتي فإنه لم يَخْلُقْ من العدم ، ولم يَقْتَرِحْ مِنَ السَّنَنِ جديدا ، بل ما صنع إلا الكشف ، أو قد حصل له بلا جهد فلم يكن إلا ملاحظة بها تناول حركة في الخارج فاكتشف بها القانون الحاكم ، فلم يستحدث من العدم لا ماهية العناصر الأولى ولا السنن الذي عليه تجري ، فَتَحَكَّمَ في المبدإ أَنْ حَدَّ الصدفة أنها ما يجهل ، فكل ما جهل وليس له من اسم العلم إلا ما يدرك بالحس ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، رابع من الأدلة بعد الخبر الْمَتَلَقَّى من مرجعِ غَيْبٍ مصدَّق ، إن في الغيب النسبي أو آخر هو المطلق ، والعقل بما ركز فيه من قوى النظر مقدماتٍ في الاستدلال هي أول من الضروري الذي به يَتَوَسَّلُ الناظر إلى آخر نظري ، فَيَتَرَاكَبَ من المقدمات الضرورية ما به تُنَالُ العلوم النظرية ، والفطرة بما رُكِزَ فيها من وجدانِ ضرورةٍ آخر من غَرَائِزَ منها معقول وهو الأشرف ومنها آخر محسوس به تدبير الأبدان بما تعالج من الأسباب ، فَفِي كُلٍّ ركزٌ من قوى منها ما يُعَالِجُ ، ومنها آخر يُبَاشِرُ ، فقوى السبب تُبَاشِرُ مَوَاضِعَ تدق في الأبدان فهي تعالج الأسباب ، وَثَمَّ رابع بعد الخبر والعقل والفطرة ، فَثَمَّ الحس وهو آخر في الباب ، باب العلم الذي تَحَكَّمَ مَنْ تَحَكَّمَ فصيره الأول بل والأوحد فما لم يدرك الحس فهو الصدفة ! ، استدلالا بالجهل ، وعدم العلم بالشيء ليس عِلْمًا بالعدم ، وليس إثباتا لصدفة تخبط أن لم يدرك منها الإجراءَ المحكم ، وليس عَدَمً إدراكه دليلًا في الباب يَنْصَحُ فيحتج به على من أدرك ! ، فكل ما لم يدرك فهو العدم أو الصدفة ، وإن كان الثابِتَ الموجود قَبْلَهُ في الكون ، المحكَمَ الذي يصدر عن علمٍ أول يحيط وَقُدْرَةٍ نافذة بها الإجراء والمنع لا العشواء والخبط كما زَعَمَ مَنْ نَفَى القصد والإرادة ، وهو بَعْدًا قَدْ نَفَى الغاية فَلَيْسَ إلا العبث ، فلم يكن ثم مرجع ناصح من خارج يبين له عن غاية هذا الخلق المحكم ، بل قد صار إثبات الغايةِ حديثَ الخرافة الذي يَتَهَكَّمُ به الجاحد ويسخر ، وإن عَدَلَ إلى نقيض يُسَفْسِطُ وهو مِمَّا به يُتَّهَمُ في عقله أن أنكر الأول المطلق ، إن في التكوين أو في آخر من التدبير ، أَنَفَةً أن يخضع لِلَازِمٍ من التشريع ، وهو الغاية من الخلق ، فيكون من ذلك عبودية قد اسْتَنْكَفَهَا فَصَارَ إلى أخرى هي الأدنى من الهوى والذوق ، إن ذَاتِيًّا يصدر عن عقل الواحد ، أو آخر موضوعيا من عقل الجمع فهو يجاوز وإن لم يسلم من مُؤَثِّرٍ من خارج يحرف ، فلا يسلم له اعتقاد أو حكم إلا أن يَرُدَّ الجميع إلى مرجع موضوعي يجاوز كُلًّا ، فهو المرجع المجاوز المطلق من وحي قد حكى من الخلق ما لم يشهد كلٌّ ، وهو ما لا يَسْلَمُ صاحبه إلا أن يؤمن بالغيب ، خاصة العقل المفضل ، بل ذلك لازم في الباب ، وَلَوْ لِخَصْمٍ قد جحد ، فإنه قد رَدَّ الأمر إذ جهل فلم يشهد الخلق الأول ، قد رَدَّهُ إلى أول تَقَدَّمَ وصفه فهو الجوهر الميت فلا حياة فيه إذ يَفْتَقِرُ إلى موجِد أول ، ولو الإيجاد المطلق ، فكيف بما زاد من خلق متقن بما رُكِزَ فيه من قوى تَقْبَلُ وَتُؤَثِّرُ ، فلا ينفك ذلك يَتَسَلْسَلُ في التكوين حتى يُرَدَّ إلى أول له من ذلك وصف الأولية المطلقة ، حسما لمادة التسلسل في الأزل إذ تمتنع ، مع تال يجاوز في الإثبات ، فإن هذا الخلق المتقن لا يكون بداهة إلا بعلم أول يحيط ، فهو ، كما تقدم ، تأويلُ جُمَلَةٍ من الأسماء الحسنى : العليم والحكيم والخبير واللطيف ..... إلخ ، مع قدرة بها إِنْفَاذُ مَشِيئَةٍ تخرج المعلوم المقدور من الغيب إلى الشهادة ، فيصير ذا وجود أخص في الخارج يصدق ما كان أولا من علم التقدير المحكم ، وذلك من قياس الضرورة أن هذا الخلق لا يكون إلا بخالق أول يتقدم ، وأن هذا الإتقان لا يكون إلا عن مُتْقِنٍ هو الأول ، أيضا ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وإرادة ، فيكون من ذلك علم محيط يستغرق وإرادة تَنْفُذُ فَهِيَ لَهُ تَتَأَوَّلُ إذ تخرجُه من القوة إلى الفعل ، من الغيب إلى الشهادة ، من التقدير الأول إلى الإيجاد المصدِّق ، فلا يستقيم الأمر إلا أن يُرَدَّ إلى أول قد خلق من العدم فذلك ما يكون لأحد من الخلق ، وإن تَبَجَّحَ أنه يطيق فَلَيْسَ إلا المضاهاة والمحاكاة مع ما يكون من نقص في الصورة المحدَثة ، بل لو سُلِّمَ لِبَعْضٍ يَتَبَجَّحُ في هذا الجيل المحدث بما حاكى به الخلق الأول وزعم أنه يزيد ، فصنع ما هو أذكى منه وأقدر ، فلا ينفك سُؤَالُ التسلسل يَتَكَرَّرُ ، فمن خلق هذا الخلق المجاوز الذي فاق البشر ، فالبشر قد خَلَقُوهُ ، والبشر قد خُلِقُوا من شيء تقدم ..... إلخ من أسباب تَتَسَلْسَلُ منها المشهود ومنها المغيَّب حتى تُرَدَّ جَمِيعًا إلى الأول الذي لا أول قبله ، ولو سُلِّمَ بأول التطور من جوهر ميت لا يتحرك ثم كان من تال حركة خبط وعشواء عنها كان هذا الخلق المحكم والسنن المتقن ، فثم قياس آخر في الباب يلزم ، فإذا كان الخبط والعشواء ولا علم له ولا عقل ، إن كان قد خلق هذا الخلق المحكم على هذا السنن المتقن ، فكيف يكون من حال الإنسان ، وهو أعلى ، أَنْ لم يطق إلا محاكاة هذا الخلق والسنن الصادر عن ميت لا عقل له ولا علم ، فالقياس أن يُبْدِعَ الإنسان إبداعا أعلى لا أَنْ يُقَلِّدَ ما هو أدنى من أول هو الخبط والعشواء فلا تصور ولا غاية ، وهو مع ذلك مما يلزم المنكر لقصة الخلق الأولى التي جاء بها الوحي المصدق ، فإنه قد فَرَّ من إيمان بغيب إذ زعم أن العلم هو ما يدرك بالحس الظاهر ، فلم يشهد هذا الخبط والعشواء بالحس ، فَلَا يَسْلَمُ له أوله ، أيضا ، إلا إن آمن بالغيب ، فإذ كان ذلك حتما لازما وإن اجتهد أن يجحده ، أَفَلَا كَانَ أَوَّلُ النبوة أولى بالإيمان بما كان من وصف الكمال المطلق لا عدما لم يجاوز في الاقتراح الأول من الحكمة المحدَثَةِ أنه العلة المجردة من الوصف فهي فاعلة بالطبع اضطرارا ، وليس يصدق منها خارج الذهن إلا العدم ، إذ يجردها العقل مطلقا بشرط الإطلاق ، وذلك ما لا يكون في الخارج ، فأول النبوات أولى بما زعم من قياس العقل المحكم ، وهو ما أقر به بَعْضُ من أَنْصَفَ من أرباب الوضع المحدث الذي صير علوم الاجتماع والأخلاق ..... إلخ ، صَيَّرَهَا من علوم التجريب الوضعي ذات الوصف الحتمي الجبري مع ما رام من اقتراح دين يضاهي الدين الرسالي ، فاجتهد أن يعزل قوانين الأخلاق والاجتماع ..... إلخ عن الدين المنزل ، وهو ، مع ذلك ، قد أنصف ولو في الكفران والجحود ! ، فَلَوْ لم يكن ثم بُدٌّ من الدين ، فالدين الخاتم ، وهو خلاصة الرسالات المنزلة ، الدين الخاتم هو الأولى بالقبول ، إذ قد واطأ صريح المعقول ، إن في الخلق أو في التدبير ، فلا يكون الخلق إلا بخالق أول ، ولا يكون السنن الجاري بَعْدًا إِلَّا بِمُجْرٍ أول ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ فِي بَابِ التدبير ، فلا بد من مُدَبِّرٍ أول لهذا السنن المحكم ، فَهُوَ ، بَدَاهَةً ، يَفْتَقِرُ إلى من يَسُنُّ فَيُجْرِيهِ على جادة من الحكمة تَنْصَحُ ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ في الأزل حتى يَبْلُغَ المدبِّر الأول ، فالخلق المبدَعُ ، لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، لَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى مبدِع أول لا مبدِع قبله ، فكان من ذلك إبداعُ السماواتِ والأرضِ ، كما الآي آنف الذكر : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فَتِلْكَ دلالة النكرة "أَمْرًا" إذ قد وَرَدَتْ فِي سياقِ الشَّرْطِ ، وذلك نَصٌّ في الباب ، بابِ العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، فكان من ذلك قضاء تكوين نافذ بكلم تكوين صادق ، فآحاده بَعْدًا مِمَّا يحدث بالمشيئة ، وله من نوع قديم هو الأول ، فذلك المعلوم المقدَّر في الأزل فتأويله ما يكون بَعْدًا بِالْكَلِمِ ، كَلِمِ التكوينِ النافذ ، وهو ما خُتِمَتْ به الآية ، وَذَلِكَ عنوان القضاء الكوني النافذ في ربوبية قد عَمَّتْ فَاسْتَغْرَقَتْ التقدير والتكوين والتدبير ، ولا ينفك يجري في الاستدلال المصرَّح مجرى الملزوم فهو الأول لِتَالٍ من اللَّازِمِ أن يكون له من القضاء آخر يَثْبُتُ في التشريع والحكم بما تَنَزَّلَ من وحي يَنْصَحُ إِنْ بِخَبَرٍ يُصَحِّحُ قُوَّةَ العلمِ والنظرِ ، أو بإنشاءٍ يُصَحِّحُ قُوَّةَ العمل ، فَثَمَّ تلازم ضروري في باب التوحيد ، توحيد الربوبية وبه قضاء التكوين مَلْزُومًا هو الأول ، وتوحيد الإلوهية وبه قَضَاءُ التشريع لَازِمًا هو التالي ، وهو ما خُوصِمَتْ فِيهِ النبوات قديما ، فكان لخصومها بَقِيَّةُ عَقْلٍ ! أن لم يخالفوا في المقدمة الأولى ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَأُلْزِمُوا بِهَا إذ تَنَاقَضُوا فَأَثْبَتُوا الملزوم رُبُوبِيَّةً وَنَفَوا لازمه ألوهيةً ! ، خلافا لجيل محدَث قد أنكر البدائه الضرورية ، فَنَفَى الملزوم واللازم كافة ! ، والتزم لأجل ذلك ما لا يُعْقَلُ أَنَّ هذا الخلق لم يكن عن خالق أول له من العلم ما يحيط ومن الإرادة ما ينفذ ! .
وذلك ، أيضا ، من الخبر المصدق الذي يدل على إنشاء يأمر بالتصديق في باب التكوين ، ويأمر بِتَالٍ يَلْزَمُ من الامتثال في باب التشريع ، وهو تَلَازُمًا آخر في الاستدلال ، هو يَنْهَى عن ضَدٍّ من التكذيب في باب التكوين ، والعصيان في باب التشريع ، وهو ما قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر بما كان من تَبْدِيلِ في الدين المنزل وتحريف قد اكتسبته أيدي الكهنة وقد صارت لهم رياسة في الدين تُطْلَقُ فكان الطغيان في الحكم الذي اكْتَسَى لحاء الدين زورا ، فصار القيد المحكم على حركة العقل أن يَنْظُرَ وَيَتَدَبَّرَ في أدلة الكون المحكمة ليكون من ذلك مقدمة أولى تُفْضِي ضرورة إلى لازم في التشريع ، فخرج العقل عن قيد الدين المبدَّل ، وذلك حق ، ولكنه لم يخرج منه إلى آخر يَنْصَحُ العقل ، فيكون له المرجع المجاوز من خارج الذي يَفْصِلُ في الغيوب بخبر الصدق ، وفي الشرائع بحكم العدل الذي تَجَرَّدَ من الهوى والحظ وسائر ما يعرض للعقل من الأغيار والآفات ، بل كان منه الاسْتِئْسَارُ في قيد محدَث لم تكن جنايته في الباب بأدنى من جناية الدين المبدل ، فكان من ذلك باكورة مذهب إِنْسَانِيٍّ عَظَّمَ الماهية البشرية التي لا تجاوز عالم الشهادة والحس ، مع تَالٍ في القصد رَامَ الاقتصاص لِلنَّوْعِ الإنساني من الكاثوليكية التي ازْدَرَتْهُ ، فألصقت به الخطيئة الأولى التي تلَطَّخَ بِهَا فلا يكون الخلاص إلا بالصلب وتحمل الآلام التي يعالجها الإنسان ليطهر ، وهو ما استوجب تعذيب البدن وإهانته ، وقد كان ذلك بَاعِثَ الرَّهْبَنَةِ التي غَلَتْ في إهانة الجسد ، وكان من ذلك قَصَصٌ قَدْ صَارَ مضربَ المثل ، فكان المذهب الإنساني رَدَّ الفعل الذي غلا في طرف آخر ، فالمذهب الإنساني قد ظهر من بواكير عصر النهضة فكان الإنسان هو مركز الدراسات الأخلاقية والاجتماعية التي اتسمت بالأرضية التي تَنْطَلِقُ من مَدَارِكِ الحسِّ فهي تنكر الغيوب الميتافيزيقة المجاوزة وَتُصَيِّرُ المعيارَ وضعيا تجريبيا ، وإن في العلوم الإنسانية ذات الطابع العقلي فَلَهَا وقائع ذهنية استبدلت بها الظواهر الموضوعية التي يمكن ملاحظتها بأدوات البحث التجريبي الوضعي ، فكانت الدراسات الاجتماعية الوضعية ، كما يقول بعض الباحثين ، سَبَبًا في انتقال العقل الأوروبي من اللاهوت والميتافيزيقا إلى الفلسفة الوضعية وتطبيقاتها الخارجية من العلم الوضعي الذي يعتمد الحس وحده معيار الإثبات والنفي بما يكون من ملاحظات استبعد الخيال ، مع نِسْبِيَّةٍ قد هيمنت على الدرس الأوروبي الحديث ، وهو ما ظهرت آثاره بعد ذلك في مذاهب نفعية براجماتية اتخذت المنفعة الخاصة أو المنفعة العامة وهي الموضوعية المجاوزة ، اتخذت ذلك معيارا في التحسين والتقبيح في مسائل الاجتماع والأخلاق والسياسة ..... إلخ ، فما تحصل به المصلحة الخاصة أو العامة هو الحق ، وهو ما يُفْضِي إلى نسبية تستبعد المطلقات من أحكامها ، فالحكم يصدر عن رؤية ذاتية أو موضوعية لا تسلم من التأثر بالمنافع المادية المباشرة ، والنجاح العملي ، كما يقول درس الأخلاق البراجماتي ، هو المعيار الأخلاقي الإنساني ، وهو ما عَزَّزَ مركزية الإنسان بعد استبعاد اللاهوت والأخلاق الميتافيزيقية التي تَتَّسِمُ بالثبات والإطلاق ، فَتَعَزَّزَ مركز الإنسان في نَظَرِيَّةِ الوجود والكون حتى صار هو الأصل الذي تصدر عنه القيم الكلية والتشريعات الجزئية مع ما يَتَّسِمُ به معياره من نِسْبِيَّةٍ تَتَفَاوَتُ ، فَثَمَّ اضطراب في نظرته في الوجود وأصل الخلق والغاية والقصد ، مع القول بالعشوائية الأولى في الخلق مع صدفية تتحكم في وصف كل ما جاوز الحس فلا يدركه أنه الصدفة ، فصار هذا المصطلح الأخص في حد الصدفة هو دليل الجهل بالقوانين ، فالباحث يلجأ إليه في تَفْسِيرِ ظاهرة إلا إذا عجز عن تفسيرها بالمعايير البحثية الوضعية ، فليس ثم حقيقة تستحق الدراسة إلا الحقائق الخارجية التي يتناولها الدرس الوضعي ، وَلَيْسَ ثَمَّ سبب معتبر في تَفْسِيرِ أَيِّ ظاهرة إلا السبب الذي يدركه الحس ، وما جاوزه فهو الخبط والعشواء في أصل الخلق ، والصدفة في حركة الكون ، وذلك من الغرور الذي استبد بالعقل الأوروبي بعد تحرره من القيد الكنسي ، فَظَنَّ أنه وحده يطيق تفسير الظواهر كافة بما يحد من نظريات تَسْتَنِدُ إلى الحس والعقل دون مرجع مجاوز من خارج ، فلم يَعُدْ في حاجة إلى الوحي الذي يُبَاشِرُ في الحقيقة الإنسانية وجدانها الباطن وهو الجزء الأشرف الذي به امتاز الإنسان الناطق من الحيوان الأعجم ، فَتَحَوَّلَ الإنسان إلى حقيقة حيوانية خالصة ، وَإِنْ عُلْيَا تحتل قمة الهرم التطوري الذي أدى إلى اضطراب فكري تَنَاوَلَ المطلقات كافة ، فالخلق المحسوس يَتَطَوَّرُ ، والأصل واحد لا يَتَعَدَّدُ ، فليس ثم قصة خلق أول به امتاز الإنسان وَفُضِّلَ على سائر الأنواع ، وصار كلٌّ ، الإنسان والحيوان ، على حد سواء وهو ما طعن الإنسان النرجسي في مَقْتَلٍ وقد ظن أنه الْمُتَفَرِّدُ في الخلق كما قد أخبره اللاهوت قَبْلًا ! ، فكان من نظرية التطور ما هدم هذا المطلق بذريعة الإنكار لخرافاتِ الميتافيزيقا التي أخبرت بِقِصَّةِ خلق أولى لا دليل عَلَيْهَا من الحس الظاهر ، مع أنها استبدلت بها نظرية أخرى لا مستند لها من الحس الذي اتخذته معيارا وحيدا في العلم فهو ما يَتَنَاوَلُهُ البحث والتجريب الوضعي ويرصد نتائجه في ملاحظاتٍ يُدَوِّنُهَا ، فنظرية التطور فَرْضٌ عقلي محض ، ودعوى تفتقر إلى دليل وضعي يستند إلى الحس ، أو آخر خبري يجاوز ، فيجزئ في رَدِّهَا دعوى أخرى تَنْقُضُ دون أن يَتَكَلَّفَ الناظر دليلا أخص في الباب ، فصاحب الدعوى لم يتكلف من ذلك شيئا ! ، فلا يثبت ذلك ، وهو من الغيب الذي لم يشهده أحد ، لا قصة الخلق في خبر الوحي ولا التطور في فرض الدارونية ، لا يثبت ذلك وقد جَاوَزَ الحس إلا بمرجع من خارج يجاوز بما يشهد شهادة تَسْتَنِدُ إلى الحس ، فإما أن يكون صاحب الدعوى ممن شهد ، وإنما أن يأتيه خَبَرٌ عَمَّنْ شهد ، وإما أن يحدث من ذلك في الشهادة ما يصدق دعواه ، فيكون من مثال التطور ما يُبَاشِرُهُ بالحس ، سواء أكان ذلك مما يباشر في تجربة يقصد إليها صَاحِبُهَا في المعمل ، فيكون من ذلك قصد أول وغاية تروم إثبات صحة الفرض ، وهو ما يجعله ، وهو المخلوق ، أكمل من الخالق ، فليس إلا صنع الطبيعة وقد صارت هي الفاعل خَبْطًا وَعَبَثًا بلا غاية ، فلا علم ولا إرادة ، وَفِعْلُهَا في الكون يشبه ، من وجه ، ما اقترحت الفلسفة اليونانية الأولى من العلة الفاعلة بالطبع ، المجردة من الوصف ، مع قدم الهيولى أو العلة المادية التي منها كان هذا الكون ، وذلك ، أيضا ، من القصة التي تحكي أصل الخلق ، وهو الغيب الذي جاوز العقل والحس ، فلا يثبت إلا بخبرٍ من خارج يصدق ، ولم يقم صاحبه من دليل الخبر ما يجاوز ، فليس ، أيضا ، إلا الدعوى المجردة التي تَفْتَقِرُ إلى دليل من خارج ، وإلا لزم الدور في الاستدلال أن يستدل على الشيء بِنَفْسِهِ فلا دليل عليه من خارج يجاوز . فنظرية التطور ، كما تقدم ، فَرْضٌ عقلي محض ، ودعوى تفتقر إلى دليل وضعي يستند إلى الحس ، أو آخر خبري يجاوز ، فليس منها إلا الفرض المحض التي لا دليل عليه من خارج ، فبحث البيولوجيا وبحث الأحافير ... إلخ لم يقدم وسائط ، ولو آحادا بها اتصال السلسلة المنقطعة التي تَسْتَنِدُ إليها نظرية التطور ، والمتبادر من أمر قد استغرق الكائنات كافة فكلها تخضع لمعيار التطور العشوائي الذي يحدث منه عدد لا يَتَنَاهَى من التجارب الفاشلة فيكون من ذلك أحافير تدل على هذه التَّجَارِبِ الفاشلة ، فالمتبادر أن ثم أمثلة كثيرة إن ماضية حفظها السجل الأحفوري أو حاضرة فما منع التطور أن يستمر فلا زَالَتْ ثَمَّ أنواع دنيا من كائنات بسيطة في هذا العالم ، فكان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجح في اسْتِئْنَافِ التطور أولا ثم منعه آخرا ، ولم يكن ثم دليل إلا عين الدعوى تحكما في الاستدلال يصادر على المطلوب أَنِ اسْتَدَلَّ بصورة الخلاف ، فما يدعيه هو الدليل ، وهو ما ينازعه فيه الخصم الذي ينكر التطور ، فلا تَسْلَمُ له الدعوى إلا أن يقيم عليها دليلا من خارج ، وقد تحكم مبدأ البحث أَنْ حَدَّ العلم أنه ما يُدْرَكُ بالحسِّ حصرا فلا مرجع من خارج يجاوزه إذ الميتافيزيقا واللاهوت قد استبعدا من أدلة البحث المعتبرة ، ولم يقم صاحب النظرية مع ذلك دليلا واحدا وَلَوِ اسْتَنَادًا إلى معياره في البحث ، فلا دليل من الحس يشهد لنظريته في تطور الأنواع وأصل الخلق فَقَدْ رَدَّهُ إلى أول في الأزل هو الكائن البسيط الذي وُجِدَ دفعةً بلا موجِد فهو قديم قدم الأزل وإن لم يكن له حياة ولا علم ... إلخ ، فذلك الكائن المجهول في أعماق التاريخ الذي وُجَدَ دفعةً بلا موجِد أول يتقدم مخالفةً عن معيار ضرورة في الاستدلال ، أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث أول يَتَقَدَّمُ ، ومن ثم كان ترجيح آخر بلا مرجِّح أن بُثَّتْ فيه حركة الحياة فكان الانقسام بلا تقدير أول فليس إلا الخبط والعشواء ، فلا قصد في ذلك هو الأول ، ولا غاية يَنْتَهِي إليها ، ومن ثم توقف التطور كما بدأ ، ترجيحا بلا مرجِّح ، فانعدام القصد والغاية في الخلق قد فتح ذريعة لآخر في البحث الفكري والأخلاقي وهو ما يُفْضِي إلى هدم المبادئ والمقدمات الضرورية في أي بحث ، فَأَدَّى بعد ذلك إلى انحطاط تال في دَوْرٍ مُتَأَخِّرٍ من أدوار الحضارة الغربية إذ نُزِعَتْ من الإنسان خاصة الوجدان الباطن ، وتحول إلى كائن مادي تحركه البواعث الغريزية ، كما تقدم من النظرية البراجماتية التي تعزز في الإنسان ماهيته الحيوانية التي تباشر الأسباب المادية في الخارج وقد صارت هي المعيار الحاكم ، فظهرت نظرية التطور في نَفْسِ السياق ، وهي التي نزعت من الإنسان تفرده في الخلق وجعلته من أصل حيواني مشترك ، مع خبط وعشواء في التطور يفتقر إلى القصد والغاية ، فكل أولئك مما استثمر في الانحراف الديني الكنسي . وذلك ما يُجَافِي عن حقائق الوحي المحكم بما ذكر من قصة الخلق الأول ، فأوجز في مواضع وأطنب في أخرى ، وَرَدَّ كُلَّ أولئك إلى العلم المحيط ، العلم الأول الذي يَتَنَاوَلُ المقدورات كافة ، على قاعدة تقدمت ، قاعدة التلازم بين مَلْزُومِ الربوبية ولازم الألوهية ، ومن العلم ما تَنَاوَلَ الأعراف والعوائد ، ولها أصل أول في الوجدانِ يحصل ضرورةً بِلَا اكتسابٍ ، وَلَهَا ثَانٍ يُكْتَسَبُ بما يُبَاشِرُ الإنسان من الأقوال والأفعال ، فهي تأويل يخرج ركز الفطرة الأولى من القوة إلى الفعل ، فلا يكون من ذلك تبديلُ خِلْقَةٍ كَمَا الشيطانُ قَدْ زَيَّنَ لِفُجَّارٍ من الخلق أن يخالفوا عن الجبلة والطبع ، بل قد صيروا لِذَا أصلا من النظر أن الخارج هو من يصنع الوجدان الباطن فيولد الإنسان محايدا لا يُرَجِّحُ لا في الشرع ولا في الخلق ، فيكتسب بَعْدًا مَا يُبِينُ عن نوعه ودينه ، فليس ثَمَّ رِكْزُ فطرةٍ أولى في التوحيد والتكوين ، وذلك جحد لفطرة أولى قد ركزت في الوجدان ، فـ : "كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه" ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، معنى أعم يتناول النَّوْعَ كما الدين والعقد ، فيكون من ذلك حكمة في الخلق أن هُيِّئَ كُلُّ محل لما يواطئ من الأحوال ، وكان من التوحيد ضرورة أولى قد ركزت في كل وجدان ، فكان من الجحد لفطرة التوحيد والتكوين أَنْ زَعَمَ بَعْضٌ أَنَّ الإنسان يُولَدُ خلوا من العقائد والدوافع ، فَيُولَدُ لَا على عَقْدٍ قد أُحْكِمَ ، ولو المجملَ المركوزَ في الوجدانِ قُوَّةً لَا تَنْفَكُّ تطلب من الفعل ما يخرجها إلى الوجود بما يكون من تصديق تال لدى البلوغ ، وامتثال لحكومات الوحي ، بل وقال بعض قد فجر في خصومة التوحيد ، فجحد أولا من فطرة الخلق والتكوين ، قال إن الخلق يحايد مبدأ الميلاد ، فليس ثم دافع أول يميز ذكرا من أنثى ، بل كل على خلق واحد ، وإنما يكتسب كُلٌّ من الدوافع ما يميز بَعْدًا ، وذلك أصل في الشرك الأكبر ، شرك الربوبية إذ ينازع الخالق ، جل وعلا ، فطرة الخلق وحكمته أن هَيَّأَ كُلًّا لما له يواطئ فَأَعَدَّ له من الهيئات والدوافع ما يلائم ، وإنما جحد أولئك فطرة أولى توجب التسليم بِالْفَاطِرِ الأول ، فَلَهُ ، من ذلك أول من العلم المحيط ، وتال من مشيئة تُرَجِّحُ ، وبها كلمات التكوين تَنْفُذُ ، حَكَمًا من خارج في الخلق ، مع تال قد نَزَلَ به الوحي مرجعا من خارج يجاوز فهو يبين عن شرعة تواطئ الخلقة فكان لكل نوع من الأحكام ما يواطئ ، فالمرجع من خارج ، من الوحي المنزل ، لا من الوجود المحدَث ، أنه هو من يصنع الخلقة ويسن الشرعة بما يواطئ هوى الواضع وذوقه ، فالخلاف أبدا في المرجع أهو الخالق الأعلى أم المخلوق المحدث من هذا العالم أو من الإنسان الجاهل الذي اغتر بما حصل له من ظاهر العلم وأدوات التجريب والبحث فعزل الخالق الأعلى ، ونازعه منصبَ التشريع بل والتكوين بَعْدًا كما البلوى قد عمت في هذا الجيل المحدث ، فكان الجحود بل والمخالفة عن الفطرة الأولى في الخارج بما يقارف من أسباب بها تبديل وتحريف في الشرعة والخلقة جميعا تأولا لوعد الشيطان وتزيينه ، فـ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) . فمن العلم ما تَنَاوَلَ الأعراف والعوائد ، ومنها رِكْزُ جِبِلَّةٍ أول ، فتأويله ما يكون بعدا في الخارج بما يَتَنَاوَلُ المحلُّ من أسباب له تباشر ، ومنها أخرى أعم بما يكون من قوانين الاجتماع والحكم ، فَثَمَّ من الأعراف ما اعتبر الوحي ما لم يخالف عن معيار الخبر والحكم ، فذلك المحكم الذي يقضي في غَيْرٍ مما تشابه من عرف أو عادة ، فيحكم فيه ، بادي الرأي ، إن باعتبار أو بآخر يُلْغِي وهو ما لم يكن بداهة من علماء الاجتماع المحدَث ، فَدَرَسَ من دَرَسَ المثلَ الاجتماعية على قاعدة وضعية ترصد سلوك المجتمع دون النظر في المعيار الحاكم من خارج ، فهي دراسة وصفية تحاكي الدراسة البنيوية التي لا تجاوز الظاهرة محل البحث ، فتقترح لها فلسفة حاكمة من داخلها لا من معيار حاكم من خارجها ، فالمجتمع هو من يصنع القاعدة الاجتماعية والأخلاقية بما يمارس من سلوك لا يطرد في كل أمة ، ولا يطرد في كل جيل من أجيال الأمة الواحدة ، فسلوكه هو الحاكم في القاعدة الأخلاقية ، فلا قيمة ثابتة تحكم السلوك من خارج ، ومن وضع القاعدة الأخلاقية او الحقوقية هو من يُبْطِلُهَا إذا شَاءَ تَذَرُّعًا بحالة الاستثناء التي تدل ، كما يقول بعض النظار ، على افْتِقَارِ هذه المعايير إلى قاعدة راسخة من الغيب ، أن يكون المرجع لها مما جاوز العقل والحس ، فلا ينقضها أحد ولا تعلقها حالة استثناء تطرأ فيكون السلوك المتغير هو الحاكم في المعيار الاجتماعي والأخلاقي ، والقياس أنه هو الثابت المطلق الذي يأطر السلوك النسبي المتغير ، فكان من درس أولئك : درس مقارن قد اتخذ الظاهرة الاجتماعية والتاريخية قاعدة مطلقة ، فسلوك المجتمع هو الذي يصنع الفلسفة في عالم الأفكار ، والشريعة والقانون في عالم الأحكام ، فالدين ، وهو منهاج عام يَتَنَاوَلُ التصور والحكم ، الدين من صنع المجتمع ، فهو المؤنسَنُ بما يُوَاطِئُ مصالح المجتمع استنادا إلى معيار نفعي خاص أو عام يجعل المحسوس في الخارج هو رائد المجتمع الذي يصدر عنه في صناعة الدين قِيَمًا باعثة وشريعة حاكمة ، وقد رَدَّهُ بعض المحققين ، إلى مثال الفلسفة اليونانية الأول إذ صنعت من الآلهة ما يحكي تصورها الأرضي الذي يَسْتَنِدُ إلى الحس الظاهر ، فكذلك المنهج الوضعي المحدث إذ يصنع من الدين ما يلائم احتياجات الإنسان ، وهي المتغير المضطرب إذ استند إلى معيار النفعية الذاتية التي اتخذت الفرد معيارا في التصور والحكم ، فكان من ذلك اختلال المعيار الحاكم بالحسن والقبح ، إذ صار السلوك الفردي في مثال المنفعة الخاصة ، والسلوك الجمعي في مثال المنفعة العامة ، صار هذا السلوك هو المعيار الحاكم في باب الحسن والقبح مع ما وُصِفَ بِهِ من نَقْصٍ ، منه الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فَهُوَ مِمَّا رُكِزَ فِي أصلِ الخلقة الأولى فالأصل : جهل لدى المبدإ ، وإن كان ثم من الفطرة ما ركز في الوجدان من لدن الميلاد ، كما قر بعض الباحثين المحدثين وله عناية وَتَقَدُّمٌ في علوم تجريب تَتَنَاوَلُ الدماغ والأعصاب ، فصنف في ذلك ما يُثْبِتُ ميلادَ الأطفال على اعتقاد ليس إلا الفطرة المجملة التي تفتقر إلى تال يُبَيِّنُ فَلَيْسَتْ ، كما يَزْعُمُ بَعْضٌ ، تَنْشِئَةَ الأب والأم ، وإن أَثَّرَا فيها بعدا بالتبيين أو آخر هو التبديل والتحريف ، فهي ، ابتداء ، قد ثَبَتَتْ فلا يصنعها المجتمع وإن أَثَّرَ بها بالإيحاب أو بالسلب ، فيحصل العلم للصغير الذي لا يَعْلَمُ ، وإن كان من الفطرة أول مجمل ، يحصل له العلم اكتسابا بما يباشر من أسباب التعلم ، فليس علمه الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وليس الثابت لدى المبدإِ ، مع ما ثبت ضرورة من ضِدٍّ هو الجهل بالمآلات وإن تَنَاوَلَ مَنْ بَحْثَهَا قِيَاسًا يستند إلى مقدمات ضرورةٍ في الوجدان ، فدلالتها لا تقطع في باب الحسن والقبح ، وإن كان منها ركز أول في الوجدان وإلا ما كان هذا الاضطِّرَابُ التشريعي الذي يَتَنَاوَلُ القوانين بالتعديل تارة والنسخ أخرى إذ تَفْتَقِرُ إلى معيارٍ محكم يجاوز سلوك الجماعة الذي يَتَغَيَّرُ بما يكون من المؤثِّرَاتِ وبما يطرأ من الاحتياجات التي صارت ، كما تقدم ، باعث العقل أن يصنع من الدين ما يستجيب لمؤثِّرَاتِ الخارجِ ، فليس الحاكم فِيهَا بما يأطرها على جادَّةِ صدقٍ وعدلٍ مطلق فلا يكون ذلك إلا من مرجع من خارج يجاوز وهو ، كما يقول بعض المحققين ، ما يخرج الضروري المستقر من معيار التحسين والتقبيح في باب الأخلاق ، ما يخرجه من الالتزام الوجداني إلى الإلزام العملي ، فالمرجع المجاوز يخرج الأخلاق من قوة الالتزام الباطن إلى فعل الإلزامِ في الخارج ، فلا يجزئ الحسن والقبح المركوز ضرورة في الوجدان ، لا يجزئ في صناعة دين يَسْلَمُ من المؤثرات المحدثة بما يطرأ من الاحتياجات التي صارت الحكم من خارج لا المحكومة بشرع يأطرها على جادة من الصدق والعدل تَنْصَحُ ، فلا يجزئ في تشريع الدين المحكم الذي يواطئ معيار الحسن والقبح المستقر في الوجدان ضرورة أولى ، لا يجزئ في ذلك إلا مرجع من خارج يجاوز العقل ، فَيَسْلَمُ مِنَ النقص الذاتي الذي جُبِلَ عليه العقل ، فالضرورة العقلية والوجدانية الباطنة محل اعتبار في التشريع ، وهي أدوات الفهم بما استقر في النفس من خاصة النطق الذي يخرج المعاني من القوة إلى الفعل ، فالكلام المنطوق تأويل ما يقوم بالنفس من المعنى المعقول ، وبهما جميعا حَدُّ الكلامِ المجزئ كما اصطلح النحاة ، فهو اللفظ والمعنى ، فاللفظ يُظْهِرُ المعنى الحاصل في الوجدان ، فيخرجه ، كما تقدم ، من القوة إلى الفعل ، والضرورة العقلية والوجدانية محل اعتبار ، على التفصيل آنف الذكر ، ولكنها ، من وجه آخر ، مجملة فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليل المبيِّن من مرجع من خارج يَسْلَمُ مِمَّا لَمْ تَسْلَمْ منه من نقص هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وآخر هو العارض بما يكون من سببٍ من خارج يَطْرَأُ من العلة في الحفظ أو الفهم وما يكون من التغير والاختلاط ..... إلخ ، فالدين الحاكم في المثال الرسالي المنزل هو الحكم من خارج ، فَلَئِنْ وَاطَأَ الضرورة العقلية والوجدانية الصريحة ، فليس لها يخضع ، فتكون هي باعث التشريع ومرجع التحكيم ، فتصنع من الدين ما يُرَدُّ إلى معيار المنفعة المضطرب ، سواء أكانت الخاصة الذاتية أم العامة الموضوعية ، وإن كان من الأخيرة مرجع من خارج الذات يجاوز ، فلا يسلم ، أيضا ، من المؤثِّر من خارج ، فالعقل بما تَقَدَّمَ من علومه الضرورية لا ينفك يطلب مِنَ المرجع المجاوز ما يُفَصِّلُ مجملاته ، فهو رَائِدُ الصدق في التصور والحكم ، وهو السالم من النقص الذاتي أو العارض ، فلا يَتَقَدَّمُ التابعُ المتبوعَ ، بل يجب على الناظر ، كما يقول صاحب "الموافقات" ، أن يجعل الشرع في يمينه والعقل في يساره تَنْبِيهًا يَلْطُفُ أن الوحي ، أبدا ، يَقْدُمُ ، وإن تعاضدا في الحكم ، وهو المطرد باستقراء أَدِلَّةِ الشريعة الصحيحة ، آيا هو المتواتر فهو القطعي في ثبوته ، وخبرا قد استوفى شرط الصحة في الاصطلاح وَسَلِمَ من القادح المعتبر من شذوذ أو علة لا القادح المتوهم بما يكون من دعوى التشكيك بلا دليل يرجح ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، الترجيح بلا مرجح ، فإذا تعاضد النقل الصحيح والعقل الصريح وهو ما اطرد ، كما تقدم ، باستقراء الأدلة الرسالية كافة ، آيا أو خبرا ، فإذا كان ذلك فَعَلىَ شَرْطٍ يُسْتَصْحَبُ أبدا ، كما يقول صاحب "الموافقات" ، وهو تَقَدُّمُ النقل فهو المتبوع الحاكم ، وتأخر العقل فهو التابع الخاضع ، فالوحي هو المرجع الموضوعي المطلق الذي جَاوَزَ مَرْجِعَ العقلِ الفردي الذاتي ، وآخر من العقل الجمعي الذي يصدق فيه وصف الموضوعي المجاوز للعقل الفردي ، ولكنه ، مع ذلك مقيد إذ لا يسلم ، كما العقل الفردي ، لا يسلم من المؤثرات الخارجية التي تَتَنَاوَلُ مَعَايِيرَ الأفكار والأخلاق تَنَاوُلَ السلوك المتغير بما يطرأ من العادات والأعراف ، وما يَتَغَايَرُ من الاحتياجات والمصالح ، وهي ، وإن كانت محل اعتبار في الشرع المنزل ، فإنه قد جاء بما يجلب أكبر المصالح ويدفع ضِدًّا يضاهي من المفاسد ، فهي ، وإن كانت محل اعتبار كما تقدم ، إلا أنها تابعة كما العقل فلا تتقدم حكومة الوحي ، فتكون هي صانعة الدين بما يواطئ معيارها المضطرب ، لا جرم كان شرط الأصوليين الأول في باب المصلحة ألا تخالف عن نص الوحي المحكم ، فلا تَنْقُضُهُ فَتَرُدَّ أو تُكَذِّبَ ، ولا تحتال فَتُحَرِّفَ أو تَتَأَوَّلَ التأويلَ الباطل الذي لا قرينة له تعتبر ، فليس إلا ما يَتَوَهَّمُ صانع الدين في مذهب الوضع المحدث ، فَيَتَوَهَّمُ مِنَ المصلحة ما يعتبر ، وإن ألغاه الوحي المنزل ، وَيُصَيِّرُ هذه المصلحة والحاجة هي الرائد في صناعة الشريعة التي تُوَاطِئُ الهوى والذوق ، وهو ما يَفْتَحُ ذرائعَ الاضطراب والتدافع إذ لكل أُمَّةٍ من الاحتياجات والمصالح ما لا يُنْكَرُ ، فإذا كان التعارض بَيْنَهَا ، ولم يكن ثم معيار حاكم من خارجها ، فلكِلٍّ من العقل الذاتي غير المجاوز كما المذهب الوجودي الذي يغلو في تقرير الحرية الفردية ويجعل الإنسان هو سلطة الحكم العليا فلا يخضع لسلطان الوحي ، وهو ، كما يقول بعض المحققين ، مما أوقع الإنسان في الحيرة والاضطراب ، وقد صار بمفرده فَعُزِلَ عن منهاج السماء الذي يأطره على جادة الحق ، الصدق والعدل ، فتكتمل قواه الذاتية ، الباطنة والظاهرة ، قوى العلم التي تصحح التصور ، وقوى العمل التي تصحح الإرادة والحكم ، فكمال النفس ، كما يقول بعض من صَنَّفَ في النبوات وهي واسطة النقل بين الحق والخلق ، كمال النفس أَنْ تَعْلَمَ الحق ، وذلك أول ، وهو مراد لذاته ، من وجه ، ولكن القوى لا تكمل به ، بل هو ، من وجه آخر ، مراد لِغَيْرِهِ ، وهو توحيد التأله فلا صلاح للنفس إلا به ، وذلك ما جاءت به النبوات كافة ، فقد جاءت بجدال محكم لا يماري بإطناب يُمِلُّ وهو ، مع ذلك ، يُغْرِبُ في ألفاظه وَيَتَكَلَّفُ كما خطاب الفلسفة المحدث ، بل قد جاء الوحي باستدلالٍ صحيحٍ صريحٍ ، فكان من ذكر الملزوم من فعل الربوبية خلقا ورزقا وتدبيرا ، وهو ما يأرز إلى علم محيط قد استغرق المقدورات كَافَّةً ، الكونية والشرعية ، فكان منه ربوبية ترفد الأبدان بأسبابٍ خارجةٍ من الأرض ، وأخرى ترفد الأديان بأسباب نازلة من السماء ، فَصَحَّتْ بها قوى الحس والمعنى ، الجسد والروح ، فتلك ربوبية عامة قد استغرقت المحال والأحوال كافة ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بالعلم ، وهو ، كما تقدم ، قَدِ استغرق التكوين والتشريع ، التقدير الأول والإيجاد المصدِّق بَعْدًا والرزق والتدبير الذي تناول الوجود المحدَث : الأعيانَ والأحوالَ كافة ، فتلك ربوبية بكلمات العلم المحيط المستغرق ، وذلك وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، كما جاءت به النبوات ، فَصَدَّقَتْ أولا من العلم الضروري المركوز في العقل ، وآخر قد رُكِزَ في الفطرة ، أَنَّ الوجودَ المحدَث لا بد له من موجِد ، وذلك مما يتسلسل فيمتنع في الأزل فمرده أبدا إلى وجود أول ، هو الواجب الذاتي فلا يفتقر إلى موجِب موجِد من خارج ، بل هو الأول ، أولية الإطلاق ، ووجوده قد جاوز الكلي المطلق الذي أَثْبَتَتْهُ الفلسفة المحدَثة ، وهو ما غلب على درسها ذي الطابع التجريدي ، إن في التصور أو في الأحكام أو في الأخلاق ، مع افتقادها إلى معنى الإلزام في التكليف ، فلا شريعة تأطر إلا ما تقدم من الكلي المجمل ، وهو ما يفتقر إلى خطابِ تَشْرِيعٍ يُفَصِّلُ ، فلا بد من مرجع من خارج يجاوز فشريعته تجاوز الأرض ، إِنْ عَقْلَ الفردِ أو عَقْلَ الجمعِ ، فلا يسلم كائن محدَث ، إِنْ شَخْصًا ذا ماهية في الخارج تجاوز أو آخر له من الاعتبار معنى في الأذهان فلا وجود له يصدق في الأعيان ، كما الوضع المحدَث من مذاهب في الفكر والحكم ، فلا وجود لها في الأعيان وإنما وجودها في الأذهان معانٍ يحصل بها إلزام يحكي خاصة الخلق ، إذ جُبِلُوا على الاتباع والتقليد والتأله ، فإن لم يكن ذلك لمرجع من خارج يجاوز فهو يحكم حكومة ناصحة تسلم من الهوى والحظ ، فلا ينالها ما نال حكومات الأرض المحدثة من نَقْصٍ يحكي نَقْصَ الواضع ، فَلَهُ من معيار الحسن والقبح ما أُجْمِلَ ، وهو ما تأوله العقل الذاتي المفرد بالمنفعة الخاصة ، وتأوله العقل الموضوعي الجمعي بالمنفعة العامة ، فلم يسلم من نَقْصٍ وافتقارٍ ذَاتِيٍّ ، فالجهل وصف ذات قد ثَبَتَ له أبدا ، ولو أصلَ الخلقةِ ، فإن حصل العلم فهو المكتسب بأسباب ، وليس ، مع ذلك ، يحيط بالمآلات والأحوال كافة ، مع اتهام يَنَالُهُ فَلَا يَبْرَأُ بِمَا يروم من الحظ والنفع المحدَث الذي يحكي وصف الافتقار الذاتي ، كما الجهل ، فكلاهما مما رُكِزَ فِيهِ أولا ، فَإِنْ حَصَلَ العلم فَبِالتَّعَلُّمِ ، وإن حصل الغنى فَبِالاسْتِغْنَاءِ بأسباب من خارج بها يطغى الجاهل ، ولو تدبر لوجد في السبب دليلا يحكي ضِدًّا مما انْتَحَلَ أَنَّهُ العالِم ، فـ : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ، والقادر ، فـ : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فإن في طلب السبب لحصول الاستغناء ، في ذلك دليل على ضد من الدعوى ، فإن الغني الذي له من ذلك وصف الذات المطلق ، فلا يفتقر ، بداهة ، إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليه يفتقر أن يوجده على ماهية مخصوصة تحكي حكمةً في التقدير ، وقدرة في التكوين ، فمن ذلك جمال العلم الذي به خَلْقٌ أول ، أن يُقَدِّرَ السبب على الماهية التي تلائم ، وله آخر من المحل يواطئ ، فيكون من ذلك حكمة تحكي الجمال ، مع قدرة بها الإنفاذ ، وتلك حكاية الجلال ، وبهما جميعا كمال أول هو المطلق فلم يكن منه عدم أول ثم صار له وجود تال يصدق ، بل وجوده ، كما تقدم ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، الأوَّلُ الذي لا أول قَبْلَهُ يَتَقَدَّمُ ، بل كلُّ أوليةٍ في الخارج فهي المقيدة فلا تَنْفَكُّ تطلب أولا يَتَقَدَّمُهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ كلُّها إلى الأول المطلق ، واجبِ الوجود الأول ، ذي الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من ذلك وجود كامل قد استغرق الجمال والجلال كافة ، فليس الأول المجرَّد من الوصف ، عِلَّةً فاعلة بالطبع ، كما كان من حكمة أولى تجافي الوجدان الصريح ، الذهني والخارجي ، فليس ثم مطلق بشرط الإطلاق له من الوجدان الأخص في الخارج ما يستقل ، بل ذلك مما لا يجاوز حَدَّ التصور أو الفرض في الذهن ، فالمطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج يصدق ، فليس ثم في الخارج إلا الوجود المقيَّد ، وبه امتاز أول النبوات ذو الوجود الواجب في الخارج ، فَلَهُ من ذلك وجود الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَثَمَّ خبر النبوات الذي جاء بالصِّدْقِ ، فأثبت من وصف الكمال ما استغرق ، ومنه وصف معنى يدل عليه العقل ، ومعدنه في التكوين والتشريع ، وصف العلم الأول المحيط ، العلم المفصل الذي استغرق الكليات والجزئيات كافة ، لا الكليات المجملة ، كما خطاب الحكمة الأولى ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ العلمِ وصفُ معنى يدل عليه العقل ضرورة لدى المبدإ ، وقد أَقَرَّ به بعض فلاسفة اليونان ، ممن كانت له نسبة إلى النبوات ، ولو لم يَنْتَحِلْ منها عَقْدَ تَوْحِيدٍ محكم ، فقد تأثر بما قد تحمل من حكمتها الرسالية المنزلة عن بعض أتباعها في الشرق ، وهو الموضع الذي نَزَلَتْ فيه النبوات كلها ، فهي معدن الحق المطلق ، وما أصاب غَيْرٌ ، كما الغرب المحدَث ، ما أصاب مِنْ حَقٍّ ، ولو مجملًا ، في التصور والأحكام والأخلاق ، فذلك بعض مما قد جاءت به النبوة ، وما أصابه أولئك إلا بما نصح من فطرة أولى في الخلق ، ولو آثَارًا في النفس ، فهي من آثار ربوبية بها جَبْلٌ أول على معان من الحق تنصح ، فتحكي ضرورةً من العلم أن ثم أولا هو الخالق ، وله من ذلك وصف مطلق ، فتلك الأولية في العلم المحيط وبه تقدير محكم يزيد في الوصف إتقانا في الخلقة وإحكاما في السنة ، فذلك العلم المفصل الذي يدل عليه العقل ضرورة ، ولو لم يكن ثم خطابُ نُبُوَّةٍ ، فإن ثم من دليل العقل والفطرة والحس إذ يُبَاشِرُ الوجودَ المحدَث في الخارج وما أُتْقِنَ منه وما أُحْكِمَ ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا وثم أول له من وصف الإتقان والحكمة ما عَمَّ كُلَّ شيءٍ في الخارج ، إِنِ الأعيانَ أو ما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، فَلَهُ من ذلك عِلْمٌ مُفَصَّلٌ قد استغرق الجزئيات كافة ، إِنِ الكونيَّةَ وبها تقدير الأعيان وإيجادها وتدبيرها على سنن محكم ، أو الشرعيَّةَ بِمَا تَنَزَّلَ من صَادِقِ الخبرِ وعَادِلِ الحكمِ ، وبهما ، كما تقدم ، اكتمال القوى كافة ، العلمية وبها التصور ، والعملية وبها الحكم ، تَأَلُّهًا قَدِ اسْتَغْرَقَ الجنان وهو معدن التصور والإرادة ، والأركان وبها تأويلٌ يُصَدِّقُ ما كان أولا من التصور والإرادة ، ولا يَنْفَكُّ يطلب المفصَّل من خطاب التكليف ، وتلك مادة بها التأله ينصح بما كان مِنِ امْتِثَالٍ في الخارج يُصَدِّقُ ما كان أولا من دعوى توحيد يَبْطُنُ ، فأوله التصديق ، وهو قدر في الوجود يزيد ، فيجاوز ما يحصل أولا من العرفان المجرد بما يكون من مباشرة الوحي المنزَّل إذ يُخْبِرُ ، وبما