|
#1
|
|||
|
|||
![]() الكتاب الخاتم : معيار الحكمة التي بها الوحي قد تَنَزَّلَ ، فكان من كتابه حق هو المطلق وَمِيزَانٌ في الدلالة هو المحكم ، فَثَمَّ من كتاب الوحي ما تَنَزَّلَ ، وهو بالحق والميزان قد نَزَلَ ، فكان من ذلك نُزُولُ الجملةِ إلى سماء الدنيا فـ : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، فَثَمَّ القصر إذ عُرِّفَ الجزءان ، الاسم الأعظم ، اسم الله الأعز الأكرم ، وما أسند إليه من الموصول الاسمي "الذي" ، وله من دلالة الأصول عموم يستغرق ، فذلك حد الموصول وهو نص في العموم ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، وإن أُفْرِدَ لَفْظُهُ ، فإنه يصدق في الآحاد في الخارج كافة على حد الشمول المستغرِق ، كما في الموصول الاسمي المشترك "مَنْ" و "مَا" ، فهما المفردان في المبنى ، العامَّانِ في المعنى ، ودلالتهما على العموم أظهر لما كان من معنى اشتراك أَعَمَّ ، لا كالموصول الاسمي المختص ، لا سيما المفرد كما "الَّذِي" محل الشاهد ، وهو مع ذلك ، نص في العموم يستغرق إذ يكون النظر في المعنى الذي اشتقت منه الصلة فهو مما يبين عن إجماله ، من وجه ، وبه عَلَّلَ أهل الشأن بناءَه إذ يُشْبِهُ الحرفَ ، وهو الأصل في المبنِيَّاتِ ، فَغَيْرُهَا عليه يُقَاسُ ، فَقِيسَ الموصول على الحرف في حكم البناء لجامع من العلة وهي المعنى الذي يُعْقَلُ ، فذلك الافتقار إلى ما تَلَا أن يبين عن معناه الذي يُرِيدُ المتكلم ، فالمعنى الذي اشتقت منه الصلة يبين عما أُجْمِلَ من الموصول ، من وجه ، وهو ، من آخر ، مِمَّا يَرْفِدُ معناه إن كان مما يستغرق آحاده في الخارج ، كما يقال مثالا في قوله
![]() ![]() ![]() وثم من رَفَدَ "أُفٍّ" ، بادي الرأي ، بالنظر في المعنى الأعم ، فَهِيَ ، ابتداء ، عنوان لكلِّ مَا اسْتُكْرِهَ من السب والضرب ..... إلخ ، فَدَلَّتْ ، بادي الرأي ، دون افتقار إلى قياس في الشرع أخص ، إذ قياس اللسان قد جَاوَزَ بها المنصوص ، فكان منه آخر أعم لم يخرج عن معيار اللسان فِي حكايةِ المعاني والدلالات ، وكذا قِيلَ في اسم الخمر ، فَثَمَّ من يَتَنَاوَلُهَا تَنَاوُلَ الأجناس المنصوصة في الآثار ، فيجرد منها عِلَّةً هي الإسكار ، وَيُلْحِقُ لأجلها ما حدث من الفروع المسكرة في الأجيال المتأخرة ، يلحقها بالأصول الأولى المنصوص عليها في الخبر ، وثم من يقيس القياس الأعم : قياس اللسان إذ اسم الخمر ذو دلالة في الاشتقاق ، فهو يَتَنَاوَلُ كلَّ ما خامر العقل وستر ، فمادة "خَمَرَ" إذ يجردها الذهن فهي تَحْكِي جنس التغطية والستر ، فَيُقَالُ : خِمَارٌ لِمَا يُغَطِّي الرأس ، ويقال آنية مخمرة إذا غُطِّيَتْ ، ويقال خمر إذ تخامر العقل وَتُغَيِّبُهُ ، وذلك يجزئ في المبدإ إذ يدخل فيه كلُّ ما يصدق فيه اسم الخمر ، مائعا أو جامدا ، فقد تَنَاوَلَهُ التحريم أولا دون حاجة تلجئ إلى القياس على المنصوص الأول من العنب ..... إلخ ، فذلك عنده مما يَجْرِي ، من وجه ، مجرى الْمُثُلِ الْمُبَيِّنَةِ فلا تخصص العام ، وذلك ما يُسَلِّمُ به المخالف مِمَّنْ جَاوَزَ بالقياس فَهُوَ قِيَاسُ الشَّرْعِ الأخص ، فَلَمْ يقصر الخمرَ ، أيضا ، على المذكورات ، وإنما اجتهد أن يحرر منها مَنَاطًا بِهِ يُلْحِقُ الفروع بها لِعِلَّةٍ تَجْمَعُ وهي مما يحصل بالسبر والتقسيم ، وإن كان من النص عَلَيْهَا إسكارًا أَخَصَّ ، وإن كان من ذلك في الخبر ما أجزأ ، فـ : "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" . والشاهد أن من العلم المستغرق للجزئيات ، وإن في التكوين وهو المبدأ ، أن من ذلك العلمِ العامِّ المستغرقِ للكلياتِ والجزئيات كافة ، أن من ذلك العلم ما أبطل دعوى الحداثة إذ تَلَطَّفَتْ بما استعارت ، ولو لازمَ القول ، بما استعارت من مقال الحكمة الأولى فقد قصرت العلم الإلهي على العلم الكلي المجمل دون آخر جُزْئِيٍّ يُفَصَّلُ ، فكان من ذلك تعطيل في الإلهيات يَقْبُحُ إذ قد خالف عن وحي النبوات ، وهو المرجع في بابِ غيبٍ لا يُتَلَقَّى إلا من مشكاةِ صدقٍ تجاوز ، وإن دَلَّ عليه العقل والفطرة ، فذلك دليل مجمل لا ينفك يطلب آخر يُفَصِّلُ ، فكان من الوحي ما أبان ونصح في الباب ، فالعلم الإلهي محيط قد استغرق الكليات والجزئيات كافة ، وهو ما قد عَمَّ ، من وجه آخر ، فكان منه تأويل أول من كلامٍ يُسْمَعُ وَيُكْتَبُ ، فكان من ذلك ما سُطِرَ فِي لَوْحِ تَقْدِيرٍ أول ، وهو المكتوب ، وكان من تأويل آخر له وهو المسموع الذي تحمله الملك وبه نَزَلَ ، فمنه كلام تكوين ينفذ ، ومنه آخر هو تشريع يُخْبِرُ وَيَحْكُمُ ، ومن الأول ، وهو التكوين ، منه نَوْعٌ لِمَا عَلَا من جنسِ الكلام المطلق ، ومنه ، من وجه آخر ، جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ ما دونه من الأعيان والأحوال ، فَثَمَّ من كلم التكوين النافذ : أول به الإيجاد المصدق لما كان أولا من علم محيط يقدر ، وتال به التدبير المحكم بما يكون من إجراءِ أسبابٍ تَنْصَحُ المحالَّ كافة ، وثم من كلم التشريع آخر في قسمة الأنواع في الخارج ، فكان من لَقَبِ التَّشْرِيعِ فَصْلٌ يَمِيزُ في الحد والتعريف ، وتحته آحاد فهو جنس لها من هذا الوجه ، فَثَمَّ آحادُ أخبارٍ تُصَدَّقُ ، وثم آحادُ إِنْشَاءٍ تُمْتَثَلُ ، وبهما جميعا اسم ديني يجزئ في حصولِ توحيدٍ يَنْفَعُ ، توحيدِ الخالق ، جل وعلا ، بما تَنَزَّلَ به الملَك من كلمات الإيجاد والرزق والتدبير ، وتوحيد الشارع ، جل وعلا ، بما تَنَزَّلَ به الملَك من كلمات الأخبار التي ترفد المحل بِعِلْمٍ يَصْدُقُ ، وكلمات الأحكام التي ترفد المحل بعمل يَنْصَحُ , فيكون من ذلك مجموع قِدِ ائْتَلَفَ من الصدق والعدل ، وتلك مادة الكتب ، فذلك الكتاب الذي أنزله الله ، جل وعلا ، بالحق في أخبارِ صدقٍ في نفس الأمر فهي ترفد الجنان بما نصح من العلم ، والميزان ، ميزان العدل في الأحكام ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما جاوز في الحد حكوماتِ الأمرِ والنهيِ ، ومنها المعقول الذي يطرد وينعكس فيكون من ميزان العقل ما يَضْبِطُ ، إذ المعنى يُعْقَلُ ، وهو مناطُ حكمٍ يَنْصَحُ ، إذ يدور معه وجودا وعدما ، وذلك مما جاوز الأحكام إلى الأخبار فلا تخلو من ميزانٍ ، وإن لَطُفَ في الاستدلال ، فذلك قياس الطرد والعكس إذ يَتَنَاوَلُ الخبر كما الحكم ، فَثَمَّ من الأخبار وعد من آمن ووعيد ممن كفر في المقابل ، فكان منهما أصل يطرد وينعكس ، إذ يناط المعنى بِوَصْفٍ يُعْقَلُ ، فهو يدور معه وجودا وعدما ، فذلك الميزان العام المستغرق الذي تناول الأخبار كما الأحكام ، وبكلٍّ : الحق والميزان ، بكلٍّ قد نَزَلَ الكتاب إن في الأخبار أو في الأحكام ، وذلك مما يزيد في دلالة "أل" في "الكتاب" فهو يجاوز ما تَبَادَرَ من عهد أخص ، آي التنزيل المتواتر ، فَثَمَّ من دلالة "أل" ما جاوز فاستغرق الخبر كما الآي ، إذ تَقَاسَمَا جنس الوحي الأعلى ، فمنه كتبُ آيٍ تَوَاتَرَتْ ، ومنه كتبُ أخبارٍ جُلُّهَا آحادٌ تَنْصَحُ في الاستدلال ، وإن لم تُفِدِ القطع ، فَثَمَّ من الشرط مَا أُحْكِمَ ، وهو ما تَنَاوَلَهُ أهلُ الشأنِ في حد الصحيح المجزئ في الاستدلال العلمي والعملي كافة ، ومن الْكَتْبِ : كَتْبُ أخبارٍ تَنْصَحُ الجنانَ بمادة صدقٍ ، وَكَتْبُ أحكامٍ تَنْصَحُ الجنان واللسان والأركان كافة بمادة عدلٍ ، فيكون من ذلك صلاح عام قد استغرق بما نَزَلَ من الكتاب المحكم من عند الرب المهيمن ، جل وعلا ، وذلك ما حَسُنَ معه القصر بتعريف الجزأين في قوله ![]() فَيَكُونُ من التلاوة المعتبرة ما به الاعتبار يَنْصَحُ أَنْ كان له من لسان الوحي ما يفقه ، فَثَمَّ تلاوة مَبْدَؤُهَا نُطْقٌ ، ولا تُجْزِئُ إن لم تُشْفَعْ بالفقه الذي يجاوز الأصوات المنطوقة فَيُسْتَدَلُّ بها على أخرى تُرَادُ لذاتها ، فهي مناط التكليف تصديقا وامتثالا ، فلا يكون من الأصوات المنطوقة ما يَنْفَعُ إِلَّا أَنْ تُشْفَعَ بمدلولاتِها من المعاني المعقولة ، ومنها الخبري الذي يُصَدَّقُ ، ومنها الإنشائي الذي يُمْتَثَلُ ، فتلك تلاوة في الباب ثالثة ، إذ المبدأُ ، كما تقدم ، تلاوة الألفاظ ، وهي مناط الاحتجاج ، ولا يحصل بها أمانيَّ ما يَنْفَعُ حَتَّى تكون ثانية من تلاوةٍ تُفْقَهُ ، تلاوةِ المعاني المعتبرة بما دَلَّ عليه لسان الوحي ، فَفِقْهُهُ ، من هذا الوجه ، فرض عين ، إذ لا يكون تكليف إلا بمعلوم ، وهو ما يجاوز المنطوق فَكَمْ تَالٍ لَا يَفْقَهُ ما يتلو إلا أماني فهو لها يُرَدِّدُ ، فَوَجَبَ تَالٍ من الفقه لا يُنَالُ إلا بفقه اللسان الذي به نَزَلَ الكتاب ، لا جرم كان من جِنَايَةِ الحداثة أَنِ احْتَالَتْ لِتَبُتَّ الصلة بما كان من إِرْثِ اللِّسَانِ نَظْمًا وَنَثْرًا مع دعاوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذابُ والهلكةُ أَنْ يكون ثم تَيْسِيرٌ في النطق بما يواطئ عرف الجيل والعصر ، وإن خالف عن قانون اللسان المحكم فاستبدل به لهجات تخرق قانونه الأول من نحوِ كلامٍ يَنْظِمُ الكلماتِ في سِلْكٍ مُحْكَمٍ ، فكان من ذلك فساد اللسان بما دخله من العجمة واللحن ، وإن زَعَمَ صاحبه أنه يُجَدِّدُ في النطق ، فَهُوَ يأتي على أصله بالإبطال أَنْ يُجَرِّدَهُ من أدلته المحكمة بما أُثِرَ من منظوم ومنثور ، فيكون القدح في صحة النقل أنه مما انْتُحِلَ بَعْدًا فلا أصل له في المبدإ ، فإذا بطل الاحتجاج به في تفسير الوحي ، فقد صار اللفظ بلا معنى فلا يصدق فيه أنه كلام يُفْهِمُ ، وصار كتاب تأويل مفتوح ، فكلٌّ يَتَأَوَّلُ منه ما يواطئ الهوى والذوق ، إذ لم يكتمل بَعْدُ فِي الحدِّ ، حدِّ الكلام المجزئ لدى النحاة ، فقد صار لدى أولئك ألفاظا تُتْلَى أماني بلا معان تأطرها على جادة إِفْهَامٍ فلا بد لها من مرجع من الآثار ، فَهُوَ يحكي مراد القائل الأول الذي بِلِسَانِهِ قَدْ نَزَلَ الكتاب المحكم ، فإذا لم يكن ثم آثار من لسان الجيل الأول وما تَقَدَّمَهُ قَبْلَ تَنَزُّلِ الوحي ، إذ لم يكن من ذلك شيء في الاستدلال ، فَقَدْ بُتَّتِ الصلة بها بل وحجدت أصولها فهي المنحولة المخترعة لا الأصيلة المحققة ، فلم يعد ثم مرجع من أعلى يجاوز في تلاوة المعاني ، وإن سُلِّمَ أَنَّ ثَمَّ مرجعا من أعلى يجاوز في تلاوة الألفاظ ، فما يجدي ذلك في العلم والعمل ؟! ، وما زاد من تصديقِ خَبَرٍ وامتثالِ حكمٍ ، فذلك مما افْتَقَرَ إلى قسيمٍ ثان في الحد ، حَدِّ الكلام المجزئ ، فهو ، كما تقدم ، لفظ ومعنى ، فما يجدي لفظ قد جُرِّدَ من المعنى ؟! ، فصار وعاء يشغر ، فتلك ذريعة أن يُشْغَلَ بما يواطئ لَدَى كُلٍّ : هوى أو ذوقًا هو المحدَثُ فلا أصل ، المتشابهُ الذي يُرَدُّ بِهِ المحكم من عُرْفِ لِسَانٍ أول ، إِنْ فِي دلالاتِه المفردة في المعجَمِ ، أو ما كان بعدا من اشتقاقٍ يَتَنَاوَلُ بِنْيَةَ الكلمات فيكون منه زيادةٌ في الدلالات ، وإن لم تجاوز حد المفرد من الألفاظ ، أو ما زَادَ من أخرى في التَّرْكِيبِ المفهِم ، وله من ذلك نحو هو الأول بما استقر من قانون النظم المحكم ، إن المنطوق وهو الأصل أو المكتوب وهو الفرع فهو لِأَصْلِهِ يُصَدِّقُ بما كان من قانون آخر في الْكَتْبِ وَالتَّشْكِيلِ ، فَثَمَّ من ذلك إعراب يُرْسَمُ ، وَحَدُّهُ ، كما تقدم ، ما يضبط أواخر الكلمات وبه تستبين الدلالات ، ولو أولى بها يدرك المخاطَب المعنى المباشر ، مع ما يَلِي من بَيَانٍ يُفْصِحُ عن معان من الاستدلال تَدقُّ ، فلا تُدْرَكُ إِلَّا بِنَظَرٍ أَخَصَّ لا يحصل لكلِّ أحدٍ ، خلافَ ما يكون من نحوٍ أول فمعناه لدى كل يظهر بما استقر من قانون اللسان المفهم ، فيجري مجرى الضروري الذي يستوي في دركه العقلاء كافة ، لا جرم كان العلم بِاللِّسَانِ شَرْطًا في التكليف ، فلا يكون بألفاظ لا يحسن المكلَّف تلاوتها ، وإن أحسن تلاوة المبنى فما يجزئ إن جهل المعنى فيكون من ذلك أماني لا تَنْصَحُ ، وَإِنْ عَلِمَ ، فذلك بيان وإرشاد تَالٍ ، فما يجزئ ، أيضا ، إن لم يشفع بما يصدق من إرادةِ فِعْلٍ أو تَرْكٍ تواطئ ما قد نَزَلَ به الوحي ، فيكون من الحكم ما يصدق التصور ، ويكون من تلاوة العمل امْتِثَالًا ما يواطئ أخرى من العلم الذي به قيام الحجة الناصحة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مناط التكليف ، فهو العلم الذي به قيام الحجة هدى وإرشادا ، وإن لم يلزم تال من التوفيق والسداد ، فذلك معنى أخص لا يحصل إلا لمحل قد رَجَحَ فيه الإيمانُ الكفرَ بما يكون من مرجِّح من خارج ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كَلَامٍ إلى صدرٍ ، فَثَمَّ من الاستطاعة أول ، وهو ما يناط به التكليف الملزِم إذ يحتمل الأضداد قبل الشروع في الفعل ، فذلك الجائز المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارجه ، فيكون من ذلك إرادة المكلف ، وهي مما يصدر عن أولٍّ من الحب والبغض ، فهما ، كما تقدم مرارا ، أصل كل حركة في هذا الوجود ، وأشرفها حركات التكليف من التوحيد والإيمان ، وما يكون من صالح الأقوال والأعمال ، وما يصدر عنهما من قوى في النفس تَغَارُ أَنْ تُنْتَهَكَ المحارم فهي تُبْغِضُ المخالِف لا عدوانا بلا حق ، وإنما غيرة أن تنتهك حكومات الوحي ، فيكون من قوى في النفس تحب وترضى وتلك مادة ولاءٍ لمن نصح الوحيَ بالتصديق والامْتِثَالِ ، ويكون منها ، أيضا ، ما يباشر الحلال الطيب فهي تواطئ ما رُكِزَ أولا في الجبلة إذا سلمت من العوارض المفسدة ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم الشرع والخلق كافة ، ففطرة توحيد في الأديان تَنْصَحُ ، وأخرى في الأبدان فلا تُرَجِّحُ إلا الحلال الطيب ، فيكون من ذلك تأويل القوة الشهوانية ، والمحبةُ فِيهَا أَصْلٌ ، يكون من ذلك ألا تخالف عن الفطرة والوحي ، فَتَسْلَمَ من التَّنَاقُضِ إِذِ الوحي الصحيح ، كما تقدم ، لا يخالف عن العقل الصريح وكذا آخر من وجدان الفطرة الناصح فلا يخالف عن الوحي النازل ، فَتَلْتَئِمُ قوى النفس بما ينصح لها في القول والفعل ، في التصور والحكم ، وكذا قوة الغضب وباعثها الكره ، ولها من تأويل يَنْصَحُ مدافعةَ مَنْ يخالف عن الوحي المنزل بما كان من غيرة هي علامة حياة في الجنان تحمد دون زيادة من عدوان يَقْبُحُ ، فلا يلجم الاثنين ، الشهوة والغضب ، إلا حكومة العدل ، فـ : (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وهو ما افْتَقَرَ إلى أول من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، وَلَهُ من ذلك ما رُكِزَ فِي الوجدان وله تَالٍ من الوحي يُفَصِّلُ في الأقوال والأعمال وما يَتَقَدَّمُ من الإرادات ، وهي تأويل قوى المحبة والبغض ، وتلك قوى لا تصدر إلا عن تصورِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، فَافْتَقَرَتْ إلى معيار علم يَنْصَحُ ، فهو في الباب أول ، إذ التصور للحكم يسبق ، فالحكم تأويل له يرجح في باب المحبة والبغض وما تلا من إرادةِ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِنْ باطنا من أعمال الجنان ، أو ظاهرا من لسان يشهد ويتلو التلاوة المجزئة في حصول اسم من الدين يُحْمَدُ ، فَهِيَ حق التلاوة ، كما تقدم ، تلاوة اللفظ والمعنى وما تلا من تصديق وامتثال ، وكذا ظاهر العمل ، عمل الجوارح إن بالفعل أو بالترك ، فذلك ، أيضا ، مما يُصَدِّقُ ما يحصل في الجنان أولا من التصور والإرادة ، فيكون من ذلك المجموع المركب الذي استغرق المحال والأحوال كافة ، وبه أسماء الإيمان والتقوى والشكر تنصح فذلك تأويل لها يصدق ، وهو ، كما تقدم ، مما افتقر إلى معيار من النطق أول يجاوز ما يكون من تلاوة الأماني ، فلا يجرد الألفاظ من المدلول المعنوي ، إن المفرد أو المركب ، فتلك جناية الحداثة إذ بَتَّتِ الصلة بأصول من اللسان تَنْصَحُ الناطق إذ تُبِينُ له عن مراد القائل ، فإذا بطلت وصار من دعوى التجديد ما يَكْذِبُ ، فإن تجديدَ الأصلِ إذا انْدَثَرَ أن يجتهد المجدِّد في إظهار ما منه قد خفي ، لا أن يقدح فيه ، فيستبدل به آخر لا أصل له فهو المحدَث الذي اضطرب في المعنى إذ لا معيار له يحكم ، فهو هوى وذوق يتبجح أنه ذاتي لا يجاوز المحل فلا مرجع له من خارج ، وهو مما يتوسع في التأويل إذ يُجَرِّدُ الألفاظ من المدلول الأول ، فصارت أوعية تشغر ، وكل متأولٍّ لها يشغل بما يواطئ هواه وذوقه ، فيضطرب الاستدلال وتبطل حجة اللسان ! ، ويصير الكلام أصواتا قد أفرغت من المدلول فكل متأوِّل يشغلها بما يقترح إذ صارت الكتاب المفتوح ، لا اجتهادا في لطائف من المعنى لا تأتي بالإبطال على الأصول المحكمة ، فالاجتهاد في تلك اللَّطَائِفِ مما يحسن والأنظار فيه تَتَفَاوَتُ والاجتهاد فيه يَتَمَايَزُ فَثَمَّ من إشارة النص وإيمائه وَتَنْبِيهِهِ ..... إلخ ، ثم من ذلك ما به اكتمال النظر إذ يَتَنَاوَلُ أولا ما ظَهَرَ ثُمَّ يُفَتِّشُ تَالِيًا فيما خَفِيَ وَلَطُفَ ، فيكون من ذلك ثان يحمد بعد أول يطلب ، فالناظر يَتَنَاوَلُ الأصول والمسائل الكبار قَبْلَ آخر في فُرُوعٍ ومسائل صغار ، وذلك وصف الربانية ، كما أُثِرَ عن بعض السلف ، فهي تربية الخلق بكبار المسائل من الأصول التي لا يصح إيمان إلا بها فهي أصول الاعتقاد ، وذلك ما يجاوز في حكاية إيمان يجزئ ، ولو أدنى ما يَصْدُقُ فِيهِ الاسم الديني ، فهو الاعتقاد والقول وما يصدق فيه أنه جنس العمل فلا يَتْرُكُهُ المكلَّف التَّرْكَ المطلق فهو مما لا يُتَصَوَّرُ ، أن يكون ثم إيمان بلا حركة في الخارج تصدق ، ولو بَعْضًا لا يخرجه من جنس الوعيد الأعم ، وإن سَلِمَ به من وعيد أخص ، وعيد العذاب المؤبد ، فلا يكون ذلك إلا بأدنى ما يصدق فيه اسم الإيمان ، على التفصيل آنف الذكر ، فَاشْتُرِطَ لَهُ عامة : الاعتقاد والقول وجنس العمل ، واشترط له خاصة الإتيان بأعمال مخصوصة قد نص عليها الخبر أنها شروط صحة فَتَرْكُهَا يَنَالُ من الأصل ، وإن أَتَى المكلَّف بأعمال أخرى يصدق فيها اسم الجنس ، جنس العمل ، كما الخلاف المشتهر في ترك الصلاة ، فقد جعله بَعْضٌ قادحا في أصل الدين ، وإن أتى بأجناس أخرى من العمل ، وذلك محل خلاف قد بسط فيه أهلُ الشأنِ القولَ ، فكان من كبار المسائل قَبْلًا ما به الأصول تثبت ، ثم صِغَارٍ بَعْدًا بما دق من مواضع الخلاف في الفروع ، وهو ، في الجملة ، يسوغ ، فتلك فروع تدق وبها يكمل الاستدلال إذ تأتي تَبَعًا ، وإنما الناظر بها يَنْتَفِعُ إذا كان من الأصول أولا ما ثَبَتَ ، إن أصول الاعتقاد التي تنصح أو أخرى في الاستدلال وهي مما به الصغار تُسْتَنْبَطُ ، فيكون من درس أول يتناول طرائق الاستنباط فإذا أتقنها الناظر فقد صَارَ له من الْمَلَكَةِ ما به يَرُدُّ الفروع إلى أصول ، وهو ، مع ذلك ، يعتبر المصالح والذرائع وما عقل من مقاصد الوحي فلا يُتَّخَذُ ذلك ذريعة إلى نَقْضِ ما استقر من كتاب وخبر وإجماع وقياسٍ هو الجلي فأولئك ما لا يسوغ فيه الخلاف إذ يجري مجرى النص وإن كان ثم من اجتهاد في تحرير وجوه الاستدلال في الأدلة الخبرية ، وتحرير محال الإجماع فلا يَتَوَسَّعُ الناظرُ في حكايته ، ولا يُضَيِّقُ منه وَيُحَجِّرُ ما اتَّسَعَ في مواضع تثبت على تفصيل في أنواعه وحجية كُلٍّ ، فهو ثالث في الباب ، وهو مما يُنْقَلُ كما الأخبار ، وهو آي بها امتازت الأمة الخاتمة إذ شهادتها في غيرِها العادلة ولا يكون ذلك إلا عن عصمة ، هِيَ وصف المجموع لا الجميع فلا يخرج الحق عن مقالها ولا تجمع على خلافه ، فتلك عصمة إن في إثبات الإجماع فلا يكون إلا على حق ، أو في نَفْيِهِ فَلَا تُجْمِعُ عَلَى مَا خَالَفَ الحق في نفس الأمر بل وَلَا تُجْمِعُ على خلاف الْأَوْلَى . فَلَيْسَتْ تلك الدقائقُ من الفروعِ ما يُذَمُّ طلبُه بعد تحرير الأصول المحكمة ، فمن ملك آلة الاجتهاد والترجيح فهو يتناولها بالنظر والتحقيق ، وَإِنَّمَا ذُمَّ من النظر آخر في مواضع تدق فهي تَقْدَحُ في الشريعة الظاهرة بِمَا يكون من تأويلات باطنة إذ تُبْطِلُ مِنَ الأخبار والأحكام ما قد عُلِمَ ضرورةً ، فلا يكون منها حُجَّة في بَيَانٍ ، إذ قد صَارَ ذَاتِيًّا يَتَفَاوَتُ ، فيكون من الاضطراب والتعارض ما لا تسلم منه العقول المحدَثة إن لم يكن لها رائد من نُبُوَّةٍ مُنَزَّلَةٍ ، فما يحسم هذا التناقض وليس ثم مرجع من خارج يجاوز فكلٌّ قَدْ أُعْجِبَ بِمَا يهوى ويجد ، فـ : (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، وإذا تَقَطَّعَ الأمر زُبُرًا ضاع الحق وبطلت حجة الوحي ، بل قد اقْتَرَحَ بَعْضٌ في جيل قد تأخر أن الحق كثير لا واحد ، ولو في الأصول التي لا يتصور فيها الخلاف ، فكان من دعاوى الجمع بين الأديان والنحل ما أَحْدَثَ من الدِّينِ ما لم يُشْرَعْ ، فالدين المحكم واحد لا يَتَعَدَّدُ ، دين التوحيد الذي بَشَّرَتْ به النبوات كافة ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الشرائع التي جُمِعَتْ زُبْدَتُهَا في الخاتمة المهيمنة فهي لِمَا تَقَدَّمَ ناسخة ، نسخ الحجية والإجزاء الأعم ، وآخر قد تَنَاوَلَ مواضع من الأحكام فهي أخص ، وهي ، أي الشريعة الخاتمة ، هي قَبْلًا المصدِّقة ، فكان منها كفاية تجزئ في الخبر والحكم ، فالحق في الاعتقاد وفي القول وفي العمل ، في الأخبار وفي الأحكام ، وإن الفروعَ التي يسوغ الخلاف فِيهَا ، الحق في كلٍّ واحد لَا يَتَعَدَّدُ ، إِلَّا مَا كان من خلافِ التَّنَوُّعِ ، بَلْ فِيهِ ، لو تدبر الناظر ، تَفَاضُلٌ فهو بين مفضول وفاضل فلا يخلو من وجه يُقَدَّمُ ، وَلَوْ سُلِّمَ جدلا أن الحق لم يَتَعَيَّنْ بَعْدُ فلم تقم بالنبوة حجة ، فَإِنَّهُ ، في كلِّ حَالٍ ، لا يكون إلا واحدا ، ولو من باب : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فلا يكون الاثنان على جادة حق ، بل هو واحد وما سواه باطل ، فلئن أعطى أتباع النبوات الدنية فلا يعطيها الخصم ، ولو كان من دينه بَاطِلٌ يخالف النقل والعقل والفطرة والحس . فَثَمَّ من العلم أول ، كما تقدم ، وثم تال من التصور ، وله من معيار الحسن والقبح ما رُكِزَ في الوجدان ، وهو المجمل الذي يَفْتَقِرُ إلى بيان من خارج ، وثم تصديق أخص فهو حركة في الجنان تُرَجِّحُ ، فيكون منها قبول أخص ، وبها تأويل الإيمان قوة بآخر من الفعل ، فالمبدأ : تصديق يُرَجِّحُ في الجائزِ المحتمل ، ثم يكون تال من محبة وَبُغْضٍ ، وما يصدر عنهما من إرادة الفعل والتَّرْكِ ، وما يكون بَعْدًا من تصديق الأعمال ، ما بطن من حركات الجنان ، وما ظهر من أخرى يعمر بها اللسان والأركان كافة ، وكل أولئك مجموعٌ في بَابِ الإرادات هو المركب ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب المحل القابل والسبب الفاعل والشرط الذي يُسْتَوْفَى والمانع الذي يُنْفَى ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، مما افْتَقَرَ إلى سببٍ يَتَقَدَّمُ ، فيكون من التسلسل في المؤثرين أَزَلًا مَا استوجب الحسم ، فلا بد من أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وعنه العلة التامة تصدر فلا تَفْتَقِرُ إلى مُتَمِّمٍ من خارج كما سَائِرُ الْعِلَلِ ، فَكُلُّهَا حادث ، فالعلة الأولى التامة لَا تَفْتَقِرُ إلى غَيْرٍ ، بل كلُّ سَبَبٍ إليها يَفْتَقِرُ أَنْ تُودِعَ فيه قوة التأثير وَأَنْ تُهَيِّئَ له من المحل ما يقبل آثاره ، فتلك كلمة التكوين النافذة التي استغرقت المحال بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ ، والأسباب بما ركز فيها من قوى تُؤَثِّرُ ، ولها في القسمة شطر يكمل ، فجنس الكلمات مما تتقاسمه في الخارج : الكونيات التي تُوجِدُ وَتُدَبِّرُ ، وأخرى من الشرعيات فهي تحكم ، فيكون منها ما به الخبرُ يَصْدُقُ ، وما به الحكم يَعْدِلُ ، فيكون من ذلك تكليف التصديق الأول وما تلا من أعمال الإيمان المجزئ ، إن باطنا والمبدأ فيه الحب والبغض ، وهما ملزومان لما تلا من لَازِمٍ هو إرادة الفعل ، وهي المرجِّح إِنْ في أعمال الباطن أو أخرى من الظاهر تصدق ، والمبدأ ، أبدا ، الجنان ، فهو المحل الأشرف ، وله من الماهية ما يلطف ، فالخمر ، كما تقدم في مواضع ، لا تَنَالُهُ ، وإنما تَنَالُ مَرَاكِزَ الحسِّ من الدماغ ، وذلك ما يواطئ قانون الحكمة في التأثير والقبول ، فالمؤثر المحسوس يَنَالُ من المحل المحسوس ، كما أن الكفر ، وهو مما يُعْقَلُ ، يَنَالُ من الجنان وهو محل التَّعَقُّلِ ، فالدماغ محل الإحساس لا العقل ، وإن كان له من ذلك رُتْبَةٌ أَعْلَى ، فهو في الأعضاء سيد فكل يصدر عن أمره بما يكون من نَبْضٍ وإفراز ، وهو ما يواطئ المحال القابلة في الأعضاء ، فإنها تَتَأَثَّرُ بما يكون من سبب يؤثر ، وذلك قياس الحكمة في الباب ، إذ لكلِّ مُؤَثِّرٍ من المحل ما يَقْبَلُ ، وله من الأثر ما يحكي الحكمة في التأثير ، إذ يَتَأَوَّلُ من كلٍّ القوَى المركوزة ، فَيَتَأَوَّلُ من المحل قوى بها يباشر السبب ويعالجه فيكون من الآثار ما ينصح أو آخر يغش ، فإن في الدماغ قوى يُنْعِشُهَا وَارِدُ الصحة بما يكون من مطعومٍ طَيِّبٍ يزيد في الدماغ بما يكون من مادة تنفع ، فَقِيلَ في اللحم أَنَّهُ مما يزيد في العقل ، وَقِيلَ في الزبيب أنه يزيد في الذَّاكِرَةِ ، فَثَمَّ من المحسوس ما يرصد بما يكون من بحث وتجريب معتبر ، فَثَمَّ مِنَ اللحم والزبيب مادَّةٌ تَسْتَخْلِصُهَا آلة الهضم ، فهي تَسْرِي في دماءٍ تَبْلُغُ الدماغَ الذي يُعَالِجُهَا بما ركز فيه من قوى تدرك بالحس ، فيكون من الأثر النافع بما ركز في الطيبات من قوى تنفع وتزيد في المحال ، وكذا يقال في رضاع الصغير إذ يكون من لبن أمه ما يَنْصَحُ الدماغ خاصة ، والبدن عامة ، وذلك ، أيضا ، مما يقاس ويدرك بالحس ، فكان له من مِعْيَارِ التَّجْرِيبِ ما أُحْكِمَ ، فَثَمَّ محل قد رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ بِهَا يَقْبَلُ السبب ويعالجه ويكون من حياة الحس ما يَزِيدُ وَيَنْمُو ، فَثَمَّ قوة نماءٍ تطلب سبب الإنماء ، فيكون من آخر في الخارج ما رُكِزَتْ فِيهِ قوى تَرْفِدُ المحل ، فالسبب يرفد المحل فيكون من المسبَّب ما يحدث ، إذ واطأ السبب محلا يقبل بما ركز فيه من قوى تَقْبَلُ وهي تعالج السبب كما السبب يُؤَثِّرُ فيها ، فيكون من ذلك ما يواطئ العلة والحكم ، فالعلة تؤثر والحكم أَثَرٌ لها يثبت ، فإذا وُجِدَتْ وُجِدَ الحكم ، وإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ الحكم ، كما تقدم من مثال الخمر فإنها إذا انقلبت خَلًّا فقد زال السبب الجالب للتحريم ، عَلَى تَفْصِيلٍ في الحكم إذ اشترط لها ألا يعالجها أحد قصدا وإنما يكون من ذلك ما اصطلح في الكيمياء أنه التَّأَكْسُدُ إِذَا عُرِّضَتْ للهواء ، فَإِذَا بَاشَرَهَا الهواء أضاف إليها من العنصر ما به تَتَأَكْسَدُ فَتَصِيرُ خَلًّا يباح إذ زال سبب التحريم وهو ما تقدم من الإسكار على قول من يجري القياس في الشرع ، أو هو التخمير ، ودلالته في المعجم المفرد : تَغْطِيَةٌ ، فالخمر تخامر الدماغ فَتُغَطِّيهِ وتحجب منه معادن الصحة ، فَيَصِيرُ إلى غيبوبة تُفْسِدُ الدين والمروءة وتمرض البدنَ ، فذلك السبب الجالب للتحريم وهو ما واطأ مَقْصدا رَئِيسًا من مقاصد الوحي ، وهو حفظ العقل ، إذ لا يحفظ إلا أن تحفظ أداته التي عنه تُتَرْجِمُ المشاعر والإرادات ، فكان من تحريم الخمر ما يحفظ العقل ، إذ يحفظ التحريم الدماغ مما يخامرها من مادة تُسْكِرُ وَتُغْلِقُ ، فلا يحسن صاحبها يميز الأعيان والأحوال في الخارج ، فالسنة قد اطردت ، إِنْ فِي أسبابٍ تَنْفَعُ ، وكذا في أخرى تضر ، ففيها من القوى ما يفسد المحل ، كالخمر إذا خامرت قوى الحس في الدماغ فأفسدتها ، فيكون من الخلل والاضطراب ما تظهر آثاره في حركات الأعضاء ، كما الإيمان فهو سبب به الجنان يصلح فيكون من آثاره في القول والعمل ما يَحْسُنُ ، وكما الكفران فهو سبب به الجنان يفسد فيكون من آثاره في القول والعمل ما يقبح ، فالحكم مما اطرد وَانْعَكَسَ إِنْ في الجنان المعقول أو في آخر من الدماغ هو المحسوس . وكل أولئك مما أحكم ميزانه ، فكان من آي الوحي محل اعتبار إن في الخبر أو في الحكم ، فذلك قياس طرد وعكس كما أخبار النبوات وما جرى عليها وعلى أَقْوَامِهَا من السَّنَنِ المحكَمِ ، إنجاء لمن آمن وإهلاكا لمن كفر ، فَدَارَ الحكم مع العلة ، إِنْ في الوجود أو فِي العدم ، فتلك سنة محكمة لا تَتَبَدَّلُ ، وآيها في الكتاب والخبر قد تَعَدَّدَ ، فبلغ حد التواتر الذي يفيد علما في الباب يجزم ، وذلك حق الكتاب الأول في أخباره ، وَمِيزَانٌ منه قد عَدَلَ فِي أحكامِه ، كما في آي من التَّنْزِيلِ المصدَّق ، فـ : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، وذلك مما تَعَدَّى بلا تَضْعِيفٍ فَتِلْكَ مادة "أَنْزَلَ" التي تعدت بالهمز فأفادت النُّزُولَ جُمْلَةً ، فلم يكن ثم دلالة التَّكْرِيرِ ، فَتِلْكَ دلالةُ أخرى هي مادة التنزيل التي اشتقت من العامل المضعف "نَزَّلَ" ، كما في آي من الذكر المحكم ، فـ : (قُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) ، وَالْفَرْقُ مَئِنَّةُ التِّكْرَارِ نجومًا قد امْتَازَتْ ، فحصل من ذلك آحاد تُنَاطُ بالمشيئة ، وهو ما يرفد القول إِنَّ الكلام وصف الذات بالنظر في نوعه القديم ، وإن كان من آحاده في الخارج ما يَحْدُثُ ، فَهُوَ تأويل له يَنْصَحُ إذ يناط بمشيئة في الفعل تَنْفُذُ ، فالكلام وصف فعل من هذا الوجه ، وهو ، من آخر ، وصف الذات الأول إذ يَقُومُ بِهَا معنى تَتَمَايَزُ آحاده ، فليس بداهة المعنى الواحد ، وإلا اسْتَوَى الخبرُ والإنشاءُ ، الأمرُ والنهيُ ، وهو ما يُبْطِلُ دلالة الألفاظ وهي الحدود المنطوقة والمكتوبة ، فَيَصِيرُ الأمر أَنِ : اقْعُدْ يماثل في الدلالة : لا تقم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، لازِمُه لا عينه ، إذ لكلٍّ من الحد في النطق والنحو ، لكلٍّ من الحد ما يميز وإن كان ثم التلازم ، فهو باب ، والتماثل آخر ، فلا يستويان ، إذ الأمر بالشيء ، كما يقول أهل الشأن ، يَسْتَلْزِمُ النهي عن ضده ، فليس عينه ، وإلا بطل قانون النطق ، فاختلاف المباني لا يحكي آخر من اختلاف المعاني ، فلا يكون ثم مدلول يزيد في ألفاظ تختلف في الحدود الصوتية والصرفية والمعجمية ، مع آخر يزيد في الجناية إذ يُفْضِي إلى تعطيل الدلالات اللسانية كافة ، فيصير الخبر كالإنشاء ، والأمر كالنهي .... إلخ ، بل وتصير النصوص الدينية كُلُّهَا ذات معنى واحد ، التوراة والإنجيل والقرآن ، تَصِيرُ معنى واحدا يقوم بالذات ، وإنما ظهر من الحرف المحدَث ما يدل على هذا المعنى الأول ، وهو واحد لا يتعدد ! ، فَالْتَزَمَ بَعْضٌ أَنَّ الحرف الحاكي لِهَذَا المعنى ، أن هذا الحرف مخلوق ، وَفَرَّ ، من وجه آخر ، من جناية القول بخلق القرآن أَنِ اسْتَثْنَى المعنى الذي يقوم بالنفس ، فليس بالمخلوق ، وهو ما أُلْزِمَ به صاحب هذا القول أَنْ يُوَاطِئَ المثلِّثَة في مقال الأقنوم إذ هو المخلوق المحدَث الذي تَجَسَّدَ فيه الوصف الأول ، فهو غير محدَث ، إذ الحياة أو الكلمة ، وهي أوصاف قديمة غير محدَثة ، قد تجسدت في أَقَانِيمَ مخلوقة محدَثة ، فكذا القول إن الألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة ، فذلك مما يُصَيِّرُ الحرف المنطوق أو المكتوب حكاية الكلام أو عبارة الكلام ، فَلَيْسَ عَيْنَ الكلام ، وهو ، لو تدبر الناظر ، شطر منطوق أو آخر مكتوب ، وكلاهما دليل المعنى الذي يقوم بالنفس وَإِنْ قَاسَمَهُ في الحد ، حَدِّ الكلام إذ هو اللفظ والمعنى ، سواء أكان اللفظ منطوقا أم مكتوبا ، فاللفظ شطر من الحقيقة ، حقيقة الكلام المفهِم ، وإن كان الدليل على المعنى ، وهو المراد الأول ، فالكلام لا يُرَادُ صوتا مجردا لا مدلول له قد استقر في المعجم ، فذلك عهد خاص قد أَكْسَبَ تَرَاكِيبَ تَأْتَلِفُ مِنْ نَظْمِ الحروف في سلك الكلمات المنطوقة والمكتوبة ، قَدْ أَكْسَبَهَا العهد الأخص ، وهو ما تَنَاوَلَ جنسَ المعنى الذي يجرده الذهن ، كما يَتَنَاوَلُ درس المعجم مادة الباء والحاء والراء : "بحر" ، فهي تحكي ما وسع ، فكان من ذلك ما يواطئ "رحب" ، و "حبر" ، فهو ذو العلم الواسع ، فَدَارَتِ المادة فِي صورها كَافَّةً ، على معنى "وسع" ، وثم قيد الاستعمال ، وهو آخر يستصحب ، إذ مناط الأمر ، كما تقدم ، توقيف ينال من أصول أولى تُؤْثَرُ ، إن نَظْمًا أو نَثْرًا ، فهي الأصل الحاكم في الأصوات المركبة ، فَمَا حُكِمَ بِاسْتِعْمَالِهِ أَنْ كَانَ ذَلِكَ من المأثور فِي الكلام الأول ، مناطِ الاحتجاجِ المحكم ، فما حكم باستعماله فهو المعتبر ، وما حكم بإهماله فهو المهمل ، فليست صور الألفاظ جميعا تستعمل ، فَثَمَّ ، من هذا الوجه ، صور تَتَعَدَّدُ بما يكون من تَغْيِيرٍ فِي بِنْيَةِ الكلمة تقديمًا وتأخيرًا في الحروف ، فتلك صور تَحْتَمِلُ : الاستعمال أو الإهمال ، فَتَجْرِي ، من هذا الوجه ، مَجْرَى الجائِزِ المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بِلَا مرجِّح ، فكان من الأصول الأولى ، المنظومة والمنثورة ، كان منها أصل أول ، وهو في الحكم بالاستعمال أو الإهمال يُرَجِّحُ ، فيرجح استعمال بعض ، وإهمال آخر ، وإن كانت الحروف واحدة وإنما اختلف نظمها ، وتلك آية في الباب تشهد إذ حصل من اختلاف المبنى وهو العلة ، حصل منه اختلاف في المعنى ، وهو الحكم ، إذ الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، فثم أول إذ حصل من هذا الاختلاف في النظم ، نظم الحروف في الكلمة الواحدة ، حصل منه استعمال بعض وإهمال آخر ، ثم كان مناط أخص إذ حصل من اختلاف المستعمل في الحد بما يكون من تغاير في النظم بالتقديم والتأخير ، حصل من ذلك حكم وهو اختلاف المعنى ، وإن كان ثم معنى أعم يدور عليه الباب كما مادة الخاء والراء مثالا آخر ، فَثَمَّ مادة "رَخَّ" وهي تحكي الكثرة ، كثرة الماء كما في قول القائل : رَخَّ العجين إذا كَثُرَ ماؤه ، وقد تحكي آخر يَقْرِنُ الكثرة بِمَا يكون من التَّنَزُّلِ الشَّدِيدِ ، كما يقال : رَخَّ المطر ، فحصل بالإسناد ، ولو في المادة الواحدة ، حصل اختلاف في المعنى ، ولو الفرع ، فَثَمَّ المشترك الدلالي الذي يجرده الذهن ، وهو جنس المعنى ، معنى الكثرة ، وَثَمَّ امْتِيَازٌ قَدِ اخْتُصَّ بِهِ المطرُ إذ كان من المعنى الزائد : التَّنَزُّلُ مِنْ أَعْلَى ، وهو ما لا يكون ، بداهة ، في ماء العجين إذ يُعْجَنُ ، فإذا اختلف الترتيب في "خَرَّ" لم يخرج عن المعنى الكلي الجامع فَخَرَّ الماء إذا تَنَزَّلَ من عال إلى سافل ، وكان من ذلك شديد ينهمر ، فالأصول الأولى من النظم والنثر تميز المستعمل من المهمل ، من وجه ، وتميز في المستعمل وُجُوهًا من المعنى ، فَلِكُلِّ مادة استعمال أخص ، وإن كان ثم أول أعم ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كلامٍ إلى صدر ، فَثَمَّ من اختلاف المبنى ما يدل على آخر من المعنى ، فهو قسيمه في الحد ، حَدِّ الكلام لدى أرباب النحو ، فلئن كان المظهِر لما بطن من المعنى وهو الأول الذي يُرَادُ لِذَاتِهِ ، فلئن كان اللفظ مظهِرا له ، إلا أَنَّهُ ، من وجه آخر ، قَسِيمُهُ في الحد ، فالكلام هو المعنى الذي يقوم بالنفس ، والمعنى الذي يظهره النطق والكتب ، المعنى إذ يختلف فليس واحدا يقوم بذات المتكلم ، فمنه الخبر والإنشاء ، وَمِنْ آحادِ كُلٍّ ما لَا يُحْصَى ، فَكَذَا اللَّفْظُ الَّذِي يحكيه في الخارجِ ، إِنْ بِالنُّطْقِ أَوْ بِالْكَتْبِ ، فاختلافه في الخارج حكاية آخر في الباطن ، فذلك اختلاف المعنى ، وَإِنْ دَقَّ ، فيكون من الاشتراك في المعنَى الكليِّ الجامعِ ، يكون من ذلك جنس عام يجرده الذهن ، وله في الخارج آحاد أخص بما يكون من قيد يزيد ، إن باختلاف المادة تقديما وتأخيرا ، كما في "خَرَّ" و "رَخَّ" ، أو بالإسناد ، كما في : رَخَّ العجين ، وَرَخَّ الماء ، فتعددت المعاني التي تقوم بالنفس ، ولو في مادة معجمية واحدة ، على التفصيل آنف الذكر . والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
![]() وذلك المدلول الضروري الذي يَثْبُتُ لَدَى كُلِّ عاقلٍ ، فالأحاسيس والمشاعر والدوافع والبواعث وما يكون من تصديقات أولى بجمل من الاعتقادات والأخبار ، وما يصدر عنها من حركات في الجنان تَالِيَةٍ ، وهي ، كما تقدم في مواضع عدة ، أصل في كل حركة في الخارج ، وبها الإرادات تَتَمَايَزُ وَعَنْهَا تصدر ، فالحب مادة الفعل ، والبغض مادة التَّرْكِ ، فيكون من إرادةِ كلٍّ أَوَّلٌ في الجنان ، وهو يُصَدِّقُ مَا كان أولا من التصور الذي يُنَالُ أولا بمرجع العلم ، إِنِ المحسوسَ أو آخر يجاوز بما يكون من خَبَرٍ من خارج ، فهو يرفد المحل بما يغيب عن مدارك الحس ، إذ العلم منه شهادة تُدْرَكُ بالحسِّ بما يكون من غرائز قد رُكِزَتْ فِي الجسد ، فهي تعالج أسباب اللذة والألم في الخارج ، وهو ما يَسْتَوِي فيه جنس الحيوان كافة ، بل قد يكون للأعجم منه ما ليس لعاقل ينطق ، فَحَاسَّةُ الشم لدى الكلب أقوى منها لدى الإنسان ، فهو يدرك من المحسوس الذي يُشَمُّ ، يدرك منه ما لا يدرك العاقل الناطق ، فامتاز بآخر ، في المقابل ، وهو علم الغيب ، وذلك في الوصف أَشْرَفُ ، وهو مناط التكليف بالوحي الذي بِهِ فُضِّلَ الإنسانُ وَكُرِّمَ ، وإن أَبَى في الجيل المتأخر إلا أن يَنْحَطَّ إلى دركة سُفْلَى ، فَسَلَكَ جَادَّةَ الحيوانِ الأعجم ، حقيقة لا مجازا ، فَأَكَلَ أَكْلَهُ وَمَشَى مشيته ، وانحط بالتقويم الأحسن أن يمشي على أربع ، فجحد المنة الربانية في خلق تقدير وإيجاد على هيئة باطن وظاهر هي الكاملة ، وبها يناط التكليف بالشرعة النازلة ، تصديقا وامتثالا ، لا يطيقه من الخلق إلا الجنس المكلف من الجن والإنس ، وقد نهض الأول به ، فكان من الجن ما تقدم ، وكان منهم إفساد يعظم ، فاستبدل بهم آدم ، عليه السلام ، ومن خرج من ذريته ، حكمة في الابتلاء لكلٍّ ، الجن والإنس ، فقد تقدم بكلٍّ العلم المحيط ، وكان من الحكمة البالغة في الابتلاء ما به تأويل العلم الأول بما كان بعدا من الإيجاد والتدبير ، ومنه التيسير ، تيسير لكلٍّ لما له قد خُلِقَ ، مع إرادة بها يختار ، وتصور أول به تعليل ، وهو ما يحكي معيار التحسين والقبيح ، ولا بد له من مرجع ودليل ، فإذ عدل الخلق عن مَرْجِعِ الوحي المنزل فَلَمْ يكن ثَمَّ إلا الوضع المحدَث الذي ضَلَّ به من كفر ، فكان من الوصف أنهم أنعام بل هم أضل ، فـ : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) ، فكان من القصر ما حُدَّ بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، مع إضراب انْتِقَالٍ إلى أعلى من وصف يقبح ، وذلك آكد في الذم ، فهم كالأنعام إذ تتمتع وتأكل ، فـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ، فكان من عام هو التَّمَتُّعُ ، وَخَاصٍّ بعده قد أطنب إذ نص على الأكل وكان من التشبيه بالأنعام ما يقبح ، وهو آكد في الذم ، إن بالإطناب في المبنى حكاية آخر في المعنى ، أو بالنص على شهوة البطن خاصة ، وهي مناط تقبيح وذم إذ بها الانحطاط إلى دَرَكَةِ غريزة لا تطلب إلا الشبع من مادة سفلى من الأرض ، فلم يكن من همة النفس أن تعالج أخرى من الوحي المنزل فيحصل لها من شبع الروح ما يحمد ، مع مآل آخر يفدح فتلك النارى مثوى ، فكان من النكاية ما