يقيم من حجة تَلْزَمُ ، فذلك مما يحصل لكلِّ أحدٍ ، آمن أو كفر ، فلا ينفك يطلب مرجحا أخص من خارج ، بما يكون من حركة الجنان المصدِّقة ، فذلك معنى أخص يحصل في القلب ، وبه أول فِي التصور ، وذلك توحيد في العلم يُثْبِتُ الملزوم الأول من ربوبية هي المبدأ في حِجَاجِ مَنْ جَحَدَ وَكَفَرَ ، فيكون منها جدال المنكِر بما قد دل عليه العقل والفطرة والحس من آي الإتقان والحكمة ، مع أول في الحجاج يخاطب العقل بما لزم ضرورة من العلم ، أن المحدَث ، كما تَقَدَّمَ في مواضع تَكْثُرُ ، لا بد له من محدِث يَتَقَدَّمُ ، وذلك مما في التأثير يتسلسل فلا يكون ثم وجود في الخارج يصدق ، وهو ما شهد به الحس ضرورة من هذا العالم المحدَث ، لا يكون ثم وجود يصدق إلا أن تُرَدَّ العلل كافة إلى أول لا أول قبله ، فذلك محل الإجماع لدى العقلاء كافة ، ثُمَّ يكون تال في الجدال أَنَّ هذا الإتقان والإحكام لا يكون بداهة عن علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف فلا علم ولا مشيئة ، وإنما فعل الاضطرار مع شرك في الوجود الأول بما كان من قِدَمِ العالم ، وهو مما يجافي القياس المصرح ، فتلك مادة لا بد لها من موجِد يَتَقَدَّمُ ، ولو سلم أنها الأول المطلق ، فهي جماد لا حياة فيه ولا إرادة ، فمن ذا رَجَّحَ فِيهَا بما بُثَّ من حياة وإرادة ، بها حركة بعد سكون ، فلا بد من مرجِّح من خارج قد زادها من الوصف حركة وانقساما ، لو سُلِّمَ جدلا بما كان من خطاب التطور من بسيط إلى مركب ، ولو الموجَّه الذي قال به بعض من تأخر ، وهو من الغيب الذي لم يشهده أحدٌ ، لا المصدِّق به ولا المكذِّب ، لا سيما إن كان المصدِّق بالتطور مِمَّنْ يجحد الغيب ، فَهُوَ من يقول بالتطور خبط عشواء خلاف من قال بالتطور الموجَّه فهو ، وإن ضَلَّ في قصة الخلق ومبدإِ الأمر ، خير من الأول ، إِذْ يصدق بخالق أول وله من الفعل في الكون ما يُؤَثِّرُ وَيُدَبِّرُ ، قمن قال بالخبط والعشواء في الخلق فهو يَلْتَزِمُ في الباب ، بداهة ، إنكارَ الغيب مطلقا فهو الخرافة التي لا وجود لها في الخارج إذ لا موجود إلا ما يدرك بالحس ، كما تَقَدَّمَ من حَدِّ الوضعِ المحدَث العلمَ أنه ما يدرك بالحس حَصْرًا يجمع ويمنع ، وذلك التَّحَكُّمُ الذي صَيَّرَ عدم الوجدان وهو جهل ، صيره دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، طغيانا بالحس الظاهر أَنْ صَارَ هو معيارَ الإثباتِ والنفيِ مَعَ نَقْصٍ وَعَجْزٍ هو وصف له يلازم ، ولو في الخلق الشاهد ، فإن منه غُيُوبًا لا تدرك بالحس ، وَلَمَّا يَزَلِ البحثُ يُظْهِرُ منها في كل جيلٍ ما به الحجة تَنْصَحُ ، تأولا لِمَا كان من آي محكم أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فكان من الطغيان بالعقل والحس أن صار وحده معيار الإثبات والنفي ، وهو ما ينقضه غيب في هذا الوجود المشهود لا يدرك بالحس ، فكيف بما جاوز من الغيوب المطلقة ، فتلك خاصة العقل المكتَمِلِ أَنْ يُثْبِتَ ما جاوز وجدان الحس المحدَث وإلا انحط إلى دَرَكَةِ حيوانٍ أعجمَ لَا يُطِيقُ دَرَكًا إلا ما يُبَاشِرُ بقوى الحس الظاهر ، فكان من أول التطور ، إِنْ خبطَ العشواء أو آخر قد توسط فقال منه بالموجَّه الذي يُرَدُّ إلى أول له من العلم والإرادة ما يثبت فهو إلى مقال النبوات أقرب ، وإن لم يصب الحق في الباب ، فإنه ، كما تقدم ، من الغيب المطلق الذي لا يجاوز العقل فيه حد التجويز المحض في الممكن ، فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارجٍ يُرَجِّحُ ، فالمبدأ : أن يميز العقل في باب الخلق : الممكنَ من المحالِ ، فَثَمَّ من مقال الخبط والعشواء ما يحكم العقل الناصح ضرورة بامتناعه ، أن يكون ثم من أول هو الجوهر القديم وهو الميت قد وُجِدَ بلا موجِد ، مخالفةً لِمَا نَصَحَ من معيار القياس الضروري في باب الفعل ، أَنْ لَا بُدَّ من فاعل أول يَتَقَدَّمُ ، مع صيرورة الفاعلين كافة إلى فاعل أول لا فاعلَ قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك وصف أولية هو المطلق ثم يكون من الترجيحِ تَالٍ بلا مرجح ، أَنْ دَبَّتِ الحياة والحركة في هذا الجوهر القديم ، ثم كان من ذلك ثالث خبطا يتكرر حتى كان من آحاد في باب الاحتمال لا حد لها يحصر ، وهو ما أقر به بَعْضُ مَنْ تَنَاوَلَ الأمر إحصاءً يَسْتَنِدُ إلى حسابِ العقلِ ، فذلك احتمال يعدل الصفر ، فهو المحال أن يكون من تكرار يجاوز عمر هذا العالم ليحصل من ذلك وجود ذو إتقان وحكمة ، لو سُلِّمَ أَنَّ ذلك جائز ممكِن ، فكان من ذلك ممتنع آخر ذاتي ، فخبط لا منتهى له يفضي إلى خلق متقن محكم بلا علم أول يقدر ، ومشيئة تنفذ فهي ترجح في إيجاد تال في الخارج يصدق ما كان أولا من التقدير المحكم ، فلا علم ولا مشيئة ! ، بل ليس إلا الخبط جَبْرًا بِلَا إرادة ، وهو ما يقبح في حق المخلوق المحدَث أن يكون من حركته جبر بلا إرادة ، فهو المكبل بحتمية تاريخية ، لو سُلِّمَ بِهَا ، فلا تخلو من وجه ينصح إذ تحكي مَا أُحْكِمَ من سَنَنٍ في التكوين والتدبير ، فذلك حق ، وليس بداهة يُبْطِلُ تكليف الشرع الذي يُنَاطُ بإرادة واختيار فهما مناط التكليف تصديقا وامتثالا ، وبهما امتاز الإنسان ذو العقل الذي يتصور ، وذو الإرادة والمشيئة التي ترجح في التصديق والامتثال ، فيكون من ذلك مشيئة بها الاختيار فلا جبر ، وهي ، مع ذلك ، لا تخرج عن مشيئة أولى يصدق فيها ، من وجه ، حتمية السَّنَنِ المحكم الذي لا يكون بداهة إلا وثم أول يحكمه فيأطره على سنن مقدر ، لا أنه بهذا الإحكام يحكي حتمية بها العقل يَسْتَغْنِي عن وجود خالق أول يدبر ، كما زعم بعض من طغى بما حصل له من نظر وحساب قد استند إلى آلة بحث وتجريب لا تسلم من الخطإ ، ولو احتمالا ، بل من كلِّ جيلٍ منها ما يبطل قياس المتقدم ، فما كان بالأمس مُسَلَّمَةَ ضرورةٍ بها يتبجح التجريب المحدَث قد صار اليوم باطلا ظاهر البطلان ، فهو الخرافة التي بها يَتَهَكَّمُ العقلاء ، وقد كانت قَبْلًا المقالَ الذي به يَتَشَدَّقُ العلماء ! ، فكان من طغيانِ بَعْضٍ بما حصل له من حتمية بها زعم الاستغناء عن فاعل أول يخلق ويقدر ، فَفِي حَتْمِيَّةِ السَّنَنِ الكونيِّ غُنْيَةٌ ! ، وهو ، في نفسه ، دليل على ضد ، فلا ينفك ، بداهة ، يطلب المرجح من خارج ، فاعلا يجريه فيكون من آثاره في الخارج ما يجد الناظر ضرورة من هذا الخلق المتقن المحكم ، فلا يكون ، بداهة ، عن خبط وعشواء ، فذلك المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل تلك حتمية سنن محكم تدل ضرورة على أول محكِم ولا يكون ذلك إلا بعلم محيط قد استغرق ، وهو ما سَلَّمَ به كل عاقل ، فكان من آحاد من حكماء اليونان ممن تَقَدَّمَ لهم ذكر ، وقد كان له بالنبوة سبب ، وَلَوْ واسطةَ بعضٍ قد تحمل علومها ، فَتَلَقَّى منه حكيم من اليونان ، فَأَقَرَّ بما أجمع عليه العقلاء كافة ، كما ينقل بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أن : "لهذا العالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات" ، فليس علمه ، كما تقدم من مقال الحكمة الأولى ، ليس علمه الكلي المطلق فلا يعلم الجزئيات المفصلة وبها تقدير أول تأويله ما يكون بَعْدًا من هذا الوجود المتقن المحكم ، وهو ما تناول جزئيات التشريع كما أولى من التكوين ، وبهما نصح التوحيد المحكم ، توحيد الربوبية إذ تَنَاوَلَ علمها جزئيات التكوين بما تقدم من التقدير في الأزل بعلم أول يحيط ، وما تلا من إيجاد في الخارج يصدق ، وما كان بَعْدًا من تدبير هو المحكم ، فذلك أول من التوحيد هو الملزوم في جدال الخصم ، إذ يحكي من الضرورة في العقل والفطرة والحس أن هذا الوجود المحدَث لا بد له من أول هو المحدِث ، وأن هذا الإتقان والإحكام لا بد له من أول له من وصف العلم والحكمة ما استغرق ، فجاوز ما أَثْبَتَتِ الحكمة الأولى من الكلي المطلق إلى تَالٍ قد استغرق الجزئيات المفصلة من آحاد من الأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال وما أُحْكِمَ من سَنَنِهَا في التدبير ، فكل أولئك يدل ضرورة على توحيد في الربوبية هو أول ، وذلك ما قد عَمَّ فاستغرق الأعيان وما قام بها من الأوصاف والأحوال وما أُحْكِمَ مِنْ سَنَنٍ عليه تجري ، فذلك تفصيل أول في توحيد العلم والتصور ربوبيةً بها يصدق من الحتمية بعض ، لا حتمية الاضطرار الذي طغى به بَعْضٌ فجعله هو الخالق المدبر ، وإن افْتَقَر بداهة إلى مَنْ يجريه على هذا السنن المحكم ، فلا حتمية بلا أول هو من يجريها على هذا الإتقان والإحكام ، فدليل الحتمية يدل على ضِدٍّ لِمَا كان من استدلال الخصم إذ يَنْفِي الأول الذي انفرد بوصف الوجود الواجب وما كان من العلم المحيط المستغرق وما كان من مشيئة ترجح وبها تأويل إيجاد وتدبير يصدق ما كان من خلق التقدير الأول ، فذلك الرب الذي انْفَرَدَ بوصف الربوبية المطلق ، بل وكان من خروج عن هذه الحتمية ما يبطل شبهة الخصم ، فثم من ذلك تأويل آخر لاسم الرب ، فهو خالق الشيء وهو الأصل ، وخالِقُ ضِدٍّ ، ولو قليلا أو نادرا ، فَهُوَ الفرع الذي يحكي القدرة المطلقة فلا يحتج خصم بحتمية تَطَّرِدٌ ، فلا استثناء ولو قَلِيًلا أو نادرا ، بل ثم من ذلك خروج عن القانون الحتمي المطرد ، وإن في أمور المعاش المباحة ، فذلك وصف الرب الذي عمت قدرته ومشيئته في الخلق ، فَخَلَقَ الأضداد بالقدرة ، وأجراها على سَنَنٍ من التدافع به تأويل ثان من الوصف ، وصف الحكمة ، وبهما جلال القدرة وجمال القدرة ، بهما كان إثبات لكمال هو المطلق الذي انفرد به الرب المهيمن ، جل وعلا ، الرب الذي جاءت النبوات له تثبت ولوصف كماله تُفَصِّلُ ، فذلك علم يجاوز العلم الكلي المجمل الذي رُكِزَ في العقل والفطرة فلا يَنْفَكُّ يطلب المبيِّن من خبر الشرعة الصادق ، ولازمه تال من توحيد في التأله بما كان من تفصيل آخر في باب الأحكام والأخلاق فلم يقتصر على كليات مجملة كتلك التي تَبَجَّحَتْ بها الحكمة الأولى أنها معدن التحقيق في الباب ولم تجاوز في الباب حد العلم ، وهو في نفسه مما يحمد ، ولكنه لا ينفك يطلب تاليا من عمل يصدق ، فكيف وعلم الحكمة الأولى مع ذلك لم يجاوز الكليات المجردة في الذهن ؟! ، فلو كان منه ما يفصل ما أجزأ في حصول اسم ديني ينصح , ولو المطلق الأول ، إلا أن يشفع بِتَالٍ من العمل يصدق وهو ما افتقر إلى شريعةٍ تُفَصِّلُ ، وهي ، أيضا ، تُوَاطِئُ ما ركز في النفوس من معيار الحسن والقبح المطلق ، فلا تنفك مجملاته تطلب المبين من خارج ، فكان من ذلك تال ينصح القوة العلمية ، قذلك توحيد الألوهية بما كان من تكليف يُلْزِمُ ، فهو ، كما تقدم ، يخرج الالتزام في الأحكام والأخلاق من القوة من الفعل ، فتأويل الالتزام عِلْمًا الإلزامُ عَمَلًا في الخارج يصدق ، فذلك لازم تال في القسمة ، فأولها ملزوم من توحيد ربوبية في الخلق ولازمه توحيد ألوهية في الشرع ، فَثَمَّ أول به كمال القوة العلمية في باب التصور لما كان من قصة الخلق ومآل بَعْدَ الموت وما يكون في البرزخ والحشر ..... إلخ ، فذلك مما ركز في الوجدان ضرورة وإن كان ، أيضا ، من المجمل الذي لا يبين عنه إلا خبر من خارج يفصل ، فقد أَثْبَتَ بعض عقلاء اليونان المعادَ ، ولكنهم لم يجاوزوا فيه حَدَّ الإجمال فقال بعض بمعاد النفوس دون الأجساد ، وقصره آخر على العالمة دون الجاهلة ..... إلخ ، من تصور يدور بين المجمل والباطل إذ لم يكن في هذا الباب من الغيب مَرْجِعٌ من خارج يجاوز العقل فَيُصَدِّقُهُ رَائِدًا ينصح بما يحكي من الغيب المفصَّل ، فليس ذلك إلا الوحي المنزل الذي جاء يصدق ما استقر في الفطرة من العلم ، وجاء يُفَصِّلُ بما أَخْبَرَ صادقا وَحَكَمَ عادلا ، فَنَصَحَ القوى كلَّها ، علمية تَتَصَوَّرُ وعمليَّةً تَتَأَوَّلُ ، وجاء ثالث يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ منها ، فأبان في باب الواجب كما واجب الوجود الأول ، أبان عن الاسم والوصف والفعل والحكم ، وأبان في باب الجائز من هذا الوجود المحدَث ، أبان عن قصة الخلق الأولى ، وبها ترجيح بمرجح معتبر بما كان من خَبَرَ غَيْبٍ يصدق ، فَلَئِنْ سُلِّمِ ، مِثَالًا تَقَدَّمَ ، بما كان من تَطَوُّرٍ مُوَجَّهٍ ، فالخبط قد خرج من القسمة ، بادي الرأي ، وإن لم يكن ثم خطاب وحي ، إذ هو المحال الذاتي الذي يمتنع ، والموجه منه من الجائز المحتمل ، وهو من الغيب الذي لا يجزئ في إثباته دعوى الجواز العقلي المحض ، بل لا ينفك يطلب الدليل من خارج وليس إلا خبر الغيب الصادق الذي يرجح في الجائز الذي لم يَشْهَدْهُ أحد ، فَلَا يُسَلَّمُ بدعوى ، وإن جائزة بادي الرأي ، لا يُسَلَّمُ بِهَا في باب غيب لا يدرك بالحس ، ودلالة العقل فيه لا تجاوز ، كما تقدم ، حد الجائز المحض الذي يفتقر إلى دليل من خارج ، فلا يسلم بها إلا أن يكون من هذا الدليل مرجح من خارج ، الدليل الخبري الصادق الذي يرجح في الباب الترجيح المعتبر ، فذكر من ذلك نصا في محل النِّزَاعِ يحسم ، وهو ما كان من قصة الخلق الأولى ، خلق آدم من طين يقدر وما بُثَّ بَعْدًا من روح حياة تَلْطُفُ ، فلم يكن الأمر تَطَوُّرًا هو الموجه ، وإن جاز في العقل لدى المبدإ ، ولم يكن خبط عشواء ، فذلك ما امتنع من باب أولى ، فكل أولئك من ملزوم ربوبية أول ، وهو ما به توحيد في العلم والتصور ينصح ، وبه اكتمال القوة العلمية بما كان من الآي والأخبار الرسالية التي أخبرت بالغيب المفصَّل ، وثم لازم من توحيد ألوهية بما كان من شريعة أمر ونهي تُفَصِّلُ ، قد جاوزت في الغاية ، كما يقول بعض من حقق ، تهيئة المحل بمعيار من الأخلاق المجملة أن يَتَلَقَّى من العلم المجرد ما صار عِلَّةً في حصول الكمال ، كمال النفس الذي اقتصر على العلم دون العمل ، بل ليس من العلم إلا الكليات المجملة فذلك من أدنى ما جاءت به النبوات إذ جاوزت فجاءت بالعلم المفصل ، وجاءت بآخر من شريعة أمر ونهي تُفَصِّلُ وهي لِمَا رُكِزَ في الوجدان من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ضروري تصدق ، وبها اكتمال أخرى من قوى العمل ، فذلك توحيد قد استغرق المحال والأحوال كافة ، وبه لحظ الإرادة العملية كما الشعور العلمي ، فاستغرق ، كما يقول بعض من حقق ، الشعور وهو العلم الأول والإرادة وهو تال من العمل يصدق ، وهو الحكم المجاوز من خارج الفرد الذي ضل في شعاب الفكرة والحركة إذ حاد عن جادة النبوة ، فلم يكن من ذلك إلا مذاهب محدثة كما وضعية قد تناولت الأخلاق التناول التجريبي الذي حول الإنسان المكلَّف إلى حيوان تجارب في المعمل بما يخاطب الحس والغريزة حصرا ، وصيرت عقل الجمع هو المرجع الموضوعي المجاوز من خارج ، وسلطانه سلطانُ الجبرِ الذي يُهْدِرُ خاصة الفرد ذي الشعور والإرادة ، فَلَمْ تَرُدَّ الأمر إلى مرجع موضوعي يجاوز العالم المحدَث كله ، وهو ، مع ذلك يكرم الإنسان ذا العقل والإرادة ، فَلَهُ من ذلك مناط تكليف به امتاز من سائر الكائنات التي تسلك سَنَنَ الكون جبرا ، فكان من إرادة الإنسان ما به كُرِّمَ وَكُلِّفَ ، وكان من إيمان بقدر أول ما به الاحتراز أن يطغى بما حصل له من سبب ، فَيَزْعُمَ سيادةً في الكون تُطْلَقُ ، وبها تذرع أنه الإله الذي يشرع بما واطأ الهوى والذوق ، فالوحي قد استوفى أجزاء القسمة إيمانا بالقدر وامتثالا للشرع ، وكان منه مرجع من خارج يجاوز العقول كافة ، عقل الجمع الوضعي الذي قهر الفرد مع إلحاقه بحث الأخلاق الوجداني بما كان من آخر في الحس هو التجريبي ، فلم يعتبر من العلم إلا ما باشر بالحس تحكُّمًا قد أهدر من أدلة العلم ما جاوز من الخبر والعقل والفطرة ، فالحس رابع في الرتبة ، فكيف صار الأول بل والأوحد ؟! إلا أن يكون ثم اضطراب في المعيار ينحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الأعجم بل ما دونه ، كما البلوى قد عمت في جيل قد تأخر إذ التزم من إنكار المرجع الرسالي المجاوز للعقول كافة ، الجمعي والفردي ، التزم من ذلك ما به خالف عن حكمة التشريع وفطرة التكوين . والله أعلى وأعلم . |
#6
|
|||
|
|||
![]() فكان الاضطراب في معيار الأخلاق أن لم يكن ثم وحي ينصح ، فقد جردت الأخلاق ، كما يقول بعض النظار ، من أساسها المطلق ، وهو الأساس الغيبي المجاوز لعالم الحس والشهادة ، وهو الضرورة العقلية الملجئة التي أَبَانَ عَنْهَا قَانُونُ السببية وآخر من الغائية ، وذلك من فطرة التكوين الأولى التي دل عليها الوجدان الباطن , وهو دليل يجده كُلُّ أحدٌ مِنْ نَفْسِهِ ، ولو الطفلَ الصغيرَ الذي لا يعقل ، كما التقام الثدي أن يَرْضَعَ ويغتذي بما يَنْفَعُ ، فَلَوْ غُذِّيَ بآخر خبيث مُرٍّ ، فإنه ، بادي الرأي ، يمجه ، فتلك فطرة أخرى في الأبدان ، كما آخر في الأديان ، فَثَمَّ تلازم بَيْنَهُمَا إذ مَنْ خَلَقَ هو مَنْ شَرَعَ ، ومن رَكَزَ في الوجدان قُوَّةَ التعقل هو من أَنْزَلَ الوحي المحكمَ ، فإذا غُذِّيَ الطفل الصغير بما يضر من خبيثٍ مُرٍّ ، فإنه يَرْدُّهُ بِمَا رُكِزَ فيه أولا من الفطرة ، فَلَيْسَ الأمر محلا أبيض هو المحايد فلا معنى فيه يرجح ، فالمعنى يُكْتَبُ بَعْدًا من خارج بما يكون من تَنْشِئَةِ الأبوين والمجتمع ....... إلخ ، فذلك مما خالف عنه معيار النظر في الخارج ، إذ يشهد ضرورة أن للطفل الصغير ، ولو وليدًا لا يعقل ، أن له من جُمَلِ الفطرة الأولى ما رُكِزَ في الوجدان وهو دال على مُتَقَدِّمٍ من السببية ، فإن ثم سَبَبًا أول قد تَقَدَّمَ ، فلا فطرة بلا فاطر ، إذ لا فعل بلا فاعل ، وذلك من بدائه الضرورة في العقل والفطرة والحس ، وهو ما يعقل الطفل الصغير ، ولو لم يحسن الكلام ، فَثَمَّ من رَدِّ الفعل ضَحِكًا أو بكاءً ، ثم منه ما به الْبَيَانُ في هذا الموضع ينصح ، فإذا دُوعِبَ ضحك ، وإذا تجهم الأب أو الأم في وجهه حزن وقد يجاوز إلى صُرَاخٍ وبكاءٍ إذا ضُرِبَ أو مُنِعَ ما يحب من طعم أو شرب ، فهو يَلْتَقِمُ الثدي إذا جاع فيكون من بُكَائِهِ أمارة على سَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، فَثَمَّ سَبَبِيَّةُ ضرورةٍ قد ركزت في أصل الخلقة بما يواطئ قانون الحكمة سَبَبِيَّةً تُؤَثِّرُ مع محل يَقْبَلُ ، فليس ذلك الاقتران أو التعاقب اتِّفَاقًا دون وجه سببية أخص يواطئ ما ركز في صريح العقل أن لكلِّ حدث في الخارج محدِثا يتقدم ، وأن من قانون السببية ما ينصح ، فهو ركز ضرورة في الوجدان ، وبحث التجريب قد جَاءَ له يُصَدِّقُ ، وإن لم يصدر عن قاعدة إيمان يصدق بالواحب الأول ، فإن المجرب الجاحد لا يطيق إنكار السببية التي تؤثر فليست الاقتران أو التعاقب اتفاقا ، كما زعم بعض من جحد السببية تَوَسُّلًا إلى آخر من جحدٍ للخالق الأول ، جل وعلا ، فَمَنْ ذَا يَعْقِلُ أَنْ يُقَالَ له إن الطفل يشبع عند التقام الثدي وارتضاع اللبن لَا بِمَا رُكِزَ فِي اللبن من قوة الإشباع وما ركز في آلته الهاضمة من قوى الهضم والامتصاص لِمَا نَفَعَ والطَّرْدِ لِفَضْلَةٍ تضر .... إلخ ، فَيَجْحَدُ مُنْكِرُ السببية كُلَّ أولئك ، ويجعله من الاقتران والتعاقب دون قوة قد رُكِزَتْ ضرورةً في السبب ، فما يصنع لو صُفِعَ على وجهه وقيل له إن الألم أو الوجع كان عند وقوع الصفعة على وجهه أو عقبها فليست هي السبب الذي يؤلم ! ، فذلك مما التزم الجاحد المنكر للسببية حتى أفضى به إلى مخالفة في المقدمات الضرورية التي يُسَلِّمُ بِهَا العقلاء كافة ! ، وهو ، مع ذلك ، إن كان ذَا حَظٍّ من البحث والتجريب فَقِيلَ له إن ما يجري في المعمل من تفاعل أو تجارب لَا سَبَبِيَّةَ فيه تُرَجِّحُ ! ، بل النتيجة تقترن بالسبب أو تعقبه بلا معنى أخص من قوة قد ركزت في السبب وبها المسبَّب يكون في الخارج ! ، فإن قيل له ذلك ، أو قيل له آخر إن ما يكون من فعلك إذ تُجَرِّبُ وَتَبْحَثُ لَيْسَ إلى غَايَةٍ يهدف ، بل هو العبث المحض ، لو قِيلَ له ذلك فلا غائية في حركته ، ولو تجربة يَرْتَجِلُهَا دون تقدير أخص فظاهرها العبث ، وهي ، مع ذلك ، في نَفْسِهَا مما يكتشف به المجرِّب فلا يَنْفَكُّ يَنْتَفِعُ بِهَا ولو دَرَكًا لقوى في الأسباب تُؤَثِّرُ ، فهو يجرب ليكتشف من ذلك ما هو في نفسه غاية ، وقد يجرب لغاية فَبَيْلُغُ أخرى ويكون من كشف جديد ما يَنْفَعُ ، وإن لم يقصد ، فقد قصد من التجربة ، بادي الرأي ، نَفْعًا آخر ، فَحَمَلَ إليه القدر هذا الوجه ، فيجرب أخرى ليتأكد فالغاية أبدا هي المستهدف ، فلو قيل له ما تقدم ، فلا سبب ولا غاية في تجربة المعمل التي تُبَاشِرُ ، فَبِمَ يَرُدُّ إن كان ثم عقل ينصح إلا أن يكابر فيجحد الضرورة ! ، بل ذلك مما يَتَنَاوَلُهُ في جِدَالِهِ عن مذهبه ، ولو مذهبَ العبث والفوضى فلا غاية ، والخبط بلا سبب أول ، فجداله لَا يَنْفَكُّ يطلب غايةً أَنْ يَنْتَصِرَ لمذهبه ولا يكون ذلك إلا عن إرادة أولى وتصور ، ولو لِبَاطِلٍ لا يجاوز عند التدبر والنظر أن يكون من الفرض المحض الذي يقترحه المجادل تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فلا يكون الجدال إلا عن إرادة وتصور ، فلا يكون إلا عن علمٍ أول يَتَقَدَّمُ ، ولو بَاطِلًا ، وَقَصْدٍ ، ولو فَاسِدًا ، فمحل الشاهد جنس العلم والقصد الذي يَنْفِي الخبطَ والعبثَ ، فلا فعل في الوجود ، إِنْ جِبِلَّةً أو آخر ذا علم وقصد أخص ، فَلَا فِعْلَ إلا وله سبب يَتَقَدَّمُ وهو ما يَتَسَلْسَلُ فلا ينفك ، كما تقدم مرارا ، يطلب سَبَبًا أول لا سَبَبَ وَرَاءَهُ وَبِهِ حسم المادة الممتنعة في القياس الصريح ، مادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا فلا تَنْفَكُّ تطلب أولا هو المرجِّح المطلق فلا مرجِّح يتقدمه ، إذ له من ذلك أولية تُطْلَقُ مع تال من إتقان وحكمة في المصنوع لا ينفك يدل على صانع له من العلم والقدرة ما أَقَرَّ به العقلاء كافة ولو لم يكن لهم حظ ينصح من نُبُوَّةٍ تَشْهَدُ ، ولا يكون مصنوع بلا سَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، ولا يكون خبطا بلا غاية فذلك سَفَهٌ قد تَنَزَّهَ عنه آحاد العقلاء من البشر ، ولو فِيمَا دَقَّ من أفعال إِنْ أفعالَ جِبِلَّةٍ أَعَمَّ من أكلٍ أو شرب أو مباضعة ..... إلخ ، فهو يَتَوَسَّلُ بها إلى المسبَّب ، وليس طالب ولدٍ وذريَّةٍ يروم ذلك بلا مباضعة ، أو هو يقول إن المباضعة أمارة على حصولِ الولدِ فَيَحْدُثُ الولد عندها لا بها فليست سَبَبًا يُؤَثِّرُ بما يكون من مشيج في الرحم يحصل ! ، فَلَوْ قال ذلك لَاتُّهِمَ في عقله إِنْ فِي فِعْلِ جِبِلَّةٍ أو في آخر أدق بما يكون من بحث أخص في علوم نظرية تَفْتَقِرُ إلى مقدمات ضرورية فلا ينفك يصدر عن مسلمات لا يجادل فيها إلا جاحد أو مسفسط إِنِ المكابِرَ الذي اختل معيار الحكم عنده فَرَدَّهُ إلى نِسْبِيَّةٍ تَصْدُرُ عن مرجع ذاتي يَتَفَاوَتُ فَلَا تُرَدُّ إلى آخر موضوعي من خارج ، وهو ما أفضى إلى اضطِّرَابٍ في الاستدلال قد تَنَاوَلَ مسائل الكلام والأخلاق ، فَلَيْسَ ثَمَّ مرجع دلالي في الكلام ، وليس ثم مرجعٌ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ في الأخلاق ، فَصَارَ الناظر إلى فَوْضَى واضطرابٍ قَدْ تَكَلَّفَ له المسفسِط أَنْ يُنْكِرَ الْبَدَائِهَ ، وهي معيارٌ من جملة معايير موضوعية تجاوز من خارج ، فأنكرها المسفسِط الجاحد أو آخر هو المريض الذي اختل منه العقل فأنكر المقدمات الضرورية ، فلا فعل لعاقل إلا وله سَبَبٌ أَوَّلُ يَتَقَدَّمُ ، بل ذلك مما عَمَّ المحدَثات كافة ، ولو قام بَمَحَالٍّ لَا تَعْقِلُ ، فلا فعل بلا فاعل يَتَقَدَّمُ ، ولا مسبَّب إلا بِسَبَبٍ ، فذلك أول يثبت ضرورةً في باب السببية ، وهو ما أَقَرَّتْ به الحكمة الأولى ، حكمة اليونان ، مع ما كان من تَقْصِيرٍ في الجانب الْعَمَلِيِّ أَنْ صَيَّرَتِ العلمَ المجرَّدَ هو الغاية فكان من ذلك ما استغرقها من نَظَرٍ قد جَفَا التجريب والبحث الذي يَسْتَقْرِئُ الظواهرَ في الخارج ، فَأَقَرَّتْ بِالسَّبَبِيَّةِ ، أَنَّ صيرت الغاية من العلم ، كما يذكر بعض من حقق ، دَرَكَ الأجناس العامة التي يمكن إدخال الأنواع تحتها مع كشف العلائِقِ السَّبَبِيَّةِ ، فَأَقَرَّتْ أَنَّ ثَمَّ سَبَبِيَّةً ، ولو في الجملة ، خلاف من اقْتَصَرَ في البحث على منهج الوصف ، وصف الظاهرة ، وإن كان ذلك أَوَّلًا من البحث يَنْفَعُ ، ولكنه ليس غَايَةَ بَحْثٍ يكمل ، فَثَمَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الوصف دون بحثٍ تال يجاوز ، وثم من زاد فهو يَرُومُ اكْتِشَافَ القانونِ الحاكمِ للظاهرة دُونَ تَفْتِيشٍ فِي سَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، والقانون فِي نَفْسِهِ دليل على السبب ، إذ ثَمَّ مِنَ السَّنَنِ الجاري قَانُونًا ما يصدق فيه اسم الفعل ولا بد له ، كما تقدم مرارا ، مِنْ فَاعِلٍ يَتَقَدَّمُ ، فَلَهُ سَبَبٌ يَسْبِقُ وهو دليل على الخالق الأول ، على التفصيل آنف الذكر في بابِ التَّسَلْسُلِ الذي يمتنع في المؤثِّرِينَ أَزَلًا ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَ الكائناتِ كَافَّةً ، ومنها وقائع التاريخ وهو مدونة البشر بما رُكِزَ فيهم من سَنَنِ السببية والغائية ، فَبَاطِنُهُ ، عند التحقيق كما يقول ابن خلدون في المقدمة ، بَاطِنُهُ نَظَرٌ ، وتحقيقٌ ، وتعليلٌ للكائنات ، ومبادئها دقيقٌ ، فَثَمَّ مِنَ السببية ما اطَّرَدَ فِي أَفْعَالِ الإنسانِ من لدن خُلِقَ ، وله آخر من قَصْدٍ وغايةٍ ، وذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ما به يُسْتَدَلُّ على اليوم الآخر ، فتلك غاية قد ثَبَتَتْ فِي الوجدان ضرورةً فجاء الشرع لها يُبَيِّنُ ، فَلَا يكون هذا الخلق المحكَم بلا حكمة في الابتلاء ، وله تَالٍ من الجزاء ، فالغائية مِمَّا يمدح به المخلوق إذا شرع في فعل فهو يَعْقِلُ ما يَرُومُ مِنَ الفعلِ ، وللخالق ،
![]() ![]() فكل أولئك مما امتاز به الوحي الخاتم في نقل أخباره الآحادية ، وأما المتواتر من الآي أو الخبر ، فقد جاوز القنطرة ، بادي النظر ، فكان من الآحاد ما تَنَاوَلَهُ معيار النقد المتقدم ، إِنْ من خارجٍ إسنادًا أو من داخل مَتْنًا ، وفيه قد صَنَّفَ مَنْ صَنَّفَ في معايير قبول الأخبار أو رَدِّهَا ، وما يكون من احتراز يزيد في أخبار الشرع من إباحة أو حظر ..... إلخ ، وكذا أخبار تَتَنَاوَلُ الأصول العلمية ومسائل الاعتقاد ، وإن كان مِنْهَا ما يصدق فيه أنه من الفروع ، فلا يشترط فيها يقين جازم ، بل هي كفروع العمل مما يجزئ فيه الظن الراجح الذي يُسْتَصْحَبُ مَعَ احتمالِ ضدٍّ مرجوح ، حتى يكون من القرينة ما يرجح المرجوح ، فيقدح في الصحة الظاهرة بما دَقَّ من علة أو استبان من شذوذ أو خطإ ، فالثقة الحافظ مظنة القبول ، وهو ما يَتَبَادَرُ ظَاهِرًا يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يكون مِنْ قَرِينَةِ التأويلِ مَا يَصْرِفُ إلى ضِدٍّ مرجوحٍ ، فَيَثْبُتُ الخطأُ في رواية الثقة ، وإن لم يتبادر ، لا تحكما في الدعوى المجردة بلا دليل إلا التجويز العقلي المحض ، ولو لمرجوح ، فإنه مما يحتمل ، ولو لم يكن الراجح ، فكان من راجحٍ هو ظاهر الصحة ، كان منه ما اسْتُصْحِبَ وقد ثَبَتَ أولا بدليلٍ يَنْصَحُ ، فَثَبَتَ له من الحجة ما يُرَجِّحُ تَرْجِيحَ الظاهرِ مع احتمال ضدٍّ مرجوح وهو المؤوَّل ، فَثَبَتَ أصل الصحة بالبحث إذ استوفى معيار النقد في حَدِّ الصحيحِ أو الحسن المجزئ في الاحتجاج ، بادي الرأي ، بما أفاد من الظن الراجح ، وهو ، كما تقدم ، مما يجزئ في فروع العلم والعمل كافة ، فكان من ذلك ما اسْتُصْحِبَ رَاجِحًا بدليل أخص هو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فَلَا يَعْدِلُ عنه الناظر إلى دعوى مجردة ، ولو كانت من الجائز المحتمل ، فلا بد من دليل يرجح في محلِّ النِّزَاعِ ، فالأول قد اسْتُصْحِبَ دليلًا ظاهرا يرجح بما كان من استيفاء لحد الصحيح أو الحسن المجزئ ، فوجب على الخصم أن يقيم دليلا أخص يَنْقُضُ مَا قَرَّرَ الأول ، فلا يجزئ في نقضه دعوى مجردة لا تجاوز في النظر حد التجويز العقلي المحض ، فلا دليل أخص يشهد لها ، فَأَجْزَأَ فِي رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي وَتُضَادُّ ، فلا يتكلف الخصم دليلا أخص ، وصاحب الدعوى لم يتكلف ذلك مبدأ الرأي ، وإنما يَرُدُّ الدعوى المجردة بأخرى مثلها ويكون من التكافؤ والتساقط ما يَرُدُّ الأمرَ إلى أصل أول يُسْتَصْحَبُ ، وهو في الصحيح : ظن راجح يغلب ، وبه إجزاء في الاحتجاج قد عم فروع العلم والعمل كافة ، فكان من ذلك نقد محكم قد تناول الروايات المسموعة والوثائق المسطورة ، إن صحف رواية أخص ، كما المثل يضرب بصادقة عبد الله بن عمرو ، ![]() ![]() والشاهد أنه مع كل أولئك لم يثبت للكتاب الأول وثيقة واحدة ولو بإسناد آحاد تسلم إلى الكاتب أو الراوي ، ولم يكن ثم من راوية السماع ما نُقِلَ ، والفرض فيه ، أيضا ، التواتر ، فَتَحَكَّمَ بحث في التاريخ قد ظهر في هذا السياق ، أَنْ يَتَّخِذَ الوثيقة المكتوبة حَصْرًا : الأصلَ والمعيارَ ، ولو سُبِقَ بما هو أحكم في الضبط ، فَقَدْ تَنَاوَلَ المتواتر والآحاد في النقل ، مع آخر قد تناول أخبار التاريخ فَتَخَفَّفَ ما لم يَتَخَفَّفْ في أخبار الدين وأحكامه ، فكان من التَّخَفُّفِ في أخبار التاريخ والمناقب وفضائل الأعمال ، على تفصيل في ذلك يطلب من مظانه ، وإن قُيِّدَ ذلك ، أيضا ، بمعيار قبولٍ وَرَدٍّ في أخبارِ التاريخِ ، فلا يطلق القول بالتخفف فِيهَا حَتَّى يُقْبَلَ منها المحال الممتنع لذاته الذي يخالف المقدمات الضرورية في العقل الصريح ، ولا يقبل منه آخر قد عمت به البلوى أن صار ذريعة للقدح في الجيل الأول من نَقَلَةِ الوحي المحكم ، فقد تَوَسَّلَ مَنْ تَوَسَّلَ بما كان من شبهات افتراها محدِثَةٌ في المقالات والمذاهب قد زَادُوا في أخبار التاريخ ما يقدح ، وكان من ذلك ما يمكر في زيادات لها أصل صحيح ينصح ، فَزِيدَ فيها ما يَلْمِزُ ، مع تأويل آخر لِمَا صَحَّ في النَّقْلِ وَاشْتُهِرَ ، فَلَا مناص من التسليم به وإلا افْتُضِحَ القادح أنه ممن ينكر البدائه ! ، فكان من تَأْوِيلِ هذا الصحيح أن يحمل على أسوإ محمل ، إن الآي أو الخبر ، وهو ما بَلَغَ في مواضع حَدَّ التأويل الباطن الذي يجحد الضروري المستقر لدى كل ذي عقل بما تواتر من معجم النطق وقانون النظم ، مع غلو في الدين يجاوز الحد في باب التعديل فهو يطلب المحال بعد ارتفاع النبوة : عصمةً من الذنوب كافة ! ، وإلا رُدَّ الخبر ، فلم يكن من ذلك إلا ما ثبت للأئمة من آل البيت تحكما آخر بلا دليل إلا عين الدعوى التي خالف عنها النقل والعقل كَافَّةً ، فلم يدع أحد منهم عصمة ، بل قد أَقَرَّ كُلٌّ أنه يصيب ويخطئ ، واتخذ الخصم ، مع ذلك ، المتشابه من أقوال الجيل الأول وأفعاله ، واتخذ آخر من ذنوب لا يخلو منها أحد إلا مَنْ عُصِمَ ، ولم يزعم لهم أحد من ذلك ما يُلْزِمُ ، فيصير الذنب منهم قادحا في العدالة والدين بما يفتح ذرائع التشكيك ، فإن القدح في عدالة الناقل قدح في صحة المنقول بل ومطلق الثبوت ، وكلُّ أولئك ، كما تقدم ، مما لا يَلْزَمُ ، إذ العصمة باب والعدالة آخر ، ولا يشترط في عدالة الرواية السلامة من كل ذنبٍ عصمةً قد ارتفعت بقبض صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتلك عصمة النبوة التي سلمت مما لم يسلم منه المشرع الأرضي المحدث ، فلا يسلم من الأهواء والحظوظ إذ يسن الأحكام عامة ، والعقوبات خاصة ، فتلك حاله إذ يَطْغَى فِي سَنِّ الحكومات فَيُجَاوِزُ الحد وَيُنَازِعُ الإله الحاكم وصف الحكم ، وهو من أخص أوصافٍ بها المعبود يمتاز من العابد ، فالمعبود له من حكومة الخبر والإنشاء ما به يأطر العباد على جادة بها التسليم والانقياد المطلق ، سواء أَعَلِمَ العبدُ العلة الأخص أو الحكمة الأعم ، فَسَوَاءً أعلم من ذلك ما به الحكم يَتَعَدَّى إلى الفروع المحدَثة بَعْدًا أم لم يعلم فجرى الباب مجرى التعبد ، وهو مناط التوقيف ، فلا يثبت إلا بدليل إذ العقل لا يدرك وجه التعليل الأخص لَا نَصًّا ولا اجتهادا يُنَقِّحُ أو يُخَرِّجُ ليكون بعد من الفعل ما يُحَقِّقُ في الفرع المحدَث ، فَغَابَ السبب لحكمةِ الابتلاءِ أَنْ يُسَلِّمَ العابد فَإِذَا صَحَّ الدليل فهو الحاكم ، فكان من ذلك تأويل الأمر ، أمرِ التسليم لِإِلَهٍ واحد ، فهو المألوه الذي يَتَنَسَّكُ العباد له بما أَنْزَلَ من وَحْيٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ المحالَّ كَافَّةً ، ما بطن من الاعتقاد والتصور ، وهو في الدين أول ، وذلك أصل في الجنان يَثْبُتُ بما كان من تصديق أخص ، فكان من المعرفة أول في التَّلَقِّي ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُ المحل ، وذلك ما يجاوز الذات إذ تقصر عن دَرَكِ العلومِ المفصلة ، وإن كان ثم أول من فطرةٍ مُجْمَلَةٍ وهي ما عَمَّ الحس والمعنى ، فَثَمَّ فطرة الأبدان ، إِنْ فِي الأنواع التي بها سَنَنَ زَوْجِيَّةٍ قد اطرد في الأشياء كافة ، وَهُو مَا حُدَّ عَامًّا يستغرق ، فـ : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، وبه امْتِيَازُ الخالقِ الأول ، جل وعلا , إذ خَلْقُ الزَّوْجِيَّةِ دليل أعم عَلَى أول لا أول قَبْلَهُ حَسْمًا لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، وخلق الزوجية من آخر ، دَلِيلٌ أخص على وصف ذلك الأول الذي امتاز بوصف فَرْدَانِيَّةٍ وَصَمَدِيَّةٍ ، فالصمد لَا يَفْتَقِرُ إلى غَيْرِهِ ، فالصمدية مَئِنَّةُ الغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ومئنة الكمال المطلق أزلا وأبدا ، فلها من ذلك أولية وآخرية تطلق ، كَمَا فِي آيٍ من الذكر قد أُحْكِمَ ، فـ : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، وليس ثم بَيْنَهُمَا من عارض النقص ما يَطْرَأُ ، فوصف الكمال المطلق قد اتصل أولا وآخرا وما بينهما ، فلا يطلب الخالق الفرد الصمد ، جل وعلا ، لا يطلب من الزوج ما به يستكمل ما لم يكن في المبدإ ، بل المبدأ كمال أول قد أُطْلِقَ إن في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، فَعَنْ هذا الكمال المطلق تَصْدُرُ أَفْعَالُ التكوينِ وحكومات التشريع ، وذلك ، أَبَدًا ، مناط الخصومة المستحكمة بين النبوات وأعدائها في كل جيل ، مع تال قد عَمَّتْ بِهِ البلوى ، من جحد فطرة التكوين الأولى التي أنكرت المعلوم الضروري في الأبدان والهيئات ، فأنكرت فطرة أولى تَنْصَحُ ، وَجَرَّدَتِ الوجدانَ من العلمِ المسبَّق ، فَلَيْسَ ثَمَّ أول من التقدير المحكم ، وهو ما تَظْهَرُ آثاره في حركة الضرورة الوجدانية ، وَلَوِ الجبليَّةَ في طلب أسباب بها الأعيان والأنواع تحفظ ، وهو ما يجده كُلٌّ في نفسه من طَلَبِ السبب ، كما يطلب الجائع الطعام دون أن يطيق حكاية الدافع ، فَلَوْ قِيلَ له ما الجوع الذي يدفعك إلى طَلَبِ الطعامِ ، لَحَارَ وَمَا اسْتَطَاعَ جَوَابًا إلا أن يَتَكَلَّفَ مِنَ الحد الجامع المانع ما يَزِيدُ المعرَّف إجمالا ! ، وتلك ، والشيء بالشيء يذكر كما يقول بعض من حَقَّقَ ، تلك بلوى أخرى قد عمت مناهج العلوم كافة في باب الحد والتعريف ، فكان من معيار المنطق المحدث ما بالغ في تجريد الأجناس والحقائق في الذهن ، وهو ما يزيد في الإغماض ، بل الحد بالمثال في الخارج ، أو ما يُبِينُ عنه السياق أو بساط الحال ، كل أولئك مما يفيد الناظر دَرَكَ الحقيقة دون تكلف حد يجمع ويمنع ، فَثَمَّ من وجدان الفطرة ما تعسر حكايته لِبَيَانٍ ووضوح لا يفتقر إلى تَبْيِينٍ أو إِيضَاحٍ ، بل ذلك ، كما تقدم ، زيادة في الإجمال والإشكال ، فالفطر الأولى تنصح الأعيان والأنواع كافة ، فيطلب كلٌّ من السبب ما به يُحْفَظُ ، فالبدن يطلب سبب الطعام والشراب ، والزوج يطلب زوجه الذي له يكمل ، فلا يطلب بالفطرة الأولى ما يماثله في النوع ، فذلك انحراف آخر عن الجادة قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، وكان منه أول من قرية تعمل الخبائث وبها الاعتبار ينصح في كتاب الوحي المنزل فلم تمض الأيام حتى عظمت الْبَلْوَى ما لم تعظم في الجيل الأول ، فلم يكن منه ، كما يذكر بعض من حقق في القول ونصح في الوعظ ، لم يكن منه ما يَبُثُّ دعايته بل اقْتَصَرَ عَلَى قَرْيَتِهِ حَتَّى جاءها العذاب المهلِك ، لا كما الناظر يَرَى في الجيل المتأخر من دعاية تكتسي لحاء العلم والتجريب ، وقد بَتَّتْ صِلَتَهُ بأي مرجع من خارج يجاوز تَحَكُّمًا في حد العلم أنه ما يدرك بالحس ، ولو فسد وأفسد في الأرض ، وهو ما تروم بثه في الخلق ، طوعا أو كرها ، بِمَا تُلِحُّ بِهِ بَذَاءَةً في النطق وَفُحْشًا في الفعل ، فَقَالَ من قَالَ إن مَيْلَ الفرد إلى مثله يواطئ فطرة أولى في التكوين بل والتمس له من الوراثة شَفْرَةً تدق فهي من أصل الوجدان المركوز أولا ، وإن المزيفةَ المنتحلَةَ كما أبان بحث التجريب بَعْدًا ! ، مع رَدِّ الأمرِ أَبَدًا إِلَى مَادَّةٍ تُدْرَكُ بالبحثِ أَنِ اقْتَصَرَ الأمر على آثار الشفرة في الجسد ، فلم يجاوز إلى العقل والروح ، وتلك مصدر المشاعر والدوافع التي تمتاز بها الأنواع ، وقال آخر إن فطرة التكوين الأولى تحايد ، وهو ما يَرُدُّهُ سلوكُ كُلِّ نَوْعٍ ، وإن صغيرا لا يُمَيِّزُ ، فهو يقبل من آثار الزينة واللعب .... إلخ ما يواطئ نوعه وإن لم يعلم ذلك ، فتلك فطرة أولى يُعَزِّزُهَا العلم الناصح أَنْ يُعَلَّمَ من آدابِ نَوْعِهِ مَا يُوَاطِئُ مَاهِيَّتَهُ ، فَتَنْصَحُ الفطرةُ وتخرج من القوة إلى الفعل ، مع خروج أول بما ركز في الوجدان الباطن والظاهر فآثاره لا تنفك تظهر في الخارج ، فَلَو لم يُعَلَّمْ لكان منها في الخارج ما يَبْرُزُ ، فيحكي الماهية الأخص التي تمتاز مِنْ ضِدٍّ ، وبه تأويل الخلق المحكم ، زوجيةً بها امتياز الأول الواجب من غيره فهو الجائز الذي يفتقر إلى سبب من خارج يرجح ، ويفتقر إلى آخر به الأعيان والأنواع تُحْفَظُ ، فتلك السنة العامة التي استغرقت ، فـ : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، فَقُدِّمَ مَا حقه التأخير مئنة الحصر والتوكيد ، مع عموم قِيَاسِيٍّ يستغرق الأشياء كافة ، وهو آي معجِز في الخلق ، فحسن لأجله إسناد العامل إلى ضمير الفاعلين مَئِنَّةَ التَّعْظِيمِ ، مع إطلاق قد استغرق التقدير والإيجاد والتصوير والتدبير ، وَعِلَّتُهُ ما به الختام ، طلبا لذكرى تَنْفَعُ . فَالْعِلْمُ النافع يَنْصَحُ الفطرة الأولى ، والعلم الفاسد ، من وجه آخر ، يخدش صفاء الخلق الأول ، فَيُعَلَّمُ كُلٌّ من أخلاقِ الآخرِ ما به يُمْسَخُ إذ قد خَرَجَ عن جَادَّةٍ أولى من الخلق المحكم ، خلق الروح وخلق البدن ، ما رُكِزَ من بواعث ودوافع في الروح ، وما يَتَأَوَّلُهُ الْبَدَنُ فِي حَرَكَاتِهِ وسكناته ، ولا يكون ذلك إِلَّا أَنْ يُرَدَّ الخلق جميعا إلى أول له من كمال الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ما أُطْلِقَ ، فَثَمَّ أولية مطلقة قد استغرقت وجوه الكمال المطلق ، لا كما المخلوق المحدَث فلا ينفك يطلب أولا لا أول قبله من السبب ، وهو الواجب في وجودِه ، الْمُتَعَدِّي إلى الخلق بإيجادٍ تال فهو وصف الفعل الذي يُرَجِّحُ في الجائز بمشيئة تَنْفُذُ وكلمة تكوين تصدر ، فامتاز الواجب الأول وهو الفرد أَنْ كَانَ مِنْ كُلِّ الخلقِ المحدَث زوجان ، فذلك قانون عام يطرد إن في المحسوسات أو في المعقولات وبضدها تَتَمَايَزُ الأشياء بل منه ما قد عَمَّ الميت فلا حياة فيه كما قُطْبَا تَيَّارٍ يَتَّصِلُ ، فَلَا يكون ذلك إلا بإيجاب وسلب فكان من ذلك قانونُ زوجيةٍ تحكي افْتِقَارَ كلٍّ إلى آخر ، وهو ، بداهة ، ما سَلِمَ منه الخالق الأول ، جل وعلا ، فتلك ضرورةٌ في العلم إذ له من الغنى المطلق أول هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو كما الوجود الواجب الذي لا يُعَلَّلُ ، فَهُوَ يُرَجِّحُ فِي غَيْرٍ من جائز بما يكون من إيجاب من خارج ، فكذا الغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فَمِنْهُ ما يَتَعَدَّى إلى الأعيان والمحال بِإِغْنَاءٍ ، وبه المحل المحدَث يَسْتَغْنِي لا غِنَى الذاتِ فذلك ، لو تدبر الناظر ، من آفة الطغيان بما فَسَدَ من التصور كما الوحي قَدْ قَصَّ مِنْ حَالِ الإنسانِ إذا حصل له من السبب ما يَغُرُّ الجاهل الذي لا يَرُدُّ ذلك إلى نَقْلٍ يُصَدَّقُ وعقل يُحَقِّقُ ، فَلَوْ تَدَبَّرَ في الأمر لَعَلِمَ من استجماعِه السببَ حكايةَ ضدٍّ لِمَا ادعى من الغنى فهو دليل الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا غَنِيَّ غِنَى الذاتِ يَجْتَهِدُ فِي جَمْعِ الأسباب ، بل الغني الغنى المطلق لا يفتقر إلى سبب ، بل والسبب هو الذي إليه يَفْتَقِرُ في الإيجاد والتدبير ومنه الافتقار إلى زوج ، وبه امتاز الخالق الفرد من غَيْرٍ ، فَرُدَّتْ إليه الأزواج كَافَّةً ، خَلْقَ تَقْدِيرٍ يواطئه إيجادٌ تَالٍ في الشهادة يصدق مع حكمة في تَهْيِئَةِ المحالِّ أَنْ تَقْبَلَ الآثار ومنها آثار الاجتماع ، اجتماع الزوجين ذكرا وأنثى فَهُيِّئَ كُلٌّ لِمَا له قد خُلِقَ ، إن في الظاهرِ خِلْقَةً ، أو في الباطن فِكْرَةً ، فيكون من جبلَّةِ كُلٍّ في العقل والجسد ما يخالف عن آخر بما يواطئ قانون الحكمة في الاختلاف ، ويواطئه في آخر من الاجتماع ، فَكُلٌّ يَرْفِدُ الآخرَ وَيُكْمِلُ ، ولا ينفك يدل على نَقْصٍ هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وبه دليلٌ يَنْصَحُ في العقل ضرورةً عَلَى أول له من وصف الغنى : الذَّاتِيُّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فإليه تُرَدُّ الأعيان والأشياء كافة إذ خُلِقَا على حَدِّ الزوجية حكمةً في التقدير ، من وجه ، ودليلا على التوحيد من آخر ، تَوْحِيدِ الفرد الصمد ، جل وعلا ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى زوج ، وهو ، كما تقدم ، الأول الذي لا أول قبله ، وهو الغني فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، ولا يفتقر إلى آخر يكمل ، كما الزوج من المخلوق يَفْتَقِرُ إلى زوجه ، وذلك من خلق التقدير المحكم وما تَلَا من إيجادٍ تال يصدق ، وبه تأويل يخرج المعلوم من القوة إلى الفعل ، فالمشهود يُصَدِّقُ المغيَّب ، والموجود من هذا العالم يصدق المعدوم الأول ، وذلك عَدَمٌ يَتَوَجَّهُ إلى الماهية المصدِّقة في الخارج لا إلى العلم الأول فهو مما ثَبَتَ فِي الأزلِ وإن كان من تأويله ما لم يَأْتِ بَعْدُ ، فما كان من موجود في الخارج بَعْدًا ، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الوجودِ أول ، وجودُ التقدير العلمي المفصَّل فِي عِلْمٍ أول قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فذلك وجود قد ثبت في الأزل ، وجود القوة التي لَمَّا تُتَأَوَّلْ بَعْدُ بالفعلِ المصدِّق في الخارج ، فكان من الموجودِ بالفعل في الخارج بَعْدًا مَا يصدق الجائز من هذا الكون المحدَث قَبْلًا ، فَإِنَّ كُلَّ ما سوى الأول ، واجب الوجود الأول ، ما سِوَاهُ فهو جائز لا يَنْفَكُّ يطلب المرجِّح من خارج أن يكون من وجود الفعل ما يصدق أولا من وجود القوة ، فالمبدأ في النظر : الجواز فذلك حُكْمٌ يَسْتَغْرِقُ الموجودات كَافَّةً إلا واجب الوجود الأول ، فإليه الموجودات كافة تَأْرِزُ ، وهي عنه تصدر : صدورَ المخلوق عن الخالق ، أو الموجَد عن الموجِد ، فلا يَنْفَكُّ الأول يجب ضرورة في العقل والفطرة والحس ، وإن لم يكن ثم خبر من الوحي يُثْبِتُ ، فمادة التوحيد في الإيجاد والتدبير ، مادةٌ في الوجدان قد أُجْمِلَتْ ، فَلَهَا مقدماتُ ضرورةٍ في العقل أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، ولها فطرة تحكي الافتقار الضروري إِلَى الخالق المدبر ، جل وعلا ، ولها من الخلق ماهية تفتقر إلى الأسباب ، وذلك ما يدل ضرورة على الغني الأول ، وله من ذلك وصف ذَاتٍ لا يُعَلَّلُ ، فَكَمُلَ فِي نَفْسِهِ لدى المبدإ ، وأكمل غيره بما أَمَدَّهُ من سبب ، وَإِنِ الكمالَ المقيَّدَ فَلَيْسَ ثَمَّ كمال مطلق إلا لواحد هو الرب المهيمن الخالق ، جل وعلا ، فَلَهُ الغنى وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من الإغناءِ وَصْفُ فِعْلٍ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرٍ ، فكل ما سواه من المخلوقات الجائزات لدى المبدإ ، كل ما سواه فَهُوَ يَفْتَقِرُ إلى غَنِيٍّ يمده بالأسباب التي بها يَسْتَغْنِي ، كما أَنَّ كُلَّ ما سواه من الجائزات فهو يفتقر إلى موجِد وهو المرجح فيه من خارج ، وذلك ما استوجب تاليا في الاستدلال المحكم أن يكون الترجيح بداهة بمرجح ، فلا يكون بالذات التي اقترحها الفلاسفة والباطنية فلا وصف لها يميز من غَيْرٍ ، فَلَيْسَ إلا الوجود المطلق في الذهن بِشَرْطِ الإطلاق فلا قَيْدَ ، إذ القيد الذي يميز الواجب من الجائز ، المخلوق من الخالق ، جل وعلا ، ذلك ما يبطل دعوى الحلول والاتحاد ، إِنْ فِي نِطَاقِ الذوات كما المقال المتقدم الذي صَرَّحَ ولم يُكَنِّ ، أو في آخر أدق وهو نطاق المعاني وقد اسْتَعْمَلَتْهُ الحداثة في الجيل المتأخر أَنْ تُبْطِلَ المرجِعَ المجاوز من خارج هذا العالم ، فَلَيْسَ ثم ما يجاوزه إذ الوجود واحد ، فَحَلَّ المطلق الأول في المثال السياسي الحاكم أو في المثال الاجتماعي الحادث أو في المثال الإنساني ذي الطابع الفرداني الذي يُضَاهِي مثال الذَّرَّاتِ التي تتدافع إذ ثم يد خفية من الطبيعة تُحَفِّزُ هذا التصادم العشوائي الذي يُفْرِزُ بَعْدًا من المثال ما ينصح على قاعدة انتخاب ذي مرجع تطوري يجحد من الخلق قصة أولى قد جاءت بها النبوات ، فَلَزِمَهُ جحد المرجع المجاوز من خارج ، إن في الخلق أو في الشرع ، وهو ما الْتَزَمَهُ ، فجحد الوحي والنبوة ، وصدر عن مثال تطور يخبط عشواء ، فيكون من آثاره في الخارج حركة ذرات تَتَصَادَمُ ، فيكون البقاء للأقوى منها وإن لم يكن الأعدل ، فقد صارت القوة هي معيار الحق والعدل كافة ! ، وليس ثم حقيقة في الخارج تَثْبُتُ إلا الحقيقة المحدثة التي تدرك بحواس الجسد وقد صار هو الأصل في التصور والحكم ، فَعَنْهُ يصدر الناظر في حد المعيار الواصف وآخر هو الشارع الحاكم الذي يَسُنُّ من الأمر والنهي ما به منهاج في الحياة يثبت في مقابل آخر من منهاج الوحي الذي توسل الاتحاد والحلول الحداثي أَنْ يُصَيِّرَهُ الأرضي المحدث إذ ليس ثم إلا وجود واحد يَجْمَعُهُمَا فلا يمتاز فيه واجب أول من جائز محدَث ، وهو ما صدر عن قاعدة في التأويل قد بلغت الغاية في التَّعْطِيلِ ، فعطلت الذات الأولى العلية ، ذات الواجب في وجوده بما ثَبَتَ له أَزَلًا وَأَبَدًا من الكمال المطلق إن في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، فعطلت هذه الذات العليا التي نصحت لها النبوة بما صح من الخبر ، خَبَرِ الغيب المطلق فلا يُنَالُ إلا من مشكاة الوحي المنزل ، عطلت من وصف كمالها المطلق ، وكان التعطيل الذي غلا في التجريد تذرعا بالتنزيه ، فكيف يكون لها وجود في الخارج يثبت فهو يجاوز التقدير الذهني المجرد ، كيف يكون لها ذلك الوجود المجاوز وقد جُرِّدَتْ في الذهن مطلقا بشرط الإطلاق فذلك عدم في الخارج إذ لا يجاوز التقدير المجرد في الذهن فلا وجود تَالِيًا يُصَدِّقُ فِي الخارج فَلَيْسَ إلا العدم ، والعدم ليس بشيء ، فلا يُرَجِّحُ في غيره ، إذ لا وجود له أولا ليكون منه تاليا : فِعْلُ تَرْجِيحٍ في غيره ، فَالتَّرْجِيحُ به على مذهبِ الفلاسفة والباطنية تعطيلا في الإلهيات ، الترجيح على هذا الأصل والمرجِع : ترجيح بلا مرجح وذلك من التحكم إذ ليس من الذات التي اقترحوها شيء في الخارج فليس إلا العدم إذ جَرَّدُوا في الذهن ما لا يكون في الخارج ، فلا مطلق بشرط الإطلاق يثبت في الخارج ، وإنما افتقر المقدَّر في الذهن إلى قيد يميز من سائر الموجودات ، وإلا كان عدما لا يجاوز وجوده تقدير الذهن ، فَكَيْفَ يُرَجِّحُ فِي غَيْرٍ وهو في نفسه عدم يفتقر إلى مرجح يخرجه من العدم إلى الوجود ، فذلك ما يوجب أولا قبله وذلك مما يتسلسل حتى ينتهي إلى واجب وجود أول عنه هذا الوجود المحدَث كُلُّهُ قد صدر : صدور المحدَث عن المحدِث ، فكان من ذلك الواجب الأول ضرورةٌ في العقل والفطرة والحس ، فما يُشَاهَدُ من هذا الوجود المحدَث لا ينفك يدل ضرورة على محدِث يَتَقَدَّمُ في الوجود وهو ما يَتَسَلْسَلُ ، فَثَمَّ من المرجِّح من خارج ما يُرَجِّحُ في الجائز بما رُكِزَ في السبب المرجِّح من قوى تُؤَثِّرُ ، وما رُكِزَ في تقدير الخلق الأول من قوى في المحل تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك ترجيح من خارج ، وهو جَارٍ على قِيَاسِ العقلِ الناصح أن يكون المحدِث الذي يَتَقَدَّمُ الحادث ، ولا ينفك يطلب أولا قَبْلَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الجميع إلى أول لا أول قبله ، فلا بد له من وجود أول هو الواجب فلا يكون مِنْهُ العدم كَمَا تَقَدَّمَ من اقتراحِ الفلاسفة والباطنية تحكما يخالف عن صرائح المعقول والمشهود ، فأي ذات في الخارج توجد مطلقة بشرط الإطلاق ليصدق لهم دليل واحد على فرضهم الذي لا يجاوز حد التقدير الذهني المجرد ؟! ، فلا يسلم لهم دليل واحد في الخارج إذ لا بُدَّ لِكُلِّ ذاتٍ في الخارج قد حصل لها من الوجود تال يجاوز ما تقدم من التقدير الذهني ، لكلِّ ذاتٍ في الخارج وصف يميزها من غير فذلك القيد الذي يزيد ، فيكون من الوجود في الخارجِ : وجودٌ أَخَصُّ من مطلق الوجود المجرد في الذهن ، فذلك أصل يطرد في الموجودات في الخارج ، إن الجائزات أو ما تَنْتَهِي إليه ضرورة من الواجب الأول ، فإثباته حتم لازم في أي قياس ناصح ليسلم الناظر من التحكم أَنْ يُرَجِّحَ بِلَا مُرَجِّحٍ ، كما التنزيل المحكم قد ألزم المخالف المسفسط : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) ، فلا بد من أول له من الوجود في الخارج ما يجاوز التقدير المجرد في الذهن ، وله من ذلك وصف الواجب فلا يفتقر إلى موجِب يتقدم ، وإلا كان هذا المتقدم أولى بالوصف ، وصف الواجب الأول ، فإذا كان من ذلك المتقدم ما هو ، أيضا ، الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى موجِب من خارج ، فذلك الموجِب الثاني هو الأولى بوصف الواجب الأول ...... إلخ ، فذلك مما يَتَسَلْسَلُ فَوَجَبَ رَدُّهُ ضرورةً إلى أول واجب لا أول قبله ، ولا يكون ذلك إلا أن يكون له من وصف الكمال ما أُطْلِقَ ، فهو الغني الغنى المطلق فلا يفتقر إلى سبب من خارج يُغْنِي ، وهو المغنِي ، فإن له من وصف الفعل ما به يرجح في الموجودات المحدَثات إذ هي ، بادي أمرها ، من الجائزات المفتقرات إلى مرجح من خارج فيكون من ذلك تأويل لوصف الفعل ، وصف الإغناءِ الذي يَتَعَدَّى ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا أن يثبت من الوصف أول ، وهو وصف الغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَذَلِكَ مَا انْفَرَدَ به الخالق ، جل وعلا ، في الأزلِ ، فكان من ذلك أولية عامة قد استغرقت الذات والوصف كافة ، وأولية كاملة لها من وصف الكمالِ ما أُطْلِقَ ، فلا عدم ولا نقص قد تقدم ولا شيء من ذلك بَعْدًا يَعْرِضُ ، بل ثم من الكمال المطلق كمال الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، ثَمَّ من ذلك أولية وآخرية تُطْلَقُ ، فَكُلُّ ما سواه ، جل وعلا ، فهو المفتَقِر إليه أَنْ يُقَدِّرَهُ في الأزل تَقْدِيرَ إتقانٍ وحكمةٍ ، وأن يوجده بعدا في الخارج بقدرة ومشيئة تَنْفُذُ فهي لِتَقْدِيرِ الخلقِ الأول تُصَدِّقُ إذ في الجائز تُرَجِّحُ بما كان من كلماتِ تكوينٍ تَحْدُثُ فأصلها قديم في الأزل بما كان من كلمات أولى : كلمات العلم المحيط المستغرق ، فمنها تكوين به تأويل الربوبية تقديرا وإيجادا وتصويرا وتدبيرا ، ومنها تشريع به تأويل الألوهية خبرا يَنْصَحُ قُوَّةَ العلم الباطن وإنشاءً يَنْصَحُ قُوَّةَ العمل الظاهر ، فكان من تلك الكلمات المستغرقة : كلمات التكوين وكلمات التشريع ، فمن الأولى : الإيجاد والتصوير والتدبير ، ومن الثانية الخبرية التي بها التصديق ، والإنشائية التي بها الامتثال ، فيكون من كُلٍّ : التكوين والتشريع ، يكون من كل تأويل يَنْصَحُ توحيدا هو فحوى النبوات كافة ، توحيد الرب الخالق بكلمات التكوين ، وتوحيد الإله الحاكم بكلمات التشريع ، وتلك مادة إسلام أعم ، فـ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) ، وآخر أخص بما كان من رسالة الختم ، وهو ما أطلق فاستغرق إسلام الباطن تصديقا ، وإسلام الظاهر امتثالا ، كما في آي من الذكر المحكم قد صَدَّرَ المقال بإثبات خبري هو عِلَّةُ مَا تَلَا مِنْ أَمْرٍ إنشائِيٍّ ، فـ : (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ، فكان من ذلك توحيد أول في التصور ، وهو ما صَدَّقَ مَا كَانَ من فطرة أولى تَنْصَحُ ، فدليلها دليل الضرورة العلمية الملجئة بما تقدم من تَدَبُّرِ آيِ هذا الكون المحدث إن في الآفاق أو في الأنفس ، فهي دليل أول قد قُدِّرَ في الأزل فأتقن الخلقة وأحكم السنة ، فإتقان أول في المحال التي تقبل وحكمة في سَنَنٍ عليه الأسباب تجري إذ تُبَاشِرُ المحال بما رُكِزَ فيها من قوى تُؤَثِّرُ ، فكان من أولية العلم والحكمة ما قد عَمَّ فاستغرق : الإيجاد بكلمات تكوين بها الترجيح في الجائز المقدر ، وبها يخرج من القوة إلى الفعل المصدق ، واستغرق التدبير بكلمات بها تأويلٌ لحكمةٍ بالغة في إجراء السُّنَنِ النافذة فهي الفعل الذي به الأسباب تُؤَثِّرُ إذ رُكِزَ لَهَا في المحال ما يقبل ، وذلك فعل في التدبير لا ينفك يطلب فاعلا هو الأول ، فَالسُّنَنُ بداهة لا تجري بلا مُجْرٍ أول ، فهي فعل لا ينفك ضرورة يطلب الفاعل الأول ، فَثَمَّ من نظر أعم في مطلق الإيجاد لهذا الكون فلا يكون إلا بمرجح من خارج يُوجِدُ ، إذ هو في المبدإ عدم يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يَرِدَ دليلُ الإيجادِ المرجِّح ترجيحا أخص به الجائز يصير واجبا ، لا لذاته وإنما لغيره بما احتف به من قرينة الترجيح . وَثَمَّ من نَظَرٍ أخص في إحكام الخلقة وإتقان السنة ، وهو ما عم آي الآفاق والأنفس كافة ، ثَمَّ من ذلك نظر أخص في تَدْبِيرِ هَذَا الكون فلا يكون ، أيضا ، إلا بمرجِّح من خارج يدبر ، فيكون من أولئك : كلمات تكوين تنفذ وهي آثار ربوبية في الوجود تحدث ، ولها شطر آخر يقاسم ، فَثَمَّ من الكلمات : كلمات تشريع يَحْكُمُ بِمَا كَانَ من خبرٍ يُصَدَّقُ وإنشاء يُمْتَثَلُ ، فذلك مما استغرق قوى الباطن إثباتا ونفيا ، وقوى الظاهر فِعْلًا وَتَرْكًا ، وهو ما عم المكلَّف فَرْدًا وَجَمْعًا ، فكان من ذلك مرجع من خارج يجاوز عقل الفرد الأخص ، وَمَا اقْتَرَحَ بَعْضٌ من آخر أعم ، عقل الجمع الذي يجاوز ولا ينفك يطلب آخر من خارج يرجح ، فلا يجاوز في الباب حَدَّ الإجمالِ لكلياتٍ هي محل إجماع لا يُنْكَرُ ، ولكنها لا تنفك حال التفصيل تطلب مَرْجِعَ أدلَّةٍ يُشَرِّعُ ، فيكون من الجزئيات ما يُصَدِّقُ الكليات المجملة في النُّفُوسِ أَوَّلًا ، وَيُفَصِّلُهَا تَالِيًا ، ويقوم ما اعوج ثالثا ، فتلك ، كما تقدم في مواضع عدة ، وظائف الوحي والنبوة ، فلا يسلم محدَث في الأرض من النَّقْصِ ، تَحَرَّى العدل أو لم يَتَحَرَّ ، إذ الأصل فيه العدم لدى المبدإ فَلَمْ يكن ثَمَّ وجود في الخارج وإن كان ثَمَّ وجود أول في علم التقدير ، فلا يجاوز في الباب حَدَّ التجريد ، فالأصل فيه العدم مع الجهل والفقر ، وكل أولئك مما يَفْتَقِرُ إلى رَبٍّ يُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، وإله يُخْبِرُ وَيَحْكُمُ ، ولا يستقيم الأمر في كُلٍّ إلا أَنْ يُرَدَّ إلى واحد هو واجب الوجود الأول ، فيكون منه رب واحد في الأزل قد قَدَّرَ وخلق وَأَوْجَدَ وَصَوَّرَ وَدَبَّرَ ، وله من ذلك وصف عموم قد استغرق ، فـ : (هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، ويكون منه إله واحد في الأزل قد عَلِمَ الصدق والعدل ، فكان من الخبر صِدْقٌ ومن الحكم عَدْلٌ وَبِهِمَا تأويل الحق المطلق فلا كَذِبَ وَلَا خَطَأَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا خَطَلَ ، بل كمال مطلق إِنْ في الذَّاتِ أَوْ فِي الْوَصْفِ ، ومنه ما كان من الْكَلِمِ الشَّارِعِ ، فمنه ، كما تقدم ، الخبر الصادق ، وآخر هو الحكم العادل ، وذلك ما به تأويل الأمر بالإسلام ، الإسلام للإله الواحد إذ قد ثَبَتَ لدى الناظر ضرورةً أولى أنه الرب الواحد الذي خَلَقَ وَدَبَّرَ ، فَكَانَ مِنَ الربوبية أول هُوَ المراد لذاته من وجه ، فَهُوَ شطر أول من قسمة التوحيد المجزِئِ ، وهو المرادُ لِغَيْرٍ بما دل عليه بَعْدًا من شَطْرِ ألوهية تُصَدِّقُ ، وكان مِنْهَا دليلٌ بَيْنَ يَدَيِ التكليف يمهد ، فهي أول إذ : (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، وثم من التكليف إسلام تال قد أُطْلِقَ في قوله ![]() ![]() ![]() ومن ثم كان الأمر بِالتَّبْشِيرِ أَنْ : (بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ، وذلك ما توجه أولا إلى الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من الضمير ما استكن في عامل الأمر إيجابا على تقدير "أنت" ، ومرجعه أولا إلى الموَاجَهِ بالخطاب لدى المبدإ ، وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ خوطب أولا خطاب المواجهة ، وذلك أمر تكليف أَنْ يُصَدِّقَ وَيُؤْمِنَ بما نَزَلَ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ أول ، ثم يكون من تَالٍ أَنْ يُبَلِّغَ وَيُبَيِّنَ ، فَبَشِّرْ في هذا الموضع مَنْ أَخْبَتَ ، وليس الخطاب مع ذلك بمخصَّص بعين من نَزَلَ عليه أولا ، بل الخطاب قد عَمَّ كُلَّ من تَلَا لقرينة أبدا تستصحب ، وهي العموم في خطاب التكليف المنزل الذي استغرق المحال كافة ، فكان من ذلك أمر يستغرق كل أحد أن يكون بَشِيرًا لِمَنْ أَخْبَتَ ، فحصل من ذلك عموم يستغرق ، ودخول بقية الآحاد ، كما تقدم في مواضع ، مما اختلف في حَدِّهِ أيكون أولا إذ اللفظ يَتَنَاوَلُهُ ، وَإِنْ مُفْرَدًا ، إذ ثم من عموم التكليف ما زَادَ في الحد ، بادي الرأي ، أم يكون بالقياس فَيَخْتَصُّ الخطابُ لدى المبدإِ بالمخاطَب الأول ، ومن ثم يكون القياس عليه فلا يَتَنَاوَلُ اللفظُ الآحادَ جَمِيعًا ، بل يَتَنَاوَلُ واحدا ويدخل غيره بالقياس عليه ، فكان الأمر أن يُبَشِّرَ المخاطَبُ المخبِتَ بما يَسُرُّهُ من وعد الصدق ، وَهُوَ مِمَّا اشتقت مادته من البشر الذي يظهر ، ومنه قيل للجلد الظاهر بشرة ، إذ السرور مما تظهر آثاره في الوجه ، فَيَكُونُ الْبِشْرُ وَالنَّضْرَةُ ، فَثَمَّ وضع أول لِمَا يُدْرَكُ بالحسِّ من البشر ، وثم استعارة تالية ، فاستعير المحسوس للمعقول من الفرح والسرور الذي يظهر به البشر فَتَنْفَرِجُ أسارير الوجه والجبهة ، وهي الخطوط التي تشق الجلد بالنظر في أصل الخلق ، وهو مما به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، إِذِ اسْتُعِيرَ المحسوسُ من بِشْرِ الظاهر لمعقولٍ من فَرَحِ الباطنِ ، وبه تقريب المعنى إلى الذهن ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل أول يُسْتَصْحَبُ أَبَدًا ، وهو أن ذلك مما تَنَاوَلَتْهُ العرب في كلامها فكان من ذلك عرفُ لسانٍ أخص يجاوز حقائق اللغة المطلقة ، فَثَمَّ مِنْ قَيْدِ الاستعمالِ والتداولِ ما يجري مجرى الحقيقة ، وَإِنِ العرفيَّةَ الأخَصَّ ، فَلَيْسَ ثم مجاز إذ لا يُجَرَّدُ اللفظ من سِيَاقِهِ حَالَ التفسير ، وإن كان من ذلك ما يَنْفَعُ فِي دَرْسِ المعجم المفرد الذي يَتَنَاوَلُ مَوَادَّ اللِّسَانِ المطلقة ، فَلَا تُفِيدُ كلاما تاما يُفْهِمُ إلا أَنْ تَرِدَ فِي سِيَاقٍ مجموع فَهُوَ يُقَيِّدُ المادة ويأطرها على وجه مخصوص هو مراد المتكلم ، فهو الحقيقة ، بادي الرأي ، فَلَا مَجَازَ إذ تَنَاوَلَ كلامُه حقائقَ بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ في عرفِ الاستعمالِ الأخص ، فلم يكن ثم مجاز من هذا الوجه ، وَثَمَّ من مادة الإخبات آخر ، وهو مَئِنَّةُ التواضعِ والخشوعِ ، فأخبت إذ طلب الخبت ، وهو المطمئن من الأرض ، كما أشرق إذا طلب الشرق وأغرب إذا طلب المغرب ، وهو ، أيضا ، مما يجري مجرى الاستعارة إذ اسْتُعِيرَ المطمئن من الأرض ، وهو مما يدرك بالحس ، استعيرَ لآخر من النفس المطمئنة ، وذلك المعنى ، فاستعير المحسوس لِبَيَانِ المعقول وبه تقريب المعنى إلى الذهن على التفصيل آنف الذكر ، فيجري فيه ، أيضا ، الخلاف المشتهر بَيْنَ مُثْبِتِ المجاز ومنكِره ، وثم من دلالة "أل" في "المخبِتِينَ" ما يجري مجرى الوصل إذ دخل على الاسم المشتق ، اسم الفاعل "مخبِت" من الرباعي "أَخْبَتَ" ، فلا يخلو من دلالة التعليل إذ يناط التَّبْشِيرُ بالمعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو الإخبات ، فلا يخلو من إنشاء ، ولو لَازِمًا ، إذ يأمر بالإخبات الذي به البشرى تثبت وهي ، بداهة ، مما يحب كل أحد ويطلب . وثم من تقديم الظرف "لَهُ" في قوله ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#7
|
|||
|
|||
![]() وذلك ، لو تدبر الناظر في كلام بعض من حقق في باب المنطق إذ تَنَاوَلَ من ذلك مبحث الحدود والتعريف إذ بَالَغَ المناطقة في تجريد المعاني في الذهن أن يكون منها حدود يَتَكَلَّفُ الْحَادُّ فيها ما يجاوز المراد من الحد أن يمتاز المحدود من غير وذلك مما يكون بالفرق الذي يثبت بأدنى معنى يُفَرِّقُ أو يكون بالمثال في الخارج إذ يُبِينُ عن ماهية العام الذي يدخل في حده فكان من الحد ما اصطلح أنه التعريف بالمثال كما اللبن مثالا فَإِذَا طلب المخاطب له حدا يُبِينُ عن ماهيته ، فإما أن يكون ذلك بالحد الجامع المانع الذي يجتهد في اسْتِقْرَاءِ القيودِ التي تُخْرِجُ ما سوى حقيقة اللبن فلا يجمع الحد من الماهية والوصف إلا ما يصدق في ماهية اللبن حصرا فيقول القائل : هو السائل الأبيض ، فَخَرَجَ بِالسَّائِلِ مَا كَانَ جَمَادًا ، وخرج بالأبيض ما كان شفافا بلا لون أو آخر له لون غير الأبيض من الأسود والأحمر والأصفر ، وهو ، بداهة ، ما لا يسلم به حد اللبن ، إِذْ كَمْ من حقائق في الخارج يصدق فيها الحد آنف الذكر ، حَدُّ السيولةِ وَالْبَيَاضِ ، فالحد ، من هذا الوجه : غير جامع مانع ، فَيَجْتَهِدُ الْحَادُّ في تناول قيود أخرى تمتاز بها ماهية اللبن من غَيْرٍ ...... إلخ من بحث يشق فلا يخلو من تكلف في الحد مع ثمرة في العلم لا تعدل ما بَذَلَ الناظر من جهد ، فلو أحضر له مذقة لبن في إناء وأشار إليها وقال : هذا اللبن ، لَكُفِيَ مؤنة الحد والتعريف إذ عرفه بالمثال ، وبالمثال يتضح المقال كما يقول أهل الشأن ، وكذا بالمثال تَتَّضِحُ الحقيقة في الخارج وتحد من غير وتمتاز دون تكلف ما تقدم من تجريد ذهني لا يخلو من تَكَلُّفٍ وهو ، في مواضع إلى الترف العلمي أقرب .
فما تقدم من غلو في حَدِّ المثل والحقائق في الخارج وهو ما عمت به البلوى في مسائل العدالة ، عدالة الصدر الأول ، ![]() ![]() والشاهد من باب الرواية ما تَقَدَّمَ من حَدِّ الصحيح المجزئ ، فاستصحب الخطأُ ، ولو احتمالا ، وكان من ذلك الاحتياط في نَقْلِ الشريعة المحقق ، فالأصل في الخبر التوقف فَلَا يُقْبَلُ وَلَا يُرَدُّ ، حتى يكون ثم زيادة أخص من تَقْسِيمٍ وَسَبْرٍ يَتَنَاوَلُ الخبرَ إِسْنَادًا وَمَتْنًا ، فيكون من ذلك معيارُ نَقْدٍ محكَمٍ ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الرواية بالبحثِ والتفتيشِ المحقق ، وهو يشبه ، من وجه ، اختلاف النقاد في حَدِّ العدالة ، عدالةِ الرِّوَايَةِ خَاصَّةً ، فَثَمَّ من قصرها على المعنى الأعم الذي يُضَاهِي حَدَّ الإسلام ، فيكون كلُّ مسلمٍ عَدْلًا تُقْبَلُ روايته , ولو مجهولَ العين أو الحال ، وذلك اصطلاح ابن حبان ، ![]() فكان من حال الراوي الثقة ما استجمع العدالة والضبط ، وهو ، كما تقدم ، مما يعلم بِدَرْسٍ مقارن يَتَنَاوَلُ روايته ورواياتهم عن شيخ واحد هو المخرَج ، فلا يخالفهم لا بِزِيَادَةٍ ولا بِنَقْصٍ ، فتلك قرينة الضبط ، وإن خالفهم فَبِنَقْصٍ ، وذلك ، كما قال الشافعي ![]() وكذا يُقَالُ في الرواية صحة أو حسنا ، فيكون الأصل في الخبر : التوقف حتى يكون ثَمَّ قرينة ترجح الصحة أو الحسن وبه يقبل الخبر ويصير حجة تطلق إن في العلم أو في العمل على تَفَاوُتٍ في درجات الصحة أو الحسن وذلك مما ينفع به الناظر حال التَّرْجِيحِ إذا تَعَذَّرَ الجمعُ ولم يكن ثَمَّ أَمَارَةُ نَسْخٍ ، فإذا ثَبَتَتْ الصحة أو الحسن فَقَدْ صار من ذلك أصلٌ يُسْتَصْحَبُ فلا يعدل الناظر عنه إلا لقرينة صارفة تُرَجِّحُ الشذوذ أو ثُبُوتَ عِلَّةٍ تَقْدَحُ ، وهو ما يَرُدُّ عجزَ كلامٍ إلى صدر بما تقدم من تعديل الجيل الأول ، حملة الوحي وأولى حلقات الإسناد ، فإن النظر المجرد ، بادي الرأي ، يجعلهم وبقية البشر على حد واحد ، فلا تعديل ولا جرح ، بل حال قد سُتِرَتْ ، فَيَتَوَقَّفُ الناقد حتى يكون من القرينة ما يُظْهِرُ ، فَكَانَ من قَرِينَةِ التَّنْزِيلِ ، وهو الوحي المحكم ، كان منها دليل متواتر يفيد القطع الجازم أَنَّ لأولئك من العدالة وصف أخص ، وهو ما جاوز بهم قنطرة التعديل والجرح ، فَيَجْرِي ذلك في اصطلاح النظار مجرى الجائز ، فهو مِمَّا اسْتَوَى طَرَفَاهُ في الاحتمال ، فَيَتَوَقَّفُ الناظر فلا يُرَجِّحُ إِيجَابًا أو سَلْبًا ، وإنما يستصحب أولا من العدم الأصلي حتى يكون ثم مرجِّح من خارج يرجح الإيجاب الناقل عن العدم الأول ، أو يرجح ضدا من السلب فيواطئ ما استصحب أولا من العدم ، وإن كان ثم اختلاف في السبب ، فالعدم الأصلي يستصحب أولا ، والعدم بَعْدَ وُرُودِ الدليل السالب ذلك مما يحدث بَعْدًا في النظر . فيكون من الأصل الأول في الحكم على أَيِّ أحد أنه ممن استترت حاله فَيُتَوَقَّفُ فيه التَّوَقُّفَ في الجائز المحتمل حتى يكون ثم قرينة ترجح ، فكان من القرينة في الجيل الأول ما رجح العدالة فَنَصَّ عليها النص الجازم . وذلك ، بداهة ، إنما يَلْزَمُ في الجدال مَنْ يؤمن بالوحي الذي عَدَّلَ الصدر الأول ، فمن جحد الوحي وأنكر فلا بد ، كما تقدم في مواضع ، من جِدَالٍ أول في الأصل ، أصلِ النُّبُوَّاتِ بما يَتَنَاوَلُ الجنسَ والآحادَ ، جنس النبوات الأعم ، وما كان من نبوة الختم وهي الأخص ، فإذا ثبت الأصل كان البحث بعدا في مدلولات هذا الوحي ، ومنها ما تقدم من تعديل الوحي لِصَدْرِ الرِّسَالَةِ الأول ، فذلك دليل أَخَصُّ قَدْ نَقَلَ عن أصلٍ أول قد اسْتُصْحِبَ وهو التوقف حتى يكون ثم دليل يُرَجِّحُ ، فكان من التَّرْجِيحِ في حق آحاد من الرواة ما يكون من استقراء وسبر لعامة أحوالهم ومروياتهم ، وكان من الترجيح في حق الجيل الأول خاصة ما تقدم من تعديل الوحي المحكم ، فذلك أصل عام يُسْتَصْحَبُ فلا يعدل عنه الناظر إلا لقرينة تخصيص هي في الباب نَصٌّ ناقل عن الأصل الأول ، وهو ، من وجه آخر ، ما لا يثبت إلا بدليل أخص ، فلا يكون الانتقال عن أصل ثابت بدعوى مجردة من الدليل ، فتلك ، لو تدبر الناظر ، مادة رئيسة في شبهات الطاعن في الجيل الأول ، فلا تَخْرُجُ في أحيانٍ تَكْثُرُ أن تكون احتمالا مجردا في الذهن وهو ما يفتقر إلى دليل أخص فلا تكون الدعوى هي عين الدليل فذلك ، كما تقدم في مواضع ، دور باطل ، أَنْ يَتَوَقَّفَ ثبوتُ الشيءِ على نَفْسِهِ ، وهو ابتداء الجائز الذي يَفْتَقِرُ إِلَى دليلٍ مُثْبِتٍ ، فكيف يصح في الأذهان دليلا وهو يفتقر إلى دليل ، فليس إلا المصادرة على المطلوب أن يكون الدليل دعوى لا دليل عليها ، بل قد تكون ، عند التدبر والنظر ، محالةً تَمْتَنِعُ الامتناعَ الذاتي أو الامتناع لِغَيْرٍ ، فَلَا تُتَصَوَّرُ ، بادي الرأي ، فالأصل الذي ثبت في وصف الجيل الأول هو عمومُ عدالةٍ يَسْتَغْرِقُ ، فلا يعدل عنه الناظر إلا لقرينة تخصيص معتبرة تجاوز حد الدعوى المجردة ، فإذا كان ثم دليل أخص يُخْرِجُ فَرْدًا كما عبيد الله بن جحش مِثَالًا تَقَدَّمَ ، فإذا كان هذا الدليل فَهُوَ نَاقِلٌ عن الأصل في هذا المحل خاصة فلا يجاوزه إلى آخر بدعوى مجردة لا دليل عليها يشهد ، بل تلك الضرورة التي تقدر بقدرها ، فلا يقدح التخصيص في دلالة العموم المخصوص على بقية آحاده ، فخرج واحد ، ولا يكون خروجه إلا بِنَصٍّ ، إذ التوقيف في هذا الباب أصل ، فلا يكون التخصيص بالعقل أو الاحتمال المجرد فليس إلا هوى الناظر وميله ! . والشاهد أَنَّ من حَالِ الجيل الأول : ذنوبٌ لا يخلو منها أحد ، فَلَيْسُوا معصومين في القول والعمل ، بل يُصِيبُونَ من الذنب ما لا يقدح في العدالة فَلَيْسَ من شرطها العصمة ، وإلا ما صَحَّ نَقْلٌ لشريعة بعد قَبْضِ صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهم ، مع ذلك ، أسرع الناس في تَوْبَةٍ وَأَوْبَةٍ ، فَيَكُونُ من حالهم بَعْدًا ما يَفْضُلُ ، فكانوا كما داود ، عليه السلام ، إذ خَرَّ رَاكِعًا وأناب فكانت حاله بَعْدًا خَيْرًا من حاله قَبْلًا ، كما في الْأَثَرِ فكذا طباق أول من الأمة الخاتمة وهو ما يواطئ قانون الحكمة في الاصطفاء أَنِ اختار الله ، جل وعلا ، لوحيه خَيْرَ من يحمل ، وإلا تَطَرَّقَ الشك والشبهة في نقل الدين والشرعة ، وهو ما رَامَ القادح في الجيل الأول ، فَالْتَزَمَ من ذلك ما تَقَدَّمَ ، أَنْ أَظْهَرَ النُّصْحَ لِلدِّينِ فَلَا يكون نَقَلَتُهُ إلا العدول ، وهو ما زَادَ المحدِث في حده أن بَلَغَ حَدَّ العصمة ، فلم يكن من أولئك ما يعدل العصمة ، بل قد أذنبوا وَقَارَفُوا الكبائر ، بل وقارفوا الرِّدَّةَ العامة ، كما يزعم أولئك ! ، إِذْ خَالَفُوا عَنِ الوصية الجامعة ، فَكَتَمُوا نُصُوصَ الإمامةِ طَمَعًا في نوالها وحجبا لمن استحقها ، وهي ركن من الدين يعدل النبوة ، كما قال بَعْضُ محققِّي المذهب ، فكان منهم جحد لِرُكْنٍ من الدين قد استوجبوا لأجله الردة العامة ، فلم يكن ، ولو واحدا ، لم يكن مَنْ يُظْهِرُ الحق ، فأجمع أهل التواتر على الكتمان ! ، وهو ما لا يُتَصَوَّرُ ، ولو في آحاد من الأخبار في فروع من الخبر أو الحكم ، فَضْلًا عن أصلٍ من أصولِ الدين ، فلم يفصح عنه أحد ، ولو صاحبَ الحق في الإمامة ! ، وهو ما يَتَنَاوَلُ الجيلَ كله بالقدح ، فكيف يكون من أولئك نقلة لدين ووحي ؟! ، فلا يكون ما نقلوا إلا الكذب والظلم ، فلم يسلم الدين لدى المبدإ ، لم يسلم من التبديل والتحريف والكتمان ..... إلخ إذ تناول القدح أصل الإسناد ومخرجه الرَّئِيسَ فما تلا فالقدح فيه أهون ، بل لا يُجْهِدُ العاقل نفسه في ذلك فلا يقدح في فرع وقد نال ابتداء من أصله فَكُفِيَ مُؤْنَةَ مَا تَلَا ! . وذلك من التحكم الذي يزيد في الحد فَيُفْضِي إلى إبطال الشرع أَنْ صَارَ الذنب مطلقا قادحا في العدالة ! ، فصارت تضاهي العصمة في الحد ، وليست إلا للأئمة من آل البيت ، كما قَرَّرَ أولئك ، وذلك ، كما يذكر من تَنَاوَلَ المقالَ الباطني ، ذلك أول به يَسْتَدْرِجُ الباطنية أولئك ، فالمبدأ غلو في آل البيت وقدح قد تَنَاوَلَ عامة الصحب بما كان من ذنوب وهنات لا يسلم منها أحد إلا من عُصِمَ لِمَقَامِ النبوة ، بل إِنَّ من صغائر الذنب ما جَوَّزَهُ بَعْضٌ في حقهم ، على تفصيل فيما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء ، عليهم السلام ، وما حُدَّ من مناط العصمة ، عصمة البلاغ والبيان وما يستوجبانه ، بداهة ، من كمال الأقوال والأفعال والأخلاق وعامة الأحوال ، فكان من أولئك الباطنية : غلو في آل البيت ، من وجه ، وجفاء في حق عامة الصحب ، فإذا التزم المخاطَب ذلك عَادَ أولئك بالقدح في آل البيت إذ ألزموهم بما التزموا ، بادي الرأي ، في حق الصحب ، فقد وقع مثله من آل البيت ، فَعَادُوا على الدين كُلِّهِ بالإبطال ، إذ قَدَحُوا في عدالة الصحب أولا ثم انْتَقَلُوا من ذلك إلى آخر يقدح فيما زعم أولئك من عصمة الأئمة ، مع تحكم في حد العدالة أنها تضاهي العصمة ، فنقلوا الغلاة من الغلو إلى الجحود المطلق ، وألزموهم لوازم مذهبهم فهو مذهب الأحمق الذي لا يصاحبه عاقل إذ يضره وهو يريد نفعه ، فغلوهم في آل البيت قد أضر بهم إذ كان من التزام النقائض ما يَفْحُشُ ، فهم أشجع الناس وهم ، مع ذلك ، أعجزهم أن يقيموا الحق في خلافِ سياسةٍ وحكم ، بل الدين كله قَدْ بَطَلَ وَفَسَدَ ، فالإمانة في المذهب قد جاوزت حد الفقه السياسي إلى آخر هُوَ الاعتقاد الديني أصلا من الأصول لا يكون إيمان يصح ، ولو أدنى ما يجزئ ، إلا أن يثبت من أصل الإمامة أول ، فكان من التزام ذلك ما لا يُعْقَلُ ، فهو من المحال الذي لا يتصور إلا أن يكون الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فَهُمْ ، بِلَازِمِ مذهبِه ، شهود العجز أو الجهل أو الخيانة ، كما ألزمهم بذلك بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فإما أن يكونوا العجزة إِذْ شَهِدُوا تَبْدِيلَ الدين وتضييع الأمانة وإبطال الولاية وهي ، كما تقدم ، على وزان النبوة فذهب ركن من الحقيقة الدينية ، وذهابُ الرُّكْنِ ، كما يقول النظار ، ذهاب للماهية كلها ، وإما أن يكونوا جهلة بالوصية أو جهلة بما لها من قدر يعظم أنها أصل من أصول الدين ، فهي وَارِثَةُ النبوة بِرَسْمِ العصمة الخاصة لأفراد في الخارج عم أعيان الأئمة ، لا العصمة العامة ، عصمة الأمة أن تجمع على باطل ولو في فرع فكيف بأصل أول ، كما الإمامة ، فالإجماع على باطل فيه يَنْتَفِي من باب أولى ، وإما أن يكون خونة قد تَوَاطَئُوا نَظِيرَ ما بُذِلَ لهم من دنيا أن يقبلوا خطة الخسف بسلب حقهم بل وخطة أفدح أن يَبْطُلَ الدين كله ! ، فذلك ما ألزمهم به الباطنية ، وهو ما يوجب في الخارج أمرا من اثنين : فإما أن يقروا ببطلان مذهبهم وَيُرَاجِعُوا مذهب الحق الأول ، وإما أن يَلْتَزِمُوا ما ألزمهم به الباطنية أن الدين كله باطل ، إن مذهبَهم أو مذهبَ الحق الأول فيخرجوا منه الخروج التام ، فمن الغلو إلى الجحود والإلحاد ! . وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما تَلَقَّفَهُ بَعْضُ من تأخر أن بعث من الشبهات ما يقدح تاليا ، وقد وجد له أصولا في كتب الفرق المحدثة ! . والشاهد أن البلوى قد عمت في جيل قد تأخر إِذِ الْتَزَمَ من إنكار المرجع الرسالي المجاوز للعقول كافة ، الجمعي والفردي ، الْتَزَمَ من ذلك ما به قد خَالَفَ عَنْ حكمةِ التشريع وفطرة التكوين ، فلم يكن إلا نِسْبِيَّةٌ تَضطَّرِبُ إذ صَارَ المعيار هو العقل ، إِنِ الفرديَّ أو آخر هو الجمعيَّ ، كما تقدم من المذهب الوضعي الذي لا يسلم فيه العقل ، وإن الجمعي المجاوز للفرد ، أن يستجيب لِمُؤَثِّرٍ من خارج يَأْطِرُهُ عَلَى قولٍ وَيَسْلُكُ بِهِ جادَّةَ فِعْلٍ ، وإن قَبُحَ ضرورةً ، فقد نُسِخَ معيارُ القيم والمبادئ المطلقة بما يحدث من سلوكِ الخلق وأعرافِ الجمعِ ، فَصَارَتْ هِيَ المرجِعَ في التصور والحكم ، وَإِنْ لَمْ تَسْلَمْ من الهوى والحظ ، فَلَيْسَ يسلم إلا أن يُرَدَّ إلى مرجع يجاوز مطلقا ، فَلَا يَسْلَمُ فِي الباب سوى الوحي فقد بَرِئَ مما لم تَبْرَأْ منه العقول كافة ، إِنِ العقلِ الجمعي الجبري المجاوز لعقول الأفراد فهو الموضوعي من هذا الوجه ، ولكنه لا يسلم ، من آخر ، كما عقل الفرد ، لا يسلم من وصف الحدوث والافتقار إلى السبب ، فكان من مذهب في علم الاجتماع قد سلك جادة الوضع الذي اقتصر في البحث على ما يدرك بالحس ، وهو ما تُسْتَقْرَأُ آحاده في الخارج كما ظواهر الكون وذلك درس قد تَنَاوَلَ فروع المعرفة كافة بعد حقبتي نهضةٍ وَأَنْوَارٍ قد خالفت عن المبدل المحرف من دين الكهنة ولم يكن ثَمَّ رجوع إلى أول من الوحي والنبوة ، بل قد صار الوضع المحدث بمعيار بحث وتجريب ، صار هو المرجع في الإدراك ، إدراك العلوم كافة ، ولو الأخلاق وقواعد الاجتماع دون نظر أخص يجاوز في تَفْسِيرٍ وسببية وغائية ، فليس إلا الوصف دون معيار حاكم يأطر الظواهر على جادة من الأخلاق والأحكام تَنْصَحُ . فالمذهب الوضعي الذي تَنَاوَلَ الأخلاق والاجتماع بمعزل عن الدين ، فَصَيَّرَ ذلك محل بحث وتجريب محدَث فَهُوَ يُسْتَقْرَأُ من خارج كما التجارب في الطبيعيات ، فلا مرجع من وجدان باطن هو الفطرة مع آخر من الشرعة فهو يُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ ، فذلك المذهب إذ أنكر المرجع المجاوز من خارج والذي يواطئ فطرة التكوين الأولى ، فَمَنْ خلق هو من شرع فَأَنْزَلَ الحكم والخبر ، ذلك المذهب الوضعي قد صَيَّرَ الجمع المحدَث في الخارج هو صانع الدين المواطئ لما يَرُومُ من المصالح والمنافع ! ، وهو ما يختلف باختلاف الأحوال والأجيال فيضطرب معيار الأخلاق إذ لِمَّا يَزَلْ يُنْسَخُ فِي كُلِّ جِيلٍ ، وَإِنِ المطلقاتِ الأولى الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الوجدانُ ضرورةً ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، دَرْسُ الْبُنْيَوِيَّةِ الذي يَتَنَاوَلُ الحادث دون أَنْ يَرُدَّهُ إلى معيارٍ ناصح بل لا ينفك يستنبط من هذا الحادث قانونا يصيره الحاكم المطلق مع ما يَعْتَرِيهِ من اضطرابٍ وَتَغَيُّرٍ إذ يَأْرِزُ إِلَى عَقْلٍ مُحْدَثٍ ، فَرْدِيٍّ أو جَمْعِيٍّ ، مع ما يَتَنَاوَلُهُ من الأهواء والحظوظ وتلك آيةُ افْتِقَارِهِ الضروريِّ فلا تُؤْمَنُ حكومته لا في خبري ولا في إنشائي ، فَبَرِئَ الوحي مما لم تَبْرَأْ منه العقول كَافَّةً ، إِنِ الجمعيَّ ، أو آخر هو الفردي الذي سلك أخرى من وجودية أَبَتْ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أن تخضع لمعيار العقل الجمعي الوضعي ، وذلك حق ، ولكنها لم تخرج من قيد الطاغوت الأرضي المحدَث ، وهو ما تَنَاوَلَ العقل الجمعي الذي قَهَرَ الفردَ وَأَهْدَرَ خَاصَّتَهُ الذاتية أن ينظر ويتدبر فلا يكون فردا من قطيع يخضع ، فخرج المذهب الوجودي خروج الثائر على هذا القيد من حتمية الجمع ووضعية العلم ، حتمية العقل الجمعي الذي يقهر ، والمرجع الوضعي الذي لا يجاوز الحس المحدث بما كان من صورة اجتماع يقهر ، وهو ما يصير السلوك الذي تواطأ عليه الجمع ، وإن خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس كَافَّةً ! ، فَتَوَاطَأَ الجمعُ عَلَى سُلُوكٍ يَقْتَصِرُ عَلَى جِيلٍ أو حقبة فَتَنَاوَلَ من العادة والعرف ما صَيَّرَهُ الشرعة ، فالدين الحاكم يستجيب لأهواء الجمع وحظوظه أن يباشر من لَذَّاتِ الحسِّ ما صار مُنْتَهَى السؤلِ إذ لم يكن ثم مرجعٌ يجاوز مدركات الحس في مذهبِ وَضْعٍ قَدْ صَيَّرَ الإنسان حَيَوَانَ تَجَارِبٍ يَخْضَعُ جَبْرًا لسبب من خارج يقهر ، وهو صورة الجمع المحدث ، فصار الدين المحدَث المصنوع على عينِ جمعٍ قد خالف عن المنقول والمعقول والمفطور والمحسوس ، وكان من ذلك درس بُنْيَوِيَّةٍ ما يُسَوِّغُ إِذْ يَسْتَنْبِطُ من الصورة المحدَثة شرعة يصيرها الحاكمة ، فلا تخضع لمعيار قد استقر من القيم والمبادئ ، وهو ما يجاوزها من خارج ، ولو المطلقاتِ المجرَّدَةَ في الذهن ، فالمصالح والمنافع ، إن الخاصة أو العامة ، وهي ما اعْتُبِرَ بمدارك الحس لذةً أو أَلَمًا ، هي ، كما تقدم ، معيار في التحسين والتقبيح تَصَوُّرًا هو الأول ، وما يكون من تال في التشريع حَكَمًا هو المصدِّق ، فكان من ذلك معيار قد اضطرب إذ لكلِّ جيلٍ وحقبةٍ من المصالح والمنافع ما يُوَاطِئُ تَصَوُّرَهَا لمعنى الحسن والقبح ، والمصلحة والمنفعة ، والعادة والعرف ...... إلخ من مَعَانٍ لَا تَنْضَبِطُ إلا أَنْ تُرَدَّ إلى مرجع من خارج يَأْطِرُهَا على جَادَّةٍ محكَمَةٍ قد سلمت من العوارض والأغيار ، والحظوظ والأهواء ، فيكون من ذلك كفرانٌ بطاغوتٍ من الأرض هو المحدَث ، وذلك شطر من التوحيد أول ، ولا يكمل منه معنًى يُجْزِئُ إلا أن يكون تَالٍ من عبوديَّةِ العابدِ الذي يَنْقَادُ طَوْعًا ، فيحصل له مِنْ حُرِّيَّةٍ وَانْعِتَاقٍ مِنْ قَيْدِ العقلِ الجمعيِّ القاهر ، فلا يكون ذلك إلا أن يخرج عنه فيدخل في آخر من قَيْدِ التوحيد الذي يُعْتِقُهُ من كلِّ طغيان محدَث ، فلا يخرج من طغيانِ العقل الجمعي القاهر ليدخل في