استغرق وصفهم في الأولى ومآلهم في الآخرة ، فقد ضاهوا الأنعام ، ووحدها ، كما يقول أهل الشأن ، ما يحمد بكثرة الأكل ! ، فَثَمَّ من الخلق إذ عدلوا عن الجادة وَصَيَّرُوا اللذة غاية تُقْصَدُ ، فهي منتهى السؤل ، وذلك انحطاط في الوصف ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجري مجرى الخاص الذي يراد به عام يستغرق أوصاف الحيوان كافة ، فيأكلون ويشربون وينكحون كما الأنعام ، بل ويمشون مشيتها ! في جيل قد عمت به البلوى أن خفيت معالم النبوة ، فكانت منهم حكاية الحيوان في الباطن والظاهر ، وإن كان لهم من الهيئة في الخارج صورة بني آدم ، وكان لهم من العقل ما يناط به التكليف فالحجة فيهم قائمة ، وإن ضاهوا الحيوان ، فلم يكن ذلك ليرفع التكليف ، بل هو ثابت فمناطه عقل يدرك الحجة ، وإن خُذِلَ فلم يصدق ويمتثل ، فكان من ذلك ما لا واسطة فيه ، فَإِمَّا درجة الإنسان المكلف ، وإما دركة الحيوان الأعجم ، وهو ما يصدق ما قال بَعْضٌ من فلاسفة الحداثة في الجيل المتأخر ، فكان من مقاله موت الإنسان بعد موت الإله قبلا ، فقد خلفه الإنسان إلها في الأرض يحكم بما يهوى ويجد فقد جحد المرجع المجاوز من خارج ، ثم لم يلبث أَنِ اسْتُدْرِجَ بخطوت شيطان يمكر ، فكان من موته ما أتى على أصله بالإبطال ! ، فَثَمَّ ما بعد الحداثة من خَلْقٍ قد كُرِّمَ وَشُرِّفَ فهو يروم الانحطاط إلى دركة الحيوان الأعجم مع ما اعتقد أن الأصل واحد ، والنسبة تتقارب ! ، فليس ثم خلق تكريم يمتاز من غير ، وهو ما أُنِيطَ به التكليف بالوحيِ ، فَاسْتُبْدِلَ آخر به ، وهو مضاهاة الحيوان في المظهَر والمسلَك ! ، وصار ذلك مما يُعَلَّمُ وَيُبْذَلُ له عوض من المال والوقت ! ، مع أول قد سوى في الأصل والنشأة ، أو قد قَارَبَ في النسبة ، فَثَمَّ أصل واحد ، وإن لم يخرج الخلف من السلف الخروجَ المباشر ، وإذا سأل العاقل فَطَلَبَ دليلا واحدا يشهد ، فَمَنْ شهد ذلك ؟ ، وهل له نَظِيرٌ فِي الشِّهَادَةِ يَتَكَرَّرُ فَيُدْرَكُ بالحس الذي يرصد ، وهو عمدة أولئك في الإثبات ، فَلَا يُثْبِتُونَ إِلَّا مَا تَنَالُهُ مدارِكهم في عالم الشهادة ، وما جاوزها فهو عدم ! ، تحكما لا يخلو من عُجْبٍ بالرأي وَتَبَجُّحٍ في القول ، أن صار العقل والحس المحدَث نهايةَ الاستدلال المحكَم ، كما إنسان الحداثة المتأخر قد بَلَغَ سقف الحضارة فهو نهاية بها ختم التاريخ حتميَّةً لَا تُنْقَضُ ، إذ يَسْلُكُ الوجود جَادَّةَ التَّطَوُّرِ جَبْرًا ، فلا إرادة بها اختيار ، وإنما حتمية لا يتخلف منها شيء ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما نَقَضَهُ التجريب والرصد الذي يَتَبَجَّحُ به القوم ، فكان من العجب والتبجح ما ائتلف ، فإنسانٌ أخيرٌ لا إنسان بعده فكما كان الخلق الأول خبط عشواء فَلَمْ يكن ثَمَّ علم ولا قدرة ، فليس إلا الترجيح بلا مرجِّح أَنْ كان الخلق بلا خالق ، أو ثم من قانون الرياضة مَا يُجَوِّزُ حصوله من العدم أو أنه قد خلق نفسه بما رُكِزَ فيه من قانون محكَم ، فهو يحكي ما يكون من حَوَادِثِهِ أَنْ يَرُدَّهَا إلى أسباب تُؤَثِّرُ ، فإذا الأسباب تصنع بِنَفْسِهَا فلا مسبِّب لها ! ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، هو ما لا يرضاه الإنسان من فعله أَنْ يَقُولَ : إِنَّ السنة أَنَّ الطعام يُشْبِعُ بما ركز فيه من قوة الإشباع ، وما ركز في الآلات من قوى تهضم ، فذلك يغني عن فعل الطاعم أن يَطْعَمَ ! ، فكذا سنة الخلق تُغْنِي عن فعل الخالق الذي يخلق ! ، فكما كان التحكم في المبدإ : ترجيحا بلا مرجح مع جادة تطور تسلكها الكائنات جبرا ، وهو ما يخالف عن الخبط الأول ، فكيف يكون جَبْرٌ على جادة ، مع عشواء لا تَنْتَظِمُ ؟! ، وإنما هو الكذب الذي يفتقر إلى كذب ، فَتَهَافُتُ القولِ يلجئ صاحبه أَنْ يَلْتَزِمَ من اللَّوَازِمِ ما لا يُعْقَلُ ، فكما كان هذا التحكم في المبدإ : مبدإ الخبط ، كان التحكم في المنتهى أَنْ كان الإنسان الأخير ترجيحا آخر بلا مرجح فما حال دون تطور إلى إنسان آخر يجاوز التاريخ ؟! ، وإنما يضع التاريخَ المنتصرُ الذي اغْتَرَّ بقوة ولم يكن ثم رَائِدٌ يَنْصَحُ من وحي أو شرعة ، فكان من حاله حالُ الأوَّلِ إذ تَبَجَّحَ فقال : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فكان التحكم في المبدإ والمنتهى إِنْ صح هذا القول ، بادي الرأي ، مما يصدق به عقل ! ، فَبَدَأَ الخلقُ بِلَا مرجِّح وَانْتَهَى بلا مرجِّح ، وكان لهذا الإنسان من الاستدلال آخر لا يخلو من تحكم إذ قَصَرَ مدارك العلم المعتبر على ما يَنَالُ بالحسِّ المحدَث دون آخر يجاوز من خارج ، فَصَيَّرَ جهله دليلا على العالم الذي نال من المعارف ما لم ينل ، ومن علم ، كما يقول أهل الشأن ، حُجَّةٌ على من جهل ، وليس عدم وجدان الشيء بالحس يستلزم عدم وجوده في نفس الأمر إلا اغترارا بالعقل والحسِّ المحدَث أنه سقف الاستدلال المحكم ، فهو ينكر ما جَاوَزَ مِنْ خَارِجٍ ، فَجُرِّدَ من خاصته الأشرف ، أنه مناط التكليف بما جاوز الحس ، وبه امتاز من الحيوان الأعجم ، فَقُوَّةُ العقلِ الكامل خاصَّةٌ أولى بها التقويم الأحسن ، وكذا قوة اللسان الناطق ، وإن لم يكن من تأويله في المبدإ ما يصرح ، فهو المتكلم بالقوة بما ركز في وجدانه من قوة التعقل وتصور المعاني واستجماع المعجم الدلالي من خارج بل وَنَحْوِ الكلام الناظم ، كما يَنْقِلُ بَعْضُ من حَقَّقَ مِنْ دَرْسِ العلمِ المحدَث ، فلا تمر سَنَةٌ من عُمْرِ مولودٍ بل أقل ، إلا وقد استجمع قانون النحو قُوَّةً في الباطن فَلَمَّا يَكْمُلِ العقل والنطق بَعْدًا ، فَيَصِيرَ المتكلِّم بالفعل بما عقل من المعاني وجمع من المباني ، فعنده ، كما يقول أهل الشأن ، خاصة التجريد بما استجمع من مادة المعجم وقانون النطق ، وَلَمَّا تَكْمُلْ فيه بَعْدُ خاصة التوليد ، أَنْ يَتَأَوَّلَ معجم الدلالات ونحو الكلمات فَيَنْظِمَ من الجمل ما به يصير المتكلم بالفعل تأولا لما كان أولا من قوة النطق ، فالتوليد تأويل التجريد ، والفعل في الخارج مبنى تأويل لقوة في الباطن هي المعنى ، وبهما جميعا ائْتَلَفَ حَدُّ الكلام المفهم ، فهو المبنى والمعنى ، فليس المعنى المجرد في الوجدان ، دون آخر يُوَلِّدُ من الكلمات ما يُفْصِحُ عَمَّا اسْتَكَنَّ في وجدان المتكلِّم ، فَلَئِنْ حُبِسَ فلم ينطق ، فَلَمَّا تكتملْ فيه بعد آلة بها يتكلم ، وهي مجموع مركب من مراكز في الدماغ ليست المنشأ : منشأ التجريد فذلك عمل العقل ، وهو غَرِيزَةٌ أدق إذ مَنَاطُهَا روحٌ تَلْطُفُ ، فهي تجاوز الدماغ المحسوس ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، رَائِدُ الأعضاءِ إذ تَصْدُرُ عن نَبْضِهِ وإفرازِه ، ولكنه ، من آخر ، ليس الرائد الأول ، فذلك العقل وهو الألطف ، فيكون من وجدانه حبا أو بغضا ..... إلخ ، وتلك معان تقوم بالنفس فلا تدرك في الخارج بالحس ، خلافا لمقال الحكمة الأولى ، وقد تَقَدَّمَ مِرَارًا ، إذ جَوَّزَتْ حصول المطلقات المجردة في الذهن ، جَوَّزَتْ حصولها في الخارج مطلقةً بشرط الإطلاق دون ذات تقوم بها قيام الوصف بالموصوف ، فحصل من تلك المواجيد النفسانية أول يقوم بالجنان ، وهو ، كما تقدم ، محلُّ العقلِ لا الدماغ ، فالدماغ تال إذ يَتَأَوَّلُ مَا يَقُومُ بالعقلِ أولا من المشاعر والمواجيد ، فَتَأْوِيلُهَا تال ، كما تأويل التجريد بالتوليد ، تجريد المعاني بتوليد المباني ، فيكون من المواجيد الباطنة وهي معانٍ تَتَغَايَرُ بداهة من حب وبغض .... إلخ ، فليست واحدة تقوم بالنفس ، فما اختلاف آثارها في الخارج من المنطوق الحادث إلا حكاية أول من المعقول السابق ، فهو أول في النفس والنطق تال في المحل إذ يُبِينُ عنه ويظهر بما يكون من قوة النطق التي ركزت في الناطق ، وإن كانت أولا مما أجمل ، فهو ناطق بالقوة ، وهي من تقدير أول هو المحكم ، ومن تال في الخارج ماهيةً تُصَدِّقُ بما اطرد مِنْ سَنَنِ الخلق المتقن ، وَبِهِ امْتَازَ من غَيْرٍ من جنس الحيوان وَفُضِّلَ ، فكان من تقويمه الأحسن ، أول في النفس إذ تُدْرِكُ من المعاني وَتُجَرِّدُ ما يجاوز مدارك الحس من لذة وألم ... إلخ ، فذلك ما استوت فيه الأنواع كافة ، فمن قصر المعنى على ذلك فلم يجاوز به فيكون من الغيب الذي لا يدرك بالحس ، يكون به مَنَاطُ امْتِيَازٍ أخص ، من قصر المعنى على المحسوس فقد نال من التقويم الأحسن ، تقويم العقل الناصح الذي يُجَرِّدُ المعاني ، مع آخر في الحس يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ تقويم أحسن في الدماغ وما احتمله من مراكز الحس ، ومنها مركز الكلام الذي يحكي أولا لدى الميلاد : قُوَّةً قد أُجْمِلَتْ فَلَمَّا تَكْتَمِلْ بَعْدُ فيكون من تَأْوِيلِهَا تَالٍ في نطق أخص ، فَيُوَلِّدُ من الألفاظ بِجِهَازِ نُطْقٍ يَكْمُلُ ، يُوَلِّدُ منها ما يحكي آخر من التقويم الأحسن ، فَثَمَّ توليدُ معانٍ في الجنان وهو قوة أولى تحصل مبدأ الميلاد عاما أو أقل ، كما تقدم ، وثم توليد مبان تجري على اللسان إذ اكتمل جهاز النطق من لسان ولهاة وأحبال مع ما تقدم من مركز نطق في الدماغ ، هو رائد في الحس ، فعنه الأعضاء تصدر بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، وهو ، في نفسه ، لا ينفك يطلب رائدا من خارج ، رائد العقل الذي يجرد المعاني أولا قبل أن يُوَلِّدَ اللسان المباني تاليا ، مع دلالات تجتمع ، المعجم الأول بما يكون من تجريد المادة ، وميزان صرف ذات دلالة مخصوصة من صوت يحكي وجوها من المعنى أخص ، كما اسم الفاعل والمفعول ..... إلخ ، وثالث من النحو المركب أولا ، ورابع هو في الاستدلال ألطف بما تَنَاوَلَ من مَعَانٍ ثانوية لا يُفَتِّشُ فِيهَا مُسْتَدِلٌّ إلا أن يستوفي المعنى الأولي في النحو ، فلا يفتش بداهة في فَرْعٍ لَمَّا يَثْبُتْ أصله ، ولا يكون من لطف الفرع تَأْوِيلٌ يَبْطُنُ ، فهو يأتي بالإبطال على أصل المعنى الأول ، كما كانت جناية الباطنية في جيل قد تَقَدَّمَ ، والحداثة في آخر قد تأخر ، فلم يخرج عن جادة الأول ، وإن كَسَى المذهب لحاء جديدا ، فالمعنى واحد وإن اختلفت المباني ، فلا جديد في باب التأويل ، بل لا تجحد الحداثة ذلك فهي تُعَظِّمُ من المتقدِّمين من سلك جادتها فكان السلف ، وإن كانت تجحد الرجوع إلى أول ، فذلك مئنة رجوع وتخلف ! ، فَرَجَعَتْ وتخلفت أن اختارت من مذاهب تقدمت ما اتخذته سلفا في تأويلاتها التي تنقض أصول الاستدلال ، ولو معجَمَ اللسان المفرد ، فكان من ذلك سفسطة تُنْكِرُ العلم الضروري المستقر في وجدان أي ناطق ، وهو ، كما تقدم ، ما عمت به بلوى في جيل قد تأخر أن صار هذا الضروري الذي كان في جيل تَقَدَّمَ : مقدماتٍ لا يخالف فيها عاقل ، أن صار هذا الضروري محل خلافٍ وَنَظَرٍ بل قد استحدث له من المعنى ما ينقض أصول الدلالة الأولى التي استقرت في المعجم والصرف والنحو والبيان ...... إلخ ، فلا يسلم له هذا المذهب إلا أَنْ يُزْرِيَ بِمَا تَقَدَّمَ من مأثورِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فَيُشَكِّكَ في نقله ، فهو المنحول ، أو يُقَبِّحَ من نظمه في النحو أن صار عسرا يستعصي على الفهم ، فكان من دعوى التجديد ما تَذَرَّعَ بالتبسيط وَإِنْ أَفْضَى إلى التسطيح الذي يَنْتَهِي بصاحبه إلى جهل مطبق بما تقدم من قانون اللسان الأول ، فلا يفقه صاحبه بداهة يقرأ آيةَ تَنْزِيلٍ أو بَيْتًا منظوما أو كَلِمًا مَنْثُورًا ، فكيف بما تلا من تفسير ؟! ، فلا يفقه منها لا المبنى ولا المعنى ، فَتَصِيرُ الكلمات والجمل أوعيةً شاغرةً إذ لا معان ناصحة تشغلها ، فَلَيْسَ إلا الأماني تلاوةَ نُطْقٍ دون أخرى من الفقه وما تلا من تأويل في القول والفعل ، فإذا شغرت فليست تحكي المعاني المفهمة ، وَكُلٌّ يَشْغَلُهَا بما يُوَاطِئُ معياره فِي التصور والحكم ، ولو تَعَسَّفَ في الاستدلال وتحكم بما تَقَدَّمَ من عُجْبٍ بالرأي أن صار العقل المحدث هو السقف فما جاوزه من خبر الغيب فهو عدم ! ، وإن كان الجائز بل ومنه الواجب ضرورةً في معيار العقل الذي تَنْتَحِلُهُ الحداثة ، فمنه : واجب الوجود الأول ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، حتم لازم وإلا ما كان هذا الوجود الحادث مع ما أبان عنه درس التجريب والبحث الذي يتبجح به الخصم ، مع ما أبان عنه من إتقان وحكمة ، فلا تكون ، بداهة ، خبط عشواء ، فيكون منها تقويم هو الأحسن ، قد استغرق الآفاق والأنفس ، فكان منه تقويم أحسن في العقل الذي يجرد المعاني ، وآخر من الدماغ وجهاز النطق الذي يولد المباني ، وثالث في الخلقة الظاهرة ، وبها امتاز الإنسان وَفُضِّلَ ، وهو ما تجحد الحداثة وتنكر ، إن تقويم العقل الأحسن ، أو آخر في الخارج يظهر ، فكان من أولئك جميعا ما يدخل في حد الوصف المطلق في آي التين المحكم ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما احتمل من وجوه التوكيد جملا ، منها المعنوي كالقسم المقدر باسم الله ، جل وعلا ، وإن صح لمخالف أن يقول : إن ثم من المقسَم به أول يغني عن تقدير اسم الله ، جل وعلا ، فكان من أولئك مُقْسَمٌ أول قد استغرق مخلوقات محدَثة ، فجاز لله ، جل وعلا ، من ذلك ما لا يجوز لخلقه ، فَلَهُ ،
![]() ![]() ومنها ، أي المؤكدات في الآية ، منها اللفظي كما لام الابتداء الأخص التي دخلت على جواب القسم في قوله ![]() وثم من العموم تال إذ تحكي منه "أل" في "الْإِنْسَانَ" : بَيَانَ الجنسِ ، جنسَ المدخول ، وهي ، من آخر ، تستغرق آحاده في الخارج ، فذلك أول في كلِّ إنسانٍ يَعْقِلُ ، وهو مناط التكليف إذ كان من حسن التقويم ما استغرق المحال كافة ، الجنان واللسان والأركان ، الروح والبدن ، الفهوم والجسوم ، فالتقويم الأحسن قد استغرق كل أولئك ، وبه امتاز الإنسان من سائر أنواع الحيوان الأعجم ، وإن كان من آحاد من البشر ما انحط في الدركة ، فـ : (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ، وشاهده ما تقدم من زيادة قد عمت بها البلوى في جيل قد تأخر ، فكان من آحاد من البشر ما التزم طريقة الأنعام حقيقة لا مجازا ! ، وإن زعم أنه إنسان الحداثة الأخير الذي بلغ في العلوم والمعارف سقف الكمال المطلق وإن أفضى به أن يسلك جادة الحيوان الأعجم ، فلا ينفك ذلك يحكي ، ولو من طرف يخفى ، ما تقدم من تأويل باطن يبطل خاصة الإنسان العاقل أن يؤمن بغيب يجاوز مدارك الحس ، فلا يعطل الأدلة ويجردها من المدلول ثم هو يقترح آخر ولو خالف عن المنقول والمعقول والمحسوس الذي به يتشدق ، فكان من ذلك خروج عن الجادة الحسنى من تقويم عام قد استغرق الباطن والظاهر ، وذلك ، كما تقدم ، الخبر المؤكد في قوله ![]() وله ، كما تقدم ، قانون من النحو قد أُحْكِمَ ، فهو السلك الذي يَنْتَظِمُ المباني على وجه مخصوص ، فلا يخلو من تقديم وتأخير في النطق ، كما المثال يُضْرَبُ في باب الاستفهام بما خُصَّ به الهمز دون غير من ألفاظ الباب ، فَلَهُ الصدارة مطلقا ، ومنه قوله ![]() والشاهد أن الاستثناء من الأصول المحكمة لا يكون إلا بالنص ، إلا ما يكون من أحكام تُسْتَثْنَى وبها حفظ المقاصد ورعاية المصالح ما لم تخالف عن النص ، فهو ، أبدا ، العمدة ، فَلَئِنُ جاز التخصيص بالقياس ، وهو اجتهاد ، ولئن كان من العرف آخر معتبر في درك مراد المتكلم ، فيكون التخصيص به كما اصطلح في الأصول أنه التخصيص بعرف الكلام المقارِن ، فاقترانه بالعام مما يقصره على بعض أفراده ، فَلَئِنْ جَازَ التخصيص بما تقدم من وجوه الرأي المعتبر ، فإن الاجتهاد إما بقياس أو باستثناءٍ أو برعاية مصلحة ... إلخ ، الاجتهاد عامةً لا اعتبار به إذا خالف عن نص ، ولو فرعا جزئيا ، فالنص في نفسه أصل فلا يعارض إلا بأصل مثله ، والاجتهاد فرع في الاستدلال إذا لم يكن ثم نص في الباب ، فالمصلحة محل الاعتبار ليست ما اعتبر الشرع فقد أغنى عن النظر بادي الرأي ، وليست ما ألغى فلا اعتبار لما لم يعتبر إذ هو في الأحكام المرجع المعتبر ، فالعبرة ، أبدا ، بالنص ، بل من الاجتهاد الأخص ، وهو القياس ، منه ما لا يجري إلا ردا إلى نص أول ، فلا اعتبار باستثناءٍ يَأْرِزُ إلى مصلحة ما لم تكن مما به البلوى تَعُمُّ ، فهي ضرورة أو حاجة ، وهي ، من وجه آخر تقدم ، مما لا يخالف عن نص ، ولو فرعا يَدقُّ ، فالنص ، كما تقدم ، أصل فلا يرد إلا بِآخَرَ مثله ، وبه رَدَّ بعض من حَقَّقَ عمل أهل المدينة إذ لم يجر عنده مجرى الأصل ليقدم على خبر الآحاد ، فخبر الآحاد ، في نفسه ، أصل لا يُعْدَلُ عنه إلا إلى أصل يضاهي من آحاد أو يجاوز من متواتر فَيُقَدَّمُ عليه من باب أولى إذا تعذر الجمع فهو ما يأرز إليه الناظر بادي الرأي . ومحل الشاهد منه ما تقدم من الهمز فإن الاستثناء أن قُدِّمَ مطلقا ، ولو على عاطف له من الكلام صدر أول ، ذلك مما لم يقترح تَحَكُّمًا ، وإنما رود به كلام العرب المحتج به فذلك نص في الباب ، وهو مما جَوَّزَ الاستثناء ، فالاستفهام بالهمز له عهد أخص فَسَاغَ لأجله الخروج عن الأصل ، وهو الضرورة التي تقدر بقدرها فلا يجاوزها الناظر ، فَيُقَدِّمَ بَقِيَّةِ أدوات الاستفهام على العاطف قياسا على الهمز ، بل يَقْتَصِرُ بالضرورة على موضعها ، ولا يتعدى بالاستثناء إلى غَيْرٍ من أفراد الباب ، فهو خلاف الأصل ، فَافْتَقَرَ إلى دليل هو النص ، فلا يقاس عليه ، إذ ما خالف عن القياس فغيره عليه لا يُقَاسُ ، فقد خالف الهمز في هذا الموضع عن القياس ، فلم يقس عليه غَيْرٌ من أدوات الاستفهام ، فكان من الهمز أول قد اسْتُثْنِيَ ، وهو ما لا يكون إلا بدليل ، وهو الخاصة التي امتاز بها الهمز من غير ، أنه أم الباب ، وله من ذلك الاستثناء ، فَمُقَدَّمُ القبيلِ أو القوم له من الخاصة ما ليس لآحاد ، وله من باب : "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ" ، فالهمز في الاستفهام صدر له رياسة كما أمير القوم ، فيقدم مطلقا حال القول ، فكذا الاستفهام في النطق ، فساغ لأجل ذلك تقدمه على العاطف وهو الأول ، فتلك القاعدة المطردة أن العاطف رباط بين اثنين ، فبعده صدر كلام أول حَالَ العطفِ جملةً على أخرى ، فيكون من ذلك علة بها يتقدم العاطف ، فذلك الأصل الثابت ، ويكون من الاستثناء تأويل يخالف عن الأصل ، فهو عدول عن ظاهر من القول يرجح ، بادي الرأي ، إلى آخر هو المؤول ، فهو مرجوح لا يَتَبَادَرُ ، فخالف عن الأصل إذ الظاهر هو الراجح حتى يكون ثم من قرينة ما يرجح ضدا لا يَرْجُحُ فِي المبدإِ ، فيكون من ذلك تأويل به العدول عن الراجح إلى المرجوح لا تحكما بلا دليل ، فذلك الترجيح بلا مرجح ، بل ثم ما اعْتُبِرَ في النظر المحقق ، فكان من القرينة ما تَقَدَّمَ مِنْ تَصَدُّرِ الهمز قَبِيلَهُ ، فتلك خاصة سوغت الخروج عن الأصل والعدول عن الظاهر إلى المؤول ، استثناء لا يقاس عليه ، إذ العلة قد غابت في غير ، فلم يكن منها شيء في الأداة "أين " في قوله ![]() ![]() والشاهد أن الخروج عن الجادة مما يحمد في مواضع من النطق ، فيكون من الإغراب ما يحسن ، غِلْظَةَ نُطْقٍ تحكي قُبْحَ القول أو الفعل الذي ورد عليه الوعيد ، وتلك رتبة من النطق أولى ، فهي ، كما تقدم ، حروف ذات مخارج وخصائص ، فَيَحْسُنُ من كلٍّ في موضعه ما يواطئ ، إن جلالا أو جمالا ، فتلك الحكمة التي اطردت في كل موضع ، إن الخبرَ أو الإنشاءَ ، فيوضع الحكم في المحل الذي يواطئ أَنْ حَصَلَ من العلة أو السبب ما يلائم . والشاهد أن النطق المحتج به مما قُيِّدَ في الحد ، فَلَهُ من الأدلة كلام جيل أول ، فهو الحاكم فِيمَا تَلَا بَعْدًا ، فغيره محكوم بما استقر من مراتبه الأولى في نَظْمٍ وَنَثْرٍ يُؤْثَرُ فهو أصل