آخر من عقل الفرد إذ أبى ، كما يقول بعض من حقق ، الخضوعَ لحتمية الجمع وموضوعية العلم التي صيرته حيوان تجارب لا اعتبار في درسه يجاوز ردود الفعل الظاهرة دون آخر يجاوز إلى مشاعر وإرادات باطنة بها اكتمال الخاصة الإنسانية المكرَّمة ، وقوى العلم والعمل ، وهي معادن التكليف والاختيار ، فَأَبَى العقل الفردي هذا الخضوع ، فَخَرَجَ عَنْ طاغوتِ الجمعِ ، وذلك حق ، ولكنه لم يدخل في دين الحق الذي يُحَرِّرُهُ مِنْ آخَرَ هو الفرد الذي قَدَّسَهُ المذهب الوجودي إذ غلا في الحرية وصيرها ذريعة الانفلات من كل قيد حاكم ، ولو القيم والمبادئ الأخلاقية المجردة ، فالإنسان هو سيد الكون ومرجع الشرع بما يحسن ويقبح ، فذلك أول من ذاته لا يجاوز وبه يبيح ويحظر ، ولو خالف عن كل قيمة ومبدإٍ ، فذلك طاغوت آخر قد أَفْضَى به إلى ضنك من العيش إذ أعرض عن الذكر ، فلم يدخل في دين الحق ، ولم يكن إلا عبث وفوضى وضياع ويأس ، وهو ، كما تقدم في موضع ، ما يفتح ذرائع الاضطراب والتدافع إذ لكلِّ أمَّةٍ من الاحتياجات والمصالح ما لا ينكر ، فإن كان التعارض بينها ، ولم يكن ثم معيار حاكم من خارجها ، فلكِلٍّ من العقل الذاتي غير المجاوز كما المذهب الوجودي الذي يغلو في تقرير الحرية الفردية ويجعل الإنسان هو سلطة الحكم العليا فلا يخضع لسلطان الوحي ، ولا يخضع ، من باب أولى ، لما هو دونه من عقل الجمع الذي يحكم حكم القهر والجبر مع ما تقدم من وصفه الوضعي المحدَث فلا يسلم هو ، أيضا ، من مُؤَثِّرَاتِ الخارج الَّتِي تَتَذَرَّعُ بالمصلحة والعرف ، فيكون من ذلك دين وضعي يضاهي السلوك الاجتماعي الذي تَتَوَاطَأُ عليه جماعة من البشر في حقبة من الزمن ، فهي المرجع في صناعته ، فإذا تغير السلوك والعرف نُسِخَ الدين الذي صدر عنهما واستبدل به آخر يصدر عن سلوك وعرف حادث ، ثم كان النسخ بثالث من السلوك والعرف فَرَابِعٍ ، وهو مما يتسلسل فلا يَنْتَهِي إلى حَدٍّ محكم ، إذ لكلِّ فردٍ عقلٌ ، ولكلِّ أُمَّةٍ عَقْلٌ ، فيكون من ذلك شرائع تَتَعَدَّدُ إذ قد صار السلوك والعرف هو المرجع المطلق ، فلا يكون ثم شريعة واحدة تعم الأمم والشعوب كافة ، كما التزم بعض نظار التاريخ والاجتماع المحدَثين ، بل لكلِّ شَعْبٍ من ذلك ما يواطئ احتياجاته ومصالحه ، فلكلٍّ عقلٌ ، وهو ما به دائرة الخلاف تَتَّسِعُ بما جبلت عليه النفوس من التدافع ، فلا يستقيم لها حكم ، وَثَمَّ لكلٍّ من العقل ذاتي لا يجاوز ، فهو يقضي بما اعْتَبَرَ من الاحتياجات والمصالح ، وغيره لا يَعْتَبِرُ ، فيكون من الخلاف ما يَتَّسِعُ فلا يحسم مادته إلا حكمٌ من خارج يجاوز الجميع ، ويسلم من التأثير ، فهو الحاكم في الاحتياجات والمصالح ، لا ضِدٌّ كما المذاهب الوضعية والوجودية التي تأبى الانقياد لحكومة الوحي المجاوزة ، وتقترح من الدين ما يَنْسَخُ حكمَها ، فهي تصنع الدين صناعة أرضية كما صنع اليونان آلهتهم قَبْلًا ، فالدين يخرج من الأرض حكايةَ الحاجةِ والمصلحة فلا ينزل من السماء بحكومة مطلقة تَقْضِي في العقول كافة قضاء السالم من النقص الذاتي والعارض الطارئ . وهو ما يمنح الناظر إجابة عن سؤالات الضرورة من الغاية التي لأجلها كان هذا الكون ، وهو ما رُكِزَ فِي العقلِ ضرورةً إذ يَنْظُرُ فِي هذا الكون ، فَيَسْتَدِلُّ به وهو المخلوق المحدَث وهو المبدَع في تَكْوِينِهِ فلا مثال يسبق وهو المدبَّر على سنن محكم بما ركز في المحال من قوى تقبل وفي الأسباب من أخرى تؤثر ، فيستدل بهذا الكون المخلوق على الخالق الأول ، جل وعلا ، وهو غاية في الفعل عُلْيَا ، غَايَةُ السَّبَبِيَّةِ التي إليها تَنْتَهِي الأسباب كافة ، فَتِلْكَ الأولية المطلقة التي لا أَوَّلِيَّةَ قَبْلَهَا ، فالعقل إذ يَمْنَعُ التَّسَلْسُلَ فِي السَّبَبِيَّةِ أزلا ، فهو يَنْتَهِي إلى غاية في الفعل ، وهي الأول الذي لا أول قبله ، فذلك شرط ضروري في العقل ، وإن لم يكن ثم نبوة ولا وحي ، فلا بد من أول مطلق لا أول قبله ، فالعقل لا يجاوز في ذلك حَدَّ الإثبات لمطلق أول عنه الكون يَصْدُرُ ، صدورَ المخلوقِ عن الخالق ، أو المسبَّب عن السبب ، فتلك الغاية الضرورية في العقل ، الغايةُ التي ابْتُدِئَ منها هذا الكون المخلوق ، فَثَمَّ أول له من وصف الأولية ما أُطْلِقَ ، وابتداء الغاية في الخلق منه ، كما في قوله ![]() فحصل من التكوين والتشريع ، حصل من ذلك تال في الخارج يَتَأَوَّلُ ، فلا لا يكون كُلٌّ إلا بكلمات من العلم تَنْزِلُ ، ولها الْمَلَكُ يَتَحَمَّلُ ، فمنه مَلَكٌ يُدَبِّرُ الأديان بكلمات الخبر والإنشاء ، ومنه مَلَكٌ يُدَبِّرُ الأبدان والأحوال بكلمات الخلق والرزق والتدبير ..... إلخ ، ومنه ما به التسخير آنف الذكر ، إذ تَنَاَول الكون كله تَنَاوُلَ إتقانٍ وحكمةٍ ، وذلك مما حُدَّ حَدَّ القصر بتعريف الجزأين : "اللَّهُ" ، و "الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ" ، في قوله ![]() ![]() وكذا الموصول ، محل الشاهد ، فهو مما يفتقر ، كما الحرف ، الافتقار الذاتي إلى الصلة التي تُبِينُ عن مراد المتكلم ، فكان من ذلك سَبَبُ بِنَاءٍ يلزم ، بالنظر في أصل الوضع الأول فَلَيْسَ بِنَاؤُهُ مِمَّا يعرض كما يقال في مُعْرَبٍ يكتسب البناء إذا أضيف إلى المبنى ، كما المثل يضرب بما جاء من آي الذاريات المحكم : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ، فَبُنِيَ "مِثْلَ" على الفتح وذلك البناء العارض إذ أضيف إلى "مَا" الموصولة وبناؤها البناء اللازم ، وذلك واحد من جملة أحكام تثبت للمضاف تَبَعًا إذ يكتسبها من المضاف إليه أَصْلَا ، إذ للمضافِ حكم المضاف إليه ، فيكتسب من ذلك البناءَ العارضَ ، لا البناء اللازم كما تقدم من الموصول إذ ثم من افتقاره إلى الصلة : افْتِقَارٌ ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، فهو مما ثبت بالنظر في أصل الوضع الأول ، وضع الكلام العربي المفصِح بما استقر من عُرْفٍ أَخَصَّ في النطق وهو ما أبان عنه المتداول من نظم ونثر زَمَنَ الاحتجاج الذي يثبت به نَحْوُ اللِّسَانِ المفهِم ، فكان من ذلك الافتقار الذاتي إلى الصلة ما ألحقَ الموصول بالحرف ، فالأخير أصل في الباب : باب البناء ، وغيره عليه يُقَاسُ ، ومنه الموصول الذي يفتقر إلى الصلة ، وذلك أول في الحد ، وهو ما تَنَاوَلَ اللفظ والإعراب ، وثم آخر يَتَنَاوَلُ الْبَيَانَ بِمَا تَقَدَّمَ من التعليلِ ، إذ يُنَاطُ الحكم بالمعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو التسخير الذي حُدَّ ماضيا في قوله ![]() فالتسخير من وصف الفعل ، ولا ينفك يصدق فيه اسم النوع القديم الأول الذي يُرَدُّ إلى علم محيط يهيمن قد استغرق الكونيات والشرعيات كافة ، فكان منه أول إذ التسخير تقدير لا يكون إلا بعلم ، وهو ما يدل أولا على سَبَبِيَّةٍ تَتَسَلْسَلُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تُرَدُّ إلى أول لا أول قبله ، فيكون من قوى التأثير في السبب ، وقوى القبول في المحل ، وبهما مجموع يَأْتَلِفُ وعنه المسبَّب في الخارج يحدث ، فَلَهُ في الخارج وجود يصدق ما كان من علم محيط هو الأول ، ولا ينفك يدل على علم أخص ، علم التقدير إتقانا للخلقة وإحكاما للسنة ، وهو ما يصدق في فعل الإنسان ذي العلم والإرادة ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فكان من القياس في هذا الباب : قياس الأولى ، إذ من الوصف ما هو كمال مطلق ، فالإنسانُ ذُو العقلِ لَا يُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ هو ابتداء من الجائز الذي استوى طرفاه ، فَافْتَقَرَ إلى مرجِّح من خارج ، الإنسان لا يُقْدِمُ عَلَى ذلك إلا أن يكون ثم تصور أول لِمَا يَفْعَلُ ، وهو علم تقدير أول يَتَنَاوَلُ ، كما يقول بعض من حقق ، القصد والغاية ، وهو ما اصطلح النظار أنه العلة الغائية ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى فعلٍ وهو لا يدرك غايته ، وَلَوْ تَقْدِيرًا يُحْتَمَلُ فِي حَقِّ البشر إذ ليس لهم من علمِ غيبٍ ما يحيط ، وليس لهم من الإرادة والقدرة ما يَنْفُذُ ، أبدا ، بَلْ يَلْحَقُهَا مِنَ العوارضِ ما يُنْقِصُ ، فالإنسان قد يَعْجَزُ فَلَا يَقْدِرُ ، وقد يَجْهَلُ فَلَا يَعْلَمُ ، وقد يُقَدِّرُ فَلَا يُتْقِنُ وَلَا يُحْكِمُ ، بل ذلك وصفه الذاتي الذي لَا يُعَلَّلُ ، وصف الجهل والافتقار والعجز ، فذلك أول في الجبلة ، وهو ما يُسْتَصْحَبُ ، وَإِنْ حَصَلَ العلمُ شَيْئًا فَشَيْئًا فهو بِسَبَبٍ من خارج ، وذلك مَئِنَّةُ الافتقارِ الذاتي آنف الذكر ، فيحصل الكمال بعد نقص ، فَلَيْسَ الأوَّل الذاتي ، ولا يكون هذا الكمال إذا حصل ، لا يكونُ المطلقَ ، فَشَرْطُهُ أن يكون الأول ، وأن يكون العام المستغرق فلا يدخله التخصيص من وجه ، وهو ما استغرق ، كما تقدم في موضع ، الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، وذلك ما لا يكون إلا لواحد في الأزل له من الأولية المطلقة ما لا يقبل الشركة ، أوليَّةَ الكمالِ المطلق ، وصفَ الذَّاتِ الذي لا يُعَلَّلُ ، ووصف الفعل الذي يُنَاطُ بالمشيئة ، فَهُوَ الكامل في نَفْسِهِ أَوَّلًا ، المكمِّل لغيره بما له من وصفِ فِعْلٍ يَتَعَدَّى ، ولا يكون ، بداهة ، إلا مِنْ كَامِلٍ له من ذلك وصف ذات يستغرق وجوه المعنى ، إذ لا يَهَبُ الكمالَ لِغَيْرٍ إلا من قد كَمُلَ أَوَّلًا ، فَفَاقِدُ الشيءُ لَا يُعْطِيهِ ، ولله ، جل وعلا ، من ذلك ، أيضا ، مَثَلٌ أَعْلَى ، فإن له كمالا هو الأول المطلق ، وله من تكميلِ غَيْرٍ ما يَزِيدُ في المخلوق المحدَث إذ يَهَبُهُ من الكمال ما لم يكن لدى المبدإ ، وهو ، مع ذلك ، كمال مقيد ، إذ الكامل المطلق قد انفرد بأولية في الباب ، مع إطلاق واستغراق لوجوه المعنى ، فلا يكون ذلك من أولية وإطلاق ، لا يكون ذلك إلا لواحد في الأزل ، وهو الخالق ، جل وعلا ، واجبُ الوجود الأول ذو الوجود الكامل أزلا ، فذلك الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارج ، بل كُلُّ كَمَالٍ تَالٍ فهو إليه يَفْتَقِرُ ، فَكُلُّ ما سواه فهو جَائِزٌ في المبدإ لا ينفك يطلب من خارجٍ المرجِّح الذي يخرجه من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، فذلك أول في الإيجاد ، وهو ما افْتَقَرَ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وَبِهِ حَسْمُ مَادَّةِ التَّسَلْسُلِ وَلَوْ فِي مُطْلَقِ الإيجادِ والإخراجِ من العدم إلى الوجود ، وَافْتَقَرَ إِلَى آخر مُتْقِنٍ مُحْكِمٍ ، فذلك قدر يزيد على مطلق الإيجاد في الخارج ، ولا يكون ذلك إلا بعلم أول يقدر ، وهو علم محيط قد استغرق ، وبه سببية محكمة بقوى في المحال والأسباب ، تَقْبَلُ وَتُؤَثِّرُ ، وهو ما استوجب في الخارج سَنَنًا تجري عليه الأشياء ، المحال والأسباب ، فذلك السنن المحكم لا خبط عشواء تَضْرِبُ ، كما زَعَمَ فَرْضُ التَّطَوُّرِ الذي الْتَزَمَ مِنَ المحال العقلي والفطري والحسي مَا الْتَزَمَ لِيَخْرُجَ من عهدة الدليل الخبري الذي جَاوَزَ العقل فأخبره بما كان من غيب ، وَقَصَّ من ذلك قِصَّةَ الخلقِ الأول ، وهي ما يواطئ القياس المصرَّح وما كان من فِطْرَةٍ تَنْصَحُ وَحِسٍّ يَشْهَدُ وَيُصَدِّقُ بِمَا كُشِفَ لَهُ وَلَا زَالَ من إتقانٍ في المحالِّ وإحكام في الأسباب ، وسنن تجري عليه الأسباب إذ تُبَاشِرُ المحال ، فكلُّ أولئك مما يزيد في الإثبات ، فَيُجَاوِزُ إِثْبَاتَ أَوَّلٍ مجرَّد لا وصف له إذ يفعل بالطبع ، كما اقترحت الحكمة الأولى ، فلا يفعل بعلم تقدير أول ، ولا يَتَصَوَّرُ ما يكون بَعْدًا من الفعل ، وهو ما يقبح في حق آحاد من العقلاء في الخارج بما رُكِزَ فيهم من قوى العلمِ الضروري الذي يشهد ، بَدَاهَةً ، أَنَّ لكلِّ فِعْلٍ فَاعِلًا ، فَلِكُلِّ محدَث في الخارج محدِثا ، ولو أن يخرج من العدم إلى الوجود على أَيِّ ماهية ، ولو مَعِيبَةً شَائِهَةً ، كما يكون من فعل الصغير الذي لا يميز أو المجنون الذي لا يعقل ، فإن كُلًّا يضاهي العلة الفاعلة بالطبع المجرَّدةَ من الوصف إذ لا علم ولا إرادة ، وإنما إيجاب بالذات لا بوصفٍ يقوم بها من العلم والإرادة ، فذلك في حق البشر ، محل التكليف من وجه ، ومحل الثناء والمدح من آخر ، وهو في حق الخالق ، جل وعلا ، الأخير ، فلا يتصور بداهة في حقه تكليف ، بل هو الذي يُكَلِّفُ بما شَرَعَ مِنَ الأحكامِ وَأَنْزَلَ ، وإنما يُثْنَى عليه بما هو أَهْلُهُ قِيَاسَ أولى على العلم والإرادة ، فإن المخلوق الذي يفعل بلا علم ولا إرادة ، بل بالطبع المجرد من وصفٍ يُرَجِّحُ ، فلا يكون ذلك إلا بِعِلْمٍ محيط يُقَدِّرُ ، ومشيئةٍ تَنْفُذُ ، فآثارها في الخارج تظهر قَصْدًا وَغَايَةً يَرُومُهَا الفاعل المختار من البشر المكلَّف ، وهو ما حَدَّهُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ فِي دَرْسِ الأخلاقِ ، أنه نية في الخارج تَنْقَسِمُ ، فمنها نِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ أَعَمُّ ، وهي ما يتناول ماهية العمل ، فعلا أو تَرْكًا ، إيحابا أو سلبا ، ومنها نية أخلاقية فهي تَتَنَاوَلُ الغاية والقصد ، وهو ما يحصل أولا في الوجدان قبل الشروع في العلة الفاعلية ، فالأخيرة وسيلة يُرَادُ بها المقصد ، وهو الغاية التي تَتَنَاوَلُهَا نِيَّةٌ أخص ، النية الأخلاقية آنفة الذكر التي يُنَاطُ بِهَا المدح والذم ، والثواب والعقاب في حق البشر بما تَوَجَّهَ إليهم من تَكْلِيفٍ يَبْتَلِي بالتصديق والامتثال ، فلا يكون فعل في الخارج إلا وثم أول يَتَصَوَّرُ ، وذلك ما يكون بِعِلْمٍ أول يُقَدِّرُ ، وعنه الفعل يصدر ، فذلك الحكم الذي يعقب ، إذ الحكم فرع عن التصور ، كما يقول أهل الشأن ، فَثَمَّ أول من العلم ، علم التقدير الذي يسبق ، وهو ما به الفعل ينصح ، فَيُجَاوِزُ حَدَّ الفعلِ طَبْعًا كما العلة الفاعلة التي اقترحتها الحكمة الأولى ، فهي المجردة من الوصف فلا علم ولا إرادة ، وإنما فعل الاضطرار الذي يضاهي فعل الصغير الذي لا يميز ، أو المجنون الذي لا يعقل ، أو النار التي تحرق لَا بِعِلْمٍ أول يُقَدِّرُ فهو يعين المحل المحروق والقدر المطلوب ..... إلخ ، ولا إرادة تُرَجِّحُ ، فَلَيْسَ لِكَائِنٍ لا يعقل كالنار ، ليس له من ذلك بداهة شيء ، وكذا من له من ذلك حظ هو القوة التي رُكِزَتْ أولا في الماهية فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ تَالِيًا من فعلٍ يُصَدِّقُ بما يكون من اكتمال المحل بعد وجوده ، فإيجاده ، كما محل الصغير والمجنون ، إيجاده أول يثبت فيه من الوصف قُوَّةٌ لَا فِعْلٌ ، فإن الفعل ، وهو ما يُنَاطُ بِهِ التكليف من أفعالٍ مخصوصةٍ تَصْدُرُ عن علم وقصد ، فإن هذا الفعل لا يكون إلا بعد غاية ، وهي بُلُوغُ الصغير سن الرشد وهو مظنة اكتمال العقل إذا استوفيت الشروط وانتفت الموانع ، ومنها الجنون الذي يَعْرِضُ ، فَلَيْسَ لِصَغِيرٍ لا يميز ، ليس له فَعْلٌ في الخارج يُحْمَدُ أَوْ يُذَمُّ بالنظر في مجموعِ مركَّب يَتَنَاوَلُ عين الفعل وما يكون أولا من تصور وإرادة ، وإلا فالصغير الذي لا يميز إذا قَتَلَ ، فذلك في نفسه فِعْلٌ يَقْبُحُ إذا جُرِّدَ فِي الذهنِ وَأُطْلِقَ ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ عَارِضٍ مَا مَنَعَ لَوَازِمَ له في أحكامِ التكليفِ ، وإن لم يمنع أخرى من أحكام الوضع ، وضعِ الشريعة ، إذ وَضَعَتِ الضَّمَانَ إذا كان ثَمَّ إتلاف ، فَيَضْمَنُ الوليُّ مَا أَتْلَفَ الصغيرُ الذي لا يُكَلَّفُ سواء أكان يميز أم لم يكن ، بل قد يُزَادُ في ذلك فَيَكُونُ تَعْزِيرٌ لِلْوَلِيِّ إِذْ فَرَّطَ فَلَمْ يَكُفَّ الصغيرَ وَلَمْ يَحْتَطْ ، وإلا فإن التكليف يَرْتَفِعُ عن الصغير عامَّةً ، والمميِّز الذي لم يَبْلُغْ وإن لم يُكَلَّفْ التكليفَ التَّامَّ ، فَثَمَّ آخر أَنْ يُؤَدَّبَ وَيُزْجَرَ إِذَا قَارَفَ الخطأَ ، فَيُلَامُ لِئَلَّا يَعْتَادَ الأمر وَيَسْتَمْرِئَ ، فَيَصْعُبَ زجرُه إذا بلغ واكتمل فقد نَشَأَ على ما كان عوده أبوه من خيرٍ أو شَرٍّ ، فإن لم يعتد ملازمة الفضائل ومفارقة الرذائل وهو صغير لِمَّا يُكَلَّفْ ، فتلك مَظِنَّةُ قَابِلٍ من حاله يَقْبُحُ ، فيكون بعدا من الجناية ما يؤخذ به ويعاقب ، إذ قد بلغ التكليف ولم يُؤَدَّبْ ، لا جرم كان من رعاية الولي أن يؤدبه وهو صغير إذا بلغ حد التمييز قبل أن يبلغ تَالِيًا هو حد التكليف فَتَعْظُمَ البلوى والمشقة في حق من لم يعتد إذ لم يُرَبَّ وَيُنَشَّأْ على الفضائل التي تُحْمَدُ ، فَكَانَ من حالِه وهو صغير يميز أنه المذموم بالقوة لا بالفعل لوجود عارض وهو عدم البلوغ فَلَمَّا بَلَغَ وَصَارَ المكلَّف صار المذموم بالفعل لا بالقوة ، فكان من تأديب الولي في مواضع ما قد جاء به النص ، كما في الصلاة أَنْ : "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ" فذلك ، كما يقول أهل الشأن ، ضرب التأديب والتعويد لا ضرب العقاب فلا يكون إلا على ارتكاب المحظور ، وليس في حق الصغير محظور في باب التكليف إذ المحل لَمَّا يأت تأويله بَعْدُ بما يَكْمُلُ من العقل إذا حصل البلوغ وهو السبب مع استيفاء الشروط وانتفاء الموانع ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، ما اصطلح أهل الشأن أنه العلة فهي المجموع المركب من المحل الذي يقبل ، والسبب الذي يُبَاشِرُ ، مع استيفاء الشروط وانتفاء الموانع ، فَيُؤْمَرُ الولي أمرَ التكليف فهو يأثم إذا قَصَّرَ أو فَرَّطَ ، وإن لم يكن من الصغير محل تكليف يثبت ، إذ أُمِرَ المكلَّف في هذا الموضع ، وهو الولي ، أُمِرَ أَنْ يُرَبِّيَ الصغير وَيُنَشِّئَهُ على فَرَائِضِ الأديان ومكارم الأخلاق ، فَلَا يَجِدُ حَرَجًا بعد إِذْ بَلَغَ وصار أهلا لِتَكْلِيفٍ يَلْزَمُ ، وبه يُثَابُ وَيُعَاقَبُ إذ اكتملت أهلية المحل لا ما كان قبلا من أهلية تَنْقُصُ قد خوطب الولي أن يُقَوِّمَ لها وَيُهَذِّبَ ، وإلا ناله الذم لا الصغيرَ ، بل الولي له من الحكم ما يجاوز الذم والإثم إِنْ قَصَّرَ في تَرْبِيَةِ الصغير غير المكلف ، فهو ، أيضا ، يضمن ما أَتْلَفَ الصغير مطلقا ، إن المميِّزَ أو غير المميِّزِ ، وقد يُلَامُ وَيُعَزَّرُ إذا فَرَّطَ فَلَمْ يَحْتَطْ مع علمه بما قد يكون من صغيره الذي لا يَفْقَهُ الغايات وما يَتَرَتَّبُ عليها من الحكومات والجزاءات ، فيأثم الولي إذا خالف عن الأمر ، أَمْرِ صغيره أن يصلي ، وتأديبه ، ولو ضربًا ، إذا ناهز البلوغ ، فالأمر في حقه أمر تكليف ، لا الأمر في حق الصغير فهو تأديب وتعويد ، فانفكت الجهة ، كما يقول أهل الشأن ، إذ لكلٍّ وجه من المعنى والعلة ، ولا يَسْلَمُ الصغير المميِّز ، مع ذلك ، لا يَسْلَمُ من لَوْمٍ وَعِقَابٍ ، ولو التأديبَ لا آخر يُقَدَّرُ في التشريع أو ما يجري مجرى التعزير فذلك ما لا يكون إلا بعد البلوغ والتكليف ، وكذا يقال من باب أولى في حق الصغير الذي لا يميِّزُ ، إذ لم يكن ثم محل يقبل آثاره بالفعل وإن قَبِلَ آثاره بالقوة التي رُكِزَتْ فِي وجدانِ الإنسان مبدأَ الخلقِ ، فذلك من تقدير أول في الأزل ، خِلَافًا لِلنَّارِ فَإِنَّ فِعْلَهَا فعلُ طبعٍ مجرَّد إذ ليس ثم من المحل أولا ما يقبل التكليف ، ولو قُوَّةً ، فلا عقل لها مبدأ التقدير ، خلافا للإنسان ، ولو صَغِيرًا لا يميز أو مجنونا لا يَعْقِلُ ، فَثَمَّ من المحل أولا ما يقبل آثار التكليف ، وَلَوْ قُوَّةً ، فلا يكون من ذلك فِعْلٌ يُصَدِّقُ إلا إذا اسْتُوفِيَ الشَّرْطُ مِنَ البلوغِ والنضجِ ، وَانْتَفَى المانع من الجنون أو السَّفَهِ ...... إلخ ، على خلاف في القدر الذي يَرْتَفِعُ من التكليف ، فلا يستوي المجنون والسفيه ، ولكلٍّ من الأحكام ما بَسَطَهُ أهلُ الشأنِ في مبحث العوارض ، عوارض الأهلية ، فإذا مَيَّزَ الصغير ، وذلك وسط بين القوة الأولى المركوزة دون فعل لها في الخارج يُصَدِّقُ ، وبين الحال المكتملة إذا كان بَعْدًا من الفعل الذي يُصَدِّقُ الْقُوَّةَ بَعْدَ حصولِ البلوغ واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع ، كما نَوْمٌ أو غيبوبةُ عقلٍ ، وكما جنون منه العارض ومنه الدائم ، ولكلٍّ ، أيضا ، ما بُسِطَ من أحكامه في عَوَارِضِ الأهليَّةِ ، فلا يكون الفعل التام إلا أن يكون ثَمَّ تَصَوُّرٌ يَتَقَدَّمُ ، وهو ما يكون بعلم أول يُقَدِّرُ ، وعنه الحكم بَعْدًا يَحْدُثُ ، إذ الحكم فرع عن التصور ، ولا يكون الحكم ، بداهة ، إلا بِإِرَادَةٍ تُرَجِّحُ إِذْ تُبَاشِرُ في الخارج ما وَصْفُهُ ، مبدأ النظر ، أنه الجائز الذي اسْتَوَى طرفاه فهو يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وهو ما يقوم بذات الفاعل من الإرادة ، فلا يُوجِبُ الفاعل المختار ، بداهة ، بذات مجردة من الوصف فاعلة بالطبع ، فذلك مما لا تكون به آحاد من المفعولات في الخارج ، ولو مفعولاتِ البشر مع ما ينالها من وصف النقص الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ وَإِنْ بَلَغَتْ مِنَ الإتقانِ والإحكامِ ما بلغت ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ عِلَّةً غائية هي الأولى ، فهي المقصد الذي يَتَصَوَّرُ بِعِلْمٍ أول يُقَدِّرُ قَبْلَ أَنْ يشرع الفاعل في مباشرة العلة الفاعلية التي بها يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى وجودٍ تالٍ يُصَدِّقُ ، فيكون من التصور أول ، وهو ما يَعُمُّ العلة الغائية التي لأجلها يكون التقدير ثم الفعل ، والعلة الفاعلية إذ ثم سَنَنٌ محكَم في مباشرة الفعل في الخارج ليكون من ذلك بلوغ للغاية ، فذلك أول في أي فعل في الخارج ، إذ ثم أول من العلم فلا يكون عن عشواء وخبط ، بل ثَمَّ الْعِلْمُ الَّذِي تَنَاوَلَ الغاية وهي أول ما يُتَصَّوَرُ قبل الشروع في فعل مقدور مخصوص هو العلة التي بها يُتَوَسَّلُ إلى الغاية ، فلا يكون الفعل خبط عشواء بِلَا علمٍ أوَّل يُقَدِّرُ ، كما صَرَّحَ فرض التطور ولم يُكَنِّ عن قبيح يخالف عن ضروري العقل المحكم ، أن يكون هذا الإتقان والإحكام في هذا الكون وقد بَلَغَ غاية أبان عنها التجريب والبحث ولا يَزَالُ ، أن يكون لا عن متقِن محكِم له من العلم أول قد أحاط واستغرق ، فأحاط بالمحال تقديرًا أَنْ تَقْبَلُ ، والأسباب أن تُؤَثِّرَ ، فلا يكون ذلك في حق آحاد من البشر ، ولو مَنْ فَرَضَ التطور ! ، لا يكون ذلك في حق آحاد منهم أن يقال إن ما يُتْقِنُ في الخارج وَيُحْكِمُ من سَنَنٍ يباشرها في الحياة أو المهنة أو تجارب يَرُومُ بها نتيجة في البحث ، إِنَّ كل أولئك بلا غاية ولا قصد ، فلا إتقان ولا حكمة ! ، فما يُبَاشِرُ من الإتقان والحكمة هو الدليل الذي يُبْطِلُ ما له يستدل من عدم الغاية والقصد ، وفعل الاضطرار والخبط عشواء بلا علم أول ، فهو في التجريب لا يصدر إلا عن علم أول يقدر ، ولا يكون ذلك خبطا بل يروم من الغاية مخصوصا قد أدرك قَبْلَ أن يَشْرَعَ في العلة الفاعلية التي بها يروم إخراج أمره من القوة إلى الفعل ، فالتصور أول قبل الحكم ، وهو ما تناول العلة الغائية قبل مباشرة الفعل في الخارج ، والعلة الفاعلية التي يسلكها الفاعل جادة سُنَّةٍ قَدْ أُحْكِمَتْ فِي الخارج بما رُكِزَ في المحال والأسباب من قوى تَقْبَلُ وَتُؤَثِّرُ ، وثم من الحكم بَعْدًا ما يصدق ، وهو ما يكون عن إرادة ترجح في الجائز ، فهي قدر زائد يقوم بالذات ، فلا ترجح ولا توجب بنفسها اضطرار ، كما زعمت الحكمة الأولى ، وإنما توجب بما قام بها من وصف يزيد إرادةً بها الترجيح ، إذ لا يكون الترجيح إلا بمرجِّح ، فلا يكون تحكما بلا مرجِّح إذ ما اقترحت الحكمة الأولى في باب الخلق من ذات توجب بنفسها لا بوصف بها يقوم ، فهي ذات معطلة من الوصف ، ولو في الجملة ، فتضاهي العدم في الحد كما اقترح بعض من الباطنية أولا هو المطلق بشرط الإطلاق فلا يجاوز وجوده وجود الأذهان ، وذلك عدم محض ، فليس بشيء يرجح في الجائز ، بل هو في أحسن أحواله جائز يفتقر إلى من يُرَجِّحُ فيه فيخرجه من العدم إلى الوجود ، فكيف يكون هو المرجح في غَيْرٍ ؟! ، فآل الأمر إلى ترجيح بلا مرجِّح في الخارج ، وإن كان له وجود فلا يجاوز الإطلاق والتجريد في الذهن . فَثَمَّ في أَيِّ فعل يكمل ، فهو عن مريد مختار يصدر ، ثَمَّ سَنَنٌ محكم مبدؤه ، كما تقدم في موضع ، تَصَوُّرٌ وهو العلم الأول الذي يُقَدِّرُ على مِعْيَارِ إتقانٍ وحكمةٍ ، ثم حُكْمٌ تَالٍ وهو فرع عن الأول بما يكون من إرادة في الجائز تُرَجِّحُ ، مع سببية تُؤَثِّرُ بما ركز في الأسباب من قوى تؤثر والمحال من قوى تقبل ، وغائية هي أول في التصور وإن كانت بَعْدًا في الخارج إذ تصدر عن العلة الفاعلية التي تُبَاشِرُ ، وذلك ما يكون في حق الله ، جل وعلا ، من باب أولى ، مع القدر الفارق ، بداهة ، فَلَهُ من ذلك الكمال المطلق ، إذ علمه الأول قد أحاط فاستغرق ، وإرادته في الخارج لا رَادَّ لها فهي تَنْفُذُ ، وَثَمَّ من السببية ما يدل على وجوده الواجب أزلا ، وثم من الغائية ما يحكي إتقانا وحكمة ، فذلك وصف كمال قد ثبت أولا فَقَامَ بِالذَّاتِ أَزَلًا ، وذلك أول النبوات ، واجب الوجود لذاته فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج ، وله من وصف الكمال الأول والآخر ، له منه ما يثبت مطلقا فلم يكن ثم عدم يسبق ، وليس ثم فناء يلحق ، وليس بينهما من نقص ما يحدث ، بل الكمال في حقه كما الوجود فهو الواجب الذاتي الذي لا يعلل ، وعنه كل كمال في الوجود يحدث ، فيصدر عنه صدور المخلوق عن الخالق المهيمن ، ومن ذلك ما تقدم من التسخير في قوله ![]() ![]() ![]() فكان من القصر بتعريف الجزأين في قوله ![]() وَهُوَ ما محض في القصرِ حَقِيقَةً في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#8
|
|||
|
|||
![]() وذلك مما يجري مجرى قصر آخر بِتَقْدِيمِ مَا حقه التأخير ، إذ قُدِّمَ الظرف "لِمَنِ" ، وهو ما ائْتَلَفَ من لام الجر ، وأداة الاستفهام "مَنْ" ، ولها ، من وجه آخر ، صدارة كما أدوات الاستفهام ، ولكنها إذ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ الجرِّ ظرفا قد تقدم وحقه أن يتأخر لَفْظًا بالنظر في الجواب ، فالجار والمجرور "لله" ، هو المكافئ للظرف "لِمَنِ" ، فَهُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ ، وذلك مما استغرق في الدلالة : الملكية والاختصاص والاستحقاق ، ولا يكون إلا لله ، جل وعلا ، فذلك الملك التام المستغرق ، فَلَيْسَ يكون منه شيءٌ لغيره ، وإن كان ذلك ، أيضا ، مما يثبت في الأولى إلا أن ثَمَّ شُبْهَةَ مُلْكٍ لبشر يثبت ، إِنِ الخاصَّ في تَمَلُّكِ أعيانٍ ، أو العام كما حكومات السياسة التي يجري حكمها في الخلق ، إن بالعدل المواطئ لمعيار الوحي النازل إن في المقاصد أو في آخر أدق بما يكون من قَضَاءٍ في الخصومات ، أو في حرب تَدْفَعُ أو أخرى تَطْلُبُ ، أو في مَرَاسِيمَ وَتَرَاتِيبَ تَنْفُذُ ، فَلَهَا قُوَّةُ السلطانِ وَهَيْبَتُهُ إذ عنه تَصْدُرُ ، فَثَمَّ من ذلك جنس عام يستغرق ، ومنه حكومات العدل ، وأشرفها ، لو تدبر الناظر ، عدل النبوات إذ تجرد من الأهواء والحظوظ ، فَلَهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ في موضع ، له وصف كمال هو المطلق ، وإن شَارَكَهُ المخلوقُ الجائزُ بَعْضًا ، فذلك ما لا يجاوز المعاني المجردة في الذهن دون الحقائق المقيدة في الخارج إذ لكلٍّ من الحقيقة الأخص ما يُوَاطِئُ الذَّاتَ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الوصف ، فَحَصَلَ الاشتراك مِنْ وجه ، والافتراق مِنْ آخَرَ ، وليس ثم تَعَارُضٌ وَلَا تَنَاقُضٌ إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فَحَصَلَ الاشتراك في المعنى المجرَّدِ في الذهن ، وحصل الافتراق في الحقيقة المقيدة في الخارج ، كما الْمُلْكُ آنِفُ الذِّكْرِ ، فَمِنْهُ مَا يَثْبُتُ فِي الأولى لِبَعْضٍ سَاسَةٍ وملوك ، وإن ناقصا لا يسلم من كَدَرٍ ، مع رَعِيَّةٍ في الداخل تَتَذَمَّرُ وَخَصْمٍ من خارج يَتَرَبَّصُ وعجز أن يحيط بالجمع ويستغرق ، وسوءِ ظَنٍّ إذا استبد وظلم فلا يأمن ، ولو لمن يشاطره فِرَاشَهُ ، ويكون من شُؤْمِ الظلم أن يُسْلَبَ الْأَمْنَ ، وذلك من عاجلِ عقوبةٍ في الأولى ، وإن لم تظهر آثارها في الخارج إلا صاحب فراسة تميز بما لها من بصيرة تَنْفُذُ ، فَتَرَى من دقائق الوجه والحركات ما يحكي الهم والحزن والخوف ، وَإِنْ نُعِّمَ البدنُ ، فَثَمَّ فطرة في الوجدان تَطَّرِدُ إن في الثواب أَمْنًا أو في العقاب خَوْفًا ، فالباعث واحد وإن اختلف المسلك ، فَثَمَّ معيار في الباب يطرد وينعكس ، وَهُوَ مما أُحْكِمَ في الوجدان فِطْرَةَ تكوينٍ أولى ، فمن آمن وعدل فَلَهُ الأمن في الأولى والآخرة ، وذلك طَرْدٌ فِي البابِ ، وَمَنْ كَفَرَ وَظَلَمَ فَلَهُ الخوف والضنك في الأولى والآخرة ، وذلك عكس ، فَأُحْكِمَ البابُ طَرْدًا وَعَكْسًا وذلك أصل عام يستغرق الخلق كَافَّةً والملوك خاصة ، من آمن ومن كفر ، من عدل ومن ظلم ، فَمَنْ كَفَرَ وَظَلَمَ فَلَهُ من الضنك والخوف وعيدُ صِدْقٍ لا يَتَخَلَّفُ إلا أن يكون من مانعٍ ما يحول دونَ نَفَاذِ الوعيدِ ، كما التوبة أو الحسنات الماحيات أو المصائب المكفِّرات .... إلخ ، وذلك ، بداهة ، ما يَقْتَصِرُ عَلَى وعيدٍ لا يَتَنَاوَلُ نَوَاقِضَ الإيمان ، فإن من بَاشَرَهَا اعْتِقَادًا أو قَوْلًا أو عَمَلًا ، اسْتِبَاحَ أو لم يَسْتَبِحْ ، فإن مَنْ تلك حالُه فالوعيد في حقه نافذ ، وله من عقوبة الدنيا ما ينفذ في نفسه وأهله وماله وولده ، وإن كان ثم آخر يستوجب النظر في حَقِّ كافرٍ صالحٍ يَعْدِلُ ، فإن من عاجل الثواب أن يبارك له في دنياه حَصْرًا ، فَيُوَفَّى إليه عمله ، فـ : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ، فَيَنْصَحُ له الولد ويستقيم له الأهل ويثمر له المال ويصح له البدن ...... إلخ ، فلا جزاء له في الآخرة إذ استوفى الجزاء في الأولى ، ولا يظلم ربك أحدا ، فـ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
خلاف من ظلم وله من الإيمان أصل يصح ، وإن خالف عن الكمال الواجب فَقَارَفَ له القادح من ظلم خاص أو عام ، فيجد من عقاب الأولى ما حكاه الأثر عن ابن عباس ، ![]() وثم رابع في القسمة وهو ما اجتمع فيه الشر كله ، كفرا وظلما ، فَلَهُ في الآخرة وعيد الخلد المؤبَّد في نار سموم تلفح ، وَلَهُ من وعيد الضنك في الأولى أعظم حظ ، إذ قد أعرض عن الذكر والعدل كافة ! ، وله عقاب في الأولى قد يفوت فلا يكون القصاص المعجَّل ، وله آخر ينفذ ، وإن كان من حال ظاهرة ما يخدع ، فلا ينفك صاحب البصيرة يرى من آثار العقوبة ما لا يرى غَيْرٌ إذ يغره الظاهر فيقف عليه ولا يجاوز إلى آخر ألطف فلا يُدْرَكُ بداهة إلا بمعيار يدق فهو يجاوز ما يباشر الحس من ظاهر الحال والهيئة ، فلا يكون إلا الخوف ، وإن أحاط به الحرس والجند ، وذلك عام قد استغرق في الدلالة في قوله ![]() ![]() فكان من التوسع لا سيما في جيل قد تأخر ، كان من التوسع في حكم المتغلِّب ما لم يُرِدْهُ المتقدم الذي كان يَرَى الحال في جيله ، ولم تكن البلوى فيها كما كانت بَعْدًا ، فَقِيَاسُ المتأخِّر وَبَلْوَاهُ أعظم إذ بَلَغَتْ حَدَّ التَّعْطِيلِ لوحيِ النبوات بل والمحادة له والخصومة التي تصرح في مواضع ، وَتُكَنِّي في أخرى رِيَاءً وَتَقِيَّةً وهو ما يَنْقُضُ أصلَ الطريقةِ الإيمانيةِ ، وإن وجب آخر به الاحتراز في باب الأسماء والأحكام أَلَّا يحقق المناط في آحاد في الخارج تُعَيَّنُ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلا لحاكمٍ ذي قضاء ينفذ وإنما يجزئ العامة منه تحرير الأصل المطلق ديانة واعتقادا ، قَقِيَاسُ المتأخر في باب الحكم المتغلب وتلك حاله ، قياسه على المتقدم ، قياس مع الفارق ، وهو ما منح خصوم الوحي ذريعة القدح أَنَّ شَرِيعَتَهُ تُقِرُّ الظلمَ والجورَ بل وله تُؤَصِّلُ وَتُبَرِّرُ ، فهي ، كما يقول بعض من بحث البحث المقارن بين مثال السياسية اللاديني المتأخر ومثال السياسة في الوحي المنزل ، فهي تتأرجح بين الحقيقي ، وهو الأصل الأول وله تأويل هو الحكم الراشد بعد ارتفاع النبوة بقبض صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَتَتَأَرْجَحُ بين الحقيقي والضروري من مثال التغلب آنف الذكر ، ثم لم يلبث الدرس أَنْ صَيَّرَ الضروري هو الأصل ، وَصَيَّرَ الحقيقي مثالا لا يجاوز الوجدان فتعظيمه تعظيم باطن لا آثار له في الظاهر ، حكومةً يُقْتَدَى بِهَا ، كما في الخبر أَنْ : "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" ، وذلك ما عم فاستغرق السنن كافة ، ومنها سنن السياسة والحكم ، فصار الضروري من التغلب وهو ناقص ، صار هو الأصل في الباب ! ، وَذَلِكَ التَّوَسُّعُ فِي الضروراتِ السياسية مما يُفْقِدُ الشريعةَ معيارها المحكم في حَدِّ العدل الذي به قيام السماوات والأرض ، مع ذريعة لخصم أن يقدح في حكومات الوحي إذ تُسَوِّغُ الظلم فَهِيَ تَتَوَسَّعُ في القهر والتغلب ، والحق ، أبدا ، وسط بين طرفين كلا قصد طرفيهما يذم . فكان من الْمُلْكِ ، وهو محلُّ شَاهِدٍ تَقَدَّمَ ، كان منه ما حصل فيه الاشتراك ، من وجه ، إذ يصدق في الخالق ، جل وعلا ، وله منه ما قَدْ أُطْلِقَ ، فملكه الملك العام المستغرق ، إن في الأولى أو الآخرة ، وثم معنى أخص وهو ما يَسْلَمُ مِنَ المنازعة فلا يكون ذلك إلا يوم الحشر ، فتلك دلالة عهد أخص في "اليوم" في قوله ![]() فَثَمَّ من الاجتهادِ ، وَلَوِ المعتبرَ ، ثم منه في النَّوَازِلِ مَا يَحْتَمِلُ الإصابة أو الخطأ ، فَلَا يَجْزِمُ صاحبه بِنِسْبَةٍ إلى حكم الله ، جل وعلا ، وهو الوحي المنزل فذلك من الافتئات بالزيادة ، فكان من النهي أن : "لَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ" ، لا أن تُعَطِّلَ الوحي ، وإنما هو رائد الاجتهاد في أمر أو في نهي ، وإنما المراد ألا تَنْسِبَ مَا أَفْضَى إليه اجتهادك ، أَلَّا تَنْسِبَهُ إلى الوحي قطعا ، فتجزم فيه يقينا بالصحة ! ، وهو ما استوجب تَقْدِيرَ محذوفٍ قد دل عليه السياق اقتضاء على تقدير : لا تُنْزِلْهُمْ على اجتهاد ظني تَنْسِبُهُ إلى حكم الله القطعي ، فذلك ما لا يكون إلا لمعصوم عليه الوحي يَتَنَزَّلُ ، بَلِ المعصومُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد اجتهد في مواضع فَلَمْ يقره الوحي على خلاف الأولى كما في مواضع قد اشتهرت من الذكر المنزل ، أسرى بدر مثالا هو الأشهر ، فـ : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وكذا ما كان من اجتهاده أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ![]() فَيُنْزِلُهُمْ عَلَى حكمِه اجْتِهَادًا يحتمل الصوابَ والخطأَ فلا يَقْطَعُ فِيهِ أَنَّهُ يُوَاطِئُ الحق في نَفْسِ الأمر ، إذ لَيْسَ ذلك لأحدٍ فِي أمورِ الشَّرْعِ إلا لصاحبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فالمجتهد إن لم يكن في الباب نص ، أو كان ثم نص ولكنه قد جهله ، فهو يجتهد رَأْيَهُ ولا يُقَصِّرُ ، وليس يلام إن كان ثم نص قد جهله ، فليس من شرط الحكم أو الاجتهاد أن يحيط صاحبه بكل دليل في الباب ، وإنما يجتهد في جَمْعِ طُرُقِ الباب وتحرير الألفاظ والمعاني ، ويجتهد في آخر من رَأْيٍ مِنْهُ : قياس أخص قد استوجب تحرير العلة التي بها الحكم يَتَعَدَّى من أصل نازل إلى فَرْعٍ حَادِثٍ ، ومنه : اعتبار أعم يتناول العرف والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة .... إلخ ، فيجتهد إذ لم يكن في الباب نص أو كان ثم نص ولم يعلمه وقد بذل الجهد واستفرغ الوسع لا أن يهجم على الفتوى وليس لها بأهل ، أو هو لها بأهل بالنظر في قوة الاجتهاد التي حَصَّلَ آلتها ولكنه لم يتأولها بالفعل أن يُبَاشِرَ الاجتهاد في نازلةٍ أخص ، فكان التقصير من هذا الوجه ، فهو كالتقصير في تحقيق مناط قد اجتهد أولا في تحريره ، فَصَارَ له من الاجتهاد حظ ، ولكنه لم يَتَأَوَّلْهُ بالفعلِ إِذْ تَسَاهَلَ أو تَكَاسَلَ أو كان ثم هوى وحظ ، خَفِيَ أو ظَهِرَ ، قد حمله أن يخالف عن الحق الذي ظَهَرَ لَهُ أو رَجَحَ ، فَتَأَوَّلَ في الباب ما يواطئ هواه وحظه وإن شُبِّهَ له في الحكم ، فلم يَخْلُ مِنْ شهوة قد أفسدت قوى الإرادة ، فعضدتها شُبْهَةٌ في اجتهاد يحتمل وهي لقوة العلم والنظر قد أفسدت ، فصار من ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مرجِّح في الباب ، وليس ، بداهة ، مما يُحْمَدُ ، بل هو مما يَتَكَلَّفُ له صاحبه ما يَتَكَلَّفُ أَنْ يُخَرِّجَ هواه وحظه على سَنَنِ صدقٍ وعدلٍ تحمد ! . فيجتهد الحاكم في السياق آنف الذكر ، ويحمل الخصم على اجتهاده الذي تَرَجَّحَ عنده ، وإن لم يكن الحق في نفس الأمر ، فهو الحق عنده وعند مَنْ يُقَلِّدُهُ إن كان من أهل الاجتهاد الأعم في حكومات الفقه ، فلئن كان له من الإصابة حظ ، فهو مصيب في حق نفسه وحق من يقلده إن تجرد المقلِّد ، أيضا ، من الهوى والحظ ، فكان من اجتهاده في اختيار من يفتيه اجتهاد ناصح به يطلب الأورع والأعلم ، فَيَحْمِلُ المجتهدُ الخصمَ على اجتهاده ولا يسنده إلى الله ، جل وعلا ، قطعا يجزم في موضع ظن يرجح ، ولو استوفى منه شرط الاجتهاد المعتبر فليس يقطع بصحته في نفس الأمر ، فَلَا يَتَعَدَّى في ذلك فيكون ممن قَالَ على الله ، جل وعلا ، بلا علم ، فَأَسْنَدَ إليه من الحكم ما لا يقطع بصحة نسبته ، فاجتهاده معتبر في حقه وحق من يُقَلِّدُهُ إِنْ كان له أهلا ، بل وله منه الأجر مطلقا ، أَصَابَ أو أَخْطَأَ ، وإن تَفَاوَتَ الأجر فأجر المصيب أعظم ، فذلك اجتهاد معتبر ، وهو ، مع ذلك ، لا يُسَوِّغُ نسبته إلى الوحي إذ ليس يقطع فيه بِيَقِينٍ وجزم . وكان من الْأَثَرِ ، أيضا ، أن : "كتب كاتب لعمر بن الخطاب – ![]() ![]() ![]() فحصل في الباب مقابلة قد استوفت شطري القسمة في الخارج ، مع طباق إيجاب بين الألفاظ "صَوَابًا" و "خَطَأً" ، و : "مِنَ اللهِ" و "مِنْ عُمَرَ" ، وكل أولئك مما به المعنى يظهر إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، صَوَابًا وَخَطَأً ، خالقا ومنه الصواب ، ومخلوقا ومنه الخطأ . فَلَيْسَ ثَمَّ عصمة في هذا الباب إلا ما أَرَى الله ، جل وعلا ، رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِرَسْمِ النُّبُوَّةِ المعصومة ، فـ : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ، فَثَمَّ التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، وهو نص في الباب يَتَصَدَّرُ ، مع اسْتِئْنَافٍ يُهَيِّئُ المخاطَب أَنْ يَتَلَقَّى الخبرَ أو الحكمَ ، فيكون من ذلك مبادرة إلى تصديق أو امتثال ، مع اسمية الجملة وهي ، أيضا ، مَئِنَّةُ تَوْكِيدٍ ، إذ تحكي الثبوت والاستمرار ، فَتَقْدِيرُ الكلامِ قَبْلَ دخولِ الناسخ : نحن أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، وهو ما حُدَّ جَمْعًا يحكي التعظيم ، فذلك محل الجلال مع مِنَّةِ الْإِنْزَالِ لكتابٍ هو معدن الحق المحكم ، تصديقا وامتثالا ، وثم من الجمع ما يحكي كثرة ، لا كثرة الذوات فإن ذلك ، بداهة ، مما يَنْقُضُ عَقْدَ التوحيد المحكم ، فَثَمَّ ذات أولى هي واجب الوجود الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلى سَبَبٍ من خارج يُرَجِّحُ ، فليست الجائز المحتمل ، بل هي الواجب لذاته ، وهي في قسمة الوجود واحد ، فذلك شطر من القسمة ، وثم آخر هو الجائز من الموجودات المتَعَدِّدَةِ في الخارج ، ولها وجود أول في العلم المحيط المستغرق ، فذلك من وصفٍ نَوْعُهُ يَقْدُمُ ، وله من الآحاد في الخارج تأويل يُصَدِّقُ المعلومات الأولى التي ثبتت في الأزل ، فالموجودات المحدثات وهي ابتداء الجائزات المحتملات ، تلك الموجودات هي المغيبات في الأزل ، وهي آحادٌ مِنْ وَصْفِ العلمِ المحيطِ المستغرِق ، فَلَهَا وجود أول يصدق فيه أنه العدمي إذ لَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويلُه في الخارج بما يكون من وجود تال في الشهادة يُصَدِّقُ وُجُودًا أول