في الدلالة أول ، فكان من ذلك : الصوت ، وقد تقدم ، وله من خاصة المخرج والوصف ما به امتازت من بَعْضٍ ، ولا تخلو من أَثَرٍ في الدلالة ، بما كان من تفخيم وترقيق ، وذلك مما يواطئ السياق ، إن طردا أو عكسا في الدلالة فهي تَتَرَاوَحُ بين الجليل كالوعيد الزاجر واللطيف كالوعد الصادق ، فإذا جَلَّ المقام فهو يفتقر إلى المفخَّم ، وإذا لطف فهو يفتقر إلى آخر هو المرقق ، وثم تال وهو دلالة المعجم بما انتظم الحروف المقطعة من كلمات مفردة ، فَلَهَا من دلالة المعجم ما اسْتَقَرَّ ، وهو ما تناولته المادة المجردة في المعجم ، مع ما تَقَدَّمَ في مواضع من استعمال بعض وإهمال آخر ، فليس كل نظم لحروف تجمع يدل على معنى في الذهن يثبت ، وإن الجنس المعنوي المجرد الذي لا وجود له في الخارج ، فعمل المعجم ، لو تدبر الناظر ، كعمل الطفل ولما يبلغ بعد حد النطق ، ولو بعض كلمات مفردة فلما تكمل بعد آلته في النطق والنظم ، فذلك التوليد ، وهو تال لما يكون من تجريد ، ولو لدى الطفل الرضيع ، فقد استجمع في المبدإ بعد الميلاد ، استجمع من نحو الكلام ما به التجريد في الذهن ، فتلك قوة الكلام التي تَبْطُنُ ، فالمعاني في معجمه قد استقرت ، ونظمها في نحو مركب قد ثبت لما سمع من الأبوين أو عُلِّمَ أو قَلَّدَ من خارج ، فيكون من المحاكاة ما أوله مجموع من المعجم والنحو قَدِ اخْتُزِنَ في الوجدان قُوَّةً فَلَمَّا يَكْمُلْ بَعْدُ ما به الفعل في الخارج يصدق من مراكزِ النطق في الدماغ وآلته من اللسان واللَّهَاةِ والحنجرة والأحبال التي تَتَقَارَبُ حال النطق ، ويكون من هَوَاءِ الزفير ما يُحْدِثُ الصوت ، فاختزن الطفل المجموعَ الأول من المعجم والنحو في الوجدان قُوَّةً لَمَّا يَكْمُلْ بَعْدُ من مركز النطق وجهازه ما به تأويلها بالفعل ، فعل النطق : حروفا وكلمات وجملا ذات دلالات معتبرة بما يواطئ معجم المفردات وَنَحْوَ الجملِ ، فإذا بلغ الطفل حد النطق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، حد التمييز ، ولو في الجملة وذلك ، لو تدبر الناظر ، مَمَّا يتفاوتفي الخارج كما حديث المجة ، وفيه : "«عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ»" ، فعقل محمود بن لبيد ، ![]() ![]() وكذا يقال في علوم الصوت والنطق ، فالتصنيف تجريد لها في السطر لا يغني عن تَلَقٍّ لها بالنطق ، فذلك توليد تال يصدق ما سُطِرَ في الصحف التي دونت فيها علوم الرواية والدراية ، فالتجريد ، وإن نفع في حفظ المعاني ، إلا أنه لا ينفك يفتقر إلى تال يصدق في الخارج من نطق المباني ، كما تقدم في مواضع من حد الكلام أنه المعنى المجرد في النفس ، فذلك شطر ، وهو المراد لذاته في باب الاستدلال إذ العبرة بالمعاني لا بالمباني ، كما يقول أهل الشأن ، إلا أن المباني ، من وجه آخر ، دليل ينصح ، بما يكون من تَوْلِيدٍ لألفاظٍ تُفْهِمُ بِمَا يُوَاطِئُ قانون المعجم والنحو ، فهي دليل المعنى القائم بالنفس ، فَثَمَّ من التوليد ما يصدق أولا من التجريد الذي حصل في وجدان الوليد ثم كان بَعْدًا التَّمْيِيزُ ، وهو ما لا يحصل دفعة ، بل يكون من ذلك التدرج ، فَيَنْطِقُ لَدَى المبدإ : مبدإ التوليد وهو لما بطن من التجريد تأويلٌ يُظْهِرُ إذ يخرجه من القوة إلى الفعل المفهِم ، يَنْطِقُ الطفل لدى المبدإ كلمات مفردة بلا نظم ، وقد يخطئ في الحد فيخالف مادة المعجم بتقديم حرف أو تأخير آخر أو مخالفة عن الضبط في الضم أو الفتح ..... إلخ ، ثم يكون من زِيَادَةٍ في الدماغ مع اكتمالٍ في آلة النطق ، يكون من ذلك تال به زيادة في التوليد ، فَيَنْظِمُ جملا ، وإن قصيرةً ، ولم يَزَلْ كُلَّ يومٍ يزيد حتى يكون من التوليد ما يَتِمُّ ، فيحسن حكاية المعاني المجردة في الذهن بكلمات وجمل مفهمة مع تال في البيان يلطف بما يكون من معنى ثان يحصل بطرائق مخصوصة في الْبَيَانِ ، وأخرى في الصوت كَمَا تَقَدَّمَ من دلالة التَّنْغِيمِ فهي كبساط الحال الذي لا يفقهه إلا من شهد ، لا جرم كان لجيل أول من الرسالة ما به امتازوا من تال لا أنهم جيل النطق المحكم فحسب ، بل قد حصل لهم من شهود الوقائع فَضْلُ علمٍ زائد ، فَلَيْسَ مَنْ شَهِدَ كمن سمع ، فالشاهد يعقل من المعنى ما لا يعقل آخر قد سمع ولم يشهد ، وإن اجتهد الحاكي ما اجتهد أَنْ يَنْقِلَ ، لا جرم قُدِّمَ في باب الترجيح بين الأخبار إذا تعذر الجمع ، قُدِّمَ صاحبُ القصةِ على من يَرْوِي بَوَاسِطَةٍ فَلَمْ يَشْهَدْ ، فَعُلُوُّ الإسناد في هذا الموضع يَنْفَعُ نَفْعًا يجاوز شَرَفَ القرب من صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى آخر فِي الفهم والفقه الأخص . فالمبدأ ، كما تقدم ، تجريد في الذهن ثم توليد له في الخارج يصدق إذا اكتملت أداة النطق فحصل من اللفظ ما يدل على المعنى القائم بالنفس ، من وجه ، وهو قَسِيمٌ له ، من آخر ، إذ يقاسمه حد الكلام المفهم ، فحده ، كما قرر النحاة ، أَنَّهُ : اللفظ والمعنى ، أو لفظ يفيد معنى تاما يحسن السكوت عليه ، وله من المراتب : صوت أول بما كان من درس الوصف والمخرج لحروف من المعجم هي المقطعة ، وثم تال في الباب بما يكون من نظم الحروف المقطعة في كلمات مفردة ، وهو ما يرجع إلى عهد خاص في اللسان ، إذ ليس كل نَظْمٍ لحروفٍ في سلكِ لَفْظٍ يُسْمَعُ ، لَيْسَ كُلُّ نَظْمٍ يُفْهَمُ ، بل قد يكون المهملَ لا المستعمل ، كما النحاة يضربون المثل بديز مقلوب زيد . وثم ثالث في الباب وهو المعتبر من المستعمل بما كان من عهد خاص في النُّطْقِ ، وذلك مما يدرك باستقراء الماثور من النظم والنثر مع ما يحصل من مَلَكَةِ النطق لا سيما في جيلِ فصاحةٍ وَبَيَانٍ يحتج بِنُطْقِهِ فيحصل له من ذلك أول هو الضروري فلا يفتقر إلى نظر أو استدلال كما حال الجيل المتأخر إذ فسد اللسان فصار ما كان أولا ضروريا صارا بَعْدًا من النَّظَرِيِّ الذي تَتَفَاوَتُ فِيهِ العقول وتختلف فيه الفهوم ، وقد كان قَبْلًا محلَّ إجماعٍ يقطع وذلك مما قد عمت به البلوى في جيل قد تَأَخَّرَ بما دخل اللِّسَانَ من لحن وعجمة قد نالت من آلة البيان المفهِم وذلك أعظم ما ينال جمعا من البشر أَنْ يَفْسَدَ منهم النطق فأنى يدركون دلالات الأحكام والعقود ... إلخ من صيغ الكلام المعتبر ، إن المنطوق أو المكتوب . فالمعتبر من الألفاظ لَهُ في المعجم دلالة هي المجردة ، وثم تال من الاشتقاق ، وهو من المعجم بمنزلة المولَّد من المجرَّد ، كما تقدم من تجريد المعنى والنحو أولا في الذهن ، ثم توليد تال لألفاظٍ وَجُمَلٍ تُصَدِّقُ ، فيكون من الاشتقاق ما يُوَاطِئُ مُثُلًا قَدِ استقرت وهي مما استقرئ من المأثور الأول ، فهو العمدة في المعنى المفرد والنحو المركب وثالث من البيان يَلْطُفُ ، فحصل من تجريد المثل الاشتقاقية كفاعل ومفعول ، حصل من ذلك أول في الذهن وهو المعقول ، ثم كان تال يُتَأَوَّلُ بالمنطوق ، فهو تَوْلِيدٌ لألفاظ تواطئ مع اختلاف المادة في المعجم ، فَقَارِئٌ ومقروء ، وكاتب ومكتوب ...... إلخ ، ثم تلا ذلك النحو ، وهو ، كما تقدم ، مما امتازت به الْأَلْسُنُ ، فَلِكُلٍّ منه قانون يغاير ، وثم ما تلا من معنى ثان يلطف ، فتلك طرائق في البيان أخص بعد قانون من النحو أعم ، وكل أولئك ، كما تقدم مرارا ، مما افتقر إلى المأثور الأول ، فالقدح فيه والتشكيك ، ولو تحكما بلا دليل إلا شبهات تَضْعُفُ وَبِرَدِّهَا إلى المحكمات تُدْحَضُ ، فذلك القدح والتشكيك ذريعة الإبطال والتعطيل إذ لا يجدي ، بداهة ، قالب بلا شاغل ، فالقالب الفارغ لا شيء فيه قد استقر لِيُفِيدَ صاحبه زيادةً ، فإذا أُفْرِغَتِ الألفاظ وهي القوالب من المعاني وهي الشواغل ، فصار القالب شاغرا فذلك مما يفتح ذرائع التلاعب بأصول الكلام المفهم ، ولو مخالفةً عما استقر ضرورة من معجم الألفاظ المفرد ، فيكون من ذلك تأويل باطن يقبح ، وهو ما يُفْضِي إلى إبطالِ النصوص كافة ، وليس يَعْصِمُ من ذلك إلا أَنْ يُرَدَّ الكلام إلى أصل أول قد استقر من النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فهو المعيار المحكم وهو الحاكم على ما قد أَحْدَثَ الناس بَعْدًا من لحن وعجمة ، إِنْ في نُطْقِ الكلمات المفردة أو نَحْوِ الجمل المركبة أو تأويلِ النصوص المحكمة بلا قرائن تعتبر فليس إلا التلاعب بالأدلة المنزلة أن تواطئ الأهواء والأذواق المحدثة . ولا يسلم الناظر من هذا التلاعب إلا أن يكون له حظ من أدلة الوحي المنزل ومعيار النطق المحكم ، فيكون من اسْتِقْرَائِهِ ما يَجْتَهِدُ يقينا يجزم أو غَلَبَةَ ظَنٍّ يَرْجُحُ ، يكون من ذلك اجتهادٌ فِي تَنَاوُلِ فُرًوعِ الشرعِ المنزَّل ، ومنها يَسْتَنْبِطُ المقاصد العامة وقواعد من الأحكام تُبِينُ عن اطِّرَادٍ في الشرع ، إن في الخبر أو في الحكم ، فَلَا تَعَارُضَ ولا تَنَاقُضَ ، مع إعجاز محكم قَدْ تَنَاوَلَ الوقائع كافة بما كان من دلالات أصول وَبَيَانٍ قد أوجزت كثيرا من القول في قليل من النطق ، فتلك جوامع الكلم إذ يجمع قَلِيلٌ من المبنى كَثِيرًا في المعنى ، مع قياس قد عم فاستغرق : قياس الأصول الأخص ، أو ما جاوز من دلالة اجتهاد ورأي ، فذلك مما جاوز القياس ، وهو أصل ، إلى أخرى من أصولِ نَظَرٍ مُحْكَمٍ قد احْتَرَزَ لها مَنْ حَقَّقَ أن لم يُطْلِقْ مِنْهَا ما به ذريعةٌ إلى نقض الأصول المحكمة أو إبطال الأدلة المنزلة ، ولو فروعا ، فكان من المصالح والمقاصد ما اعتبر ، وكان لأدلة الوحي ما احْتَرَزَ ألا يكون التوسع في نظر العقل ، وَإِنِ اعْتُبِرَ آلةَ استنباطٍ في الحكم ، ففيه من المدارك ما صح في الاستدلال ، وذلك رِكْزُ الكلام ، وهو خاصة الإنسان إذ به يبين عما قام بالنفس ، وهو ذو معيار في الفهم والفقه ، إذ يجاوز نطق اللسان ألفاظا إلى ما قام بالنفوس من معان تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، حد