في الغيب ، الوجود العلمي المجرَّد ، فَثَمَّ منه أول في العلم الذي قَدُمَ نَوْعُهُ المستغرِق لآحاد الموجودات المقدوراتِ في الأزل ، فَلَهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وجود أول هو القوة ، وتأويله ما يكون بَعْدًا من الفعلِ المصدِّق ، إذ يخرج المقدور الثابت في الأزل ، وإن العدَم ، فإن وجوده الأول ، وجودُ القوة فَلَا يُجَاوِزُ حَدَّ التَّقْدِيرِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ بعد تأويل تال هو التكوين المصدِّق لما كان أولا من التقدير المجرد في الغيب ، فتأويله في الخارج آحاد من المعلومات المقدورات قَدْ خَرَجَتْ من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل بما يكون من مرجِّحٍ من خارج ، فالجائز يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أوَّلٍ وجودُه الوجودُ الواجبُ ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فذلك واجب الوجود الأول وذلك في القسمة شطر ، وثم تال هو الجائز فما سواه من الوجود فهو جائز قد كان أولا من الغيب العدمي ، فَلَمْ يُجَاوِزْ فِي الأزلِ حَدَّ المقدور المعلوم فهو المعدوم حتى يكون ثم مرجِّح من خارج يُصَيِّرُهُ الموجودَ في الخارج ، فيكون له من الوجوب وصفٌ هو الواجبُ لغيره لا لذاته ، فهو ابتداءً الجائز المعدوم فلا يجاوز وجوده أولا هو المقدورُ المغيَّب في علم محيط يَسْتَغْرِقُ ، فذلك العلم الأول الذي قَدُمَ نَوْعُهُ ، وكان من آحاد المعلومات ما تَأَوَّلَتْهُ المشيئة المرجِّحة ، فأخرجته من العدم إلى الوجود ، مِنَ الْقِدَمِ ، الْقِدَمِ العلميِّ المجرد فلم يكن ثم وجود أول يجاوز فَيَكُونَ من ذلك شرك في الأولية ، بل وجودها الأول لم يجاوز حَدَّ التقديرِ المجرَّد في الأزل ، فالمشيئة قد أخرجت المقدورات الأولى في العلم الأول المحيط ، قَدْ أَخْرَجَتْهَا مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، من القوة المجرَّدة إلى الفعل المصدِّق في الخارج ، فذلك تأويل هو عين الموجود أَنْ صَدَّقَ أَوَّلًا من المقدور في الأزلِ ، فَكَانَ مِنَ العلمِ المحيطِ قَدِيمٌ في النوع قد أحاط فاستغرق ، وثم من آحاد المعلومات المقدورات في الأزل ما تأويله آحاد في الخارج تحدث بما يكون من مَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ وكلماتِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، فالمشيئة والكلام من هذا الوجه ، كما العلم إذ مِنْهُ قَدِيمٌ أول فذلك العلم المحيط المستغرق ، ومنه عِلْمٌ بِآحَادٍ تَحْدُثُ تِبَاعًا إذ تُنَاطُ بمشيئة تُرَجِّحُ وكلماتِ تكوينٍ تَنْفُذُ فَهِيَ تُخْرِجُهَا من العلم الأول ، علمِ التقديرِ المجرَّد إلى آخر هو المفصَّل وهو تأويل بآحاد في الخارج تحدث ، آحادِ الموجودات بَعْدَ عَدَمٍ ، فَهِيَ تُصَدِّقُ آحادَ المقدورات فِي العدم ، فِي العلم الأول المحيط ، وَإِنْ صَحَّ أَنَّ لها وجودا في الأزل ، فهو وجود المقدور العلمي المجرد لا وجود عين في الخارج تثبت ، إذ ليس ثم في الأزل إلا واحد هو واجب الوجود الأول ، الرب العليم المهيمن ، جل وعلا ، فَثَمَّ من آحادِ الموجوداتِ في الخارج تَصْدِيقٌ لأول من العلم المحيط ، فَثَمَّ آحاد من المعلومات المقدورات في الأزل ، وهي العدم الأول ، ولها في الوجود : وجودِ العلمِ القديم نَوْعًا ، العلمِ المحيطِ المستغرِق ، فتأويله في الخارج آخر من عَلْمٍ يُفَصِّلُ ، وبه يخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، وثم عَلْمٌ يُدَبِّرُ المقدورات أَنْ تَجْرِيَ عَلَى سَنَنٍ في الخارج هو المحكَم مع تَهْيِئَةِ المحالِّ بِخَلْقٍ هو المتقَن ، إِنْ في تقديره في الأزل أو في تأويله في الخارج بَعْدَ وجودٍ تال يُصَدِّقُ ما كان أولا من تقدير علمي يَسْتَغْرِقُ ، وَثَمَّ علم يحصي ، فهو ، أيضا ، مما آحاده في الخارج تحدث تصديقا لعلم أول هو القديم في نَوْعِهِ ، وذلك ما يقال في المشيئة المرجحة وكلمة التكوين النافذة ، فَهُمَا ، أيضا ، مِمَّا قَدُمَ نَوْعُهُ فِي الأزلِ وكان من آحادٍ في الخارج ما يُصَدِّقُ ، وبه خروجُ المقدورِ المعدومِ إلى الوجود على مَاهِيَّةٍ تُوَاطِئُ ما كان من العلم الأول المستغرِق ، فالوصف قديم النوع ، وآحاده في الخارج تحدث ، إِنِ العلمَ أو المشيئةَ أو الكلامَ ، وإن كان الْعِلْمُ ، بَادِيَ النَّظَرِ ، وَصْفَ ذاتٍ يَقْدُمُ ، فَهُوَ يَقُومُ بِالذَّاتِ أَزَلًا وإن كان من آحادِ المعلومات في الخارج ما يَحْدُثُ فَهُوَ لِعِلْمٍ أول يُصَدِّقُ ، وَكَذَا يُقَالُ في المشيئة وما يكون عنها من أوصاف فعل كالخلق والرزق والتدبير ، والكلام وما يكون عنه من كلماتٍ بها تأويل مَا تَقَدَّمَ من الخلقِ والرَّزق والتدبير المحكم ، فآلت القسمة إلى : واجب الوجود الأول ، وله مِنَ الذَّاتِ ما كَمُلَ فِي الأزلِ ، فَلَيْسَتِ المجرَّدة من الوصفِ ، بل لها من ذلك ما بَلَغَ الكمال في الحد ، إِنْ وصفَ الذاتِ الذي يقوم بها أزلا ، أو ما كان من وصف الفعل الذي يَقْدُمُ نَوْعُهُ مَعَ آحادٍ لَهُ فِي الخارجِ تَصْدُقُ ، فذلك واجب الوجود في الأزل : وهو ما له الكمال المطلق أَوَّلًا ، وذلك وصف عام يَسْتَغْرِقُ : الذات والاسم والوصف والفعل والحكم جَمِيعًا ، وَإِنْ نَوْعًا قديما هو الأول في أوصافِ الفعلِ فَلَا يَزَالُ تَصْدِيقُهَا فِي الخارجِ يَحْدَثُ آحادا هي الموجودة فهي تُوَاطِئُ أخرى في العلم المحيط هي المقدورة ، فآلت القسمة إلى : واجب الوجود في حَدٍّ ، وهو واحد في الذات ، أَحَدُ في الوصف فلا شريك له ، والجائز في آخر وهو ما سواه من هذا الوجود ، فما سوى واجب الوجود الأول ، فهو الجائز مبدأ النظر ، وهو على حد العدم حتى يكون من المشيئة ما يرجح فَهُوَ يُخْرِجُهَا من العدم إلى وجودٍ تالٍ يصدق ، وذلك الوجود المحدَث بعدَ عَدَمٍ فَلَيْسَ كوجود الخالق ، جل وعلا ، الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من الكمال ما عَمَّ فاستغرق الذات وهي واحدة ، والوصف وهو مما يكثر على التفصيل آنف الذكر ، فَمِنْهُ الذَّاتِيُّ الذي يقوم بالذات فلا يُفَارِقُهَا فَلَا يُنَاطُ بالمشيئة ، كما الحياة وهي في الباب أصل ، بل هي لكلِّ وصفٍ أصلٌ ، إِنِ الذَّاتِيَّ أَوِ الْفِعْلِيَّ ، فالفعلي تال في القسمة ، وهو مما يناط بالمشيئة المرجحة وإن كان نَوْعُهُ أَوَّلًا في الأزل يَقْدُمُ , ومنه : المعنوي الذي دل عليه العقل ، بادي النظر ، كما الحياة والعلم وأوصاف اصطلح المتكلمون أنها أوصاف المعاني السبعة ، ومنه الخبري الذي لا يدل عليه العقل ، مبدأَ النَّظَرِ ، لا أنه المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل هو الجائز الذي لا يُثْبِتُهُ العقل ولا يَنْفِيهِ ، فلا يَنْفَكُّ يطلب مرجِّحًا من خارج ، وذلك نَصُّ الوحيِ النَّازِلِ الذي أثبت من ذلك ما به الكمال يطلق ، فذلك أصلٌ يُسْتَصْحَبُ فِي مسائلِ هذا الباب الجليل كَافَّةً ، باب الإلهيات ، فَحَصَلَ من ذلك واحدٌ في الذات ، أَحَدٌ في الصفات ، له من ذلك كمال مطلق ووجود واجب هو الأول ، وله من الاسم والوصف والفعل والحكم ما يَتَعَدَّدُ ، إِنْ أَنْوَاعًا قديمةً في الأزل أو آحادًا لها في الخارج تصدق ، وذلك تأويل ما تَقَدَّمَ من الجمع فِي قوله ![]() ![]() فَكَانَ مِنْ نُصُوصِ الإلهيات كَثِيرٌ يَثْبُتُ ، والذات مع ذلك واحدة لا تَتَعَدَّدُ ، وإنما الكثرة تَنْصَرِفُ إِلَى معانِي الكمال المطلق التي تقوم بها أزلا ، فمنها نَوْعٌ قديم ومنها آحاد في الخارج تصدق بما كان من مشيئة تُرَجِّحُ وَكَلِمِ تكوينٍ يَنْفُذُ . فكان من التوكيد جُمَلٌ تقدمت ، منها اللفظي فهو نص ، كما الناسخ وهو في الباب أصل وصدر أول له من التَّقَدُّمِ مَا يُطْلَقُ ، فَلَا يَتَقَدَّمُهُ مُؤَكِّدٌ آخر ، كما المثال المشهور المتداول من تزاحم المؤكدات اللفظية ، كما الناسخ ولام الابتداء ، فلا يزاحم الناسخَ وهو الأقوى ، لا يزاحمُه غَيْرٌ كَمَا لَامُ الابتداء ، فإذا اجتمعا تأخرت اللام وهي الأضعف فصارت المزحلقة التي تدخل على الخبر ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() وَثَمَّ من وجوه التوكيد ، أيضا ، ما كان من تكرار الفاعل ، فاعل المبنى الذي اتصل بالعامل في "أَنْزَلْنَا" ، وفاعل المعنى بما كان من المبتدإ "نحن" ، وذلك تقديره قبل دخول الناسخ ، وثم من التوكيد أُخْرَى : تقديم ما حقه التأخير من الظرف "إليك" في قوله ![]() ومن ثم كانت العلة بما دلت عليه اللام في : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ، فهي ظاهر في المعنى مع احتمال آخر ، بل من اللام مبدأ النظر ما يجري مجرى المشترك إذ تعددت فيها المعاني وازدحمت ، إِنَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الاسمِ أو أخرى على الفعل ، فكان من قرينة الدخول على الفعل ، وقرينة نصبها له في النحو ، مع دلالة السياق إذ يُبِيِّنُ ، كما تقدم في مواضع ، عن مراد المتكلم مبدأ النطق ، فكان من كل أولئك ما رَجَحَّ دِلَالَةَ التَّعْلِيلِ ، فَأَزَالَ إجمالَ اللَّامِ إذا جُرِّدَتْ في النُّطْقِ وَالْكَتْبِ ، فَثَمَّ من ظاهرٍ قد تَرَكَّبَ منها ومن السياق الذي انْتَظَمَهَا ، ثَمَّ من ذلك قرينة تُعَيِّنُ ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، المعنى المرادَ وهو التعليل فكان منه الحكم بالعدل : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) ، وثم من عموم "أل" في "الناس" ما يستغرق الخلق كافة ، المؤمن والكافر ، فيقضي بالحق ، وإن لكافرٍ على مؤمن ، كما في سبب نزول يُبَيِّنُ ، فكان من قضاء الكتاب ليهودي على مسلم ، إذ الحق أَنْ يُنْصَرَ المظلومُ ، ولو كافرا ، ويؤخذ على يَدِ الظالمِ ، ولو مسلما ، فيحكم صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما آراه الله ، جل وعلا ، وذلك مِمَّا به يحتج أهل الظاهر أَنَّ في النصوص كفاية تجزئ دون قياس على أصل منصوص هو الأول ، بل النص يجزئ منطوقا أو مفهوما ، وقد يجاب بِأَنَّ ما أرى اللهُ ، جل وعلا ، رسولَه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما يصدق في المنقول والمعقول كافة ، فَكَمَا أراه النص فقد أراه القياس على الأصل بما يُسْتَنْبَطُ من العلة المؤثرة المتعدية من الأصل إلى الفرع ، وهو ما اخْتُصَّ به صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقينا يجزم لقرينة عصمة تَثْبُتُ ، وإن كان ثم حظ لِتَالٍ من القبيل المجتهِد إذ يَقْتَفِي آثارَ الرسالة بما حصل عنده من الكتاب ، إِنِ الآيَ أو الخبرَ ، فيجتهد في نَوَازِلِ الأحكام أَنْ يَقِيسَ الفروعَ الحادثة على الأصول الثابتة ، وله الأجران إِنْ أَصَابَ ، والأجر إِنْ أَخْطَأَ ، خلاف ما يكون من صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من الوحي ما يرشد إن خالف عن الأولى ، وذلك مما استوجب القيد ألا يكون في تَحْقِيقِ المناط ، فالعصمة في بَلَاغِهِ وَبَيَانِهِ أصلا هو المستصحَب إلا أن يكون من ذلك استثناء يجري مجرى الآية الشاهدة ، كما في هذا الموضع ، إذ أطلعه الله ، جل وعلا ، على الجاني المسلِم فانتصر لمظلوم يهودي أَنْ يُؤْخَذَ بما لم يُقَارِفْ ، وكان من الختام ما يَرْفِدُ ، فَحُكْمٌ بالعدلِ قَدْ أُمِرَ به ، ونهي عن الخصومة والمجادلة عن الخائن ، فـ : (لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ، وذلك مما يجري مجرى الإطناب باللازم ، فلازم الحكم بالعدل الذي أَرَى اللهُ ، جل وعلا ، رسولَه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لازمه النهي عن ضد من الظلم ، ومنه أن يخاصم عن الخائن الفاجر ، فـ : (لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ، ولو كان المسلمَ ، فذلك ، من وجه ، مثال يبين عن عام قد استغرق وهو الظلم الذي نَهَى عنه الرب المهيمن ، جل وعلا ، فمن آحاده الخصام عن الخائن ، فكان من النهي : نهي التحريم الجازم ، مع إطناب بالكينونة الماضية ، وهي ، عَامَّةً ، تندرج في أصل يطرد لدى أهل المعاني إذ زيادة المبنى مَئِنَّةُ أخرى في المعني ، وهي ، خَاصَّةً ، مَئِنَّةُ ديمومة في الوصف ، وهي أبلغ في الدلالة من القول في غير التنزيل المحكم : ولا تخاصم عن الخائن ، وثم من الْخَصِيمِ مبالغة في القياس فهي فعيل من فاعل ، خصيم من مخاصِم الذي اشتق من الرباعي "خَاصَمَ" ، وثم من المفاعلة في المخاصمة ما يجري مجرى المجادلة ، وإن كانت المخاصمة أعم فمنها المجادلة بالحجة والبرهان ومنها المجالدة بالسيف والسنان ، فَنُهِيَ أن يخاصم عن الخائن مطلقا فلا يجادل عنه ولا يجالد . وثم من وجوه التوكيد ، أيضا ، تقديم الظرف "للخائنين" وحقه التأخير مَئِنَّةً تطرد من الحصر والتوكيد . فَثَمَّ من الدلالة الخبرية في الآية ما يَحْكِي أخرى إِنْشَائِيَّةً تَأْمُرُ أَنْ يَحْكُمَ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما أَرَاهُ الله ، جل وعلا ، من آي الصدق والعدل , ولا يخاصم عن الخائن ، فاستعيرت الدلالة الخبرية لأخرى إنشائية تلازم . وذلك مما خوطب به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة ، وثم من عموم المعنى ما يجاوز لِمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا من قرينة أَبَدًا تُسْتَصْحَبُ وهي العموم في خطاب التشريع المنزَّل فذلك خطاب عام يستغرق كل من له من الأمر شيء في الحكم ، وإن خَاصًّا لا يجاوز قَبِيلًا يَصْغُرُ من آحاد من الخلق ، فالخطاب يَتَنَاوَلُ كُلَّ حاكم ذي ولاية ، عَمَّتْ أو خصت ، فليس ، بداهة ، مما اقتصرت دلالته على صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل ذكره في هذا الموضع من باب المثال لعام فلا يخصصه وإنما يُبَيِّنُهُ ، أو هو كالسبب الذي نَزَلَ عليه العام فلا يخصصه ، وإن احتمل ، فلا يعتبر ذلك إلا بقرينة ترجح تخصيص العام بعين السبب أو صورته ، وإلا فالعموم المستغرق هو أصل أبدا يستصحب حتى تكون ثم قرينة في الباب ترجح ضدا على التفصيل آنف الذكر . والله أعلى وأعلم . |
#9
|
|||
|
|||
![]() فَلَمْ يكن من كبار المجتهدين من الصدر الأول مَنِ ادَّعَى في حكمه عصمةً تضاهي النبوة ، ولو الخلفاءَ الراشدين ولهم سنة متبوعة ، وشرطها ألا تخالف عن شرعة منقولة من آي أو خبر ، مع أخص في الوصف وهو ما اشتهر ولم يعلم له مخالف ، لا سيما في خلافة الشيخين ،
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فلم يكن من رَأْيِ عُمَرَ ما يقطع أنه الصواب ، وإن رَجَحَ لديه بما كان من اجتهاد ، يدخل في حد الخبر أَنْ : "«إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»" ، فهو ، مع القدر الفارق بداهة بين كلام النبوة وكلام غيرها ، فكلامها حَقٌّ يَقْطَعُ لا كَكَلَامِ غَيْرِهَا فهو ظن يَرْجُحُ ، فَهُوَ كما قال الشافعي : "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ، فلم يقطع أنه الصواب وإن رجح بما كان من اجتهاد فليس التخرص والتحكم تَرْجِيحًا بلا مرجح إلا ما كان من الهوى والذوق المحدث مع غِيَابِ آلة معتبرة في الاستنباط إلا الاتكاء على الأرائك من جمع قد شَبِعَ فَكَسِلَ ، فَلَمْ يَنْهَضْ في طَلَبِ عِلْمٍ يَنْفَعُ لِيَصْدُقَ في قوله أنه محل اعتبار في باب الاجتهاد والفتيا ، وإن أصاب الحق في نفس الأمر فلا يكون له منه إلا الإثم إذ أصابه تخرصا لا تَحَقُّقًا ، فيدخل من هذا الوجه في الأثر أَنْ : "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ" ، وفي رواية : "من قال في القرآن برأْيِهِ؛ فليتبوأ مقعده من النَّار" على ضعف في أسانيدها ، فكان من الأول ما أبان عن الحكم ، وذلك ما حُدَّ حَدَّ الشرط الذي عَمَّ "مَنْ" ، وهو نَصٌّ فِي العاقل ، وذلك ، بداهة ، وصف القائل ، فَعَمَّ كل محل يعقل ، قوة أو فعلا ، ذكرا أو أنثى ، واحدا يفتي أو جمعا به هيئة الفتيا تُعْقَدُ فيكون منه ظن وتخرص يستعجل الرأي لا سيما إن كان مداهنة لذي سلطان وحكم ، فَيَتَزَلَّفُ الواحد أو الجمع طَلَبًا لحظ معجل من جاه أو مال ، أو يكون من الحسد ما ملأ الصدر فخالف بصاحبه عن جادة الحق أَنْ يُفْتِيَ بِحِلِّ دَمِ الخصمِ الذي يَكْرَهُ ، فَيَسْتَحِلُّ منه ما قد حَرُمَ بِنَصِّ الشرع ، فذلك أول يستصحب عصمةً تَثْبُتُ لكلِّ ذِي إيمانٍ يجزئ حتى يكون من الدليل حَقٌّ به يُسْتَبَاحُ المحرَّم وينتهك المعصوم فلا يكون إلا بدليل فهو ، من هذا الوجه ، ضرورة تُقَدَّرُ بالقدرِ ، إذ تخالف عن الأصل ، أصل العصمة الأول فهو أبدا ما استصحب حتى يكون من الدليل معتبر يَنْقِلُ ، فَثَمَّ من العموم آنف الذكر ما استغرق كل قائل ، وهو ما يجاوز في المعنى ، فَاسْتَغْرَقَ كل مَنْ يُفْتِي ، والفتوى قد تكون بالعمل أو بالتقرير كما تكون بالقول ، فذكر القول ، من هذا الوجه ، يَجْرِي مَجْرَى الخاص الذي يُرَادُ عام يتناول مواضع الاختيار من القول والفعل والتقرير ، وكذا يقال في ذكر "القرآن" ، فإن من العموم ما يجاوز فمن قال في السنة بِرَأْيِهِ فهو أيضا مخطئ ، وَثَمَّ مناط أوسع ، فمن قال في الشرع بِرَأْيِهِ فَأَفْتَى بغير علم ، سواء أكان ذلك من التفسير أو من الحكم ، فالقول في القرآن أو السنة أو الوحي ، القول فِيهَا جميعا يَتَنَاوَلُ تَفْسِيرَ الألفاظ واستنباط الأحكام ، وثم من القيد بالحال "بِرَأْيِهِ" ، والباء فيه تحكي الآلة مع استصحاب لها إذ بها يعالج النص ، فيكون من ذلك رأي محض لا يستند إلى دليل ، فليس إلا التخرص والظن قولا على الله ، جل وعلا ، بغير علم ، فليس ذلك من الرأي المحمود بما يكون من اجتهاد يعتبر في قياسٍ على أصل يثبت أو آخر في باب الاجتهاد أخص إذا لم يكن ثم نص ولا أصل يقاس عليه ، فيكون من الرأي ما اعتبر في باب العرف والاستحسان والمصالح المرسلة والذرائع ، ولكلٍّ حَدٌّ قد أُحْكِمَ ، وشرطه ، أَبَدًا ، ألا يخالف عن الوحي المنزل وأن يكون من قائله قصد يحسن وعلم ينصح ، فيكون من الورع والعلم ما به تَطْمَئِنُّ نَفْسُ المستفتي ، فَخَرَجَ الرأيُ المحمودُ ، من هذا الوجه ، فالنص يَذُمُّ من قال بالرأي المجرَّد هوى وذوقا ، فذلك ما ذُمَّ ، وهو ما وُصِفَ بالخطإِ ، وقد دخلت عليه "قد" تحقيقا إذ كان من عامله ماضٍ "أَخْطَأَ" ، وهو ما استوجب اقترانه بالفاء ، فاء الربط ، مع دلالة أخرى تنصح من فَوْرٍ وتعقيب وذلك آكد في التحذير في مناطٍ يُذَمُّ صاحبه ، فالخطأ هنا ليس خطأَ المجتهد ذي الأجر الواحد بل هو خطأ المجترِئِ الخارص ، ولا تخلو الفاء ، أيضا ، مِنْ سَبَبِيَّةٍ ، إذ الشرط عِلَّةٌ والجواب مَعْلُولُ عنه يَصْدُرُ ، فَاقْتَرَنَا من هذا الوجه ، وذلك ما أكسب الفاء معنى السببية وإن لم تكن نصا فيها ، وكان من الثاني ما يبين عن الجزاء فهو كالكذاب الذي يتعمد ، فـ : "«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»" ، فإن من يُفْتِي تخرصا وظنا فهو كاذب على الشرع إذ لم يعالج من أدلته ما يصيره الصادق في طلب الحق الباذل لما أطاق من الجهد ، والخبر بداهة إِذْ يَذُمُّ ويحكي من الوعيد ما يُنَفِّرُ ، فهو في قوة النهي ألا تقولوا في القرآن بالرأي المجرد بلا علم مصدَّق ، فهو الخبر الذي استعير لإنشاء يلازم . فَأَثِمَ من قال برأيه المجرد ، أَثِمَ في كل حال ، كما المجتهد المعتبر يُثَابُ في كل حال ، وإن تفاوت الأجر فهو بين الواحد والاثنين كما في الخبر آنف الذكر : "«إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»" ، فَثَمَّ من القيد ما عُطِفَ على الحكم ، وهو الاجتهاد فذلك قيد يخرج الحاكم من عهدة الذم إذا أخطأ ، فكان من ذلك اجتهاد معتبر قد استجمع صاحبه الآلة ، فإذا أصاب فقد بَلَغَ الحسنيين : الإصابة والأجر ، وإن أخطأ فقد أصاب واحدا وهو الأجر ، وإن كان دُونَ أجرِ المصيب فلا يخلو المخطئ من تَقْصِيرٍ قَدْ صَارَ به المفضول لا الفاضل ، وإن لم يكن المذموم إِذْ خَرَجَ من عهدة الذم بما بذل من الوسع واستفرغ من الجهد ، فشرطه ، أيضا ، قد ائْتَلَفَ من شطرين بهما القسمة في الخارج تَنْصَحُ : الحكم والاجتهاد ، فلا حكم بلا اجتهاد معتبر ، بل ذلك مئنة التحكم والتخرص قَوْلًا عَلَى الله ، جل وعلا ، بلا علم ، وذلك ما قد يَنَالُ المجتهد في مواضع إذا قَصَّرَ وَتَكَاسَلَ ، فعنده من الاجتهاد قوة في النظر لا تَنْفَكُّ تطلب ما لها يَتَأَوَّلُ بِفِعْلٍ في الخارج يصدق ، وهو ما استوجب بذل وسع واستفراغ جهد ، فإن قعد ولم ينهض ، فذلك كسل يُذَمُّ وَيَقْبُحُ ، فلا يكون لمجتهدِ القوَّةِ دون الفعل الذي يصدق أن يباشر من الأمر شاهدا في الخارج يصدق ، فلا يكون لمجتهد القوة أَجْرٌ إذا كسل أو سكت في موضع بَيَانٍ لا عن شبهة إكراه معتبرة فليست مما يطرد في العلماء رخصةً كما العامة ، فلا يطلق القول بِإِكْرَاهٍ في مواضع فُتْيَا قد عمت بها البلوى ، فقد أُخِذَ الميثاق على أهل العلم ما لم يؤخذ على غير ، وله المثل يضرب بما كان من أحمد في الفتنة ، فذلك مثال في الباب هو القياس ، فلا يكون لمجتهدِ القوَّةِ أَجْرٌ إذا كسل أو سكت في موضع بَيَانٍ لا عن شبهة إكراه معتبرة ، على التفصيل آنف الذكر ، ولا عن ظَنٍّ يرجح أن ثم من المجتهدين من يكفيه المؤنة فَيُفْتِي في النازلة فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يُفْتِيَ المجتهدون جميعا ، وإنما يكون من واحد فُتْيَا ، ويكون من نَظَرِ غَيْرٍ فِيهَا ما احتمل ، فقد يسكت رِضًا بما صنع ، وقد يسكت خشية إكراه يلجئ ، وقد يسكت إذ لم يترجح له في النازلة ما تَرَجَّحَ للأول ، فدخل الاحتمال في دليل السكوت ، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال ، وشرطه أن يكون الاحتمال المعتبر ، لا جرم كان من إِجْمَاعِ السكوتِ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ تحتمل ، فَلَهَا اعتبار من هذا الوجه ، مع آخر على ضد ، فلا تفيد القطع كما الإجماع المصرح ، فالاحتمال فيه قد انْتَفَى . فالمجتهد لا ينال الأجر ، واحدا أو اثنين ، إلا إذا بذل الوسع واستفرغ الجهد أولا في استيفاء الآلة عَامَّةً : آلة الاجتهاد المعتبرة ، وثانيا في محل النازلة خَاصَّةً ، فكان من الشرط ما ائْتَلَفَ في كل شطر : "«إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»" ، فذلك شرط مجموع من الحكم والاجتهاد والإصابة ، وله من الجواب ما دخلت عليه الفاء في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "فَلَهُ أَجْرَانِ" ، وذلك من موضع تجب فيه الفاء رِبَاطًا بين شرط وجواب يقرن إذ كان من الجواب اسمية وهي من جملة مواضع استقرأها أهل الشأن في الباب ، باب الجواب المقرون بالفاء ، ولا تخلو من حصر وتوكيد قد اطرد في كلام أهل المعاني إذ قدم الظرف "لَهُ" وحقه أن يتأخر ، وذلك في الوعد آكد وأنصح ، مع دلالة اللام اختصاصا به امتاز المجتهد المصيب من غير ، ولا يخلو من استحقاق لا إيجابا على الله ، جل وعلا ، وإنما تأويلا لِمَا قد وَعَدَ بِهِ صِدْقًا وهو الكريم فلا يخلف وعده ، وثم من تنكير المبتدإ المؤخر "أَجْرَانِ" ما يجري مجرى النوعية وهي مما يحتمل فَيَجْرِي مجرى الأضداد ، فيحتمل التعظيم وآخر يحقر ، فحصل من ذلك من الإجمال ما يشكل ، وكان من قرينة السياق ما يُبَيِّنُ إذ رَجَّحَ في موضع الوعد بالخير ، رَجَّحَ ، بداهة ، التعظيم ، وثم من الفاء في "فَلَهُ" ما يجري ، أَيْضًا ، مجرى الْفَوْرِ وَالتَّعْقِيبِ ، وهو مما يحسن في مواضع المدح والوعد ، ولها ثالث يطرد بما ثبت بأصل الوضع الأول ، فلا يخلو من سَبَبِيَّةٍ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، وإن لم تكن نصا في الباب ، كما فَاءُ السَّبَبِيَّةِ فهي أخص في القياس ، فتلك فاء قد استجمعت من الدلالات كَثِيرًا يَنْصَحُ ، وبه ، كما تقدم في مواضع ، به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فَثَمَّ شطر أول ، وثم آخر ، فـ : "إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" ، وبه المقابلة قد اكتملت بَيْنَ شَطْرَيْنِ قد تَرَاكَبَا من ألفاظ انْتَظَمَهَا سِيَاقُ الجملة ، فَدَارَ الحاكم المجتهد بين الأجرين والأجر ، وَهُوَ ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، خَبَرٌ لَا يَنْفَكُّ يَدُلُّ على إنشاء ، ولو دلالةَ التَّلَازُمِ ، إذ يَحُضُّ الجمعَ عَامَّةً أَنْ يَطْلُبَ من العلم ما يَنْفَعُ ، ويحض الحاكم المجتهد خَاصَّةً أَنْ يَتَحَرَّى من الحق ما به يحكم ، بل ثم من إيجاب أخص إذ منصب الحكم مما عمت به البلوى فمن تصدى له فقد وجب عليه من استيفاء الآلة ما لا يجب على غيره من آحاد لم يَتَصَدَّوْا لما له قَدْ تَصَدَّى ، فَلَئِنْ كان الفرض مبدأ النظر : فرض الكفاية الذي يَتَوَجَّهُ إِلَى الجمعِ ، فلا يجب على أعيانهم جميعا أَنْ يَبْلُغُوا حَدَّ الاجتهاد في الشريعة ، فذلك ، بداهة ، ما لا يُتَصَوَّرُ ، بل هو من التكليف بالمحال ، وإن حصلَ لكلٍّ من آلة النظر والعقل ما يصدق فيه أنه المجتهد بالقوة ، فلا يكون من الفعل ما يُصَدِّقُ إلا آحادا في الخارج يَثْبُتُ لهم الفعل وَيَنْصَحُ بِمَا اسْتَفْرَغُوا من الوقت والوسع ، وَلَيْسَ كُلُّ أحدٍ يطيق ذلك ، بل انصراف الجمع كله إليه مما به تَتَعَطَّلُ فروض كفاية أخرى ، فكان من انصرافِ جمعٍ مخصوصٍ في العلوم والفنون كافة ، ومنها الاجتهاد في حكومات الشريعة وهو محل الشاهد ، كان من ذلك ما به صلاح الدين والدنيا ، فيجب من الفرض الكفائي على المجموع ما لا يجب من الفرض العيني على الجميع ، فالاجتهاد في الشريعة خاصة وفي الصنائع عامة ، ذلك مما يجري مجرى الفرض الكفائي ، فيتوجه خطابه إلى المجموع لا الجميع ، وإن كان من تَالٍ أخص ، فإن الخطاب في حق من تصدى لمنصب الاجتهاد في دين أو دنيا ، فإن الخطاب في حقه خطاب التعيين ، فذلك في حقه فرض العين ، وإن كان في حق الجمع فَرْضَ الكفاية ، ولا يخلو ، كما يقول أهل الشأن ، أن يكون منه فرض عين يَنَالُ كل أحد ، فالجمع الأعم يجب عليهم من حَضِّ جَمْعِ المجتهدين الأخص ، يجب عليهم من ذلك ما هو فرض عين مع تهيئة الأسباب التي بها يُصْنَعُ المجتهد على عين تَنْصَحُ ، كما تقدم من مثال الوقف ، فهو مما به الجمع يُهِيِّئُ لطلبة العلم أسبابَ كفايةٍ وَتَفَرُّغٍ ، مَعَ قَطْعِ يَدِ مِنَّةٍ تَعْظُمُ قد تَحْمِلُهُمْ على المداهنة وَالتَّزَلُّفِ ، مع آخر يرد المرجع إلى وحي قد جاوز العقول كافة ، الفرد والجمع ، فهو يحسم من الاستبداد والطغيان مادة مِنْهَا جَلِيٌّ بما يباشر الحاكم المتسلط ، ومنها آخر خَفِيٌّ فهو مما يدق في الوصف ، كما المثل يضرب بماهيةِ تَمْثِيلٍ وَنِيَابَةٍ في نُظُمِ حُكْمٍ وَسِيَاسَةٍ ، فَيَنُوبُ أفرادٌ عن الجمع في وظيفة التشريع والحكم مع إطلاق يدهم ، ولو خالفوا عن مصالح الجمع الذي اختارهم ، فضلا عن مخالفة المرجع المجاوز من خارج ، فلم يكن من الاختيار الحر ! ، لو سُلِّمَ أَنْ لَيْسَ ثَمَّ مُؤَثِّرٌ من خارج ، ولو خَفِيًّا يلطف بما احتكر الملأ من أسباب دعاية تُزَخْرِفُ فهي تَصْنَعُ عَقْلَ الجمعِ على مُكْثٍ بما يواطئ مصالح الملأ الذي يشرع ويحكم ، فلا ينفك يصدر عن هوى وذوق خاص به يُصْنَعُ آخر أعم فلم يخرج عن حَدِّ المحدَث الذي يحتمل الخطأَ بل هو إليه أقرب إذ يحكي حَاجَةَ ذِي الهوى والذوق وَفَقْرَهُ ، ولأجله يَتَكَلَّفُ من التأويل ما به يكسو الباطل والظلم لحاء الحق والعدل ! ، فكان من ذلك اختيار حر ، لو سُلِّمَ بِهِ ، فلا يعصم من الخطإ بما جُبِلَتْ عليه النفوس من الاستبداد والطغيان إذا حَصَلَ لها من ذلك سَبَبٌ ، فمن ناب عن جمع واكتسب خاصة التشريع المطلق بما قد عمت به البلوى في مثال سياسة محدث ، مَنْ تِلْكَ حَالُهُ فَلَا يَنْفَكُّ يَطْغَى وَيُخَالِفُ عن كلِّ معيارٍ ، ولو معيارَ مَنِ اختاره ، فكيف بآخر لا يكون فيه اختيار حر ، ولو من خَلْقٍ لهم ما لهم من الهوى والحظ ، فاستجمع السوأتين حَشَفًا وسوء كَيْلَةٍ ، فلا مرجع من حق يجاوز العقل ، ولا اختيار من الجمع ، فالمثال المحدَث لا يجاوز في أحسن أحواله : الاختيار الحر مع ما يكتنفه من تأطير بما احتكر الملأ من أدوات التأثير ، فَلَوْ نَصَحَ الاختيار فلا ينفك جمع التشريع المختار يطغى بما له من وصف في الباب يطلق ، وصف المشرِّع ، فلا يحسم هذه المادة إلا أن يخضع كلٌّ ، الجمع والنواب ، لمرجع من خارج يجاوز ، فهو قاض في العقول كافة ، الفرد والجمع ، وله من عصمةٍ من الهوى والحظ ما لا يسلم منه خلق ، ولو تحرى ما تحرى من العدل ، وأن يكون من الجمع بعد تحرير المرجع ، أن يكون من الجمعِ من يختار النائب في وَظَائِفِ الحكم والإدارة ، مع تال يُحْكِمُ الرقابة ، فيرقب النائب ألا يُسِيئَ ، فإن أساء وَجَبَ تقويمه كما الصديق قد أرشد ، فـ : "إن أحسنتُ فأَعِينوني وإن أسأتُ فقوِّموني" ، وذلك عنوانٌ نَاصِحٌ في الباب ، باب الرِّقَابَةِ في مسائل الحكم والسياسة ، وهو ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج مقابلة بَيْنَ جملتين مُرَكَّبَتَيْنِ ، مع طباقِ إيجابٍ بالنظر في الألفاظ المفردة ، وإن كان من ذلك طباق ناقص بالنظر في مادة الإعانة في الشطر الأول : "إن أحسنتُ فأَعِينوني" ، ومادة التقويم في الشطر الثاني : "وإن أسأتُ فقوِّموني" ، وكذا يقال في الإساءة والتقويم ، فإن ثم من التضمين ما تَنَاوَلَ الإساءة فهي تحكي الاعوجاج ، وهو الأليق بالتقويم في علاجه . وَكُلٌّ قَدْ حُدَّ شَرْطًا ، وذلك آكد في الدلالة بما كان من تَلَازُمٍ بين الشطرين ، وثم من الأمر في كل ما اقترن بالفاء ، وذلك ، أيضا ، ما وجب فيه الاقتران مع دلالة تعم رِبَاطًا هو الواجب مع تعقيب وفور وهو دليل مسارعة في الامتثال وسببية لا تخلو منها فاء ، فحصل من ذلك أصل في الباب ، باب الرقابة في الفعل ، وهو تال بعد تحرير المرجع في الحكم ، فَيَسْلَمُ المثالُ من الطغيان والاستبداد ، فلا يحسم ، لو تدبر الناظر ، إلا أن يكون ثم مرجعية هي الرسالية المنزلة ، ورقابة هي الاجتماعية المؤطِّرة ، فـ : "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" . فكان من القسم مُؤَكِّدٌ في المعنى به قد صُدِّرَ الكلام ، ولا ينفك يستحضر الذهن أَنْ يَتَهَيَّأَ لِقَبُولِ ما تلا في الذِّكْرِ ، وثم من الجواب ما أطنب ، وكلٌّ قَدْ صُدِّرَ بِلَامِ جَوَابٍ أخص ، فَهِيَ لَامُ الابتداءِ بالنظر في جنس أعلى يجرِّده الذهن ، فمنه في الخارج أنواع وآحاد مِنْهَا لَامٌ تَتَصَدَّرُ جوابَ القسمِ ، فاكتسبت منه الاسم ، قَيْدًا أخص فَهِيَ لامُ القسمِ ، مع آخر من توكيد بالنون المثقلة في "لَتَأْمُرُنَّ" ، ولا يخلو الجواب من حذف قياسي يَتَنَاوَلُ المبنى بما اطرد في قانون النحو ، إذ حُذِفَتِ النون ، وهي علامة رفع الأفعال الخمسة ومنها "تَأْمُرُونَ" ، فَحُذِفَتِ النون لِتَوَالِي الأمثال إذ بعدها نون توكيد مثقلة وهي في قوة اثنين في المبنى نون ساكنة فأخرى متحركة ، فحذفت نون الرَّفْعِ ، والتقت واو الجمع مع أولى نوني التوكيد وهي الساكنة فحذفت الواو منعا لالتقاء ساكنين وضم ما قبلها فهو علامة على المحذوف ، وحد اللفظ على هذه الصورة ، وذلك حذف هو إلى قانون النحو أقرب منه إلى البيان إلا أن يُقَالَ إن منه ما ينفع في تخفيف النطق وذلك مما به المعنى يسهل في الفهم . وثم من شطر أول : "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ" ، ثَمَّ منه مَا استوفى أجزاء القسمة في تكليف الحسبة : أمرا بمعروف ونهيا عن منكر ، وهو رسم الخيرية التي امتازت بها الأمة الرسالية ، فـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، فذلك معدن التَّفْضِيلِ المعتبر ، لَا عِرْقًا أو عُنْصُرًا ، وإنما وَصْفًا ذَا دلالة تَسْتَغْرِقُ كُلَّ مَنْ أَخَذَ الكتابَ الخاتمَ بقوة ، من العرب أو من العجم ، فَلَهُ من الْخَيْرِيَّةِ حَظٌّ ، إذ أُنِيطَتْ بِوَصْفٍ وتكليفٍ لا بِعِرْقٍ أو قَبِيلٍ ، فكان من المقابلة بين الشطرين في قَوْلِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ" ، كان من ذلك ما اسْتَغْرَقَ شَطْرَيِ القسمة في التَّكْلِيفِ فلا يخرج عن الفعلِ وَالتَّرْكِ ، فأمر بمعروف وذلك إيجابٌ يُرَادُ لِذَاتِهِ ، ونهي عن منكر ، وذلك سلب يُرَادُ لغيره ، فالمحل لا يَشْغَرُ أبدا إذ النفس كما تقدم في مواضع من كلام بعض من حَقَّقَ ، النفس قد خُلِقَتْ لتفعل لا لِتَتْرُكَ ، فَلَا تَتْرُكُ شيئا إلا وتفعل آخر ، سواء أكان ضِدًّا أم ضِدًّا دائرا أم غَيْرًا قد انفكت جهته من الأول ، فلا بد له من حَالٍ يشغل فإن لم يشتغل المحل بالحق اشتغل بِضِدٍّ لا جرم كان من تمام الفقه ألا يُنْهَى عن منكر ، وتلك تخلية المحل ، إلا أن يؤمر بالمعروف وتلك التحلية التي تعقب ، فثم مقابلة قد استغرقت شطري القسمة في باب التكليف فعلا وَتَرْكًا ، مع طباق إيجاب بالنظر في الألفاظِ ، أَلْفَاظِ الأمرِ والنهي ، وأخرى من المعروف والمنكر ، كَانَ مِنْ ذَلِكَ ما به المعنى يَسْتَبِينُ إذ بِضِدِّهَا تَتَمَايَزُ الأشياءُ ، مع استغراقٍ لوجوه القسمة في باب التكليف فهو بين فعل وترك ، أمر ونهي ، ولا يخلو الإطناب أن يحكي التلازم ، إذ الأمر بالشيء يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ ، فذكر الملزوم أَمْرًا بالمعروف ، واللازم نهيا عن المنكر ، ثم أطنب بِتَالٍ في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا " ، وهو ، أيضا ، من اللازم ، وهو ، من آخر ، مثال يبين عن عموم تقدم ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستغرق المحال والأحوال كافة ، فأبان بمثال وهو الأخذ على يَدِ الظالم ، وتلك كِنَايَةٌ عَنِ الزَّجْرِ ، وآيتها ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، أَنِ احتملت الوجهين : الحقيقةَ مِنْ أَخْذٍ على يد الظالم فلا ينفك في مواضعَ تَكْثُرُ بها يَبْطِشُ وَيَضْرِبُ ، والكنايةَ وهي أعم إذ تَتَنَاوَلُ زَجْرَ الظالِمِ أخذا على يده أو سبا أو ضربا أو حبسا ..... إلخ من أجناس التعزير ، بل والحد إِنْ قَارَفَ من الظلم ما يستوجبه كالسرقة أو الزنى أو الحرابة ، فكل أولئك مما يصدق فيه اسم الظلم ، مع آخر أعم بما يكون من ظلم أصحاب الولايات الخاصة أو العامة ، وبكلٍّ قد عمت البلوى في الجيل المتأخر ، لا سيما الولاية العامة إذ لصاحبها من السلطان ما ينفذ ، مَعَ ظُلْمٍ قد جاوز الدنيا إلى الدين بما كان من مُحَادَّةٍ وَتَعْطِيلٍ ، فَعُطِّلَ الوحيُ المنزل واستبدل به آخر من الوضع المحدَث ، وَحُمِلَ عليه الخلق كَرْهًا ، فلا يجدون بدا من التحاكم إليه ، ولو رخصة تقدر بقدرها ، فلا يجاوزها صاحبها كما الميتة لا تحل إلا اضطرارا في المخمصة فيأخذ الآكل منها ما يحفظ المهجة حتى يجد من الطيب ما يُشْبِعُ ، وكل أولئك مما استوجب الإنكار والأخذ على اليد وإن وجب في ذلك نَظَرٌ أخص بما يكون من مَفَاسِدَ تَعْظُمُ ، وهي مما يَتَرَاجَحُ فِي كُلِّ حالٍ فَلَهَا من تحقيق المناط ما يواطئ ، وإن كان المناط واحدا أَخْذًا على يد الظالم الفاجر ، فَلَا يُطْلَقُ القول بإيجاب أو بمنع ، وثم معيار عام يَتَنَاوَلُ الباب أن تحصل المكنة المعتبرة لا المتوهمة ، وذلك تقدير أخص يقدر لكلِّ نازلة منه ما يواطئ إذ تتفاوت القدرة والمكنة لدى كلٍّ : الظالم والمظلوم ، فَثَمَّ شطر أول من المعيار أن تحصل المكنة المعتبرة ، وَثَمَّ ثَانٍ أَنْ تُؤْمَنَ المفسدة العظمى ، فيكون من ذلك الإنكار ما لا يخلو ، بداهة ، من مَفْسَدَةٍ ، ولكنها صغرى لا تعدل عظمى من تعطيل الوحي ، فإن عظمت الأولى حتى غلب على الظن شر عظيم به انتهاك الشرعة واستئصال البيضة واستباحة الحرمة العامة من دم ومال وعرض ..... إلخ ، فإن كان ذلك فالتوقف أولى لا رِضًى بِبَاطِلٍ يَعْظُمُ ، وإنما اشتغالا بالمقدور إذ كان العجز عن المطلوب ، فلا يُغَادِرُ الناظرُ بالفكرةِ مناطَ التأثير الذي يطيق فَلَا يَشْغَلُ عقله بما جاوز قدره لا تحقيرا لِذَاتِهِ أو ذريعة بها يَرْكَنُ إلى دَعَةٍ وَرَاحَةٍ ، فيكون من ذلك المبرِّر الذي به الضمير يَسْكُنُ ، فلا يشغل عقله بما جاوز قدره فذلك مما يَسْتَنْزِفُ العقل والطاقة بلا عائد يَنْفَعُ إذ لم يكن من الفكرة إلا ما يَسُوءُ ، وهو ما الشيطانُ يَرُومُ لِيَيْأَسَ الخلقُ من روح الحق ، جل وعلا ، وتلك ذريعة إلى الكفر الذي ينقض أصل الدين الجامع ، وَهُوَ مَا حُدَّ في آي يوسف حَدَّ القصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء في قوله ![]() وثم من العموم في واو الجمع في "تَيْأَسُوا" مَا تَنَاوَلَ آحاد المخاطبين في الآية ، وذلك خطاب المواجهة الأول ، فَثَمَّ منه عمومٌ يَسْتَغْرِقُ الجمعَ المواجه ، وعموم المعنى ، من وجه آخر ، يَتَنَاوَلُ كُلَّ مخاطَبٍ ، وإن كان من السياق ما تناول فَرْدًا من أفراد العام ، وهو الجمع المخاطَب من إخوة يوسف عليه السلام ، فدلالة المعنى العام تجاوزه إلى كل فرد وجمع آخر ، مع تَغْلِيبٍ يُسْتَصْحَبُ في خطاب المذكَّر ، فخطابه في الوحي هو الأكثر ، والتغليب فيه أَرْجَحُ ، وذلك الأصلُ ، إذ جاوز الخطابُ الجمعَ المذكر الذي تحكيه الواو بالنظر في وضع المعجم الأول ، فَجَاوَزَهُ وَتَنَاوَلَ كُلَّ محلٍّ يَتَوَجَّهُ إليه التكليف قُوَّةً أو فِعْلًا ، فاستصحب في الباب تَغْلِيبٌ هو في خطاب التكليف أصلٌ لقرينة العموم في نصوص الوحي ، فذلك الأصل المستصحَب حتى يكون من الدليل قَرِينَةٌ تَصْرِفُ ، فَيُخْتَصَّ بالحكم قَبِيلٌ أو نوع أو صورة السبب أو عين واحدة في الخارج ، فكل أولئك مما خالف عن الظاهر الراجح في الباب وهو عموم التكليف المستغرِق ، فلا يقصر الحكم على أولئك : قبيلا أو نوعا أو صورةَ سببٍ أو عَيْنًا ، لا يكون ذلك إلا وثم قرينة تصرف إلى آخر هو المرجوح المؤول الذي يقصر الحكم على بَعْضٍ دون آخر لا تحكما يُرَجِّحُ بلا مرجِّح ، وإنما ثم من دليل التخصيص ما يشهد . ومن ثم كان الاستئناف بعد النهي ، فـ : (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ، فهو يجري مجرى الجواب عن سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من النهي ؟ ، فكان الجواب استئنافا : (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ، وهو ما رَفَدَ الناسخ المؤكد بدلالة أخرى تزيد ، إذ يحكي في الباب التعليل ، فَلَهُ في هذا الموضع : وجهان من المعنى ، التوكيد والتعليل ، والجمع بَيْنَهُمَا جَائِزٌ ، بل هو حسنٌ يُثْرِي السياق وَيَرْفِدُ ، وبه ، كما تقدم في مواضع ، بِهِ يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ العمومَ في دلالة اللفظ المشترك ، واحدا في المبنى وهو مع ذلك يحكي أكثر من معنى ، وثم من ضمير الشأن في "إِنَّهُ" تال في التوكيد ، مع إطناب في الخبر إذ حُدَّ جملةً ، فـ : (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ، وهو ، أيضا ، من نفي يعم إذ تناول المصدر الذي اشتق منه العامل "يَيْأَسُ" ، وثم من المضارعة في "يَيْأَسُ" حكايةُ الاستحضارِ مع تَنَاوُلِ أجزاءِ الزمان ، ومن ثم كان القصر آنف الذكر ، القصر بالنفي والاستثناء ، أَنْ قَصَرَ ذلك اليأس على القبيل الكافر ، وهو ما رُفِدَ قِيَاسًا في اللسان بما اصطلح أنه الخبر الموطِّئ ، وهو لفظ القوم فليس مناط الحكم ، وإنما وَاطَّأَ لما تلا من وصف الكفر ، فهو مناط الحكم ، فحكم اليائس من روح الله ، جل وعلا ، أنه كافر ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن الأمر على ضد ، فإن الكفر هو سبب اليأس من روح الله ، جل وعلا ، ولو بالنظر في المآل إذ يكون من المبدإ : وعد بما يحزن ، فـ : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) ، و : (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، مع لمة وسواس ، فـ : "لمَّةُ الشَّيطانِ فإيعادٌ بالشَّرِّ وتَكْذيبٌ بالحقِّ" ، فذلك مبدأ به يَسْتَدْرِجُ الشيطان العبد حتى يَبْلُغَ به اليأس التام الذي يَنْقُضُ أصلَ الإيمان الجامع ، ويصير بصاحبِه إلى ضد من الكفران ، فَحَسُنَ فِي الزَّجْرِ بَيَانُ المآلِ ، وَحَسُنَ في النَّهْيِ : النَّهْيُ عَنِ المبادئِ وَالذَّرَائِعِ التي تَسْتَنْزِفُ العقلَ والطاقةَ ، فيكون من ذلك احْتِرَاقُ نَفْسٍ وذهابُ وقتٍ وجهدٍ بلا عوض يضاهي ، وذلك باب يعظم فِقْهُهُ فَاسْتَوْجَبَ نَظَرًا يَدِقُّ لِيَسْلَمَ صاحبُه من الإفراط والتفريط فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، فلا يكون مِنَ التَّفْرِيطِ أَلَّا يُعِيرَ الشأنَ العام أي اهتمام فلا يَأْلَمُ لِمَا يَأْلَمُ به الجمع ولا يشاطرهم الشدة والحزن ، ولو بوجدانٍ مُجَرَّدٍ ، فذلك ما يطيق ، وهو ما يعدل في الإنكار ، الإنكار بالجنان وهو أضعف الإيمان فليس وراءه في الحد ما يعدل حبة خردل في القدر ، كما أُثِرَ عن صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا يكون من الإفراط أَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ ما لا يُطَاقُ ، فَيَحْتَرِقَ وليس ثم نفع يَعْدِلُ ، بل قد شَغَلَهُ ذلك عن واجبِ وقتٍ هو في حقه خاصة الراجح ، وهو ما يَتَفَاوَتُ من مكلَّفٍ إلى آخر تَبَعًا لما يطيق وما يملك من أسباب بها يُؤَثِّرُ وَيَنْفَعُ ، فَجَادَّةُ عَدْلٍ بِهَا يَسْلَمُ السالك من الأضداد والنقائض ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، أصل يطرد في مسائل الديانة كافة ، إن الاعتقادَ أو الشَّرْعَ أو الأخلاقَ أو السياسات والأحكام أو قواعد الاجتماع والعمران أو السلم أو الحرب ..... إلخ ، فالعدل حتم لازم في كلِّ حكمٍ في دين أو دنيا فهو الواجب ، بل منه أول واجب على العبيد وهو التوحيد ، فَفِيهِ من العدل ما ينصح أَنْ تُصْرَفَ العبادة إلى من يستحق ، فلا تُصْرَفُ إلى غَيْرٍ لا يستحق فذلك الظلم بل هو أعظم الظلم ، وهو مما يجافي عن معيار الحكمة إذ تَقْضِي أن يُوضَعَ الشيء في المحل الذي يواطئ . فيكون الأخذ على يد الظالم كناية تستغرق وجوه الباب كافة : إنكارا باليد ومنه الأخذ على يد الظالم مثالا لا يخصص عموم الفعل الذي يجاوز إلى الضرب والحبس والمناجزة بما به يندفع فهو كالصائل إن على الأبدان أو على الأديان ، أو عليهما معا ! كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر إذ احتكر السلطان أدوات الحكم ومنع الجمع أن يتحرك وَيَتَأَوَّلَ ما به قد كُلِّفَ من إقامة الوحي وعمارة الأرض فلم يعد له من ذلك إلا ما يأذن به سلطان الجبر المتحكم والقياس في حكومة الشرع المنزل أنه يحوط الجمع ويحفظ فيكون له من ذلك ما به يَرْعَى الخلق ليباشروا التكليف بالأمر والنهي لا أن يكون القيد الذي يمنع والصائل الذي يسفك ويسلب مع اسم به نال الذريعة فهو الحاكم باسم الشريعة ، وإن المحدَثة ، فهو لشريعة السماء معطل مناجزٌ ، فاستحق الأخذ على يده إنكارا باليد لمن يطيق ، وإنكارا باللسان ، فإن لم يطق فأضعف الإيمان إنكار بالجنان به يَبْرَأُ صاحبه من الظالم فهو يفارقه بالجسد فإن لم يطق فَبِالنَّفْسِ ، وهو يعقد النية والعزم أن يأخذ على يده إذا حصلت المكنة وَأُمِنَتِ المفسدةُ على التفصيل آنف الذكر . وثم من العطف ما يجري مجرى اللازم : "وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا" ، فالأخذ على يده كف ، وأطره على الحق فعل ، وهو لازم الأول ، فَيُنْهَى عن الظلم والباطل ، وَيُؤْمَرُ بالعدل والحق ، فإن لم يكن ذلك ، فَثَمَّ من العقاب ناجز : "أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" ، وذلك ، أيضا ، مما يجري مجرى الكناية عَنْ تَبَاغُضٍ وَتَشَاحُنٍ به تفسد الحال مع لعن يفسد المآل جريا على سنن محكم لا يتبدل فَقَدْ عَمَّ الأمم كَافَّةً ، وتصديقه في آي الوحي المنزل إِذْ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ، وذلك مما يجري مجرى الحكمة طَرْدًا وَعَكْسًا ، فإذا وافقوا الجمع الأول من بني إسرائيل ممن عصى واعتدى فَلَهُمْ من اللعن ما للقبيل الملعون من أمة يهود وذلك الطرد ، وإذا خالفوا عنه في الوصف فلم يعصوا ويعتدوا ، فَقَدْ سلموا من وعيد اللعن الذي نالهم ، وذلك العكس . فَأُنِيطَ الحكم بِعِلَّةٍ قَدِ ائْتَلَفَتْ من العصيان والعدوان ، وهو ما حُدَّ حَدَّ السببية نَصًّا ، فتلك دلالة الباء في "بما" في قوله ![]() فَكَانَ من إلحاقِ الناسخ الحرفي بآخر فِعْلِيٍّ أن يكون له في العمل ما يَتَعَدَّى ، فَهُوَ يجاوز المبتدأ إلى الخبر ، فذلك الحكم الذي تَعَدَّى من "كَانَ" إلى "إِنَّ" لعلة الزِّيَادَةِ في المبنى ، مبنى الناسخ الحرفي "إِنًّ" إذ ضُعِّفَتْ نُونُه في الكتب والنطق ، فَقَوِيَ في العمل وجاوزَ في الحدِّ الحرفَ ، حرفَ المعنى العامل ، كما ذكر بعض من حقق في تَخْرِيجٍ لِذَا يَلْطُفُ . فَثَمَّ مِنْ "إِنَّ" : حرف معنى عامل ، ولكنه في العمل يجاوز عمل غَيْرٍ ، فهو أم بابٍ في العمل ، عملِ النسخِ ، وهو أم باب في المعنى ، فَهُوَ المؤكِّد الذي تَصَدَّرَ الباب ، إِنِ اللفظيَّ أو المعنويَّ من باب أولى ، فإن المعنوي في باب التوكيد دونَ اللفظي ، فَتَصَدَّرَ الناسخُ بابَ التوكيد اللفظي ، وهو الأقوى ، فهو يَتَقَدَّمُ المعنوي من باب أولى ، إذ هو الأضعف ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مثالُ قِيَاسٍ في النحو ، فالقياس أصل من أصول الاستدلال في هذا الفن بعد الكتاب والسنة والإجماع . فكان من الناسخ أول قد أَفَادَ في المبنى عملا أخص إذ نصب الاسم ورفع الخبر ، وأفاد في المعنى توكيدا يحسن فهو لِمَا تَقَدَّمَ من قصص النبوات يختم ، فَتَقَدَّمَ منها بَعْضٌ في آي الأنبياء ثم كانت هذه الآية ختاما يحسن . فكان من الناسخ الْمُؤَكِّدِ ما صُدِّرَ به السياق في قوله ![]() فالإنسان إذ يميل إلى التجسيد ، فَيَتَبَجَّحُ بما يُذَمُّ إذ صَيَّرَهُ مناطَ المدحِ ، فلا يُصَدِّقُ إلا بما يَشْهَدُ ، وهو بِذَا يَنْحَطُّ إلى دَرَكَةِ الحيوان الأعجم ، فَفَسَدَ القياس واضطرب أن صارت المنقصَة محمَدَةً ، فلا يكون من العلم إلا ما يدرك بالتجريب والبحث ، وما جاوز فَلَمْ يُدْرَكْ فَلَيْسَ بالموجود ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما يخالف عن مقدمات العقل الناصح إذ عَدَمُ الوجدانِ بالحسِّ لا يستلزم عدم الوجود في نفس الأمر ، بل قد يوجد ولا يدركه الحس ، ولو في جِيلٍ ، فَهُوَ في حَقِّهِ من الغيب ، فَلَمْ يكن يدركه ، ولم يكن ذلك ، بداهة ، دليل العدم ، فكان المعدوم حتى وجدَه النَّاظِرُ بآلة تجريبٍ وبحثٍ ، فذلك مما لا يتصور ، وإن قِيلَ نَصًّا أو كان منه لازم قول ، فكان الأمر خبط عشواء لا يَنْتَظِمُ حتى اكتشف البحث سَنَنًا لَهُ يَطَّرِدُ ، فانقلب محكَمًا بعد أن كان فَوْضَى تخبط ، ولم يكن من الناقل من الفوضى إلى النظام إلا العلم ، فليس العلم كَاشِفًا عما كان قَبْلًا مِنْ سَنَنٍ قَدْ أُحْكِمَ ، وإنما هو المؤسِّس الذي يستأنف من الإحكام ما لم يكن قبلا ! ، وذلك ، بداهة ، مما بَطَلَ ضرورةً في أي معيار ينصح ، ولو معيار التجريب المحدَث ، فإنه ، كما يقول الباحث العاقل ، كَشْفٌ لا تأسيس ، ولو كان منه التركيب والتعقيد في البحث ، فلا ينفك يَتَأَوَّلُ له سَنَنًا فِي الكونِ يَطَّرِدُ ، فَيَنْتَقِلُ بِهِ من البسيط إلى المعقَّد ، فليس العلم يُحْدِثُ السَّنَنَ ، وإنما له يكشف ، وعلى جَادَّةٍ من التراكب يأطر ، فيحصل بذلك مجموع فاعل لا يَنْفَكُّ يَأْرِزُ إلى أول من السنن الحاكم ، فهو يتأولها إذ يكشف تارة ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَهَا أخرى ، لِيَنْتَفِعَ بما عُدِنَ فِيهَا من قوى ذاتية ، وما رُكِزَ من أخرى في المحال ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مِمَّا افْتَقَرَ إلى المجموع المركب من العلة ، والمحلِّ ، والشرطِ الذي يُسْتَوْفَى ، والمانع الذي يُنْفَى ، وذلك ما افْتَقَرَ إِلَى عِلَّةٍ تَسْبِقُ ، إِنِ المشهودةَ التي تُفْضِي ضرورةً إلى أخرى تَغِيبُ ، وهي مما استوجب أولا به انْقِطَاعُ التسلسل في أسباب في الأزل تُؤَثِّرُ ، فالتسلسل فِيهَا يمتنع إذ يُفْضِي إلى ما يُنْكِرُهُ الحس ، فإن التسلسل ، لو اطرد واتصل فلا حد له يَحْسِمُ ، فَإِنَّهُ ، لو كان كذلك ، ما كان خَلْقٌ وَلَكَانَ العدمُ ، وهو ، بداهة ، ما يَنْفِيهِ الحسُّ المحدَث ، فهو دليلٌ بِضِدِّ ما شهدوا من قَصْرِ الأمرِ عَلَى الشهادة لا الغيب ، فدليل الشهادة إذ يَرْصُدُ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَرُدُّ الأمر إلى أول لا أول قَبْلَهُ فَهُوَ الثابت في الأزل ، وإلا مَا كان هذا العالم المشهود المدرَك بالحس ، فدليل الشهادة لا يَسْلَمُ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ إلى دليل من الغيب ، لا أَنْ يُحْتَجَّ على الأصل غَيْبًا بالفرعِ شهادةً جَحْدًا لما قد جاوز مداركَ الحسِّ ، وذلك الْكِبْرُ الذي لا يَبْلُغُهُ صاحبُه إذ اغتر بما حصل له من العلوم والمعارف ، وَإِنْ ظَاهِرًا ، فبه يَفْرَحُ ، فـ : (لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، فَجَاءَتِ النبواتُ بِالْبَيِّنَاتِ وهي الأدلة الشاهدة التي تُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ من المعلوم الضروري ، إِنْ فِي العقل أو فِي الفطرة ، فجاءت النبوات بالهدى وجاءت بِالْبَيِّنَاتِ التي تقيم الحجة ، فلم يكن من النبوات ، كما زَعَمَ خُصُومُهَا ، لم يكن منها أدلة خبرية دون أخرى برهانية ، فكان منها خطاب وجدان يدغدغ المشاعر دون دليلِ بَرَاهِينَ تَسْتَنِدً إلى مَبَادِئَ هي مقدمات في القياس تَصْرُحُ ، وهو ما يُجَافِي عَنِ الحقِّ باستقراءِ أَدِلَّةٍ تَنْصَحُ من الوحي قد أقامت من الأدلة العقلية الصريحة ما يواطئ أخرى هي النقلية الصحيحة ، فَكَانَ مِنْ مَادَّةِ الوحيِ بَيِّنَاتٌ قد جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ ، عليهم السلام ، وكان مِنَ الخصومِ مَنْ فَرِحَ بما كان له من علم لم يجاوز أُمَّةَ آباءٍ تُقَلَّدُ دون دليل لها يَنْصَحُ ، بل الدليل بِضِدٍّ يشهد ، فلم يجاوز التقليد أو آخر من علم ظاهر لا يجاوز الماهيات في الخارج دون آخر يجاوز إلى ما بَطَنَ من حقائق تَلْطُفُ ، فَهِيَ الروح التي تطلب من الوحي ما يُصْلِحُ ، كما البدن يطلب من المادة ما يحفظ ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما يَنْفِي الواحدية التي تحد الإنسان أنه واحد من مَادَّةٍ تُدْرَكُ بالحس دون أخرى ألطف بما كان من روح أشرف ، فهي معدن التصورات والإرادات والمشاعر ، وهي أول يَسْتَجِيبُ له الجسد ، كما الدماغ يَسْتَجِيبُ لِمَا يكون من عقل يُدْرِكُ الحقائق التي تصدر عنها الجوارح ، وهو إلى الروح يَأْرِزُ ، فيكون من مادة الدماغ محسوس يستجيب لآخر معقول ، فذلك العقل أو الروح ، وهي المبدأ في مَاهِيَّةِ هذا الإنسان المكلَّف بالأمانة الرسالية ، توحيدا وتشريعا ، إيمانا بالوحي وامتثالا للحكم وإقامة للعدل وعمارة للأرض ، فَمَا يكون من حركة الأركان فَلَيْسَ إلا استجابةً لِمَا بَطَنَ فِي الجنان من حركات مَبْدَؤُهَا التصديق ، وهو فعل يجاوز العرفان المجرد ، بل ثم من زيادة في الحد ما يُرَجِّحُ إن بالقبولِ أو بِالرَّدِّ ، وهما ، لو تدبر الناظر ، مما يتلازم في الدلالة إذ لا يُقْبَلُ قولٌ اعتقادا يجزم فهو يصدق تصديقا أخص يجاوز العرفان المجرد ، لا يقبل قولٌ اعتقادًا إلا وَيَرُدُّ ضِدَّهُ أو أضداده الدائرة أو ما يَنْقُضُ أصله ، فلا يكون إيمان بشيء إلا أن يكون كفرانٌ بِضِدٍّ ، وهو ما يفضي إلى تال من وجدان الحب والبغض ، وذانك ، كما تقدم في مواضع ، أصلُ كُلِّ حركةٍ في الكون ، ولهما في الوجدان أولا : تأويل يَبْطُنُ من إرادةِ فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، ولهما آخر في الخارج ، وهو ما يكون من الفعل والكف ، فَكُلُّ أولئك مما يَأْرِزُ إلى الروح ، وهي الحقيقة الأشرف من ماهية الإنسان المكلف ، فحصل بذلك ثنائية تَنْفِي الواحدية المحدثة التي انحطت بالإنسان فَصَيَّرَتْهُ واحدا في الحد ، الواحدَ المدرَك بالحس ، فضاهى الحيوان الأعجم إذ ليس ثم عقل يجاوز الدماغ المحسوس بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، فليس ثم ما يصدر عنه أولئك ، من فكرة أولى في وجدان يلطف ، ومحله روح هي المبدأ ، وما الجسد إلا حكاية ما تَنْتَحِلُ الروح من الاعتقاد والشرع ، فيستجيب له البدن بالفعل والترك ، فتلك ثنائية تَنْفِي الواحدية المادية التي طردها بَعْضٌ فَجَاوَزَ بِهَا المخلوق إلى الخالق ، فَهُمَا واحد وإن تعددت الصور ، فليس ثم خالق أول ، له من وصف الوجود واجب وهو الذاتي الذي لَا يُعَلَّلُ ، بل الوجود واحد بالعين ، لا تمتاز به الأعيان وهو ما أفضى إلى جحود وإلحاد مع آخر من إباحية أبطلت الشرع الذي يحل وَيَحْظُرُ ، فما يكون من ذلك وليس ثم من الحقيقة إلا واحد لا يمتاز فيها مباح من محظور ، طاهر من نجس ! ، فلم يكن من العلم المحدَث ما يَتَنَاوَلُ ما لطف من الحقائق ، بل قد جَحَدَهَا وفرح بما عنده ، فكان من علم بما ظهر من الكوائن فهو المشهود الذي لا يجاوز مدارك الحس ، كان منه ما فَرِحَ به المقصِّر ، وإن كان له من العلم حَظٌّ يَنْفَعُ ، فَلَمْ يُجَاوِزِ المحسوسَ الذي يستوي فيه الإنسان والحيوان ، وذلك ما الْتَزَمَتِ المذاهبُ المحدَثة إذ تَحُدُّ الإنسان أنه حَيَوَانٌ ذو احتياجاتٍ تَأْرِزُ إِلَى غَرِيزَةٍ تُرْصَدُ بالتجريبِ والبحثِ دون آخر يجاوز من مَادَّةِ روحٍ تَلْطُفُ قد جاءت النبوات بما لها ينصح ، والمعلومات ، كما حَدَّهَا بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، منها المحسوسات المحضة ، ومنها المعقولات المحضة ، ومنها ما جَمَعَ الاثنين ، ومنها الغيبيات وهي ما لا يُدْرَكُ إِلَّا بخبرٍ من خارج يجاوز ، فدليلها منقولات خبرية لا يستقل العقل فيها بإثبات أو نفي ، وَإِنْ أَوْجَبَ بَعْضًا ، فإيحاب مجمل لا ينفك يطلب من دليل النقل ما يُفَصِّلُ ، كما الواجب من وجودِ واجبِ وجودٍ أول إليه تُرَدُّ الموجودات كافة ، وإلا كان تَسَلْسُلٌ يفضي إلى عدم ، وهو ما يَنْقُضُهُ دليل الحس الشاهد بما كان من وجود هذا العالم وانتظام أمره ، فلا بد له من موجِد أول ، ولا بد له من مُدَبِّرٍ ، فذلك إثبات مجمل لواجب وجود أول ، ولا ينفك يطلب من الدليل ما يبين عن الاسم والوصف والفعل والحكم . وإن جَوَّزَ العقلُ آخرَ ، فالجوازُ العقليُّ لَا يُجْزِئُ ، أَيْضًا ، فِي إثباتٍ يجاوز حَدَّ التجريد الذهني المحض لجائز في العقل يحتمل ، بل لا بد من دليلٍ مرجِّح من خارج ، وذلك دليل الخبر الذي يطلب من المحل الكامل ما يُدْرِكُ ، وتلك خاصة العقل المكلَّف ، فإن له في الباب زِيَادَةٌ ترجح عقل الحيوان الذي اقْتَصَرَ على مدارك الحس ، ومن عجبٍ أَنْ سَاغَ لِبَعْضٍ أن يقصر أسباب العلم على المدركات المحسوسة ، وهو يظن ذلك المدح ، وليس إلا عينَ ضِدٍّ من الذم ، إذ يجحد خاصة الإنسان الرئيسة ، فهو الكائن العاقل الذي يملك مناط التكليف فيجاوز به المشهود من هذا العالم ، فله خاصة تصور تجاوز الحس بما رُكِزَ فيه من قوى التصور ، تصور المغيَّبَاتِ ، ولو جائزاتٍ لا يستقل فيها بإثبات أو نفي ، وإنما غايته أن يميز المحال الذاتي الذي لا يُتَصَوَّرُ بادي النظر ، أَنْ يَمِيزَهُ مِنَ الجائز ، وهو مَا يَتَنَاوَلُهُ خبر الغيب فإنه لا يأتي بمحالات ذاتية في العقول ، وإنما يأتي ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، بالمحَارَاتِ ، والمحَارُ ما يَحَارُ العقل في حدِّه وحقيقتِه ، ولكنه لا يحكم بامتناعه ، بادي الأمر ، فَلَهُ وجود يتراوح بين الواجب والجائز ، وكلاهما مما يتصور العقل وجوده ، وإن مُجْمَلًا ، فلا ينفك يطلب من دليل الخبر ما يُفَصِّلُ وصفَ الواجب ، من وجه ، ويثبت وجود الجائز ، من آخر ، فالجائز قد احتمل ، ولا يجزئ الاحتمال في إثبات ، بل لا بد له من قدر يزيد فهو يجاوز الاحتمال المجرد فلا ينفك يطلب دليلا أخص يرجح ، وهو كالنص في محل النِّزَاعِ ، فالدعوى المجردة من البينة لا تجزئ في قبول يزيد ، وإن جَازَ وُقُوعُها في النظر المجرد ، فَيَسْتَصْحِبُ الناظر فيها العدمَ وَبَرَاءَةَ الذمة حتى يكون من الدليل ما يشغل بعلم زائد من خارج إذ ثم من النص في المحل ما هو أخص . فَثَمَّ من خاصة العقل البشري ما جاوز ، فَأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ المعلوماتِ هو المحسوس الذي صيره منكر الوحي هو الأعلى بل صيره الأوحد في أدلة الإثبات ، فلا تجاوز مصادر المعرفة في المذهب المادي ما يدرك بالحس ، إذ لا يقر هذا المذهَب من حقيقة الإنسان إلا بالجسد وهو مادة تدرك بالحس ، ولها احتياجات لا تجاوز الظاهر ، فذلك أدنى المعلوم . وما تَلَا مِنَ المعقولِ ، والمجموع المركب من المحسوس والمعقول معا ، كما التجريب والبحث فإن فيه من مُدْرَكَاتِ الحسِّ مبادئَ ومقدماتٍ بما يكون من رصد الظاهرة في الخارج ، وفيه من مدركات العقل ما ينظم هذه المرصودات الحسية في قوانين ذات صبغة عقلية تجريدية تندرج تحتها الأمثلة في الخارج إذ تصدق فِيهَا جميعا إن كان العلم يقينا ، أو تصدق فِي أكثرِها إن كان العلم ظنا غَالِبًا ، فالمعقولات ، وما تلا من مجموع مركب يَتَنَاوَلُ المحسوسات والمعقولات كَافَّةً ، والغيبيات ، وهي أعلى المعارف إذ استقل بها العقل الكامل ، ولو تصورا مجردا في الذهن لا ينفك يطلب من دليل الإثبات ما هو أخص ، فَتِلْكَ هي القسمةُ ، كَمَا حَدَّهَا بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، والإنسان قد امتاز من الحيوان بالمعقولات وما تلاها من المجموع المركب من المحسوس والمعقول ، كما علوم التجريب ، وامتاز بآخر يجاوز الجميع وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ ، أشرف مدرك ، فذلك الغيب وَأَرْفَعُهُ درجةً ما يُتَلَقَّى من مشكاة النبوات وذلك ما جَحَدَ مُنْكِرُ الوحي ، بل وَبِهِ قَدْ سخر وتهكم فكان من العاقبة أَنْ : (حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، فَأَحَاطَ بِهِ وعيدٌ كان به يستهزئ ، وهو ما منه تَكَرَّرَ ، وذلك لِلذَّمِّ أوجب ، فَحَسُنَ لأجله حد الفعل كينونة ماضية في "كَانُوا" فهي تحكي الديمومة في الوصف وذلك آكد في تسجيل الجناية . وذلك ما رَجُحَ حملانُه على إحاطة التأبيد بِعَذَابٍ يُقِيمُ ، إذ قرينة الاستهزاء تحكي من الحال ما يَنْقُضُ أصلَ الدينِ الجامعِ ، وثم من الإجمال في "بِهِ" ما أبان عنه الوحي في موضع آخر من التنزيل ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ، وهو ، مِنْ وَجْهٍ ، شاهد لأول في تَفْسِيرِ الكتابِ العزيز ، أَنْ يُفَسَّرَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فما أُجْمِلَ فِي موضع أُبِينَ عنه في آخر . فحصل لأولئك من ظاهر العلم ما بِهِ قد اغتروا ، وإن كان منه ما يَنْفَعُ في الفنون والصنائع ، ولكنه لَا يَصِحُّ أَبَدًا ، أَصْلًا فِي الاستدلال هو الأول ، بل قد صَيَّرَهُ القوم الأوحد فجحدوا ما عدا من دليل الخبر الذي يجاوز مدارك العقل والحس ، وجحدوا مقدماتٍ في العقل ضرورية إذ تنقض بداهة ما زَعَمَ المخالِف مِنْ حَدَثٍ بلا محدِث أول ، فليس إلا الخبط والعشواء الذي أفضى إلى هذا الإتقان والإحكام ! ، وهو ما نَقَضَهُ دَرْسُ التجريب والبحث فكيف بما جاوز من الوحي والذكر ؟! . وكل أولئك مما ينقض ميل الخلق إلى التجسيد الذي يَتَنَاوَلُهُ الحس إذ قد خالفوا عن جَادَّةِ الذِّكْرِ ، فَلَيْسَ الأمرُ سَفَهًا فِي الرَّأْيِ وَالتَّصَوُّرٍ يَحْكِي سَذَاجَةَ قَبِيلٍ قد هلك في سالف الدهر ، بل هو مما يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ في كل جيل إذ خاصة الإنسان أَبَدًا تَثْبُتُ ، فإن لم يكن له من الوحي رائد فهو أبدا إلى وسواس الشيطان مائل أَنْ يقصر منه المعارف على الحادث المدرَك بالحس الظاهر . فكان من مادة التوحيد الرسالية ما نصح به نوح الدين الأول أن يَنْفِيَ عنه ما كان من شرك محدَث بما كان من الغلو في الصالحين إذ شُيِّدَتْ لهم التماثيل المدركة بالحس ، فذلك وسواس الشيطان الذي تكرر في كل جيل أن يحجب العقل عن مادة الغيب الناصح التي أتى بها الوحي النازل ، فكان من الوسواس ما نقض التوحيد ، وهو دين الأمة الواحدة قبل التبديل ، فـ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، فتلك أمة التوحيد الأولى من آدم إلى نوح ، فهي على التوحيد أول ، وذلك عقد في الباب ينصح ، فاستصحب منه الأصل بما كان من فطرة أولى تَثْبُتُ ، فهي من الضرورة بمكان يلجئ فلا يخالف عنها إلا جاحد أو مسفسط ، وما كان من رسالة حملها الإنسان وهو إلى الأرض نازل ، أن يكون الخليفة الناسك بالوحي الحاكم بالعدل ، فَلَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ مرجع يجاوز العقل والحس ، فذلك المحكم الذي يُرَدُّ إليه ما قد تَشَابَهَ مِنْ عَقْلِ الفردِ أو الجمعِ ، من عقدِ سياسةٍ محدَث أو آخر من الاجتماع يطرأ فلا ينفك يحكي من الهوى والحظ ما لا يسلم منه الخلق بما جُبِلُوا عليه من الجهل والنقص ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ أولا يجاوز وهو من الهوى والحظ سالم ، فكان من مادة النبوة تَوْحِيدٌ هو دين الأمم كافة ، فتلك الأمة الرسالية الواحدة وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الشرائع الحاكمة ، فكان الناس أمة واحدة حتى كان وسواس يُزَيِّنُ فَحَمَلَ الجمع أن يُبَدِّلَ بِمَا حَسَّنَ من صورةِ الشرك فكان من المبدإِ : الغلوُّ ، الغلو في المخلوق المحدَث ، وذلك ، أيضا ، مما قد عمت به البلوى في كل جيل يعقب ، فَثَمَّ الغلو في المحسوس من الشجر والحجر ، وثم آخر أدق من غلو في معقول محدث من عقد أو شرع يحسن ويقبح بما رُكِزَ فِي العقلِ من خَاصَّةٍ لم يأت الوحي لَهَا مُنْكِرًا ، بل قد جاء لَهَا رَافِدًا يُصَدِّقُ ما كان من أول ، وَيُبِينُ عَمَّا أجمل منها ، وَيُقَوِّمُ مَا اعوج بما يكون من تَبْدِيلٍ لفطرةٍ أولى ، فلا ينفك الوحي يَرُدُّهَا إلى الجادة ، فالحسن والقبح ، وَإِنْ رُكِزَا فِي الوجدان ضرورةً لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا جاحد أو مسفسط ، فهي محل الرضى والقبول لدى كُلِّ ذِي وجدانٍ يُنْصِفُ ، فالحسن والقبح ، وَإِنْ أُجْمِلَا ، كما تقدم ، فَلَيْسَا يستقلان بالحكم ، إذ يقصران عن درك الحق يَقِينًا يَسْلَمُ إِذِ المحلُّ لَا تَنْفَكُّ تَتَنَازَعُهُ أهواءٌ وأذواقٌ تَحْدُثُ ، فَلَا يسلم الناظر في باب العلم والتصور ، وتال من المعيار يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ لا يسلم منها في كلٍّ إلا أن يكون من الوحي مرجع من خارج يجاوز ، وذلك الوحي النازل الذي نَصَحَ منقولُه كُلَّ معقولٍ ، فلا يكون الغلو في العقل أَنْ يَصِيرَ هو المرجع الأول ، ولا يكون آخر من جَفَاءٍ يَجْحَدُ مَا رُكِزَ فِيهِ ضرورةً من قوى التحسين والتقبيح ، فالتوحيد الذي نَزَلَ به آدم وكان عليه الخلق أُمَّةً واحدةً عشرةَ قرونٍ فَلَمْ يكن ثم تبديل ولا تحريف ، ذلك التوحيد الذي نَزَلَ به آدم ، ثم كان من نوح تَالٍ يُجَدِّدُ ، بَعْدَ أَنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِمَا كان من شركٍ محدَثٍ ، وذلك ما قُدِّرَ اقتضاء في آي البقرة المحكم : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، فكان الناس أمة واحدة ، ثم اختلفوا ، فذلك المقدَّر اقتضاءً لِيَسْتَقِيمَ به السياق ، وإلا فَلِمَ بُعِثَ الأنبياء بالبشرى والنذارة ؟! ، فلا يكون ذلك إلا تقويما لِمَا اعْوَجَّ من فطرة توحيد أولى ، وذلك ما ذُكِرَ فِي موضعٍ آخر من الوحي ، على حَدِّ القصرِ بأقوى الأساليب في قوله ![]() فَثَمَّ من حكاية الأمة ما حد كَيْنُونَةً ماضية فهي لما مضى من الزمان تستغرق وذلك آكد في تقرير المعنى وتوكيده ، فكانوا أمة التوحيد الجامع ثم كان الاختلاف الحادث ، فـ : (بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، فذلك عموم قد تناول الرسالات جميعا ، والمبدأ ما كان من رسالة نوح ، عليه السلام ، وهي في الباب مثال محكم يبين عن عموم قد اطرد في النبوات كافة ، وذلك التوحيد المحكم الذي يحسم مادة الشرك ، وله ، كما تقدم من الأسباب والذرائع ، له من ذلك ميل إلى تجسيم يُعَظِّمُ المحسوس ويغلو فيه حتى يصيره المرجع الأول في الإثبات والنفي ، بل ثم من جاوز به فَصَيَّرَهُ الأوحد وأهدر ما هو أولى فهو له يَتَقَدَّمُ من أدلة الخبر والعقل والفطرة ، عَلَى تَفْصِيلٍ قد تَقَدَّمَ . وله ، أَيِ : الشركٌ ، ذريعةٌ هي الغلو الذي عمت مادته فهي تستغرق المحسوس من الأولياء وما يكون من الجماد شجرا وحجرا .... إلخ ، وتستغرق آخر هو المعقول ، وهو ما عمت به البلوى في جيل قد تأخر ، من مذاهب في الفكر والتشريع قد جاءت بما يَنْقُضُ أصل الدين المحكم إذ أنكرت الخالق الأول تارة ، فخالفت عن معيار العقل والحس الذي به تَتَبَجَّحُ ، وعطلت الوحي المنزل واستبدلت به الوضعَ المحدث الذي يصدر عن أهواء وأذواق تَتَعَارَضُ فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج ، فهو القاضي فيها إذا اختلفت قضاء محكم أول في متشابه هو تال يحدث . فكان من رسالة نوح ، عليه السلام ، مثال يبين عن عموم قد استغرق أمة الرسالة الواحدة ، فكلٌّ قد جاء بالتوحيد ، وإن اختلفت المثل في التشريع ، فـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، وأما التوحيد فهو الدين الواحد ، فـ : "إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، دِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى" ، فَبُعِثَ النَّبِيُّونَ بالحق وَنَزَلَ معهم من كتاب الصدق والعدل ما يحسم خصومات العلم والعمل كَافَّةً ، وكان من نوحٍ مَبْدَأٌ ، وكان من الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخر يختم بما نَزَلَ من كتابٍ يُصَدِّقُ وَيُهَيْمِنُ ، فَقَدِ استجمع من خلاصة التوحيد ما تَقَدَّمَ ، وَزَادَ عليه من البيان ما يَنْصَحُ ، وكان من شريعة الختم منهاج تام قد كَمُلَ به الدين فلا ناسخ ، فذلك المحكم الذي استوفى حاجة الخلق في العلم والعمل ، وله من وجوه البيان ما نَصَحَ نَقْلًا أو عَقْلًا ، وله من معيار الإثبات ما تَوَاتَرَ في آيه المنزل ، وما دق في سبر أخبارٍ تُؤْثَرُ ، فَسَلِمَ منه المنقول صحةً والمعقول صراحةً ، وهو الحجة الباقية أبدا ، فلا نُبُوَّةَ تعقب ، وإنما كتاب لها يهدي ويحكم ، قد استوفى في حكمه جَمَالَ الكتاب وجلال الحديد ، فكان منه الكمال الجامع لجلال موسى وجمال عيسى ، عليهما السلام ، فذلك كمال النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فكان من ذلك أمة واحدة على التوحيد من نزول آدم إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَقَصَّ منهم في آي الأنبياء جمعا ، وهو ما فصل لدى المبدإ في قصص نبوات تُفْرَدُ ، فهي كالمثل بين يدي العام : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ، فذكرت مُثُلًا تُبَيِّنُ فليست لعمومها تُخَصِّصُ ، وَمِنْ ثَمَّ كان الإطناب لدى المنتهى بآي هي الجامعة ، فـ : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ، فكان من التوكيد نص ، على التفصيل آنف الذكر ، فالناسخ أم الباب الذي يَتَصَدَّرُ الكلامَ أبدا ، وثم تال من المعنى ، وهو ما تحكيه اسمية الجملة : (هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) ، فهي ، أبدا ، حكاية ثبوت واستمرار ، وثم من القصر بتعريف الجزأين ما يزيد في الدلالة ، فهو يعدل في المعنى : إن هذه أمتكم أمة واحدة لا أمة غيرها لكم ، وثم من إشارة القريب في "هَذِهِ" ما به التأليف إذ الدين واحد وإن اختلفت الأعصار والأمصار ، فإن تباعدت النفوس فهي لِرَبٍّ واحد تقوم ، كما كتب قتادة إلى الأوزاعي : "إنْ كَانَت الدار فرّقت بيننا وبينك، فإن أُلْفَة الإسلام جامعة بين أهلها" ، فتلك ألفة الوحي الجامعة توحيدا وتشريعا ، فأشار إلى القريب معنى ، في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#10
|
|||
|
|||
![]() وذلك ، أي التوحيد الذي يجزئ في حصول الاسم الديني الناصح ، ذلك جنس عام في الباب قد أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ النبوات كَافَّةً ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الشرائع المفصلة ، فالأمة واحدة وإن تعددت المناهج ، فَتِلْكَ الأمة الرسالية ذات الدين الواحد ، دينِ التوحيدِ الجامعِ الذي مَازَ الخالق ، جل وعلا ، وهو القديم الأول ، من المخلوق وهو تال محدَث ، وبه ، كما قال بعض من حقق ، به فُرْقَانٌ يَمِيزُ الواحدية من التوحيد ، فمن قال بالجوهر الواحد ، وهو القديم ، وإنما تحدث له أعراض تَمِيزُ الصورَ في الخارج ، وحقيقتها واحدة ، وذلك مقال فَلْسَفِيٌّ أول قد رَفَدَ مذهب الوحدة ، وحدة الوجود ، وهو ما أَتَى على أصل التوحيد بالإبطال ، فالتوحيد في حَدٍّ ، والوحدة في آخر ، فلا يجتمعان ، وإن تَشَابَهَا في الجذر اشتقاقا ، فَثَمَّ تَمَايَزٌ بل وَتَنَاقُضٌ بين الاثنين ، فالواحدية تَنْقَضُ التوحيد إذ لا تميز المحدَث من القديم ، ومبدأ التوحيد الرسالي : إفراد القديم من المحدَث ، كما أُثِرَ عن شيخ الطائفة الجنيد ، أَنْ يُفْرَدَ الله ، جل وعلا ، بالذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، فامتازت ذاته الأولى في الأزل ، فكان ولم يكن ثم شيء معه ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ ، فَهُوَ تَالٍ محدَث ، فَامْتَازَتْ ذاته الأولى في الأزل من غَيْرٍ هو المخلوق المحدَث ، فَلَمْ يكن جوهر الوجود واحدا ، وإنما امتازت الحقائق في الخارج ، فَلَئِنِ اشْتَرَكَا ، الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق ، فَلَئِنِ اشْتَرَكَا في جنس أعلى يجرده الذهن ، وهو جنس الوجود المطلق ، فلا وجود له في الخارج إلا بقيد يميز ، وهو الذات التي تُوجَدُ فِي الخارجِ فِعْلًا ، فتلك حقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، وهي ما يجاوز الجنس المجرَّد في الذهن ، فالاشتراك فيه أول ، وهو حتم لازم وإلا عُطِّلَتِ الحقائق في الخارج وآل الأمر إلى عدم بل وَعَبَثٍ يُنْكِرُ صاحبه البدائه يما يعالج من أعيانِ هَذَا العالم المحدَث ، فَثَمَّ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بين الموجودات كافة ، وهو مطلق المعنى في الذهن ، وذلك الوجود الذي يُجَرِّدُهُ الناظر ، وتحته في الخارج أَنْوَاعٌ وآحادٌ ، فَثَمَّ موجود أعلى ، والاشتقاق في هذا الموضع يحكي الحصول والثبات ، فهو الثابت في الخارج ثبوتا يجاوز التجريد والإطلاق في الذهن ، فَثَمَّ موجود أعلى ، ووجوده الواجب الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارج يُؤَثِّرُ ، فَهُوَ الذَّاتِيُّ الذي كَمُلَتْ منه الحقيقة أَزَلًا ، وثم آخر وهو الجائز ، وثم ثالث وهو الممتَنِعُ ، وبهما اكتمال القسمة في العقلِ ، فهي بَيْنَ الواجب والممتَنِع وبينهما الجائز ، وهو ما يَؤُولُ إلى الواجب ، وَإِنْ لِغَيْرٍ بما احتف به من قرينة من خارج تُرَجِّحُ ، فالواجب الأول ، واجب الوجود لذاته ، يُرَجِّحُ فِي الجائز بما يكون من وصفِ إيجابٍ يَتَعَدَّى ، فالواجب الأول وذلك وصفُ ذَاتِهِ الَّذِي لا يُعَلَّلُ ، الواجب الأول : موجِب بوصف الإيجاب الذي يَتَعَدَّى ، فَيَتَعَدَّى إِلَى غَيْرٍ هو الجائز ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ الإيجابَ ، فهو الواجب لِغَيْرِهِ ، فَلَيْسَ ثم واجب وجود لذاته إلا واحد ، وذلك حتم لازم في القياس ، وإلا كان التَّسَلْسُلُ في المؤثِّرين أزلا ، فَمِنْ جَائِزٍ إلى جَائِزٍ إلى ثالث ....... إلخ ، فلا يحسم هذا التسلسل إلا أول وهو الواجب ، واجب الوجود لذاته ، فَلَيْسَ جَائِزًا يَفْتَقِرُ إلى موجِب يَتَقَدَّمُ ، بل هو الأول أوليةَ الإطلاقِ ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الوحي في مواضع ، فكان من القصر في الآي المحكم : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، ودلالة "أل" : حكايةٌ تُبِينُ عَنْ جِنْسِ المدخولِ من معنى الأولية ، ولها من المدلول ثَانٍ وهو الاستغراق الذي يَتَنَاوَلُ وجوهَ المعنى ، وهو ما لا يصدق إلا في واحد ، وهو الخالق الأول ، جل وعلا ، وذلك ما رفد "أل" أَنْ صَارَتْ نَصًّا في العهد ، فذلك عَهْدٌ خَاصٌّ يَتَنَاوَلُ من الأعيان الموجودة واحدا هو ذات الخالق ، جل وعلا ، فَلَهَا أولية مطلقة ، فلا أَوَّلَ قَبْلَهَا ، إذ لَيْسَتِ الجائزةَ التي تَفْتَقِرُ إلى مرجِّح يَتَقَدَّمُ ، لِيُرَجِّحَ فِيهَا الوجود عَلَى العدم ، بل هي المرجِّح في غَيْرٍ ، فكلُّ موجودٍ تَالٍ يَفْتَقِرُ إليها أَنْ تُوجِدَهُ إذ المبدأ : عدم ، ولو الجائزَ ، فَيُسْتَصْحَبُ مِنْهُ العدم إذ لا وجود في الخارج يزيد ، فَثَمَّ عدم أول يُسْتَصْحَبُ ، وَإِنْ فِي الجائزِ المحتمل ، وإنما امتاز من المحال الذاتي الذي لا يكون منه في الباب إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وإنما امتاز العدم المستصحب في الجائز من آخر هو العدم في المحال الذاتي ، وإنما امتاز الأول من الثاني ، أَنَّ الأول ليس ذَاتِيًّا يُلَازِمُ ، وإنما يحتمل الوجود بَعْدًا إن كان ثَمَّ من المرجِّح ما يُوجِبُ ، فهو المرجِّح المجاوز من خارج الذي يُصَيِّرُ الجائزَ وَاجِبًا ، وإن لم يكن الواجب لذاته فلا يُعَلَّلُ ، وإنما هو الواجب لِغَيْرٍ بما احتف به من قرينة إيجاب من خارج ، فَرَجَّحَ فيه واجب قبله له من وصف الفعل ما تَعَدَّى إذ هو الموجِب ، فذلك السبب الذي رُكِزَتْ فِيهِ قوة التأثير أَنْ يُوجِبَ فَيُرَجِّحَ في الجائز ويصيره الواجب ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ إذ السبب آنف الذكر ، وهو الموجِب ، لا ينفك يفتقر إلى موجِب آخر يَتَقَدَّمُ فهو يُرَجِّحُ فيه ، كما رَجَّحَ هو في تاليه ، فكان من ذلك تسلسل ، فكل موجِب يفتقر إلى آخر يَتَقَدَّمُ ، فلا يحسم هذا التسلسل الممتنع في الأزل إلا أن يكون واجب أول ، له من الوصف ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الفعل مَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرٍ من الجائزات فهو يرجح فيها ولا يُرَجِّحُ فيه غَيْرٌ إذ له من ذلك وصف التوحيد آنف الذكر الذي امتاز به من سائر الموجودات ، فَلَهُ توحيد في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، وله من ذلك وصف الواجب ، الواجبِ الأول ذي الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج ، بل كل محلٍّ وَسَبَبٍ فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ ، فَالمحلُّ يَفْتَقِرُ إليه أن يُعِدَّهُ على ماهية مخصوصة بها يَقْبَلُ آثار السبب ، وَالسَّبَبُ يَفْتَقِرُ إليه أن يَركِزَ فيه من قوة التأثير ما به يُرَجِّحُ في المحل وَجْهًا مخصوصا بما اطرد من سنة محكمة عليها الأسباب تجري ولها المحال قد هُيِّئَتْ عَلَى ماهيات مخصوصة مقدَّرة لَا تَنْفَكُّ تَأْرِزُ إِلَى علم أول محيط ، وبه أُتْقِنَتِ المحالُّ في الخلقة وَأُحْكِمَتِ الأسبابُ في السنة ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، خبطا أو عشواء ، فذلك مما يخالف عن الضرورات والبدائه ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، فلا فِعْلَ في الكون إلا وله محدِث يَتَقَدَّمُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ في الأزل ، فلا يَنْفَكُّ يطلب واجبا هو الأول ، وذلك مبدأ الجدال مع الخصم المنكِر أن يُلْزَمَ في الباب أوليَّةً لا يجحدها إلا مسفسط ينكر البدائه الضرورية فرارا من لوازمها في الخارج ، وهو ما أَقَرَّ به الحكماء الأوائل ، فَأَقَرُّوا بأول ، ولكنهم جَرَّدُوهُ من الوصف كافة ، إلا العلم المجمل بالكليات ، وَنَفَوْا الإرادة والاختيار ، فَلَيْسَ إلا ذاتا أولى بسيطة ، فهي علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف ، فَلَيْسَتْ فَاعِلَةً فِي غَيْرٍ من هذا الوجود المحدَث ، ليست فاعلة فيه بِعِلْمٍ قد أحاط بالمحال والأسباب كَافَّةً ، وإرادة بها التخصيص الذي يميز الأعيان والأسباب ، فَيُقَدِّرُ لكلٍّ من الماهية والقدر ما به إتقانُ خلقةٍ وإحكامُ سنةٍ ، فالوجود مُتْقَنٌ فِي الماهية جَارٍ عَلَى سَنَنٍ مُحْكَمٍ ، وهو ، أيضا ، من الفعل المحدَث فَلَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى أول يُحْدِثُ ، فَالسُّنَّةُ لَا تَخْلُقُ وَتُدَبِّرُ ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بالفعل ، وليست مما يستقل بالوجود في الخارج ، بل هي من الفعل ، أو الوصف ، وصف الفعل ، والفعل ، بداهة ، لا يُوجَدُ في الخارج مجرَّدا ، وإنما يجرِّده الذهن فلا يجاوز ، فالخلق مما يجرِّده الذهن ، فلا يوجد في الخارج إلا فعلا أو وَصْفًا يَقُومُ بِذَاتٍ ، ذاتِ الخالقِ ، فهو الخالق بما قَامَ بِهِ من وصفِ الخلقِ ، فَلَا بُدَّ للفعلِ من فاعلٍ ، ولا بد للخلق من خالق ، ولا بد للسنة من سَانٍّ أول ، وهو ما يكون بعلم في المبدإ يُقَدِّرُ ، فَيُقَدِّرُ الأعيانَ والأحوالَ ، وَيُقَدِّرُ الأسباب الَّتِي تُؤَثِّرُ ، وَيُقَدِّرُ المحال التي لها تَقْبَلُ ، وكل أولئك حكايةُ تخصيصٍ في التقدير ، فَيُخَصَّصُ السببُ وَيُقَدَّرُ عَلَى ماهية معلومة لَوْلَاهَا مَا أَثَّرَ فِي المحلِّ ، فَثَمَّ مِنْ قُوَّةِ التأثيرِ بما رُكِزَ فيه ، وثم من قوى في المحلِّ تَقْبَلُ بما ركز فيه ، أيضا ، فتلك فطرة أولى في الخلق ، خَلْقِ السَّبَبِ الذي يُؤَثِّرُ ، وَخَلْقِ المحلِّ الذي يَقْبَلُ ، وثم من الشرط ما اسْتَوْجَبَ الاستيفاءَ ، وَثَمَّ من المانع ما اسْتَوْجَبَ الانتفاءَ ، وذلك المجموع المركب عِلَّةً في اصطلاحِ بَعْضٍ من أهل الأصول والنظر ، فَهِيَ العلة المركبة التي لا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ أَوَّلًا يَتَقَدَّمُ ومنه ما يُدْرَكُ بالحسِّ ، فهو المشهود ، وَمِنْهَا تَالٍ مُغَيَّبٌ ، وَهُوَ ، أَيْضًا ، مِمَّا يَتَسَلْسَلُ إذ من المغيَّب ما هو جائز ، فكان من الترجيح ما به الجائز يُوجَدُ بعد أن كان المعدوم ، وَإِنْ عَدَمَ الجائز الذي يحتمل ، فالعدم فيه أول يستصحب حتى يكون من دليل الإيجاد ما يَنقلُ ، فالعدم ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، كما الوجود ، فمن العدم : عَدَمٌ جَائِزٌ ، وهو ما استوى طَرَفَاهُ مَبْدَأَ التقديرِ ، فَلَئِنِ احتملَ الوجود ، فتلك قوة لا تنفك تطلب مرجِّحا من خارج يجاوز بها في الحدِّ ، فَيُخْرِجُهَا مِنَ القوَّةِ إلى الفعلِ ، من العدم إلى الوجود ، فَلَئِنِ احتمل الجائزُ الوجودَ ، فتلك القوة آنفة الذكر ، وهي على قَيْدِ العدم حتى يكون المرجِّح من خارج ، فَوُصِفَتِ القوة بالعدم ، من هذا الوجه ، وهو العدم الجائز الذي يفتقر إلى مرجح من خارج ، وثم آخر وهو العدم الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فذلك المحال الذاتي فلا وجود له في الخارج ، ولو احتمالا هو الأول كما الجائز فهو يشاطره وصف المعدوم ، ولكن الجائز مما يحتمل الوجود ويحتمل ضدا ، فإن اكتمل من العلة ما يُرَجِّحُ ، فهو يخرجه من العدم إلى الوجود ، وإن لم يكتمل ، فيصدق فيه ، من وجه ، أنه المحال ، ولكنه المحال لِغَيْرٍ كما الواجب لِغَيْرٍ في الشطر الآخر ، فكلاهما يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، مرجح الإيجاد أو آخر يمنع لا أن المحال ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فالمحال لِغَيْرٍ كان ابتداء من الجائز وإنما رجح فيه العدم مع احتمال ضد من الوجود ، فذلك الاحتمال ، ولو لم يثبت ، هو مَا مَازَهُ مِنَ المحالِ الذاتي فلا احتمال فيه ، بادي الرأي ، لوجود ، ولو مجرَّدا في الذهن ، فَلَيْسَ إِلَّا الفرض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم .
وكذا الواجب في المقابل ، فمنه واجب لذاته ، ومنه واجب لغير ، فالواجب لذاته لا يفتقر إلى موجِب من خارج ، فوجوبه ذاتي لا يعلل ، وليس ذلك إلا واحدا ، وإلا ما كان غَيْرٌ من واجب لغير ، فالواجب لِغَيْرٍ يَفْتَقِرُ إلى اثنين : واجب يتقدمه فهو يُرَجِّحُ فيه الترجيح المباشر ، وواجب أول ليس ثم شيء قبله ، فهو واجب الوجود لذاته ، إذ وجوده الوجود الذاتي الذي لا يعلل ، فذلك شرط أول في كلِّ جَائِزٍ يطلب التَّرْجِيحَ من خارجٍ ، فَيَطْلُبُهُ من مرجِّح يُبَاشِرُ مع استيفاء شرط وانتفاء مانع ، فيكون من ذلك مجموع العلَّةِ المركَّب الذي يَتَسَلْسَلُ ، فلا ينفك ، أبدا ، يطلب أولا لا أول قبله ، فذلك الواجب الأول ذو الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلولاه ما كان وجود في الخارج يحدث إذ هُوَ مَنْ قَدَّرَ فِي الأزلِ ، فلا يكون هذا الوجود المتقن ذو السنن المحكم إلا وثم أول يُقَدِّرُ بِعِلْمٍ محيطٍ يَسْتَغْرِقُ ، فَقَدَّرَ المحالَّ والأسبابَ ، وأجرى السنن أَنْ يُسْتَوْفَى لكلٍّ من الشروط ما يواطئ وَيَنْتَفِيَ مِنَ الموانع ما يُعَارِضُ ، فلا يكون ذلك إلا بعلم أول يقدر . فَالسُّنَّةُ الكونية لا تستقل بالخلق والتدبير وإنما بها الخلق والتدبير بما رُكِزَ فيها من قوى التأثير وما رُكِزَ في المحال من قوى تقبل آثار الأسباب وَتَتَأَوَّلُ ، فلا تَنْفَكُّ السُّنَّةُ تطلب السَّانَّ لها ، فليست ، كما زَعَمَ بَعْضٌ إذ يُنْكِرُ الخالق الأول ويجحد ، ليست هي من يخلق وإن كان الخلق بها فهي سبب يُبَاشِرُ لا ينفك يطلب الأول ، على التفصيل آنف الذكر ، فيمتاز هذا الأول الموجِد الموجِب ، يمتاز من غَيْرٍ هو المخلوق المحدَث فهو الموجَد الموجَب بَعْدًا ، وذلك حَدُّ التوحيدِ أَنْ يُفْرَدَ القديم من المحدَث ، الموجِب الأول ذو الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، أَنْ يُفْرَدَ من آخر هو الجائز مبدأ التقدير ، الموجود بعدا بما كان من سبب من خارج يرجح ، فليس وجوده الذاتي الذي لا يعلل ، بل لا ينفك يطلب ذلك الواجبَ الأول ذا الوجود الذاتي الذي لا يعلل ، وإليه انتهاء الموجودات المحدَثات كَافَّةً ، وهو الذي امتاز منها بما تقدم من وصف الذاتي في مقابل آخر هو وصف كل ما سواه من الموجودات فهو الجائز ، مبدأ التقدير ، ولئن كان له بعدا من وصف الوجوب حظ ، فهو لغير لا لذاته ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، القدر الفارق الذي يميز ، فَثَمَّ واجب وجود أول وجوده ذاتي لا يعلل ، وتوحيده أن يفرد من آخر ، وهو الجائز المحدَث فوجوبه إن ثبت فَلِغَيْرٍ بما كان من ترجيح من خارج يجاوز ، فليست العين واحدة لِيُقَالَ إِنَّ ثَمَّ واحدية لا يمتاز فِيهَا خالق من مخلوق ، فذلك مما يخالف عن المنقول والمعقول كافة ، ومآله أن يقال إن الحقيقة في الخارج واحدة بالعين ، وإنما يَرَى الناظر الاختلاف في صور أو أعراض ، فالجوهر واحد قديم ، وذلك من التخرص والظن ، أَشَهِدَ القائل ما كان أولا من الوجود والخلق ؟! ، لا سيما إن كان ممن يؤمن بالمثال الواحد في العلوم كافة ، وهو ما أشار إليه بعض من حَقَّقَ أنه مثال في المعرفة يفسر الوجود استنادا إلى معيار مادي لا يجاوز ، فيجحد ما جاوز العقل والحس فهو ينكر الغيب المجاوز ، ولو في الفنون والآداب فهي ، كما يقول بعض من حقق ، حِكَايَةُ لَطِيفٍ من الماهية يجاوز الجسد الذي صار معيار الفكرة والحركة في مذاهب لم تجاوز المحسوس من الخلقة ، فليس له من العلم حظ إلا علمَ مَادَّةٍ هي معدن حضارة تُلْحِدُ وتجحد ، كما وصفها بَعْضُ من تَدَبَّرَ المثال المحدَث في الجيل المتأخر من حضارةِ مَادَّةٍ لم تُقِمْ وَزْنًا إلا لمدركَاتٍ تنال بالحس الظاهر ، فليست ثقافة تؤمن بما جاوز الحس المحدث ، فيكون منها إيمان بغيب هو خاصة من يعقل ، فإن العقل مما جاوز الدماغ المحسوس الذي استوى فيه الإنسان المتكلم والحيوان الأعجم ! ، فكان من مادة العقل ما لَطُفَ ، وهو ما يأرز إلى روح تلطف وتلك ماهية نورانية لا تُدْرَكُ بالحسِّ الذي صَيَّرَهُ أولئك معيار الإثبات في بحث وتجريب لم يجاوز في بابه ما يدرك بالحس الظاهر ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما يخالف عن معيار العقل الذي يَنْتَحِلُهُ الخصم ، فَلَيْسَ عدمُ الوجدانِ دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، وإذا عُدِمَ فِي المسألة دليل من جملة أدلة ، فلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ العدم في نَفْسِ الأمر ، فقد يثبت الأمر بدليل آخر ، فإذ عُدِمَ دليل الحس فَقَدْ يَكُونُ آخرُ من خَبَرٍ أو عقلٍ أو فطرة ، وهي في البحث تُقَدَّمُ ، لو كان ثَمَّ مَنْ يَعْقِلُ ، فَهِيَ أشرف من مدارك الحس التي يستوي فيها الإنسان والحيوان الأعجم ، فَخَبَرُ مَا غَابَ ومقدمات العقل الضرورية وفطرة الخلق الأولى إذ أُجْمِلَتْ فِي النَّفْسِ وَرُكِزَتْ ، كلُّ أولئك مِمَّا بِهِ امتاز الإنسانُ ذو العقل والنطق من الحيوان الأعجم فلا يجاوز وجدانه مدارك الحس المحدَث ، فعدم الدليل الواحد ليس علما بالعدم ، إذ قد يكون الإثبات مِنْ دليل آخر يغاير الأول ، فكان من الخبر ما أبان عما غَابَ ، فلا بد من أول ، ولو بمعيار النظر المجرد الذي يدل ضرورة أن الحادث لا بد له من محدِث يَتَقَدَّمُ ، وَأَنَّ ثَمَّ من التسلسل ما يجاوز عالم الشهادة إلى الغيب حتى يَنْتَهِيَ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فذلك المحدِث الأول ، وثم آخر في الباب أخص من مطلق الحدوث ، فكما أن المحدَث لا بد له من محدِث ، فكذا المتقَن لا بد له من متقِن ، وكذا المحكَم لا بد له من محكِم ، وهو ، أبدا ، ما افتقر إلى علم تقدير أول ، وإرادة بها الترجيح ، وهو ، أيضا ، من العام وله في الخارج آحاد تصدِّق ، فَثَمَّ الإرادة التي تُرَجِّحُ مبدأَ الأمر فيخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، وثم أخرى تَعْقُبُ وبها التخصيص يَثْبُتُ ، فيكون من التقدير أخص ، إِنْ تَقْدِيرَ الماهيات على هيئات مخصوصة تَقْبَلُ آثارَ الأسباب ، أو تَقْدِيرَ الأسباب بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُؤَثِّرُ فَهِيَ تُبَاشِرُ من المحالِّ ما يقبل ، ولا يكون ذلك إلا وثم امتياز في الحقائق ، وبه توحيد في الاعتقاد يَنْصَحُ ، توحيد الخالق الأول ، بالذات وما قام بها من الوصف ، وصف الكمال المستغرق ، وهو ما عَمَّ الجلال والجمال كافة ، فكان منه ما يَكْثُرُ ، وإن قام بذات واحدة لا تَتَعَدَّدُ ، فَحَسُنَ لأجله الإسناد إلى ضمير الجمع ، في مواضع من التنزيل ، كما "خَلَقْنَا" و "قُلْنَا" و "زَيَّنَّا" .... إلخ ، وكذا يقال في "نَفَخْنَا" ، في قوله ![]() ![]() فكان من الوصف الإلهي ما تَقَدَّمَ ، فمنه وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، كما الحياة والعلم ، ومنه وصف الفعل الذي يَقُومُ بالذات أولا قِيَامَ النَّوْعِ القديمِ أزلا ، وله في الخارج آحادٌ تُصَدِّقُ ، كما فعل النفخ ، آنف الذكر ، فهو مما حُدَّ في الآي فعلا قد مَضَى بالنظر في زَمَنِ التَّنَزُّلِ في "نَفَخْنَا" ، فكان النفخ في مريمِ البتول ، عليها السلام ، كان من ذلك مَاضٍ بِالنَّظَرِ فِي زَمَنِ التَّنَزُّلِ ، فكان منه فعل يُنَاطُ بالمشيئة النافذة ، قد قَدُمَ نَوْعُهُ وكان من آحاد في الخارج ما يُصَدِّقُ ، فَهُوَ حَادِثٌ ، وإن كان نَوْعُهُ أولا يَقْدُمُ ، وذلك ، كما تقدم ، أصل عام يُسْتَصْحَبُ فِي أوصافِ الفعلِ كَافَّةً ، ومنها النفخ ، ولا يخلو مِنْ لَوَازِمَ تَرْفِدُ ، فلا يكون ذلك إلا عن فاعل هو الأول ، وذلك فعل لا يكون إلا عن حَيَاةٍ هي أصلُ الأوصافِ كَافَّةً ، فالفاعل الأول الذي لا فاعل قبله ، الفاعل الأول : حَيٌّ لَهُ من الحياة وصفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، وذلك مما ثَبَتَ بِقِيَاسِ الأولى إذ كان من الحيوات المخلوقة في الخارج ، عَلَتْ فِي الرُّتْبَةِ أو سَفُلَتْ ، كان منها ما لا يكون إلا عن حَيٍّ ، بداهة ، إذ فَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ ، فالحياة وصف كمال مطلق ، بل هو في الباب أول ، فلا وصف يصدر عن علم وإرادة إلا وله من الحياة أول يَتَقَدَّمُ ، وخالق الحياة يُوصَفُ بها من باب أولى ، وَلَوِ اشْتِرَاكًا في الجنس العام الذي يُجَرِّدُهُ الذهن فحياة الخالق ، جل وعلا ، بداهة ، أكمل وإن شاطرت بَقِيَّةَ الحيوات الجنسَ المجرَّد في الذهن فتحته آحاد في الخارج تتغاير ولكل من الوصف ما يواطئ ذاته ، حياة الخالق تُوَاطِئُ ذاته كمالا في حد ، وحياة المخلوق تُوَاطِئُ ذاته نقصا في آخر ، وحياة الخالق من القديم الأول ، وحياة المخلوق من تال هو المحدَث من العدم بعد أن لم يكن ، فَكَانَ من ذلك فُرْقَانٌ يميز ، وإن حصل الاشتراك في الجنس العام ، جنسِ الحياة الذي يجرده الذهن ، فالاشتراك فيه حتم لازم ، وإلا عُطِّلَتِ الأدلة من مدلولاتها المعنوية ، وصارت قوالب من الألفاظ بلا شاغلٍ من المعاني ، فالمبدأ فيها المدلول المعجمي الأول ، وهو ما يجرد الذهن ويطلق ، مع افْتِرَاقٍ ، من وجه آخر ، فهو يَتَنَاوَلُ الحقائق المقيدة في الخارج ، فَلَوْ نُفِيَ في المقابل لكان التمثيل بل ومقالُ الوحدة الباطن أَنْ يَصِيرَ الوجود كله واحدا خلافَ المنقول والمعقول والمفطور والمحسوس كافة ، فَكُلُّهَا يَقْضِي ضرورةً بامتياز واجب الوجود الأول وهو الخالق ، جل وعلا ، من هذا العالم المحدث بأعيانه وأحواله فالمبدأ منه في النظر جائز ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وهو مِمَّا يَتَسَلْسَلُ من الشهادة إلى الغيب حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى واجب الوجود الأول الذي يخلق بالعلم ويقدر بالحكمة ويقضي في الخارج بالقدرة ، فيكون من ذلك تأويل في الخارج ، وهو الإتقان والإحكام في هذا العالم ، فكل أولئك لا يكون بداهة عن خبط وعشواء ، فَلَا يَكُونُ عن أول لا حياة له ولا علم ، فيكون من الفعل عَبَثٌ بِلَا تقديرٍ ولا إرادة ثم يكون عنه في الخارج هذا العالم المتقن المحكم وهذه الحيوات المحدَثة ، ومنها حياة الإنسان الذي يُقَدِّرُ أولا في الذهن ثم يتأول ما قَدَّرَ في الخارج ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ القوَّةِ إلى الفعلِ ، وَكُلُّ أولئك مما لا يُتَصَوَّرُ ، بداهة ، من مَيِّتٍ لا حياة فيه ، فيكون من فعله في الخارج ما يُصَدِّقُ ، ويكون من ذلك محدَثٌ في الخارج ذو إتقان وحكمة ، وإن لم يكمل له من ذلك الوصف فلا ينفك يفوته بعض فلا يبلغ إتقانه وإحكامه الغاية ، وهو ، مع ذلك ، فاعل حي ذو إرادة ، فلا يتصور علم تقدير أول مع إرادة في الخارج تُرَجِّحُ ، لَا يُتَصَوَّرُ كُلُّ أولئك عن ميت ، فكيف بهذا العالم المتقنِ في أعيانه ، المحكَمِ في أحواله ؟! ، فلا يكون ، من باب أولى ، إلا عن حي ، بل وله من وصفِ الحياة : الكمالُ المطلَقُ ، وذلك ، أبدا ، أَصْلٌ يُسْتَصْحَبُ في الصفات كَافَّةً ، الذاتية والفعلية ، فلا يكون النفخ ، آنف الذكر ، إلا عن أول له من علم التقدير في الأزل مبدأ ، وثم من الإرادة ما يُرَجِّحُ ، فهو يُخْرِجُ المقدورَ من العدمِ إلى الوجودِ ، من القوة إلى الفعل المصدِّق ، فكان من ذلك آحاد في الخارج تَحْدُثُ ، وَمِنْهَا المثال آنف الذكر ، مثالُ النَّفْخِ في مريم البتول ، عليها السلام ، فذلك واحد من نوع قديم أول ، فَيُنَاطُ بمشيئة تَنْفُذُ ، وبها آحاد من الفعل تحدث ، وهي لأول من الوصف القديم تُصَدِّقُ ، فالنفخ لا يكون إلا من حي ، ودلالة النفخ في هذا الموضع تحكي التقدير من الرب الخالق ، جل وعلا ، وتحكي ماهيةَ الفعلِ من روح القدس وهو النافخ في جيب البتول ، فاختلفت النسبة باختلاف الفاعل ، فالرب ، جل وعلا ، خالق يُقَدِّرُ وَيُوجِدُ بمشيئَةٍ تُرَجِّحُ بما يكون من كلمةِ تَكْوِينٍ تَنْفُذُ ، وروح القدس لها يَتَأَوَّلُ إذ نَفَخَ في جيب البتول ، فَخَرَجَ المقدور من العدم إلى الوجود ، فكان من النفخ آنف الذكر ، نَفْخُ روحِ القدس في جيب البتول ، كان منه ملزوم أول ، وله من لَوَازِمَ في بابِ الوصفِ والفعلِ ، له منها : الحياة وهي ، كما تقدم ، أصل الصفات كافة ، والعلم والمشيئة ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، إسنادُ الفعلِ إلى ضمير الفاعلين في "نَفَخْنَا" ، حكايةَ التعظيمِ اللائق بآية في الخارج تُعْجِزُ ، وحكايةَ التَّكْثِيرِ لِصِفَاتٍ تَتَعَدَّدُ على التفصيل آنف الذكر ، وكذا يُقَالُ من إضافة "الروح" إلى ضمير الفاعلين في "رُوحِنَا" ، حكاية تعظيم آخر مع تَعَدُّدٍ فِي الوصفِ ، وصفِ التَّقْدِيرِ والخلقِ المصدِّق في الخارج حكايةَ إتقانٍ وإحكامٍ يُسْتَصْحَبُ في الموجودات كافة ، فوجودها على هذه الخلقة المتقَنة وجريانها على هذه السنة المحكمة ، كلُّ أولئك لا يكون ، بداهة ، إلا عن أول هو الفاعل بالعلم والإرادة ، فَلَيْسَ فَاعِلَ الطَّبْعِ اضطرارا ، كما اقترحت الحكمة الأولى ، وَثَمَّ مِنَ الْعِلَلِ الغائية التي تجيب عن سؤال "لماذا" ، ثم مِنْهَا إن في التكوين أو آخر من التشريع ، وهو الغاية من هذا الخلق ، ثم من تلك العلل ما يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ تَنْفِي العشواء والخبط ، وهو ما يَلْتَزِمُهُ الجاحدُ لأول من قصة الخلق ، وإن كَابَرَ ، فهو يتأول الغائية في كل أفعاله ، ولو أفعال الجبلة ، فَيَأْكُلُ إذا جاع إذ الغاية أَنْ يَشْبَعَ بِمَا رُكِزَ في المأكولِ من قوةِ الإشباعِ ، وما رُكِزَ في الجسد من قوة الهضم والامتصاص والإخراج .... إلخ ، وكل أولئك دليلٌ يُبِينُ عَنْ إتقانٍ وإحكامٍ لَا يَنْفَكُّ يدل ضرورة في العقل الناصح أن ثَمَّ أولا هو الفاعل ، فهو المقدِّر في الأزل ، وهو الموجِد على حَدِّ الإتقان والحكمة ، فَثَمَّ ضرورة في أي وجدان يَنْصَحُ أن ثم فاعلا هو الأول ، وَأَنَّ ثَمَّ سَنَنًا هو المحكَم ، وأن ثم غاية هي ما من الفعل يُطْلَبُ ، وكل أولئك مما يَنْفِي الخبطَ والعشواءَ ، وإن جَحَدَ المنكر وَكَابَرَ ، فقال بِلِسَانِهِ ما يُنْكِرُهُ ، ولو في أفعال الجبلة ، على التفصيل آنف الذكر . فَأُضِيفَتِ "الروح" إلى ضمير الفاعلين حكايةَ تَعْظِيمٍ في الفعل وتكثيرٍ فِي الوصف الذي عنه الفعل قد صَدَرَ ، صدورَ لازمٍ عن ملزوم أول ، فلازم العلم والتقدير والحكمة والمشيئة .... إلخ ، لَازِمُهَا مَا يُصَدِّقُ فِي الخارجِ من خَلْقٍ محكَمٍ متقَنٍ ، ودلالة الروح في هذا السياق تحتمل ، فإما أن يكون العهد فيها خاصا يَتَنَاوَلُ النَّافِخَ ، روح القدس ، فَهُوَ مَنْ بَاشَرَ السبب فَنَفَخَ ، فَتِلْكَ مِنْ إضافة المخلوق إلى الخالق ، جل وعلا ، وهو ما رَجَّحَ في "مِنْ" في قوله ![]() ![]() ![]() وَكَانَ من الجعلِ مَا تَنَاوَلَ البتول وابنها ، عليهما السلام ، فَحُدَّا جَمِيعًا حَدَّ الآية الواحدة لا اثنتين ، فإن الآية ، كما يقول بعض من حقق ، لا تحصل إلا بهما جميعا ، وثم من تنكير الآية في اللفظ ما يحكي أولا في الدلالة ، وهو النوعية التي تُبِينُ عن الماهية المطلقة ، وهي مما احتمل القيد إِنْ بالتعظيمِ تارة ، أو بالتحقيرِ أخرى ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى المشترك اللَّفْظِيِّ عامة ، والأضداد خاصة وهو في الباب أعوص أن يكون من اللفظ واحد ، وهو يحكي نَقِيضَيْنِ أو مُتَعَارِضَيْنِ فِي الدلالة ، كما التنكير آنف الذكر ، فهو يحكي التعظيمَ وضدَّه ، فكان من ذلك إجمال لا ينفك يطلب الدليل المبيِّن ، ومنه السياق ، فهو الذي يُبِينُ عن مراد المتكلم ، فأبان في هذا الموضع عن معنى التعظيم ، فتلك آية تُعْجِزُ ، وثم من العموم ما تحكيه "أل" في "الْعَالَمِينَ" ، وهو ما استوجب عموما يَتَنَاوَلُ آحاد المكلَّفين جميعا ، من الإنس والجن ، فالتكليف عام يستغرقهما ، وذلك ، من وجه ، مما يدخل في حد العبودية في قوله ![]() وثم من التقدير آخر ، فيكون من الروح عَهْدٌ يَتَنَاوَلُ المسيحَ ، عليه السلام ، فهو الروح المنفوخة في الرحم ، والإضافة ، أيضا ، في "رُوحِنَا" من إضافة المخلوق إلى الخالق ، فالله ، جل وعلا ، هو الخالق ، خالق المسيح ، عليه السلام ، وسائر الأرواح ، وإنما اختصت روحه بالذكر لما شَرُفَ من ماهيتها ، وما أعجز من خلقها ، ودلالة "مِنْ" ، من هذا الوجه ، في قوله ![]() ![]() ![]() فكان من جنس الطاعة الظاهرة ، ولو لم يبلغ القدر الواجب ، كان منه شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الاسمِ الديني المجزئ ، ولو المطلق الأول ، فَإِذَا حَصَلَ وهو المجموع المركب من تصديق الظاهر وهو لازم في الخارج يظهر ، مع آخر من تصديق الباطن وطاعته ، ومنها طاعة لا دين يجزئ إلا بها ، كما التصديق على القول إنه طاعة بما تَقَدَّمَ من حَرَكَةِ الترجيح في المعلوم الذي يحصل في الجنان عِرْفَانًا هو المبدأ ، مع طاعة أخرى هي باعث الإرادة ، فذلك الحب والبغض ، وهو مادة أولى بها ترجيح في الإرادة فعلا وَتَرْكًا ، ولا تنفك آثارها تظهر في الخارج بما يكون من العمل ، فِعلا وَتَرْكًا ، فالإرادة : فعلا وَتَرْكًا ، هي الملزوم ، ولازمها في الخارج العمل : فعلا وَتَرْكًا ، فَثَمَّ من الطاعة والقنوت ، ثَمَّ معنى يطلق في مواضع من التنزيل ، كما في الآي آنف الذكر من الثناء على البتول ، عليها السلام ، إذ : (كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ، وكذا في قوله ![]() فلا يستويان مَثَلًا ، مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ ، وهو الجاري على سنن الحكمة تَفْرِيقًا بين المختلِفَيْنِ ، وثم من طباق السلب بَيْنَ : "يَعْلَمُونَ" و "لَا يَعْلَمُونَ" ، ثم منه ما يرفد معنى الإنكار والإبطال في الإنشاء ، ومعنى النفي في الخبر ، وثم من الوصل في "الَّذِينَ يَعْلَمُونَ" و "الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" ، ثَمَّ منه ما يجري مجرى الإطناب الذي يُمَهِّدُ بين يدي المناط ، مناط الحكم الذي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ ، فَمَهَّدَ بالصلة "الَّذِينَ" ، وهي نص في العموم ، من وجه ، وهي من المجمَلِ المفتقِر إلى البيان ، من آخر ، فكان مِنْهَا ما اسْتَحْضَرَ ذِهْنَ المخاطَبِ ، فَإِنَّ المجمَل مما به الذهن يَتَهَيَّأُ أَنْ يَطْلُبَ تَالِيًا مِنْ دَلِيلٍ يُبَيِّنُ ، فَمَهَّدَ بالمجمَلِ من الوصل ، ثم أطنب بالمبيِّن من الصلة "يَعْلَمُونَ" و "لَا يَعْلَمُونَ" ، فالمجمل ، أبدا ، يَفْتَقِرُ إلى المبيِّن ، وهو من جُمْلَةِ أَسْبَابٍ رَدَّ إليها النحاةُ بِنَاءَ الموصول إذ يفتقر إلى الصلة ، فأشبه الحرف المبني ، من هذا الوجه ، إذ الحرف يَفْتَقِرُ إلى مدخوله ، فَبُنِيَ ، من هذا الوجه ، إِذْ لَا يُعْرِبُ عَنْ مدلولِه وَيُفْصِحُ بنفسه ليكون من المعرَب ، وإنما يُعْرِبُ بِمَا كان من مدخوله ، فَافْتَقَرَ إليه افتقارا ذاتيا لَا يُعَلَّلُ ، والحرف في البناء أصل ، وعليه يقاس غَيْرٌ ، كما الموصول آنف الذكر ، فَقِيسَ على الحرفِ ، وَأُلْحِقَ به في حكم البناء لِعِلَّةِ الشَّبَهِ ، وهو ما اصطلح أهل الشأن أنه الشبه الافتقاري ، فالموصول الذي يَفْتَقِرُ إلى الصلة يُقَاسُ على الحرف الذي يفتقر إلى مدخوله ، فَيُقَاسُ عليه في حكم البناء لعلة الشبه الافتقاري ، فكان من الموصول عَامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، مع صلة تالية تُبَيِّنُ ، فذلك أصل يجرِّده الذهن ، فَحَسُنَ فيه العموم من هذا الوجه ، إذ الذهن يُجَرِّدُ الكليات المطلقة ، وهو ما تَنَاوَلَ كُلَّ محلٍّ يَصِحُّ تَوَجُّهُ التكليفِ إليه ، إِنْ بالقوةِ أو بالفعلِ ، فاستغرق الموجودَ زَمَنَ الخطاب والمعدومَ فَلَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ ، واستغرق الحاضر والغائب ، واستغرق المكلَّف بالفعل وهو البالغ ، والمكلف بالقوة وهو الصغير ، إِنِ الْمُمَيِّزَ أو ما دونه من وليد لا يَمِيزُ ، فَيُوشِكُ أَنْ يَكْبُرَ وَيَبْلُغَ فَيُنَاطَ بِهِ التكليف ثانيا بالفعل ، فهو يصدق ما كان أولا بالقوة المركوزة في الماهية الإنسانية التي خوطبت بالتكليف المنزَّل ، واستغرق الجمع المذكر ، كما النص في الموصول "الذين" ، والجمع المؤنث تغليبا ، وذلك الأصل في خطاب التنزيل لقرينة العموم في خطاب التكليف ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، أصل عام يستصحب حتى يكون ثم من الدليل ما يُرَجِّحُ آخر أخص ، فهو يَقْصُرُ مَادَّةَ المذكَّر على جنسه ، ويقصر مادة المؤنث على جنسه ، ويرد الأصل الدلالي إلى الوضع المعجمي الأول ، فهو أصل في اللسان قد جُرِّدَ ، وهو مبدأ الإفصاح في اللسان ، فتلك الحقيقة اللغوية المطلقة التي يجردها المعجم فما يكون من مُثُلٍ في الخارج تشهد من الكلام المأثور ، من المنظوم والمنثور ، ما يكون منها فهو ، كما تقدم في موضع ، المبيِّن لِمَا أُجْمِلَ من الأصل الدلالي المطلق الذي جَرَّدَهُ الذهنُ ، فهو العام الذي لا أعم منه في بابه ، فما يُذْكَرُ مِنْ مُثُلِهِ في الخارج فلا يخصِّصه ، وإنما يُبِينُ عنه ، فَثَمَّ حقيقة لغوية مطلقة هِيَ مَبْدَأُ الْبَيَانِ في الكلام المفهِم ، وثم أخرى أخص بما اشتهر من التداول والاستعمال ، كَمَا تَقَدَّمَ من التغليبِ ، فهو مما يجاوز وَضْعَ المعجم الأول ، إذ عَمَّ اللفظ المذكر ، عَمَّ الجنسَ المؤنث لقرينة العموم في خطاب التكليف المنزل ، فَثَمَّ ناقل عن الأصل الأول ، الأصل اللساني المجرَّد ، إذ كان من التداول ما اشْتُهِرَ ، فصار العرف المستعمل ، وهو أخص في الدلالة من الأصل اللساني المجرد ، فَقُدِّمَ عليه من هذا الوجه ، إذ الحقيقة العرفية تُقَدَّمُ على نظيرتها اللغوية ، تقديم الخاص على العام ، والقطعي قاض في الظني ، فصارت الحقيقة العرفية هي الأصل المستصحب في التنزيل إذ اطَّرَدَ في خطابه التغليبُ ، فذلك الأصل الجديد المستصحب حتى يكون من دليل ثان ما يَنْقِلُ ، فَيَرُدَّ اللفظ إلى حقيقته الأولى في اللسان المجرد ، وليس ذلك مما يجري في هذا الموضع : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، فإن الصلة التي تحكي مادة العلم ، ذلك مِمَّا يستوي فيه الذكر والأنثى ، فهو في قوة : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وهل تستوي اللاتي تَعْلَمْنَ واللاتي لا تَعْلَمْنَ ، فَثَمَّ إيجاز بالتغليب قد اقتصر على الشطر الأول إذ ناب عن الثاني ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى الإيجاز بالحذف ، حَذْفِ شَطْرٍ إِذْ دَلَّ عليه آخر ، والقياس في الباب أَنْ يَدُلَّ المتقدِّم المذكور على المتأخِّر المحذوف ، إذ يحصل بالأول مرجع في الذهن يَثْبُتُ ، فَإِلَيْهِ يُرَدُّ المحذوف المتأخر ، وثم من إطلاق العاملِ ، عاملِ العلم فِي "يَعْلَمُونَ" ، ثم من ذلك ما يحكي عموما يَتَنَاوَلُ المعلوماتِ كَافَّةً ، وإن رَجَّحَ السياق مِنْهَا الأشرفَ ، وهو المعلوم الديني عَامَّةً ، والإلهي خَاصَّةً ، فذلك معلوم أخص قد دل عليه السياق ، وَإِنْ عَمَّ اللفظُ بإطلاقِه ، فَاسْتَغْرَقَ أجناسَ المعلومِ كَافَّةً ، والشطر الأخير ، من وجه ، دَالٌّ على المحذوف في الشطر الأول ، على تقدير : أمن هو قانت خير أمن هو عاص ، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فيجري السياق ، من وجه ، مجرى اللف والنشر المرتب ، إذ القانت في الشطر الأول قد لُفَّ ثم نُشِرَ منه أول في الشطر الثاني ، وهو يعدله في الموضع ، موضعه في الجملة فكلاهما أول ، ثم كان من الثاني في الشطر الأول وهو المحذوف من العاصي الذي يطابق القانت طباق الإيجاب في الدلالة ، كان منه ما يعدل ثانيا في الشطر الثاني : (وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، فدل المتأخر وهو من لا يعلم دل على المتقدم وهو العاصي ، فذلك وجه في الدلالة ، وهو ما يخالف عن الأصل آنف الذكر ، أن يدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر ، فَقَدْ دل المذكور المتأخر من "الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" على المحذوف المتقدم والذي قُدِّرَ عَاصِيًا يُطَابِقُ القانتَ في الدلالة طباقَ الإيجاب المستغرِق لأجزاء القسمة في الخارج . وَثَمَّ آخر من الدلالة يواطئ الأصل المطرد في الباب ، وهو أن يدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر ، فدل القانت على مطابقه في الدلالة وهو العاصي ، وثم من الإطناب بالاستفهام الثاني : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، ثم منه ما يجري ، من وجه ، مجرى التعليل ، فإن العلم بالله ، جل وعلا ، سبب في الطاعة والقنوت ، والجهل به سبب في ضَدٍّ من العصيان . ومحل الشاهد ما تقدم من مادة القنوت في الآية ، وهو حكاية الطاعة ، من وجه ، وذلك ما أطلق في هذا السياق : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) ، مع مَا تَقَدَّمَ من دلالة التغليب التي تُسْتَصْحَبُ ، فإن القنوت جنس عام يستغرق الذكر والأنثى ، فالمعنى يتناول القانت والقانتة ، فأطلق الوصف ، وهو من الجنس المشَبَّهِ ، وإن حُدَّ حَدَّ الفاعل "قَانِتٌ" ، فمثله في ذلك كمثل "طَاهِرٍ" من "يَطْهُرُ" ، فقانت من "يَقْنُتُ" ، فوافق الوصف المشبه العاملَ المضارع ، وَافَقَهُ في الحركات والسكنات ، فَأُطْلِقَ الوصفُ المشبَّه ، وهو يحكي ابتداء بالنظر في أصل الدلالة ، وهو يحكي ابتداء معنى الثبوت فَيُلَازِمُ الذَّاتَ الَّتِي يَقُومُ بِهَا ، وذلك آكد في الثناء والمدح ، فكأن القنوت قد اقْتَرَنَ بصاحبه فهو كالوصف الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ ، فَقَدْ مَازَجَ الذَّاتَ حَتَّى صَارَ كَالْجِبِلَّةِ فَلَا يَتَكَلَّفُ صاحبُها من الفعل ما يجهد ، فقد صار القنوت له طبعا وسجية . فَثَمَّ من إطلاقِ القنوتِ آنف الذكر ، ثم منه ما عَمَّ فَتَنَاوَلَ أجناس القنوت كافة ، ما بطن وما ظهر ، وله من الأصل توحيد هو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، الوجهة التي بها الحضارة تَنْضَبِطُ ، فهي مادة يَتَنَاوَلُهَا العقلُ تَنَاوُلَ التجريب والبحث ، وهو مما استوى فيه الخلق ، فكان من إِرْثِهِ ما تَرَاكَمَ فهو نِتَاجُ أمم قد تَوَالَتْ في سياق تاريخٍ مُتَّصِلٍ ، فليس ذلك مما به الوجهة تنضبط ، فهو آلة تجري مجرى الوسيلة ، ولا بد لها من مقصِد ، وإلا كان الخبط والعبث ، كما مذاهب تمجد العدم إذ لم تهتد إلى غاية من هذا الخلق ، فانحطت إلى دركة الحيوان الأعجم ، وقال قائها وهو يَتَبَجَّحُ بِمَا يسرد من قِيمَةٍ وَمَبْدَإٍ أَنَّ الغاية من هذا الخلق : الأكل والشرب والتكاثر كما عامة البهائم ! ، فليس الإنسان إلا واحدا من الجنس : جنس الحيوان ، وهو من كائن أول بسيط قد تَطَوَّرَ مع بقية الأنواع في الخارج ، فلم يكن من الخلق ما به امتاز الإنسان وَفُضِّلَ ، أَنْ خُلِقَ بَيَدِ الرحمن ، جل وعلا ، الذي سَوَّى جسده الطيني الكثيف وَبَثَّ فيه الروح النوراني اللطيف مع ما رُكِزَ فيه من مادة عقل أخص هي مناط التكليف بالأمر والنهي ، وهو ما افْتَقَرَ إلى مرجع من خارج يجاوز وبه الوجهة تَنْضَبِطُ ، فلا يكون ذلك بآلة تحدث فهي وسيلة لا مقصد ، فما يرجو الناظر ، كما يقول بعض من حقق ، ما يرجو من زيادة في الآلة ونقص في الإنسان أن ينحط إلى دركة حيوان لا يعقل إلا عقل الغريزة الذي يُفَتِّشُ عن لذة الحس في العالم الشاهد تَنَاوُلًا وإشباعا لا يَشْبَعُ صاحبُه فلا يَنْفَكُّ يسأم ويمل فيكون من جديد في الباب ما يَبْتَكِرُ ، ولو خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس كافة ، فقد صار معنى اللذة هو الأصل والوجهة التي تستقبلها حضارة المادة المجردة من المعيار الرسالي المحكم ، مع حرية تُطْلَقُ فلا معيار لها يأطر ، لَوْ فُرِضَ وجود ذلك في الخارج بادي الرأي ولو لدى أصحاب المذهب الْحُرِّيِّ المطلق فلا ينفك أولئك يأطرون مذهبهم فَيُنْكِرُونَ على من خالفه وذلك قيد يأطر ، ولو قَيْدَ الإطلاق الذي يخرج صاحبه من حد الإنسان إلى الحيوان الأعجم بل هو أضل ! ، فلم يكن إلا الحس مرجعا يَصْدُرُ عن الجسد الطيني الأدنى ، فلا ماهية أشرف تجاوز غَرِيزَةَ الحس فتدرك مرجعا يجاوز من الوحي الذي يأطر المحسوس على جادة من المنقول الصحيح الذي يواطئ المعقول الصريح ، والفطرة الناصحة ، بل والحاسة السالمة التي يُعَظِّمُ صاحبُ اللَّذَّةِ آنف الذكر منها وجدانها المطلق للمحسوس ولو خالفت عن أول من الفطرة الناصحة ، فَلَوْ أحسن يستعمل الحاسة لاستدل بِهَا نَظَرًا في هذا الوجود المتقَن المحكَم أن ثَمَّ مناطا أعم ، وهو المحدِث الأول إذ لا حدَث بلا محدِث يَتَقَدَّمُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فوجب منه أول لا أول قَبْلَهُ فَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الأسباب كافة ، إذ امتنع في العقل المصرَّح التسلسلُ في المؤثرين أَزَلًا ، وكذا آخر يحكيه بعض من حَقَّقَ ، أن تكون بعض الموجودات سَبَبًا لِبَعْضٍ آخر على حد التعاقب لا التسلسل ، فذلك من الدور الذي يبطل ، أن يَتَوَقَّفَ وجودُ كُلِّ طَرَفٍ على وجود الآخرِ ، فَيَتَوَقَّفُ وجود زيد على وجود عمرو ، ويتوقف وجود عمرو على وجود زيد ، فيكون العدم فَلَنْ يُوجَدَ أحدهما ، إذ اشْتُرِطَ له وجود الآخر ، ولن يوجد الآخر إذ اشترط له وجود الأول ، فأنى يوجدان ؟! ، فكان من ذلك أول في الإثبات ، إثبات المحدِث الأول فلا محدِث قَبْلَهُ ، وذلك مما يَحْصُلُ ضرورةً في العقل المصرَّح ، مع تال يَتَنَاوَلُهُ بمدرَكَاتِ حِسٍّ ناصح فهو يحكي ضرورةً الإتقانَ والحكمةَ ، فلا بد لهما من أول هو المتقِن المحكِم ، ولا يكون ذلك إلا بأوصاف كمال تَقُومُ بذات المحدِث الأول ، وذلك ما نَصَحَ في توحيد الخبر ، وإن مُجْمَلًا في الفطرة لا يَنْفَكُّ يطلب المرجع المجاوز من خارج ، فهو ، كما تقدم ، دليل يُرْشِدُ ، فَيُعَيِّنُ من الوجهة ما يَنْصَحُ ، وله من لَازِمٍ في الباب يُسْتَصْحَبُ ما به التوحيد يكمل ، فمن ثَبَتَ في الوجدان الباطن ضرورة أنه الخالق المتقن المحكم فهو تَالِيًا الحاكم المشرِّع ، ولا يكون ذلك إلا عن حَيٍّ له من علم التقدير ما يستغرق ، وله من المشيئة والقدرة ما يَنْفُذُ ، فكان من ذلك معنى قد حَصَلَ في النفس ضرورةً ، وجاء الوحي له يُصَدِّقُ وَيُفَصِّلُ ما منه قد أُجْمِلَ ، فكان من إثبات الاسم والوصف والفعل ، فعلِ الخلق والتدبير ، كان من ذلك شطر أول من التوحيد ، وهو توحيد الخبر ، ولا ينفك يدل لزوما على آخر في الباب وهو توحيد الحكم ، أن يفرد الأول في الخلق وهو الملزوم الأول في قياس العقل المصرح ، أَنْ يُفْرَدَ هَذَا الأول في الخلق بِلَازِمٍ له من الحكم ، فيكون المرجع إليه وحده في الأمر والنهي ، وهما مادة القنوت والطاعة ، وإن كان منها أول في التصديق بالخبر ، فكان من القنوت جنس عام يستغرق فهو لحد التوحيد المجزئ يعدل ، توحيدِ الخبرِ الذي يَنْصَحُ قُوَّةَ العلم فيكون الملزومَ مبدأ النظر ، وتوحيد الحكم الذي ينصح قوة العمل فيكون اللازمَ بَعْدًا في النظر ، وبهما ائْتَلَفَتِ الوجهة التي تضبط حركة الحضارة في الخارج ، فلا بد لها من رائد يصدق ، فلا يكذب أهله ، وليس ثم رائد لها في التصور والحكم إلا ما نَزَلَ من الوحي مرجعا من خارج يجاوز ، فَقَدْ سَلِمَ مما لم تسلم منه المراجع الأرضية المحدَثة من هوى وحظ وإن تَحَرَّتْ مَا تَحَرَّتْ من العدل ، فلا ينفك يَعْرِضُ لها النقص ، ولو جِبِلَّةً أولى بما كان من العدم المفتقِر إلى موجِد ، والجهل المفتقِر إلى معلِّم ، فلا تنفك تطلب المكمِّل إذ كمالها حادث بعد أن لم يكن ، فليس الأول الذي تصدر عنه الأفعال والأحكام ، كما الكمال الأول ، كمال الرب المهيمن ، جل وعلا ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فلا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ من خارجٍ ، بل الأسباب كافة إليه تَفْتَقِرُ ، وهو في الوصف مطلق ، فَبَرِئَ من بواعث الهوى والحظ من الجهل والنقص ، فَامْتَازَ من هذا الوجه ، امتاز من مراجع أخرى باعثها الأرض ، وهو ما به حَدَّ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ الأمةَ الحاملةَ ، حاملةَ الوحي أنها ليست جماعةً محصورة في جيل أو نخبة ، وإن كانت المقدَّمة في باب الاقتداء ، فهي طباق أول قد خوطب بالخيرية العامة أن : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، والمعنى مع ذلك يجاوزها إلى كُلِّ جيلٍ قد اقتدى بها فَسَلَكَ جادة الوحي كما سلكت أن تكون الغاية : خضوع الأرضِ لِمِنْهَاجِ السماء المحكم ، فذلك معنى مجاوز قد استغرق الأجيال كافة ، ولا تخلو الأرض من قائم بحجته وَبِهِ الذِّكْرُ قَدْ حُفِظَ ، وبه الحق قد ظَهَرَ ، ولو كُسِرَ سيفه وَسِنَانُه في أحيان ، فلا ينفك يظهر ، أبدا ، بالحجة والبرهان ، وأتباعه في كل جيل من تحقق فيهم وصف القانت ، وهو ما أَطْنَبَتِ الآية في حكايته إذ يقنت القانت : (آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) ، فيقنت آناء الليل ، وذلك في الباب أخص ، فَيَجْرِي ، من هذا الوجه ، مجرى المثال الذي يُبِينُ عن عام يستغرق ، فكان من قِيَامِ الليل ما فُسِّرَ به القنوت ، كما في الخبر إذ : "سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قالَ: طُولُ القُنُوتِ" ، فكان من السؤال ما استدعى البيان العاجل ، فَذَلِكَ وقت حاجة إلى بَيَانِ الشريعة ، فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإن كان من وجه الندب في صلاة القيام ما لا يجب ، فَلَيْسَ الفرض ، وإن كان ثم من البيان ما يُطْلَبُ ، ولو لمندوب ، فالسؤال قد يكون عن مندوب ، ويكون من الْبَيَانِ ما يُعَجَّلُ فلا يجوز تأخيره ، وذلك أصل يَتَنَاوَلُ مَسَائِلَ الشريعةِ كَافَّةً ، فَالْبَيَانُ لَهَا ، في الجملة ، لا يجوز تأخيره ، وإن كان منه ما يجوز تأخيره عن وقت السؤال ، لا أن يُؤَخَّرَ مطلقًا ، فلا يجيب إلا إن كان السؤال مما لا يفيد ، فيكون من جواب الحكيم ما يعدل إلى ما ينفع المسئول ، وإن لم يسأل عنه ، كما قال أهل الشأن في تأويل قوله ![]() فكان من الجواب ما أَرْشَدَ إلى طول القنوت ، وهو القيام ، وذلك المثال لعام قد تَقَدَّمَ من طاعةٍ لِبَاطِنٍ وَظَاهِرٍ تَسْتَغْرِقُ ، مع تواضع وانكسار ، كما تحكي مادة القنوت في معجم الكلام ، وكل أولئك مما يصدق في قيام الليل ، ولكنه المثال المفسِّر فَلَيْسَ لِعَامٍّ من الدلالة يخصص ، فالقنوت يكون آناء الليل وأطراف النهار ، إذ الطاعة قد تَنَاوَلَتْ أجزاءَ الزمان كلها ، وتناولت المحال والأحوال كافة ، وإن المباح الجبلي فلا تنفك النية تَرْفِدُهُ بمعنى ديني أخص ، فيكون كالوسيلة إلى القصد ، والوسيلة لها حكم المقصد ، فيلحق المباح بمعنى من التكليف أخص ، وإن لغير ، فهو ، كما تقدم ، وسيلة لا مقصد ، فكان من الإطناب في حد القانت : (آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) ، فكان من ذلك رهب أول إذ يحذر الآخرة ، وذلك مما به المحل يخلى ويطهر ، إذ الحذر مئنة الترك لمحذور هو المحظور ، فإذا كف عنه ، فالمحل منه قد شغر ، ولا ينفك يطلب آخر يشغل ، فالنفس ، كما يقول بعض من حقق ، قد خُلِقَتْ لِتَفْعَلَ لَا لِتَتْرُكَ ، فيكون من شَاغِلٍ تَالٍ ما يُحَلِّي المحلَّ بَعْدَ أَنْ خُلِّيَ ، وهو ما به يرجو ، والرجاء شطر ثان يطابق الحذر ، فالأول مادة رغب تال هو باعث الفعل الزائد الذي يُحَلَّى به المحل وَيُشْغَلُ ، بعد أن خُلِّيَ من المحظور وشغر ، فَرَهَبٌ وَحَذَرٌ ، وهو باعث التَّرْكِ الذي يُخَلَّى به المحل ، ورجاء ورغب هو باعث الفعل الذي يُحَلَّى به المحل ، فشغور ثم شغول ، تَرْكٌ ثم فِعْلٌ ، والأول مقتضى النهي ، والثاني مقتضى الأمر ، وهما ، كما تقدم ، مادة القنوت والطاعة ، مع ما زيد في الدلالة من تصديق الأخبار فذلك شطر أول في الباب ، وقسيمه ما يكون من امتثال الأحكام ، وبهما الاسم الديني المجزئ يحصل ، فكان من الإطناب في حد القانت ما عم فجاوز المذكور من القنوت آناء الليل ، فذكره ، كما تقدم ، مثال يبين عن عام يجاوزه إذ يستغرق من الآحاد ما يزيد ، آحاد العبادات التي بها المعنى يكمل ، وهو ما استغرق المحال والأحوال كافة ، وكذا يقال في مواضع قد اختصت بها النساء ، فكان من ذلك تغليب آخر يدخل فيه الرجال لما تقدم من عموم التكليف في باب الطاعة والقنوت ، فكان من ذلك ما اختصت به أمهات المؤمنين ، ![]() ![]() فكان من العموم في الشرط وفي فعله الذي وَرَدَ في سياقه ، وهو فعل القنوت "يَقْنُتْ" ، فَتَسَلَّطَ الشرط على المصدر الكامن فيه ، كما النفي ، فأفاد ، من هذا الوجه ، استغراقا لوجوه المعنى فهو القنوت التام وآحاده من القول والعمل ، ما ظهر وما بطن ، وإن تناول جماعة نساء مخصوصة ، وكذا لو تناول منهن عاما في الوصف ، كما في آي من محكم الذكر ، فـ : (الصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، والإطلاق ، أيضا ، مما عم فاستغرق وجوه المعنى وآحاده ، وجاوزهن بعموم التكليف الذي يَتَنَاوَلُ الذكور ، فمعنى القنوت لهم يستغرق ، وإن كان النص على الجنس المؤنث في هذا الموضع . والله أعلى وأعلم . |
#11
|
|||
|
|||
![]() والقنوت مما يجاوز في الدلالة ، من وجه آخر ، فهو يستغرق التكوين كما التشريع ، كما في آي من الذكر الحكيم ، فـ : (لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ، فكان من أول ما يحكي الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير من الظرف "لَهُ" صدر الآية ، مع دلالة اللام على الاختصاص والاستحقاق والملكية ، فقد اختص وحده ، جل وعلا ، بالتقدير والتدبير والرزق ..... إلخ من أجناس الربوبية اختراعا وعناية ، كما حدها النظار ، وَثَمَّ مِنْ عمومِ الموصول الاسمي المشترك "مَنْ" ، ثم منه ما جاوز الحد الأول في النُّطْقِ ، فجاوز المذكر إلى المؤنث لقرينة العموم في خطاب التكليف فذلك المستصحب أولا من التغليب في نصوص الوحي مواطأة لما كان من عُرْفٍ في اللسان قد اطرد ، وبه قَدْ جاء الوحي المنزل ، فَاسْتُصْحِبَ التَّغْلِيبُ الذي يجاوز في الدلالة حد اللفظ المذكَّر "مَنْ" ، فهو يستغرق القبيل المؤنث إذ الوحي في تكليفه عَامٌّ لِكِلَيْهِمَا قد تَنَاوَلَ : تَنَاوُلَ الخطاب الواحد ، فاستوى فيه الرجال والنساء كافة ، وذلك الأصل المستصحب حتى يكون ثم من الدليل ما يخالف فهو يوجب الانتقال عن الأصل الأول المستصحب ، إذ ثَمَّ زيادةُ علمٍ من دليل يصرف الحكم إلى جنس دون آخر ، فالصارف الذي يقصر حكما من أحكام الشريعة على جنس دون آخر ، أو قبيل دون آخر ، أو صورة سبب تخصص العموم المستصحب فهو الظني الراجح ، وغلبة الظن فيه تجزئ في الاستدلال ، مبدأ النظر حتى يكون من الدليل الصارف ما تقدم ، أو عين في مواضع ، كما في وقائع الأعيان فلا عموم لها .
فَجَاوَزَ الموصولُ الاسمي المشترك "مَنْ" ، جَاوَزَ المفردَ إلى الجمع ، وجاوز العاقل إلى غَيْرِهِ وإن حُدَّ للأخير من الوصل الاسمي المشترك : الموصول "مَا" ، فالسياق قد زاد في مدلول "مَنْ" فَصَيَّرَهُ عاما لا أعم منه ، وتلك قرينة صرفت "مَنْ" عن ظاهر أول يستصحب ، دلالة العاقل في الوصل الاسمي المشترك ، قد صرفته إلى آخر مؤول وهو المرجوح ، فاستغرق الأشياء كافة ، العاقل نصا وغير العاقل تَبَعًا ، وذلك مثال من التأويل يَنْصَحُ ، وَثَمَّ من العموم آخر قد استغرق الظرف وهو هذا العالم من سماء وأرض ، فأطنب بهما طباق إيجاب قد استوفى أجزاء القسمة ، وثم من شطر أول ما تَنَاوَلَ التقدير والخلق ، فَكُلُّ موجودٍ في السماء والأرض فهو مَقْدُورٌ في الأزل موجود بَعْدًا بما يصدق ، فذلك علم تكوين ينفذ ، إذ من كلماته ما يصدق أولا من التقدير العلمي في العدم ، فذلك عدم في الوصف قد توجه إلى المخلوق فلم يكن ثم وجود في الخارج بالفعل ، وإنما وُجُودُ قُوَّةٍ قد تناوله العلم الأول المحيط ، فذلك وجود عدمي ، إن صح لقب فهو يوهم التناقض إذ جمع بين الوجود ونقيضه من العدم ، وإنما يزول التعارض إذا انفكت الجهة ، فجهة الوجود هي الوجود العلمي فذلك من التقدير الأول المحيط الذي تناول المقدورات كافة ، الكونية النافذة والشرعية الحاكمة ، وجهة العدم هي جهة الخارج ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويل المقدور الأول في الخارج ، فهو معدوم من هذا الوجه ، كما في قوله ![]() وَثَمَّ من التوكيد مَا اطَّرَدَ فِي مَوَاضِعِ الثَّنَاءِ عَلَى الله ، جل وعلا ، بأوصاف الكمالِ المطلقِ ، فَثَمَّ التوكيد بالناسخ صدر الآية : (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وهو أم الباب وله صدارة تُطْلَقُ ، وثم من الاسمية ما يحكي الثبوت والاستمرار ، فذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ بسبب من خارج يجاوز ، بل العلم يَثْبُتُ له ، جل وعلا ، أولا في الأزل ، وذلك علم التقدير المستغرق إذ تناول الكليات والجزئيات كافة ، الكبيرة والصغيرة كما كتاب الحساب والجزاء العادل ، فثم أول من علم يقدِّر ، وثم تال من علم يُصَدِّقُ ، وذلك مما يَصْدُقُ فيه ، من وجه ، أنه القديم الأول ، فهو ، كما تقدم ، الذاتي الذي لَا يُعَلَّلُ ، فلا يكون منه جديد يُكْتَسَبُ بَعْدَ عَدَمٍ ، وإن كان من آحادِ معلومِه ما يحدث في الخارج ، فَنَوْعُهُ أول يَقْدُمُ ، وله في الخارج آحاد تُصَدِّقُ ، فهي له تَتَأَوَّلُ إذ يخرج من القوة إلى الفعل ، من العدم الأول إلى وجود تال يصدق ، فذلك وجود الفعل الذي يصدق أولا من وجود القوة ، كما علم تال بكلماتِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وهي من العلم ، من وجه أعم ، وهي من الكلام وَصْفًا أَخَصَّ ، وكلاهما ، إن العلم أو الكلام ، مما يصدق فيه أصلٌ يُسْتَصْحَبُ في أوصاف الأفعال أَنَّهَا : قديمة النوع حادثة الآحاد ، وهو في الكلام أَظْهَرُ ، وإن كان لِلْعِلْمِ منه حظ ، فَفِي العلم يَرْجُحُ ، بادي الرأي ، الوصف الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله ، مع ذلك آحاد من المعلومات المقدورات التي يَتَنَاوَلُهَا الكلم التكويني النافذ فهو يخرجُها من قوة التقدير إلى تال من فعل التكوين ، فالتكوين تأويل التقدير ، وهو لَهُ يُصَدِّقُ بآحادٍ في الخارج من الموجودات فهي تحكي أولا من المعلومات المقدورات المعدومة ، فيكون من العلم تال يحصي ، فهو لأول منه يصدق بما يكون من تقدير أول في الأزل فتصديقه في الخارج تكوين تال آحاده في الخارج تَحْدُثُ وهو ما يَتَنَاوَلُهُ علم تال يَثْبُتُ ، فَعِلْمُ تَكْوِينٍ يُصَدِّقُ أولا من علم التقدير ، وكذا التصوير والتدبير فهو يصدق أولا من التقدير ، إذ التقدير جِنْسٌ عَامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، فلا يقتصر على المتبادر من التكوين الذي يخرج المعلوم الأول من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، وكذا الإحصاء ، إحصاء الموجودات في الخارج ، وهي المصدِّقة لأول من المقدورات ، وهو ما تَتَنَاوَلُهُ المضارعة في قوله ![]() ![]() ![]() فَثَمَّ من المضارعة في "يَعْلَمُ" في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() وإن كان له من نُزُولِ الجملة ما يَثْبُتُ ، فَقَدْ نَزَلَ إلى بيت العزة جملة في ليلة القدر ، ثم كان تال من نجوم تَنَزَّلَتْ ، إِمَّا على سبب وهو أقل ، أو استئنافا لا على سبب نزول أول كما الأكثر . فحصل من دلالة "أل" في "الأسماء" ما استجمع وجوها من الدلالة ، فكان من ذلك : بَيَانٌ لجنس المدخول ، وآخر يحيط فيستغرق ، وثالث هو عهد أخص ، وكل ذلك مما له من الصحة حظ ، فَحَسُنَ الجمع بَيْنَهَا إثراء للسياق بمعان تكثر وتنصح ، فهي لِلْمَدْلُولِ تَرْفِدُ ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، شاهد به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، أن يكون لفظ واحد وهو الدليل ، فدلالته في الخارج على معان كثيرة تَثْبُتُ ، وهي مدلولاته التي تَنْصَحُ . فكان من ذلك خبر أول قد تناول الأسماء كافة ، على التفصيل آنف الذكر ، مع توكيد يرفع المجاز كما يقول أهل الشأن ، فعلمه الأسماء كلها ، ولها من الحقائق والمسميات في الخارج ما يكافئ ، فكان من آدم ، عليه السلام ، العالم المحقق والنبي المكلم لا كما زعمت مذاهب التطور التي جحدت قصة الخلق في محكم الوحي فردت الأمر إلى بسيط لا يعقل ، بل وميت لا يتحرك ، قد وجد في الأزل صُدْفَةً ثم كان من الترجيح بلا مرجِّح ما به قد دَبَّتِ الحياة في هذا الأول البسيط خَبْطًا آخر لا يعقل ، ثم كان من ثالث ما به تَرَاكَبَتِ الدقائق فكان منها هذا العالم المتقن المحكم وهذا المخلوق المصطفى المكرَّم وما حمل من العلم المحيط المستغرق ، وما ركز فيه من قوى النظر والتعقل والتَّعَلُّمِ ، فكل أولئك قد كان بلا أول يُقَدِّرُ ويوجد ! ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مذهب يجزئ في إبطاله أن يُحْكَى بلا دفع لِشُبَهِهِ أو تَفْنِيدٍ لوجوهِه ، فهو فاسد في نفسه لا يجد من له أدنى مسكة من عقل ، لو تدبر ونظر ، وخلا من الهوى والحظ وسلم من المؤثِّر الذي يسحر بما يكون من تكرار يُزْعِجُ ، فيلجئ الناظر أن يُسَلِّمَ ، ولو كرها ، مع ما يستعمل من زخرف قول ودقيق اصطلاح يَغُرُّ به السامع الذي لا دراية له بمسائل الجدال ومغالطات النظار وما يكون من مغالبة في الكلام ، ولو تكلف صاحبها لأجلها من الحجج ما بطل فمقدماته لا تسلم ونتائجه لا تنصح وإنما هوى وحظ نفس يَعْظُمُ أن يظهر على خصمه ، إن بحقٍّ أو بباطل ، وهو ما لم يسلم منه الأفاضل ، كما يقص بعضهم فَيُرْشِدُ تلميذا له ألا يحمل عنه ما قال في ساحات المناظرة إذ تقوم على المغالبة ، ولو بِحُجَجٍ واهية أو باطلة ، فلم يسلم منه أهل الحق فكيف بأهل الباطل ؟! ، بل والمقال الباطن الذي يخالف عن الضرورات والبدائه من مقدمات العقل في باب الخلق ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، ومن أخرى من الحس تنصح بما يطالع الناظر من آيات الإتقان والإحكام في آي الأنفس والآفاق فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن علم وحكمة بالغة ، ومشيئة وقدرة نافذة ، وبها امتاز الخالق الأول ضرورةً من المخلوق المحدَث ، وذلك أول في توحيد قد جاءت به النبوات : أَنَّ من له الخلق تكوينا فله الأمر تشريعا ، فتوحيد العلم الخبري وآخر من القصد وهو الطلبي الذي استغرق أجناس التعبد والتشريع ، وما يكون من خبر ينصح الاعتقاد الأول ، وحكم يرفد ، فيكون من ذلك تصديق وامتثال به الاسم الديني النافع يثبت ، ولو أدنى ما يجزئ في الباب مع ما يكون من تال يزيد في الإيمان حتى يبلغ القدر الواجب ويجاوز إلى آخر مستجب وهو ما يَتَفَاوَتُ فيه الخلق أيما تَفَاوُتٍ ، وفيه فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون في الخارج . فكان من تعليم الأسماء ما عَمَّ ، وتلك مِنَّةٌ أَعْظَمُ ، وَبِهَا اسْتَأْنَسَ من يُفَضِّلُ بني آدم على جنس الملك ، فقد علم الأول ما لم يعلم الثاني ، والعلم معيار تَفْضِيلٍ مُعْتَبَرٍ ، بل هو فُرْقَانٌ يَمِيزُ ، كما في آي من الذكر الحكيم يَأْمُرُ أَنْ : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، فذلك استفهام ينكر ويوبخ ، من وجه ، فذلك مما لا يقول به أحد يعقل ، فَيُسَوِّي بَيْنَ المختلِفَين ، فمن قال من ذلك بشيء فهو أهل أن يذم ، فالاستفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، وهو بَعْدًا يُبْطِلُ تلك التسوية الجائرة بين العالم والجاهل ، وهو ثالثا يَنْفِي على تأويل الاستفهام في الآية بالخبر ، فيقدر منه النفي أَنْ : لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وثم من طباق السلب بَيْنَ : "يَعْلَمُونَ" و : "لَا يَعْلُمُونَ" ، ثم منه ما يزيد في الحد ، حَدِّ النَّفْيِ ، فهو أظهر في نَفْيِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مُتَطَابِقَيْنِ بِالسَّلْبِ قد احتملا معنى النفي ، بادي الرأي ، وقد يكون من ذلك مقابلة بين شطرين ، وَإِنْ كَانَا في الحد كلمتين ، فَكُلُّ كلمة منهما جُمْلَةٌ تُقَابِلُ أخرى وبهما اكتمال القسمة في الخارج . وَثَمَّ من الإطناب بالموصول في "الَّذِينَ يَعْلَمُونَ" , و : "الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" ، ثَمَّ منه ما يزيد في الْبَيَانِ ، فَزِيَادَتُهُ ، مَبْدَأَ النَّظَرِ ، حكاية الإجمال الذي يَفْتَقِرُ إلى البيان ، وذلك ، كما تقدم ، في مواضع ، سبب في البناء ، إذ بُنِيَ الوصلُ أن أَشْبَهَ الحرفَ ، فكلٌّ يَفْتَقِرُ إلى تال في الذكر يبين عنه في المعنى ، فكان من افتقار الموصول إلى الصلة التي تعقب ، كان من ذلك ما يضاهي افْتِقَارَ الحرف إلى المعمول الذي عليه يدخل ، فهو يبين عن مدلوله لا سيما في المشتركات اللفظية ، فَثَمَّ منها حَرْفٌ هو واحد في المبنى ، وهو ، مع ذلك ، يحكي كثيرا من المعنى ، كما اللام مثالا قد اشتهر ، فَمِنْهَا مَا يدخل على الاسم وعمله فيه الجر مع تال في الدلالة أخص ، فهي مئنة الْمِلْكِيَّةِ ، من وجه ، والاستحقاقِ ، من آخر ، والتَّمَلُّكِ من ثالث ، والمجاوزة إذ تحكي معنى "عَنْ" مِنْ رَابِعٍ ...... إلخ ، ولكلٍّ من قَرِينَةِ السياق ما يُرَجِّحُ ، ومنها آخر يدخل على الفعل ، فمنه ما يعمل الجزم كَلَامِ الأمرِ ، ومنه ما يعمل النصب كَلَامِ التعليلِ ، وأخرى للعاقبة وثالثة للجحود ، ومن اللام عَامِلٌ إِنْ فِي الاسم أو فِي الفعل ، ومنه ما لا يعمل ، كَلَامِ الابتداءِ الأعم ، ولامِ الجواب ، جوابِ القسم ، واللام المزحلقة ، واللام الفارقة . وَذَلِكَ بابٌ واسع في اللام خَاصَّةً ، وفي حروف المعاني عَامَّةً ، ومحل الشاهد منه ما يَتَعَدَّدُ من المعاني والمبنى واحد ، فذلك اشتراك في الحرف يوجب النظر في المدخول إذ يبين عن المدلول الأخص من جملة مدلولات قد وضع لها أولا مبنى واحد ، وتلك ظاهرة في اللسان قد اصْطُلِحَ أَنَّهَا الاشتراك اللفظي ، ومحل الشاهد منه الافتقار إلى تَالٍ من المدخول إذ يبين عن المدلول فيرفع الإجمال بِبَيَانٍ تال في السياق ، وذلك الافتقار الذاتي في الحرف إذ يَفْتَقِرُ أبدا إلى المدخول الذي يُبِينُ عن معناه ، وذلك سبب في البناء ، كما قَرَّرَ النحاة ، وبه تَعَدَّوْا من الأصل ، وهو الحرف ، إلى الفرع ، وهو الوصل ، فالموصول ، كَمَا تَقَدَّمَ ، لَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى الصلة التي تعقب إذ تُبِينُ عن معناه ، فَقِيسَ على الحرف في حكم البناء إذ اشْتَرَكَا في عِلَّةِ الافتقارِ ، الافتقار إلى تال في السياق يُبِينُ ، فالإجمال في الموصول لا يحسن إذ لا يُبِينُ عن معنى به تحصل الفائدة إلا أن يكون ثم غرض أخص أن يُبْهِمَ القائل ولا يُبَيِّنَ ، كما حكاية التعظيم والتهويل في آي من الذكر الحكيم : (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) ، فأبهم الصلة "غَشَّى" إذ المعنى مما يهول ، وهو مما يحسن في سياق الوعيد قِيَاسًا على مآلِ مَنْ تَقَدَّمَ إِذْ قَارَفَ مِنَ الجنايةِ مَا يَفْحُشُ ، فَاسْتَحَقَّ من الوعيد ما يَنْفُذُ ، وذلك أصل في القياس ، وعليه يحمل كُلُّ من تلا من الخلق ، فَقَارَفَ مِنَ الجناية ما يُضَاهِي ، فَلَهُ من الوعيد حظ ، وإن لم يكن الأخص بما كان من الخسف ، بل ثم من وعيد الفواحش ما هو أعم ، كما في الخبر : "لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا" ، فذلك قياس آخر يَنْصَحُ في المعنى ، معنى الوعيد وكذا الوعد ، وهو مما يجري مجرى الطرد والعكس ، فمن أطاع فَلَهُ من الوعد حظ ، ومن عصى فَلَهُ من الوعيد ضِدٌّ ، ومن ضاهى الطائع فَلَهُ ما له من جِنْسِ الوعد وإن لم يواطئه في الحد فلم يكن له من عين الموعود ما للأول ، وكذا يقال في العصيان ، فمن ضاهى العاصي فَلَهُ ما له من جنس الوعيد وإن لم يواطئه في الحد فلم يكن له من عين المتوعد به ما للأول ، فالاشتراك في الجنس الأعم ، إن في الحكم ذما أو مَدْحًا ، إن في الجزاء وَعْدًا أو وَعِيدًا ، الاشتراك في الجنس الأعم لا يَلْزَمُ منه آخر في نَوْعٍ أو فَرْدٍ أخص ، بل ثم من عموم الربوبية ما يحكي الحكمة في التقدير ، ومنه تقدير الجزاء أن يكون من جنس العمل ، وذلك أعم في الدلالة ، وأن يُوَاطِئَهُ في القدر الأخص ، فَلِكُلٍّ من من الجزاء ما يواطئ عمله إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فَشَرًّا ، إن في الأولى وهو مثال لا يَكْمُلُ ، وإن شُرِعَ في التكليف الرسالي المنزَّل من حكومات العدل ما يَقْضِي بين المتخاصمين بالحق ، وذلك تكليفُ تَوْحِيدٍ في الإرادة والطلب ، وتأويله ما يكون من امتثال الأمر والنهي ، ومنه قضاء يجتهد في تحقيق المناط الشرعي ليحصل من العدل مَطْلُوبٌ بَشَرِيٌّ قد أجمعَ عليه العقلاء كَافَّةً ، فذلك إجماع على كُلِّيٍّ مجمَلٍ ، فلا يحصل به امتياز في الاسم الديني الأخص ، بل لِكُلٍّ من الجزئي المفصَّل ما قَصَّهُ الوحي المنزَّل إذ : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، فتلك شرعة في التأصيل ، ومنهاج في القول والعمل ، وبه التأويل لأول من التصور والباعث ، باعث التشريع من القيم والمبادئ التي تحكي هوية الجمع ، فَتَقُصُّ منه نمط العيش وحوافز الفعلِ وَالتَّرْكِ ، وَلِمَاذَا يسالم الجمع أو يحارب ؟! ، وهو ما قَصَّتْهُ مذاهب السياسة المحدثة ، فصاغت من أدبياتها سؤالا يطرح في نظرية الأمن ، فمتى تحارب الدولة ومتى تسالم ، فَلَهَا من المصالح الضرورية والحاجية ما لأجله تَبْذُلُ المهج ، وإن قَرَابِينَ بين يَدَيْهَا إذ صارت الإله الذي يحكم وفي سبيله يجاهد الشعب المتأله الذي يسمع ويطيع أمر الدولة ، فهو واجب الوقت الناجز ، وهو ما استوجب فَوْرًا في الإنفاذ كما رجح أهل الأصول في مبحث الأمر ، فالراجح أنه يفيد الفور ، وله من التقديم ما به يَنَالُ الصدارة ، فلا يسبق أمر الدولة أمرٌ ، ولو الوحيَ الذي يُعَطَّلُ أو يؤول أن يواطئ حكم الدولة فهو الأول ، إذ صارت ، كما تقدم ، الإله المحكَّم بما اقترحت من مبادئ جامعة تستند إلى محدِّداتٍ أرضية لا تجاوز الحد الذي يجمع الشعب ، فلأجله يهدر كل حكم ، ولو وحيا يجاوز من خارج ! . فلا يستقيم الأمر إلا أَنْ يُرَدَّ إلى واحد يجاوز من خارج ، فَلَهُ من العلم ما أحاط وله من الغنى ما به قد سَلِمَ مِنَ الافتقارِ ، فخبره الصدق وحكومته العدل ، فكان من ذلك بَيَانٌ لجهة التَّشْرِيعِ المعتبر ، إن في الْحِلِّ أو في الحظر ، وهو ما أحكم فَانْضَبَطَ ، فَيَقْضِي في آخر قد اضطرب ، فَمِنَ الحلال ما أَحَلَّ الوضعُ المحدَث ، ومن الحرام مَا حَرَّمَ ، فَاتُّخِذَ معيارًا يُضَاهِي معيارَ الوحي ، وهو ما لا يخلو من الاضطراب والاختلاف ، وإن كان له وجه اعتبار بما رُكِزَ فِي النُّفُوسِ من حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، فلا ينفك يحكي الإجمال بما ثَبَتَ مِنَ الكلياتِ العامة ، فلا يحصل بها امتياز الشرائع ، فَكُلُّهَا يُحَسِّنُ الصدقَ والعدلَ ، وإنما الخلاف حَالَ التَّفْصِيلِ فِي الْحُكْمِ ، فيكون من كلٍّ ما يحكي مرجعا أخص في التصور والحكم ، فلكلٍّ من الحظوظ والمصالح بَاعِثٌ لَهُ يَتَأَوَّلُ المشرِّع ، فَهُوَ في الْحِجَاجِ عنه يَتَلَطَّفُ لِيَكْسُوَهُ من لحاء القيمة والمبدإ ما يَجْمُلُ ، بل قد يُصَرِّحُ فِي مَوَاضِعَ وَيَتَبَجَّحُ ، فلا يُكَنِّي عَمَّا يُسْتَقْبَحُ ذكرُه صراحةً من باعث الشح والأثرة ، فيكون من المصالح أول ، وَإِنْ خالفَ عن القيمة والمبدإ ، بل كلٌّ يَتَأَوَّلُ أَنْ يَرْفِدَ المصلحةَ بدليلٍ يُسَوِّغُ ، وليس ثم مستند من خارج يَسْلَمُ إلا الوحي النازل ، فَوَحْدَهُ ما سَلِمَ من الأغراض والأعراض التي لا تَسْلَمُ منها الحكومات الأرضية المحدَثة ، إذ لَهَا من المرجع ما اضطَّرَبَ ، إِنْ عَقْلُ الفردِ الأخص أو آخر من عقل الجمع الأعم ، فكلاهما مما يَضطَّرِبُ في النظر إذ يصدر عن وجدان محدَث تَتَنَازَعُهُ الأهواء والأذواق ، مع ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّقْصِ والحاجةِ والفقرِ ، والجهلِ الذي يَثْبُتُ لَدَى المبدإِ ، فما كان من علم فهو تَالٍ يُكْتَسَبُ ، وهو ناقص لا يتم فلا يحيط إحاطةَ القطعِ والجزمِ إِذْ غاب عن المآلات ، ولو قريبةً في عالم الشهادة والحس ، فالحلال والحرام لا يُتَلَقَّيَانِ إلا من مشكاة الوحي المجاوز من خارج الذي سَلِمَ من الأهواء والحظوظ المحدَثة ، فلا يصدر التشريع السماوي عن مرجع يَنْقُصُ فهو إلى الأسباب يَفْتَقِرُ ، وذلك ما به التهمة تَتَوَجَّهُ أن ثم من النقص ما يحمل المشرِّع أن يقترح من الحكومات ما يحقق رَغَائِبَه ، وإن اجتهدَ أن يكسوها لحاء الحكمة والعدل ، وذلك ما استوجب مَرْجِعًا من خارجِ الأرض قد سَلِمَ من الهوى والحظ ، فَوَجَبَ إثباتُ أول إليه تَنْتَهِي المراجع كافة حَسْمًا لمادة التسلسل فِي المشرِّعين فهو لَازِمُ آخر من الحسم قد وجب ، حَسْمِ التسلسلِ في المؤثِّرين ، فَتَنْتَهِي الشَّرَائِعُ كَافَّةً إلى واحد من خارج هو المشرِّع العليم الحكيم ، جل وعلا ، وَذَلِكَ لَازِمٌ لِمَلْزُومٍ أول ، وهو انْتِهَاءُ المؤثِّرين إلى مؤثِّر أول يَتَقَدَّمُ ، فَلَا مُؤَثِّرَ قَبْلَهُ ، فذلك الرب القدير الذي له من المشيئة في خلقه ما يَنْفُذُ ، فكان من ذلك توحيد في الفعل المؤثِّر لا يَنْفَكُّ يطلب آخر هو اللازم ، فذلك التوحيد في الشرع المحكَّم ، فتوحيدُ رَبٍّ يُؤَثِّرُ وَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ منه آخر وهو الْإِلَهُ الذي يُشَرِّعُ ويحكم ، وتلك المتلازمة الرسالية الأولى ، إِنْ صَحَّ الاصطلاح ، إذ التلازم بَيْنَ الشطرين : ضروري في القياس المصرح ، فذلك من جِنْسِ التلازم بين العلة والحكم ، السبب والمسبَّب ، الملزوم واللازم ، وكلاهما مما يُرَادُ لذاته ، وإن كان من توحيد التشريع ما تَنَاوَلَهُ خطاب الأنبياء ، عليهم السلام ، إلى أقوامهم ، فإنهم ما كذبوا بالملزُومِ ، بل قد آمنوا بالواجب الأول ، واجب الوجود لذاته ، فهو الخالق الذي صدر عنه هذا العالم ، بل كان لهم من ذلك ما نَصَحَ ما لم يَنْصَحْ مقال الحكمة الأولى إذ اقْتَصَرَ ، كما تقدم في موضعٍ ، على العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، فهي المطلق بشرط الإطلاق ، وهو الخطاب الذي تَلَطَّفَ أَلَّا يُنْبَزَ أنه المعطِّل ، فإن ذلك المطلق لا وجود له في الخارج يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ إِلَّا الوجود الذهني المجرَّد الذي يُضَاهِي العدمَ ، ولو جَائِزًا يحتمل ، فإن التجويز العقلي إذ يقترح المجرد الذهني فَلَا يُجْزِئُ فِي تَالٍ من وجود الفعل الذي يصدق أولا من وجود القوة ، فالقوة الأولى في التقدير لا تجاوز في الخارجِ حَدَّ العدم ، إذ لا يلزم من وجود القوة في التقدير الأول ، أن يكون ثم تال في الخارج يصدق بالفعل ، بل وجود الفعل يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وهو ما يَنْفِي عن الجائز وصفَ الواجب ، إذ لا ينفك يَفْتَقِرُ إلى واجب أول يتقدم ، فهو يُرَجِّحُ في الجائز ، فلا ينفك الأمر يَرْجِعُ في كُلِّ حَالٍ إِلَى أول هو واجب الوجود الأول ، وهو ما جاوز التقدير الذهني المجرد الذي اقْتَرَحَتْهُ الحكمة الأولى وإلا انْقَلَبَ جَائِزًا إذ لا وجود له إلا وجود القوة المجردة في الذهن ، فلا ينفك يطلب آخَرَ من الترجيح ، وهو ما لا يكون إلا بمرجح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فالجائز يطلب المرجِّح ، والمرجِّح إن كان جائزا ، بادي التقدير ، فلا ينفك ، أيضا ، يطلب المرجِّح من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ فَوَجَبَ ضرورةً في العقل المصرَّح أن يُرَدَّ إلى واجب وجود هو الأول ، وليس بالجائز ، فَلَهُ وجود بالفعل يجاوز وجود القوة المجرد في الذهن ، فَلَيْسَ الْعِلَّةَ الفاعلةَ بالطبع المجرَّدَةَ من الوصف ، بل ثم من علم التقدير الأول ما أحاط فَاسْتَغْرَقَ المقدورات كافة ، فَلَهَا ، من هذا الوجه ، وجود أول يقدم ، لا وجود أعيان في الخارج تَثْبُتُ ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما يمتنع في العقل المصرَّح ضرورة ، إذ تعدد القدماء يُفْضِي إلى تَعَدُّدِ الشُّرَكَاءِ ، وهو ما يُفْضِي إلى اضطرابٍ وفسادٍ ، إذ تَتَغَايَرُ التقديرات وَتَتَعَارَضُ الإرادات ، فلا تنفك تطلب أولا يَفْصِلُ بَيْنَهَا فيما فِيهِ تختلف ، فَلَا يَنْتَظِمُ الأمر إلا وثم قديم واحد في الأزل ، هو واجب الوجود لذاته ، فَلَهْ من وصفِ الوجوب أول هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سَبَبٍ من خارج ، بل المحالُّ وما يقوم بها من الأحوال وما تُعَالِجُ مِنَ الأسبابِ ..... إلخ ، كلُّ أولئك مما يَفْتَقِرُ إلى ذلك الأول ذِي الوجودِ الذَّاتِيِّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فوحده مَا انْفَرَدَ بوصفِ الواجب ، واجب الوجود الأول ، وذلك وصفٌ قَدِ اسْتَغْرَقَ الذَّاتَ ، وما يقوم بها من الوصف الذي به الحقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، من وجه ، وتمتاز من غَيْرٍ ، من آخر ، وذلك ما يجب ضرورة في العقل ، ولو في ذَوَاتٍ محدَثَةٍ في الأرض ، فهي تجاوز في وجودها التقدير الذهني المجرد ، وإن كان منه أول في علمِ غيبٍ تَقَدَّمَ ، فذلك وجود القوة الأول ، فَلَيْسَ منه ما يجاوز في الخارج ، وإلا لكان من ذلك تعدد القدماء الممتنِع في النقل والعقل والفطرة والحس ، فَانْتِظَامُ أَمْرِ هذا العالم وَجَرَيَانُه على هذا السنن المحكَم ، كُلُّ أولئك مما يشهد ضرورةً أَنَّ ثَمَّ أَوَّلًا وحدَه مَنِ انْفَرَدَ بوصفِ الْقِدَمِ المطلَقِ ، فلا قديم قَبْلَهُ ، ولا قديم معه ، وإلا فَسَدَ نِظَامُ العالم ، إلا أَنْ يُرَدَّ هذان القديمان إلى أَوَّلٍ يَقْدُمُهُمَا جَمِيعًا ، فهو المرجِّح فِيهِمَا إذ يوجدهما من العدم ، فوجودهما قَبْلًا : وجودُ تقديرٍ أول ، وذلك من علمٍ مُحِيطٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فَجَاوَزَ الكليَّاتِ إلى الجزئيَّات ، وَفِيهِ تَثْبُتُ الموجودات جَمِيعًا ، فذلك ثُبُوتُ الْقُوَّةِ لَا الفعلِ ، فكان من ذلك تَقْدِيرٌ يَحْكِي مِنْ وَصْفِ العلمِ مَا أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، فذلك وجود النوع ، النوع القديم بالنظر في علم التقدير لا في آحاد من الأعيان في الخارج تُصَدِّقُ ، فَلَيْسَ يكونُ مِنْهَا شيء في الأزل ، وإلا كان تعدد القدماء آنف الذكر ، بل وجودها لا يجاوز وجود تقدير أول قد عَمَّ فاستغرق المقدورات كَافَّةً ، فذلك العلم الإلهي الذي أَثْبَتَتْهُ النبوات لا آخر هو الكلي المجمل الذي لا يَتَنَاوَلُ آحادا من التقدير المفصَّل ، فَثَمَّ واجب وجود أول له من الذات والوصف ما يجاوز حَدَّ التَّجْرِيدِ الذهني ، وله من ذلك وصف كمال مطلق ، فهو ، أيضا ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فليس ذلك مما يقتصر على مطلق الوجود ، بل ثم ما يجاوز من كمال الذات والوصف الذي يقوم بها ، وصفِ العلم المحيط الذي تَنَاوَلَ المقدوراتِ كَافَّةً ، تَنَاوُلَ القوة في الأزل ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلبُ بَعْدًا مِنَ التأويلِ ما يخرجُهَا من العدم إلى الوجود ، فيكون لها من وصف الفعل في الخارج ما يُصَدِّقُ أولا من وصف القوة في الأزل ، فَمَا قَدُمَ مِنْهَا ليس الذواتِ والصفاتِ ، وإنما تقدير أول في الأزل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، عَدَمٌ لَا يَنْفَكُّ يطلب الموجِد من خارج ، فذلك الموجِب الذي يُرَجِّحُ في الجائز المقدر إذ يخرجه من العدم إلى الوجود ، ويصدق قوة التقدير الأول بآخر من فعل في الخارج يَثْبُتُ ، فهو تأويل يطابق ، فلا يغادر من المقدور الأول شيئا ، بل ثم من جلال القدرة والمشيئة ما يَنْفُذُ فهو عن الواجب الأول يصدر ، وذلك وصف آخر يقوم بالذات ، وصف الجلال الذي به الإنفاذ المصدِّق ، كما آخر من وصف الجمال وذلك العلم الأول المقدِّر ، وهو أول قبل الوجود في الخارج ، فَثَمَّ من قوة التقدير ما يسبق ، والقدرة له تخرج بما يكون من مشيئة تَنْفُذُ ، فهي تخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، فَتُصَدِّقُ مَا كَانَ أولا من العلم المحيط ، وما سُطِرَ بَعْدًا في لوحِ التقديرِ ، والأخير مما لا يَثْبُتُ بالعقل المجرَّد ، وإن كان الجائز لدى المبدإ ، فلا ينفك يطلب خبرا من خارج يُرَجِّحُ ، فَعِلْمُ التقديرِ الأول : واجب في العقل المصرح بما تَقَدَّمَ مِنْ مُقَدِّمَةِ ضرورةٍ في الاستدلال أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، وأن هذا العالم وهو في المبدإ الجائز ، لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وأن ذلك المرجِّح يوصف بما يميزه في الخارج ، فَلَهُ من ذلك ما يجاوز التقدير الذهني المجرد ، فذلك عدم بالفعل وإن كان له من القوة وجودٌ ، فَوَجُودٌ فِي الذهنِ لا يجاوز ، فهو المجرَّد بشرط التجريد ، وذلك ، وإن جاز في التقدير ، فلا وجود له في الخارج يصدق ، فالاجتزاء به اجتزاء بِعَدَمٍ يُفْضِي إلى تعطيل الصانع الأول ، كما اقترحت الحكمة الأولى من مُطْلَقٍ بِشَرْطِ الإطلاق قد صَيَّرَتْهُ الأول ، وإن لم يكن له بادي الرأي وجود في الخارج يثبت ، بل لا ينفك يطلب الموجِب له إذ يُرَجِّحُ ، فالجائز الذي استوى طرفاه لا يَنْفَكُّ يطلب مرجِّحا من خارج يسبق ، فهو العلة التي تَتَقَدَّمُ ، فَتُرَجِّحُ في الجائز إذ تخرِجُه من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فلا بد لها من وجود في الخارج يُصَدِّقُ ، وإلا كانت عدما فكيف تُرَجِّحُ في عدمٍ آخر هو الجائز من هذا العالم المحدَث ، فلا يرجح عدم في آخر بداهة ، بل العدم أبدا ليس بشيء في الخارج يصدق ، وإن كان له من الوجود أول يقدر ، فذلك مما يَفْتَقِرُ إلى موجِب من خارج ، فكان من ذلك تسلسل لا ينفك يطلب أبدا : واجب الوجود الأول الذي لا موجِد له ولا موجِب يَتَقَدَّمُ ، فَلَهُ وجود في الخارج يجاوز ، وليس بالجائز بل هو الواجب وذلك ما يَسْتَلْزِمُ ضرورةً : ذاتا تمتاز في الخارج من بقية الذوات ، ولا يكون ذلك إلا أن يكون لها آخر من الصفات به تمتاز ، فيكون من واجب الوجود الأول : حقيقة في الخارج تجاوز التقدير المجرد في الذهن ، فهي تحصل من الذات وما يقوم بها من الوصف الذي به تمتاز من بقية الحقائق ، بل لها انفراد بوصف الأول ، واجب الوجود الأول الذي تَنْتَهِي إليه الموجودات كَافَّةً ، فَهِيَ الجائزاتُ مَبْدَأَ أَمْرِهَا ، وإن كان لها وجود في التقدير العلمي الأول ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ المرجِّح من خارج ، وإلا كان العدم ، وإن جَائِزًا في التقدير الأول فَلَيْسَ عَدَمُهُ عدمَ المحال الممتنع لذاته والجائز مع ذلك عدم يُسْتَصْحَبُ حتى يكون من السبب مرجِّح من خارج يجاوز ، فليس مطلق التجويز لشيء : ما يخرجه من العدم إلى الوجود ، بل لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا فهو على أول من وصف الجواز العدمي ، فيكون من ذلك عدم في الخارج ، وهو ما يَنْفِيهِ ضرورةً دليلُ الحس إذ يشهد بما جاوز التقدير من هذا العالم المتقَن المحكَم ، فَثَمَّ من الوصف ما يجاوز العلم الأول المقدر إلى إتقان وحكمة ، وذلك علم أخص قد تناول الجزئيات ، فكان منه تفصيل يجاوز ما اقترحت الحكمة الأولى من العلم الكلي المجمل ، وكان ثم من الإحكام ما تناول سَنَنًا يجري ، فلا بد له من مجرٍ أول ، وذلك ما اسْتَلْزَمَ آخرَ من وصف المشيئة والقدرة ، فيكون من نَفَاذِهَا جلالا ما يصدق التقدير الأول جمالا ، وبهما يثبت ضرورة في العقل : كمال الواجب الأول ، إِنْ بالذات أو بالوصف ، وهو ما يجاوز بداهة ذلك المجرد الذهني بشرط التجريد الذي تَجَمَّلَتْ به الحكمة الأولى لئلا تُنْبَزَ صراحةً بالتعطيل ، وكل أولئك مما ثبت في العقل والفطرة أولا وإن لم يكن ثم من دليل النَّقْلِ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فَقَدْ جَاءَ بِمَا يرفد القياس الصريح والفطرة الناصحة والحس السليم الذي يَرَى من هذا العالم آيًا في الآفاق وفي الأنفس ، فهي تَشْهَدُ ضرورةً بواجب وجود أول ، له من الوجود ما جاوز التجريد الذهني المطلق ، وله من وصف تال يجاوز ، فَثَمَّ العلم المحيط المستغرق وبه تقدير أول في الأزل ، وثم القدرة والمشيئة التي تَنْفُذُ ، وبه ترجيحٌ في المقدور الأول وتأويل يخرجه من العدم إلى الوجود ، من القوة المجردة إلى الفعل المصدِّق ، فكل أولئك مما دَلَّ عليه العقل ضرورةً ، وقد جاء النقل له يُصَدِّقُ ، وَجَاءَ بِتَالٍ من الخبر الذي يحكي من لوح التقدير المحيط مَا عَمَّ فاستغرقَ المقدورَ كَافَّةً ، إن التكوين أو التشريع ، فذلك ما لا يدل عليه العقل كما واجب الوجود الأول ، عَلَى التَّفْصِيلِ آنفِ الذِّكْرِ ، فَلَوْحُ التَّقْدِيرِ لا يجاوز في الحدِّ أن يكون من الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى موجِب أول يخرجه من العدم إلى الوجود ، فهو مخلوق محدَث ، وهو ، من وجه آخر ، يَفْتَقِرُ إِلَى خَبَرٍ يَثْبُتُ ، فَهُوَ من الغيب المطلق الذي لا يستقل العقل بإثباته ، بل لا يجاوز في قِيَاسِ العقل أن يكون من الجائز الذي اسْتَوَى طَرَفَاهُ ، فَلَئِنْ كَانَ من الإيجابِ ما أوجب بمشيئة أولى تَنْفُذُ قد أخرجته من العدم إلى الوجود ، فَلَمَّا يَزَلْ بَعْدُ من الغيبِ المطلَق فلم يشهده مخلوق ، لا حَالَ إيجادِه وَلَا بَعْدًا ، وإن لم يَنْفِهِ العقلُ ، فهو ، كما تقدم ، الجائز ، فلا يثبت وجوده إلا بخبرٍ صحيحٍ صريحٍ من خارج ، فَوَجَبَ في إثباتِه إذ جَازَ أَوَّلًا في العقل ، وَجَبَ النَّظَرُ فِي تَالٍ من المرجِع الأعم أن يتناوله الناظر بما يثبت ، وليس يحكي الغيبَ المطلق إلا وحيٌ من خارج العقل والحس كافة ، فالناظر المسدَّد يَشْتَغِلُ بتحرير الأدلة ، أدلة النبوة إجمالا ، ثم يَشْتَغِلُ أخرى بِنَصٍّ أخص يُثْبِتُ لوحَ التَّقْدِيرِ ، فهو من الغيب المطلَقِ ، فَلَمْ يُطِقِ العقل فيه إلا التجويز المحض ، فلا ينفك يطلب آخر أخص دَلِيلًا هو في محلِّ النِّزَاعِ النَّصُّ ، فلا يجزئ التجويز العقلي المحض ، لا يجزئ في إثبات الشيء ، فتلك الدعوى المطلقة فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الْبَيِّنَةَ الأخَصَّ ، وإلا كان الدور الباطل أن يُسْتَدَلَّ على الشيء بِنَفْسِهِ ، فَيُسْتَدَلَّ بصورة الخلاف وهي محل النِّزَاعِ الذي يطلب الدليل من خارج ، فكيف يَصِيرُ الشيءُ هو الدليل والمدلول مَعًا ؟! ، فذلك من المصادَرة على المطلوب كما قَرَّرَ أهل الجدال والنظر ، ومن لوح التقدير : مسطورٌ ثَانٍ يُصَدِّقُ ما كان من علمٍ أَوَّلَ يُقَدِّرُ ، فَاللَّوْحُ أول المحال التي يثبت فيها العلم ، وهو ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ التكوين والتشريع كافة ، وثم ثالث به تأويل الغيب فيكون من المشيئة ما يَنْفُذُ ، فمشيئَةٌ تُرَجِّحُ في باب التكوين ، وبها الكلمات تُرْسَلُ فَيَتَحَمَّلُهَا من الملَك ما يُدَبِّرُ ، لا عن استقلال يُؤَثِّرُ ، بل لا ينفك عن أمر الرب الخالق ، جل وعلا ، يصدر ، ومن الكلمات أخرى فِي باب التشريع والحكم بما يكون من تحمل الملك الموكل بالوحي ، تَحَمُّلِهِ كلماتِ الخبر والإنشاء ، فهي مما تَنَزَّلَ نجوما على قلب الرسول البشري ، فكان من ذلك تأويلٌ لِمَا ثَبَتَ في العلم الأول ، وَسُطِرَ بَعْدًا في لوح التقدير من كلمات التشريع التي خوطب بها الخلق أن يصدقوا ويمتثلوا فيكون من ذلك توحيد في العلم والعمل ، فذلك تأله هو تَالٍ فِي التوحيد بَعْدَ أول من الربوبية ، فتوحيد العبد بِفِعْلِهِ تَصْدِيقًا وامتثالًا ، فهو لازم أول من توحيد الخالق المدبر ، جل وعلا ، بما كان من أفعاله التي بها خَلْقٌ وتصويرٌ وتدبيرٌ ..... إلخ ، فَمَنِ انْفَرَدَ بِهَا فَقَدِ انْفَرَدَ ، بداهةً ، بمنصب التشريع خَبَرًا يُصَدَّقُ وحكمًا يُمْتَثَلُ ، فيكون من ذلك تأويل لحقيقة التوحيد المجزئ ، فَلَهُ في الخارج شطران بهما اكتمال القسمة : توحيد الرب الذي يُكَوِّنُ وهو مَلْزُومٌ فِي العقلِ أول ، وتوحيد الإله الذي يشرع ، وذلك لازم به اكتمال القسمة . والشاهد أَنَّ ثَمَّ من التسلسل ما يطلب أَوَّلًا لَا أول قَبْلَهُ ، وذلك ما عَمَّ فَاسْتَغْرَق التكوين والتشريع كافة ، ومنه منهاج تَالٍ في الخارجِ يَأْطِرُ الجمع على جادة من الخبر والحكم ، فَتَأْوِيلُهُ مَا يكون من قولٍ وعملٍ يَصْدُرُ ، وبه التصديق لِأَوَّلٍ من التصور والباعث ، باعث التشريع من القيم والمبادئ التي تحكي هوية الجمع وما يَأْرِزُ إليه من معان بها يمتاز من غَيْرٍ ، وذلك ما به الأمم تفترق ، وإن اجتمعت على كليات مطلقة في الأخلاق والمبادئ ... إلخ ، فلا يجزئ ذلك في امتياز العقول ، فَرْدًا أو جَمْعًا ، فلكلِّ فَرْدٍ من الهوى والذوق ما يميزه من غَيْرٍ ، ولكلِّ أُمَّةٍ من العقلِ ما يحكي بَوَاعِثَ جامعة بين أفرادها ، فتخالف عن غيرها بل وَتُدَافِعُ وَتُنَاجِزُ بما كان من سنة جارية من التدافع ، مع ما يَنَالُ هَذَا العقلَ الجامعَ مِنْ تَأْثِيرٍ يَلْطُفُ مِنْ قَلِيلٍ قد احتكر أسباب التأطير الذي يسلك بالجمع جَادَّةً تُزَخْرِفُ أَنَّهَا المرجع المحكم الذي يَقْضِي بالعدل المطلق ، وليست إلا جادة يُوَاطِئُ سالكها هَوَى قَلِيلٍ ، وَصْفُهُ مِنَ الشُّحِّ عظيمٌ ، فيروم صالحه وَإِنْ أَضَرَّ بالجمعِ كَافَّةً ، بل وبالخلق كلهم ، فيكون من ذلك تَعَارُضٌ وَتَنَافُرٌ بَيْنَ العقول الجامعة إذ تحكي شحا وَأَثَرَةً فلا يحسم ذلك إلا وحي يجاوز من خارج . وذلك قَدَرُ التشريعِ الحاكم الذي خُوطِبَ العباد أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ مَا اسْتَطَاعُوا فَيَجْتَهِدُوا في امتثالِه وطلبِ أسبابِه التي بها يَنْفُذُ فيكون من ذلك مِثَالُ عَدْلٍ في الفعلِ يُوَاطِئُ ما قد نَزَلَ به الوحي ، فمنه أول في دار التكليف لا يكمل ، ومنه آخر في الآخرة ، فذلك المثال المحكم الذي يحصل فيه من العدل ما لم يحصل في دار التكليف ، فكان من ذلك ما يميز دار الابتلاء من أخرى فيها الحساب والجزاء النافذ ، فـ : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، ودلالة "أل" : دلالة العهد الخاص ، وهو العهد الحضوري بِالنَّظَرِ فِي زَمَنِ الحدوث المستقبل ، فكان من ذلك ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، استعارة ما حَضَرَ لِمَا اسْتُقْبِلَ فَلَمَّا يَقَعْ بَعْدُ إمعانًا في التوكيد والتقرير ، وهو مما به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، إذ استعير زمن لآخر ، وكان من دلالة "أل" ما استجمع : بَيَانَ الجنس المدخول ، وذلك أول في المدلول ، وثم تال من عهد أخص ، وهو عهد حضور بالنظر في زَمَنِ الحدوث المستقبل لا زَمَنِ التكلم الحاضر ، فذلك يوم الحساب والجزاء العادل الذي يكون فيه تأويل ينصح لما كان من العدل المطلق ، وذلك من وصف الرب الأعز الأكرم ، جل وعلا ، وهو ما نَفَاهُ الوحي في مواضع : نَفْيًا أخص ، كما في قوله ![]() وكذا يقال في حد الوصف ، فإن معنى الظلم مما تَتَفَاوَتُ في حَدِّهِ العقول المحدَثة ، إذ لا تحيط علما بالمقدور ، ولو أحاطت بِجُمَلٍ ومقاصد رَئِيسَةٍ قد رُكِزَتْ فِي الوجدان ضرورةً ، كما حُبُّ العدلِ وَكُرْهُ الظلم ، فلا تَنْفَكُّ تلك المعاني المجملة تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ يُفَصِّلُ ، وهو ما يتفاوت إذ المراجع تَتَفَاوَتُ في الحدِّ المفصَّل ، وإن أجمعت على الجنس الدلالي المجمل ، فيكون من اختلافها ما يَطْلُبُ مَرْجِعًا من خارج يجاوز ، فَهُوَ يُفَصِّلُ مَا أُجْمِلَ من فطرة النفوس ، وَيُعَيِّنُ مواضع العدل والظلم ، وإن خالفت عما قد يتوهم ، بادي الرأي ، فأحكام العقول الأرضية المحدثة ، المفردة أو المجموعة ، تلك الأحكام المحدثة : متشابهة لَا تَنْفَكُّ تطلب من المحكم ما يَقْضِي فيها قطعا ، فلا يكون ذلك إلا أن تُرَدَّ إلى مرجع من خارج يجاوز ، فذلك الوحي الذي يَقْضِي فِي متشابهات العقول والنفوس ، فَيَحُدُّ المعاني حَدًّا أخص ، ويميز ما يَلِيقُ مِنْهَا بالخالق الأول ، جل وعلا ، مِمَّا يَلِيقُ بالمخلوق المحدَث ، فمعنى الظلم مما يَقْبُحُ في الجملة ، وذلك رِكْزٌ أول من الفطرة التي تنصح الكليات المجملة وهي كالمقدمات الضرورية في قياس العقل فلا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، وهي ، مع ذلك ، لَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليل المبيِّن من خارج ، فالظلم ، كما تقدم ، مما يقبح في الجملة ، فَيَفْتَقِرُ إلى بَيَانٍ يُفَصِّلُ ، فرجم الزاني المحصن أو قتل القاتل ..... إلخ مما يُحْمَلُ لَدَى بَعْضٍ أنه ظلم وقسوة ! ، فذلك وجدان النفس ، بادي الرأي ، إذا اقتصرت على المقاصد الجامعة ، فهي صحيحة نافعة ، ولكنها الاقتصار عليها لا يخلو من متشابه لا ينفك يطلب من المحكم ما يُبِينُ وينصح ، لا جرم كان الإفراط في تناول الكليات من المقاصد والمصالح ، كان ذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ذريعةً إلى نَقْضِ الشرعِ المفصَّل أَنْ تُعَارَضَ جُزْئِيَّاتُهُ بالكلياتِ المجمَلَةِ ، والقياس أن الجزئيات له تُبِينُ وَتُفَصِّلُ ، وَمِنْهَا الكليُّ يُسْتَنْبَطُ ، كما أن المبالغة في تعليل الأحكام ، لا سيما التوقيفية التي لا يدرك العقل مناطها الأخص ، كما أن تلك المبالغة في التعليل تُفْضِي إلى نَقْضِ الأحكام ، إذ يتكلف الناظر من العلل ما قد يأتي على الأصل بالإبطال ، كما لو استنبط للصيام عِلَّةَ الإحساس بألم الجوع ، فيكون من ذلك ما به نَفْسُ الغني تجود ، فذلك مما يفضي إلى إبطال الصيام في حق الفقير الذي يكابد آلام الجوع ابتداء ، فَتِلْكَ عِلَّةٌ لَوْ سُلِّمَ بِهَا فَقَدْ أتت على أصل الحكم بالإبطال إذ كانت المبالغة في تعليل الحكم ، ولو بحكمة أعم ، لا مَعْنًى هو في محل التعليل نَصٌّ ، فالمبالغة في تعليل الحكم ذريعة إلى نقضه ، إذ عُورِضَ الجزئي من حكم التكليف وهو في هذا الموضع تعبدي لا يثبت إلا بالتوقيف ، توقيف الوحي مرجعا يجاوز من خارج العقل والحس ، عُورِضَ هذا الجزئي المفصل بكلي مجمل من حكمة أعم بها النفس تسخو وتجود إذا نالها ألم الجوع ، فالحكمة الأعم لا تجزئ في تعليل أخص ، على تفصيل في ذلك ، فمن اعتبرها فلا يسلم بإطلاقها بل يكون من الاحتراز ما يجريها مجرى الضرورة التي تقدر بقدرها ، فلا يطردها في كل موضع وإلا أفضى ذلك ، كما تقدم ، إلى إبطال الشرع المنزَّل ، وكذا حد الظلم آنف الذكر ، فليس يدرك في مواضع الخصوص بما يكون أولا من العموم المركوز في النفوس ، وإنما يرد ذلك إلى مرجع من خارج يجاوز ، فهو يواطئ الكليات ويعتبرها ، وهو يحد الجزئيات وَيُفَصِّلُهَا ، فكان من ذلك وصف نَفْيٍ يَسْلُبُ النَّقْصَ ، فلا يوصف به الله ، جل وعلا ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو مما خالف عن أصل تقدم في باب الأسماء والصفات ، فالإجمال في النفي قد اطرد في محكم التنزيل ، مع إطناب وتفصيل في ضد من وصف الإثبات ، وهو ما أوجزه أهل الشأن أنه النفي المجمل لوصف النقص ، والإثبات المفصل لوصف الكمال ، فَنَفَى النقص عامة ، وخص بالذكر آحَادًا كَمَا الظلم إذ السياق قد استوجب احْتِرَازًا من معنى نَقْصٍ قَدْ يُتَوَهَّمُ ، كما في مواضع الجلال فإنها قد تُوهِمُ الظلمَ ، فيكون من الاحتراز ما يَنْفِي ، مع لازم في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فَإِنَّ النَّفْيَ فِيهِ لا يُرَادُ لذاته ، بل لا ينفك يُشْفَعُ بإثباتٍ لكمالِ ضِدٍّ ، وبه الثناء يكمل على الرب المهيمن ، جل وعلا ، فنفي الظلم يستلزم إثباتا لكمال ضد من العدل المطلق . فكان من العهد الحضوري آنف الذكر في قوله ![]() فكان من الجزاء في قوله ![]() فالكسب مناط الجزاء ، وهو ما حُدَّ ، أيضا ، حد العام ، في قوله ![]() فسواء أحملت "مَا" على الموصول الاسمي أم على آخر من الموصول الحرفي المصدري على تأويل : تجزى كل نفس بِكَسْبِهَا ، فذلك ، أيضا ، من العام المستغرق وجوه الكسب وهي أفعال الاختيار التي يناط بها التكليف ، سواء أكان ذلك المقصد الذي يُرَادُ لِذَاتِهِ من أحكامِ التَّكْلِيفِ أَمْرًا وَنَهْيًا ، أم الوسيلةَ مِنْ مُبَاحٍ لَا يُرَادُ ، بادي النظر ، لذاته ، وإنما يُرَادُ لِغَيْرِهِ ، فَيَجْرِي مجرى الوسيلة ولها حكم المقصد ، وثم من الكسب عموم آخر قد تناول المحال كافة ، الباطن وَكَسْبُهُ التصديق والحب والبغض والإرادة وجمل من الأعمال التي لا تظهر أعيانها في الخارج وإن ظهرت آثارها في القول والفعل والمسلك كما الرجاء والتوكل والإنابة ...... إلخ ، ومن الإرادة ، وهي باعث ما يكون بعدا من حركات الجوارح في الخارج ، منها إرادةُ الفعلِ وأخرى مِنَ التَّرْكِ . فاستغرق الكسبُ المحالَّ كَافَّةً ، الباطنَ ، على التفصيل آنف الذكر ، والظاهرَ وَكَسْبُهُ القول والعمل ، وله من العموم ما يجاوز ، فَثَمَّ نطق وصمت ، وثم فعل وترك ، فاستغرق العموم المحالَّ التكليفية والأحوال الاختيارية وهي مناط التكليف ، ومنها ما يجري مجرى الديانة ، ومنها آخر من أمور المعاش ، وإن مُبَاحَةً ، كما الكد والسعي في طلب الرزق بما يباشر العامل من أعمال لا يظهر فيها وجه التكليف تَعَبُّدًا ، وإنما تدخل في حده بما كان من نصوص كلية جامعة تحض على الكسب وطلب الرِّزْقِ الحلال وهو ما يواطئ مقاصد التشريع الكلية في حفظ النفس والمال . فلا تكليف بأحكام جبلة اضطرارية كما حركة الأحشاء ، ولا تكليف في إكراه ، على التفصيل آنف الذكر ، ومن ثم كان الاستئناف الذي ينفي الظلم احترازا ، فـ : (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ، وذلك العموم نصا إذ تَسَلَّطَ النَّفْيُ على النكرة ، فَنَفَى جنس المدخول فلا ظلم ، أَيَّ ظلم ، ومن ثم كان الاستئناف الذي يجري مجرى التعليل ، فهو جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة النفي المتقدم ؟! ، فكان الجواب : (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، فسرعة الحساب تحسم مادة الظلم إذ يَقْضِي في الدار الآخرة رَبٌّ عادل له من العلم ما يحيط فلا يفتقر إلى بَيِّنَةٍ ولا دليل كما القضاة في الأرض ، وثم وجه من الدلالة يلطف إذ سرعة الحساب سبب في نفي الظلم وهو ما تَحَرَّاهُ الشرع المنزَّل فكان من حكومته ما يَتَحَرَّى العدل ، من وجه ، ويسرع في الحكم من آخر مع تَحَرٍّ آخر في مواضع تعم بها البلوى فَتُدْرَءُ الحكوماتُ بالشبهاتِ ، وبه ، كما يَرَى الناظر في الجيل المتأخر ، به فرقان يميز حكومة الوحي المنزل من حكومة الوضع المحدث التي تُكْثِرُ من التَّرَاتِيبِ ويكون من حكمها ما يُبْطِئُ في رَدِّ الحق إلى أصحابه . والله أعلى وأعلم . |
#12
|
|||
|
|||
![]() فحكم الوحي المنزل يحمد ، من وجه ذي إطلاق ، فكماله قد استغرق المواضع كافة ، الخبر والإنشاء ، الإجمال والتفصيل ، الكلي والجزئي ، فالوحي أصل محكم يُرَدُّ إليه ما تَشَابَهَ من الأهواء والأذواق والأقيسة ، وإن كان لها حظ من النظر ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الأصل الذي عنه تصدر ، فاختلاف الظنون المحدَثة لا ينفك يطلب أولا من المعيار المجاوز ، وذلك نَصٌّ مِنْ خَارِجٍ ، قَدْ سَلِمَ من الأعراض الأرضية ، وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، مما تقضي به المقدمات العقلية والوجدانية الضرورية ، فَإِنَّ أَيَّ حكومة يَقَعُ فِيهَا الاختلافُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَرْجِعٍ يُرَدُّ إِلَيْهِ النِّزَاعُ ، ولو في خصومة بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فلا يحكم فيها إلا من سَلِمَ مِنَ التُّهْمَةِ أن يكون ذا مصلحة ، ولو لطيفةً لَا تَظْهَرُ أو بعيدةً لا تحضر ، فكان من سَدِّ الذريعةِ مَا يمنع ، فوجب الاحتراز ، ولو فِي حَقٍّ خَاصٍّ ، ألا يَحْكُمَ فِيهِ إلا مَنْ بَرِئَ من التهمة ، وحصل لَهُ مِنَ العلمِ والقصدِ والبيانِ مَا يَنْصَحُ ، فَكَذَا الوحي ، من باب أولى ، فإن حكومته أعم ، وخطره أعظم والبلوى به تَعُمُّ وَتَفْجَعُ ، فَيُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ ، ما احتج به ابن عباس ،
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فذلك وسواس الشيطان ، وإن تذرع أولا بمعنى دِينِيٍّ ، فلم يَزَلِ الأمر حتى انتهى إلى إلحاد وجحود يُصَرِّحُ ، فكان من ذرائعه ما تقدم من ثنوية تجافي المنقول والمعقول كافة ، إذ لا يكون هذا العالم ، مبدأ التكوين ، إلا أن يكون ثم واحد في الأزل ، هو واجب الوجود لذاته ، فَلَهُ من الكمال ما أطلق ، ومنه كمال الوصف الذي به التقدير من علم أول يحيط ، فقد استغرق المقدورات كافة ، بل وكان منه أعم إذ تَنَاوَلَ المعدومات من الممتنعات الذاتية ، ولو فَرْضًا هو المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، ومحل الشاهد منه المقدور لا المحال ، فقد استغرق العلمُ الأولُ المقدوراتِ كَافَّةً ، فهي الجائزات التي اسْتَوَى طرفاها في الاحتمال ، فلا تنفك تطلب مرجحا من خارج ، ومنه ما يُشْهَدُ من أسبابِ حِسٍّ تُبَاِشُر ، ولا تنفك تطلب آخر يتقدم ، وذلك مما يتسلسل من الشهادة إلى الغيب حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَلَهُ من العلم أول به يُقَدِّرُ ، وذلك التقدير المفصل الذي تَنَاوَلَ الجزئيات كما الكليات ، وله من المشيئة ما به يُرَجِّحُ ، فيكون من ذلك تأويل لصفات الفعل ، فآحادها في الخارج تَحْدُثُ ، وإن كان ثم نوع أول يقدم ، وتأويلها ما يكون من مقدورات تخرج من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، فلا شيء في هذا العالم يحدث إلا وثم من التقدير أول ، وَتَالٍ من التكوين يَنْفُذُ ، فتلك الكلمات التي بها الإيجاد والتدبير ، فَعَمَّ ذلك الأشياء كافة ، ما عَقِلَ وما لم يَعْقِلْ ، ما كان حيا يتحرك أو ميتا يسكن ، ما كان من الأعيان أو الأحوال التي تقوم بها أو السنن الذي يَنْتَظِمُهَا ، فَكُلُّ شَيْءٍ في هذا الكون بِقَدَرٍ ، وهو ما حَدَّهُ الوحي في مواضع حد الاشتغال الذي يزيد في الدلالة بما يقدر من عامل يتقدم من جنس آخر يتأخر في قوله ![]() ![]() ![]() فالقول في الآية : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ذلك مما تَعَدَّى بِاللَّامِ ، وهو من قول التكوين النافذ ، فلا يخلو من الكمال إِنْ جَمَالَ العلمِ والحكمةِ في التقدير أو آخر من جلالِ المشيئَةِ والقدرةِ في التكوين والتدبير ، وهو ما حَسُنَتْ لِأَجْلِهِ الإضافة إلى ضمير الجمع في "قَوْلُنَا" ، وَثَمَّ من النكرة "شيء" ما يحكي الشيوع الذي يَعُمُّ بدلالته ، وذلك ما قَصَرَهُ السياقُ عَلَى الشيء المكوَّن لا آخر من الشرع يَتَنَزَّلُ ، وَثَمَّ مِنَ الظَّرْفِ مَا يُقَيِّدُ ذَلِكَ بالإرادةِ ، وهو ما يحكي الحدوث ، حدوثَ آحادٍ من وصفِ فِعْلٍ نَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، فالتقدير أولا ثم الإرادة التي بها تأويل المقدور الكوني أَنْ يَخْرُجَ مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، وَثَمَّ من إطنابٍ آخر يَحْكِي التَّوْكِيدَ ، فذلك ما كان في الخبرِ : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فَثَمَّ من الاستقبال ما دلت عليه "أَنْ" في قوله ![]() والشاهد أن كل مخلوق محدث مَبْدَأُ تَكْوِينِهِ في الخارج ، وجودَ فعل يصدق ما كان أولا من وجود القوة في علم أول يقدر ، أَنَّ كُلَّ مخلوقٍ مَبْدَأُ تَكْوِينِهِ كلمةُ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وهي المحدَثة لا أنها المخلوقة ، كما الشيء الذي يصدر عنها فيصدق فيه أنه محدَث مخلوق ، فَالْكَلِمَةُ محدَثة غَيْرُ مخلوقةٍ ، إذ حدها في النظر المحقق أنها آحاد لوصف أول يَقْدُمُ ، فَهِيَ له في الخارج تُصَدِّقُ مَعَ اتِّصَالِ نِسْبَةٍ إِلَى الموصوفِ الأول ، فهي كلماته التامة ، نَوْعًا أول يَقْدُمُ ، وآحادا له في الخارجِ تُصَدِّقُ إِذْ تُنَاطُ بمشيئَةٍ تَنْفُذُ ، فيكون من الكلمة المحدَثة غير المخلوقة ، يكون منها سَبَبٌ يُرَجِّحُ في مقدورٍ أول ، يصدق في تقديره في الأزل ، أنه ، أيضا ، الوصف القديم غير المخلوق ، فالتقدير من العلم مع تال من الحكمة ، والعلم والحكمة من صفات الخالق الأول ، جل وعلا ، فذلك تقدير قديم لمقدورات عدمية ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويلُها في الخارج ، تأويلا يصدق ما كان من تقدير أول ، فَثَمَّ كلمة تكوين هي المرجِّح غير المخلوق ، وإن حدثت منه آحاد بالمشيئة ، فَتُرَجِّحُ الكلمةُ فِي مقدورٍ أول إذ تخرِجُه مِنَ العدمِ إِلَى الوجودِ ، ويكون من ذاتِ المخلوقِ المحدَث الذي وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَكَانَ مِنْ وجودِه بالفعلِ مَا صَدَّقَ وجودَه الأول بالقوة ، يكون من هذا الوجود الأخص ، وجود الفعل في الخارج ذَاتًا تَسْتَقِلُّ ، يكون من ذلك شيء تَنْقَطِعُ نِسْبَتُهُ إِلَى الخالقِ الأولِ ، جل وعلا ، وَصْفًا ، وإن لم تَنْقَطِعْ خَلْقًا ، فهو مخلوق لله ، جل وعلا ، لا أنه وصف له ، وإن كان تأويلا لآثار من وصفه في الخارج ، فذلك المصدِّق بما يكون من وجودٍ بالفعل ، فيصدق ما يكون من وجود أول ، وجود القوة في علم تقدير محكم ، وبه تَبْطُلُ دعوى المثلثة في المسيح ، عليه السلام ، غلوا ، فهو كلمة الله ، جل وعلا ، لا أنه عين الكلمة التكوينية ، وإنما هو تأويلها في الخارج إذ يُصَدِّقُ وجوده بالفعل ما كان أولا من وجود قوة عدمي في علم تقدير كوني ، فهو المخلوق بالكلمة إِذْ أخرجته من العدم التقديري الأول إلى وجود تال في الخارج يُصَدِّقُ ، فَلَهُ مِنَ الذَّاتِ مَا يَسْتَقِلُّ ، فالنسبة بَعْدَ حصول الذات في الخارج ، ذات عيسى المسيح ، عليه السلام ، نَسْبَةُ مخلوقٍ محدَث إلى خالق محدِث ، وثم كلمة كونية تَحْدُثُ إِذْ تُنَاطُ بمشيئَةٍ تَنْفُذُ ، فَهِيَ تأويلٌ لِنَوْعٍ أول من الوصف يَقْدُمُ ، فَتَأْوِيلُهُ ، من هذا الوجه ، على وجهين : تأويل لَا تَنْقَطِعُ بِهِ النِّسْبَةُ إِلَى الوصفِ الأوَّلِ القديمِ ، إِنْ وَصْفَ الكلامِ الأخصِّ أو وصفَ العلمِ الأعَمِّ الذي تَنَاوَلَ التكوين والتشريع كَافَّةً ، فآحاد الكلمات إذ تحدث بما يكون مَشِيئَةٍ تَنْفُذُ ، تلك الآحاد من الكلمات ، ومنها الكلمة التي بها كان المسيح عليه السلام مخلوقًا محدَثا فِي الخارج ، تلك الآحاد من وصفِ الخالقِ الأوَّلِ ، جل وعلا ، فَحُدُوثُهَا لَيْسَ حدوثَ المخلوقِ ، وإنما حدوثَ آحادٍ تُصَدِّقُ نَوْعًا أول يَقْدُمُ مِنْ وَصْفِ الخالقِ ، جَلَّ وَعَلَا ، فذلك تأويل أول لا تَنْقَطِعُ بِهِ النسبة إلى الوصف الأول القديم ، عَلَى التَّفْصِيلِ آنِفِ الذِّكْرِ ، وثم آخر به النسبة تَنْقَطِعُ ، فتلك نسبة المسيح ، عليه السلام ، إلى خالقه ، جل وعلا ، فهي نسبة مخلوق إلى خالق ، فالمسيح ، عليه السلام ، كلمة الله إِذْ بِهَا خُلِقَ خَلْقًا أخص يُصَدِّقُ مَا كَانَ مِنْ تَقْدِيرٍ أول في الأزل ، فذلك خلقُ إيجادٍ لِذَاتٍ في الخارج تَسْتَقِلُّ ، فَلَيْسَتْ بداهةً عين الكلمة التي بها خُلِقَتْ ، بل هي المسبَّب الحادث عنها ، فالذات محدَثة مخلوقة ، والكلمة التي بها خُلِقَتْ : محدَثة غير مخلوقة ، فهي من آحادِ كلماتٍ تَحْدُثُ إذ تُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ ، وبها تأويل لِمَا كانَ من نوعِ وصفٍ أول يَقْدُمُ ، فانفكت الجهة فلا تعارض ولا تناقض ، جهة الذات المحدثة في حَدٍّ ، وجهة الكلمة المحدِثة من آخر ، وهي ، أيضا ، محدَثة لا إحداث المخلوق ، وإنما آحادا تُصَدِّقُ مَا قَدُمَ مِنْ نَوْعٍ أَوَّلَ مِنْ وَصْفِ الخالِقِ المقدِّر ، جل وعلا ، إِنْ وَصْفَ الكلامِ الأخص أو وصفَ العلمِ الأعم ، على التفصيل آنف الذكر ، فَصَحَّ ، من هذا الوجه ، أن عيسى المسيح ، عليه السلام ، هو الكلمة ، فهو المسبَّب المخلوق عَنْهَا لَا أَنَّهُ عَيْنُهَا ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى الخالق ، جل وعلا ، نِسْبَةُ مخلوقٍ إلى خالقٍ ، ونسبة الكلمة التي بها خُلِقَ ، نِسْبَتُهَا إلى الخالق ، جل وعلا ، نِسْبَةُ وصفٍ إلى موصوفٍ ، فَهِيَ آحادٌ تَحْدُثُ لِنَوْعٍ أَوَّلَ مِنَ الوصفِ يَقْدُمُ ، وَبِهِ الإجمالُ يَزُولُ في آي من الذكر المحكم إذ كان مِنْ وصفِ عيسى المسيحِ ، عليه السلام ، ما حُدَّ حَدَّ القصر في قوله ![]() فَالصَّوْتُ وَالْأَلْحَانُ صَوْتُ الْقَارِي ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() وآخر من قول صاحب الصحيح ، ![]() ففعل القارئ مخلوق ، والمقروء غير مخلوق ، فَثَمَّ نِسْبَةُ خلقٍ تَصِحُّ بِالنَّظَرِ فِي فِعْلِ المكلَّف إذ يَقْرَأُ آيَ الوحيِ ، وَكَذَا مَا يَكُونُ مِنْ تَصْدِيقِ خَبَرِهِ وَامْتِثَالِ حكمِه ، فتلك من أفعال العبد المخلوق ، إِنْ باطنةً بما يكون من تصديق بِهِ التَّصَوُّرُ الأول ، وما يكون من حُبٍّ وَبُغْضٍ ، وإرادةٍ هِيَ المبدأُ فِي الفعل والترك ، وَجُمَلٍ من حركاتِ الجنان تَوَكُّلًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً ..... إلخ ، أو ظاهرةً مِنْ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ، فَكُلُّ أولئك مِمَّا يَصْدُقُ فِيهِ أَنَّهُ المخلوق المحدَث ، فهو مما قام بذات المكلف المخلوقة المحدثة ، فالخالق ، جل وعلا ، قد خلق في جنان المكلَّف المصدِّق ، قَدْ خَلَقَ فِيهِ صورةَ العرفانِ لدى المبدإِ ، ثُمَّ تَالِيًا من أخرى أخص فهي تُصَدِّقُ ، فالتصديق تَالٍ للعرفانِ ، فَيَكُونُ مِنَ العرفان : جَائِزٌ قَدِ اسْتَوَى طرفَاه فِي الحدِّ ، ويكون من التصديق ما يُرَجِّحُ القبول والرضى ، وبعد التصديق : الحبُّ والبغضُ ....... إلخ ، وَخَلَقَ فِي اللِّسَانِ حَرَكَةً بِهَا يَنْطِقُ آيَ الوحيِ تلاوةً وَذِكْرًا ، وَخَلَقَ فِي الأركان قُوَّةَ الفعلِ ، وآحادًا له تُصَدِّقُ بِامْتِثَالٍ قَدْ تَنَاوَلَ الفعلَ والكفَّ ، فكلُّ أولئك من المخلوق المحدَث ، وإن كانت تأويلا لأول من كلمات التشريع التي نَزَلَتْ بالخبرِ والحكمِ ، فَلَيْسَتِ المخلوقةَ ، لا نَوْعًا أول يَقْدُمُ ، ولا آحادا بعد تحدث ، فَثَمَّ جهة قد انْفَكَّتْ فِي كُلٍّ ، وبها صَحَّ الإخبارُ في الآي آنف الذكر : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) ، فكان الإخبار أولا أنه الرسول ، وذلك ، كما تقدم ، من آحادٍ يَتَنَاوَلُهَا جِنْسٌ عَامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، الملَكِيَّ والبشري ، وكلاهما المخلوق المحدَث ، ومن ثم كان الإخبار بالكلمة في قوله ![]() ![]() فهو العلم المحيط بالتكوين والتشريع كَافَّةً ، علمُ الربِّ الخالقِ ، وعلمُ الإلَهِ الحاكم ، والأول مناط التكليف تصديقا بأفعال الربوبية ، والثاني مناط التكليف امتثالا به تأويل الملزوم الأول ، ملزوم الربوبية بما يكون من لازم يَتَنَاوَلُ معاني الألوهية ، ولا تكون إلا بكلمات من الشريعة تخبر وتحكم ، فيكون لها من المرجع ما يهيمن ، وهي ، كما يقول بعض من حقق ، أول ما يحتاج المكلف ، أن يعلم ، وذلك ما استغرق البلاغ والبيان كافة ، بلاغ الألفاظ وبيان المعاني بما استقر من لسان الوحي ، وأعلم الخلق به من عليهم قد نَزَلَ ، إذ بلسانهم قد وَرَدَ ، مع شهود أخص ، فقد شَهِدُوا التنزيل نجوما ، وعقلوا المعنى عقلا أخص بما كان من لسان النطق والفهم . والله أعلى وأعلم . |
![]() |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 2 ( الجلساء 0 والعابرون 2) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
![]() |
||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
من خواطر معلم لغة عربية | فريد البيدق | مُضطجَع أهل اللغة | 8 | 05-07-2019 10:30 AM |
خواطر | كريم امصنصف | مُضطجَع أهل اللغة | 9 | 13-10-2017 03:16 AM |
خواطر مرسلة بين ماض وحاضر | خالد العاشري | حلقة الأدب والأخبار | 0 | 13-05-2015 08:05 PM |
خواطر من فيض الذاكرة | شجرة الزيتون | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 18-09-2013 12:02 AM |
خواطر | سهل بن المبارك | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 27-12-2008 07:24 PM |