الكلام المجزئ في اصطلاح النحاة ، فهو معنى يجرده الذهن ، ولفظ يُوَلِّدُهُ اللِّسَانُ ، والتجريد يسبق التوليد ، كما يقول بعض من حقق ، فَثَمَّ فطرة أولى وإن رَدَّهَا إلى الحس فَهُوَ يُنْكِرُ ما جاوز من الخلق الأول ، فكان من ذلك فسادٌ فِي الاعتقادِ يَفْحُشُ ، وإن كان مِنْ درسِه في الباب حَقٌّ يُصَدَّقُ ، وبه نقض لمذهب في النطق قد تناول الإنسان ذا العقل المفضل فهو في النبوات محل التكليف بما تَنَزَّلَ من الخبر والحكم ، فكان من مَقَالٍ تَقَدَّمَ ، وَإِنْ جَحَدَ الخلقَ الأول ، كان منه ما نَقَضَ ذلك المذهب الذي أَنْزَلَ الإنسانَ في التعلم منزلةَ الحيوان الأعجم ، فأثبت من توليد الجمل المركبة المفهمة ما يجاوز تعليم الحيوان ! ، فقد خرج الطفل وهو ينطق ، خرج عن هذا التعليم المجحف ، فَنَظَمَ من الكلام ما لم يُعَلَّمْ تَعْلِيمَ التلقين المباشر ، كما الحيوان يُعَلَّمُ موعد الأكل بما يكون من الجرس الذي يُنَبِّهُ فيكون من ارْتِبَاطِ الشرط ما اقتصر على معيار الحس فلا يقر ، بداهة ، بما جاوز من معنى يلطف ، فخرج الطفل عن هذا المعيار الصارم ، وكان له من خاصة الكلام : قوة أولى قد ركزت في وجدانه ، وفعل في الخارج يتأولها ، وهو ما يكون على مكث ، فَثَمَّ التجريد أولا قبل التوليد ، إذ يُجَرِّدُ نَحْوَ الكلامِ في وجدانه وإن لم يحسن يَنْطِقُ بَعْدُ إذ لم تكتمل له أداة النطق من مركز في الدماغ وآخر من جهاز النطق ، فإذا اكتمل ، وهو ما لا يكون دفعة ، لا جرم يكون من توليد الكلام في المبدإ ما يضطرب ، إذ الآلة لما تكتمل ، كما الصغير إذا بدأ السير ، فإنه يتعثر ويقع حتى ينتصب ويمشي ، فَكَذَا في نُطْقِهِ ، وإن كانت قوة المشي وقوة النطق مما ثبت أولا في فطرة الخلق ، وإنما يكون تأويلها بَعْدًا ، ولو على مكث ، فكان من تجريدٍ أول في العقل فإذا اكتمل ، فَثَمَّ التوليد شَيْئًا فَشَيْئًا حتى يكتمل له جهاز نطق يفصح ، فهو يحكي ما قام بالنفس من المعنى ، فَثَمَّ قَسِيمٌ له يرفده في حد الكلام لدى النحاة أنه لفظ ومعنى مع نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، ولا يكون ذلك إلا عن تصور وعلم ، فذلك المبدأ في أي فعل اختياري يناط بالمشيئة ، فثم عقل يقوم به المعنى وثم لسان به يَظْهَرُ في المبنى ، وثم واسطة هي الدماغ المحسوس ، فهو ، كما تقدم في مواضع ، لا يحكي العقل ، بل العقل ألطف في الماهية ، وهو سابق له في تصور المعاني ، فالدماغ يترجِمها بما كان من نَبْضٍ وإفراز يُصَدِّقُ مَا كَانَ من المشاعر والإرادات ، وذلك ما يجاوز الكلام المنطوق إلى ما يظهر في قسمات الوجه من مشاعر الحب أو البغض ...... إلخ ، فمنزلة التوليد للكلام المنطوق من التجريد لأول من النحو يقوم بالنفوس ، منزلة الأول من الثاني أنه تأويل له يصدق ، والمعنى مما يكون أولا في الوجدان ، إن معيارَ النطق الأعم الذي يحصل لكل مولود لدى المبدإ ، ففطرة النطق قوة أولى قد أجملت في الوجدان ، وثم من الفعل أول بما يجمع المولود من قانون النحو ، فهو يجرده أولا ، فتلك قوة التجريد أولا ، تجريد المعيار الحاكم في النطق ، وهو ما يختزنه العقل الذي رُكِزَ في الجنان ، ومعدنه روح تَلْطُفُ ، وتلك مادة غيب لا يعلمها إلا من خلقها ، فوحده ، جل وعلا ، مَنْ يَعْلَمُ مَا لَطُفَ من هذه الماهية المخصوصة ، ماهية الروح المخلوقة ، فهي معدن العقل الذي يجاوز الدماغ الذي يدرك بالحس ، فمركز النطق فيه يصدق بما يكون من نَبْضٍ أو إِفْرَازٍ ، فليس يستقل بإنشاء الكلام بالنظر في شَطْرٍ أَلْطَفَ وهو ما يقوم بالجنان من المعنى ، وإنما الدماغ يَتَأَوَّلُ هذا المعنى بألفاظ تصدر إذ يكون من الدماغ تأويل يصدق ، وهو ما به مركز النطق يَنْفَعِلُ ، فيكون من ذلك حركة لسان ولهاة ..... إلخ ، فذلك عمل أخص يحكي إعجازا آخر في الخلق كما أول في التصور بما قام بروح هي ، كما تقدم ، غيب يعجز ، فلا يدرك العقل أو الحس ماهيته وإن وجد آثارَه بما يكون معان هي بواعث الفعل والترك ودوافع الحب والكره ، وما يكون من إرادات وحركات ، فليست كما يزعم من قصر النظر على الحس ليجحد ما جاوزه من خبر الغيب ، ويتخذ ذلك ذريعة أن ينكر الغيب ، إِنِ المخلوقَ من الروح التي تَعْمُرُ الجسدَ ، أو المشروع مما كان من أمر قد نزل ، فـ : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) ، فتلك روح التكليف خبر وحكما ، وهو مما جاوز دلالة الأمر في اصطلاح الأصول الأخص وهو ضِدُّ النَّهْيِ ، بل الأمر في الآية قد عَمَّ إذ أُضِيفَ إلى ضمير الجمع في "أَمْرِنَا" حكايةَ تَعْظِيمٍ تَحْسُنُ فِي موضعِ مِنَّةً تَشْرُفُ ، وكذا كان الإسناد إلى ضمير الجمع في فِعْلِ الوحيِ صدرَ الآيِ المحكم : (أَوْحَيْنَا) ، فذلك من حسن التلاءوم بين أجزاء المعنى مع حكاية تَعْظِيمٍ أخرى ، فهي تحسن في سياق المنة روحا من الوحي محلها أول من العقل ، وهو ما عُدِنَ في روحٍ من الخلق بها قام البدن وَعَمُرَ ، ولولاها لفسد واضمحل ، وهو مآله بعد الموت ، فالروح اللطيف مادة بها صلاح الأبدان ، كما الوحي المنزل أخرى بها صلاح الأديان التي تعمر الجنان بما نصح من العلوم والإرادات ، ويكون من تأويلها آخر يصدق في الأركان من الأقوال والأعمال ، فتلك منة تعظم ، بل هي أشرف المنن إذ بها امتاز الإنسان من سائر الخلق بما كان من محل يقبل آثار الوحي ، فكان من إِنْزَالِهِ مَا وَاطَأَ المحل بما رُكِزَ فيه من معادن التصديق والامتثال ، وما كان من بَيَانٍ وإفهامٍ ذي مراتب مبدؤها كما تقدم في موضع : أصوات تحكي حروف المعجم المقطع فلا تفيد معنى ، ولو الكلمةَ المفردة ، فَهِيَ لبنات بها صَرْحُ الكلام يُشَيَّدُ ، وإن كان من آحادها في النطق ما يَصْدُقُ أنه صوت مفرد ، ولكنه مما يحكي دلالة تجاوز ، فهو الكلمة المفهمة بل والجملة المركبة في مواضع ، كما يقال في أفعال الأمر من المعتل : وَقَى فهو "قِ" ، وكذا اللام مثالا آخر يُبِينُ فَثَمَّ من الفعل مَاضٍ هو ولي ، وثم من الأمر أن "لِ" ، أي تَوَلَّ الأمر ، فكان من الصوت حرف واحد ، وهو ، مع ذلك يحكي معنى تاما يحسن السكوت عليه ، فَهُوَ الجملة التي ائْتَلَفَتْ مِنَ الفعلِ وهو الأمر فَخُوطِبَ به الواحد المذكر ، واستتر فيه إيجابا ضمير المخاطَب المفرد ، فكان من المجموع المركب ما واطأ قانون النحو الأول في باب الإسناد إذ أُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل ، فتلك جملة تامة من صوت مفرد لم يجاوز ، بادي الرأي ، حَدَّ الحرف المعهود في المعجم ، وإنما اكتسب الدلالة الأخص بما كان من نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، مع بساط حال هو القرينة إذ تحكي أمر الآمر ، فهو يتوجه إلى المأمور ، ويكون من ذلك ما يميز اللام : صوتَ المعجم المقطع ، و : "لِ" : فعل الأمر ، لا جرم اشترط بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، اشْتَرَطَ في الكلام ألا يكون لفظا ومعنى فحسب بل لا بد من نية وقصد ، فخرج كلام النائم والساهي وكلام من لا يعقل إن الطفل الذي لا يميز وَإِنْ نَطَقَ بِحَدٍّ من اللفظ يُفْهِمُ بالنظر في معجم الكلام الذي استقر في الوجدان ، فهو عرف الجماعة الذي بِهِ تَنْطِقُ ، فقد يصيب غَيْرُ المميز منه صوتا مركبا ولا يكون ثم قصد وإرادة تكتمل ، فَلَمَّا يُغَادِرْ بَعْدُ وصفَ الناطقِ بالقوة لا بالفعل ، وهو المجرد في الوجدان دون المولد فلما تكتمل له بعد الآلات من مركز في الدماغ يتأول المعنى الذي يحصل في العقل أولا ، العقل الذي يحصل في الجنان الألطف فلا ينفك يطلب الوسيط ، وبه التأويل ، تأويل المعنى باللفظ ، وآخر من تأويل القوة المركوزة في الإنسان العاقل ، قوة الكلام والنطق ، فهو لدى المبدإ : ناطق بالقوة ، وهو بَعْدًا يجتهد في تجريد المعيار الذي يواطئ نحو الجمع الذي فيه ينشأ وقانونه في الكلام إذ ينطق ، فيحصل له ذلك قُوَّةً ثانية تطلب التأويل بالفعل ، وختامه ما يكون من لفظ ونطق ، فيكون من ذلك توليد يصدق التجريد الأول ، ويكون من الكلام المسموع تأويل آخر ينصح لما قام بالوجدان من المعنى الألطف ، فثم معنى يُتَعَقَّلُ وهو أول في الكلام ، وهو شطر من الماهية المركبة من لفظ ومعنى ، كما حدها النحاة ، مع ما تقدم من نِيَّةٍ وقصدٍ بها امْتَازَتِ الكلمات والجمل بما كان أولا في النفس من علم وإرادة لمعنى دون آخر فذلك ترجيح به يختار المتكلم فيكون من معجم الألفاظ والجمل ما يصدق مع ما يَتَنَاوَلُ ذلك من معيار صحة أول وهو معيار الصوت آنف الذكر وما له من دلالات أخص بما كان من مخارج وأوصاف تكسب الحرف قرينة أخص في حكاية المعنى ، وبعده ينتظم سلك الكلمة المفردة : حروفا من المعجم المقطع ، ويكون من معيار لسان أول ما يميز المستعمل من المهمل ، فتلك دلالات المعجم المفرد ، وثم من يجعلها بَعْدًا فَيَتَقَدَّمُهَا مِيزَانُ صَرْفٍ مخصوصٍ يحكي المأثور من المنظوم والمنثور ، فهو ذو دلالة صوتية ذات معيار يحكي من المعنى ما يجاوز المجموع المركب من حروف معجم تقطع ، فله دلالات أخص في حكاية الأفعال والذوات ، ذات الفاعل والمفعول .... إلخ ، فَثَمَّ من يقدم ميزان الصرف على دلالة المعجم التي تحكي أولا من المعنى المجرد في الذهن ، وقد يقال ، من وجه ، إن القياس يوجب تقديم المعنى المجرد قبل أن تَتَنَاوَلُهُ مُثُلُ الاشتقاق فَتَحْكِي من الدلالات ما يزيد ، فهو المعنى المجرد أو ما اصطلح في النحو أنه المصدر إذ هو الأصل في باب الاشتقاق على قول معتبر في الباب إذ يحكي المعنى الذي يجرده الذهن أولا فهو المطلق الدلالي أو جنس المعنى العام فلا أعم منه ، فيكون من تَالٍ فِي الميزان ما يقيد إذ يأطر المصدر على معنى مركب فهو يجاوز دلالة المعنى المفرد ، فالقياس أن يثبت المعنى المجرد في الذهن أولا ، ثم يكون من بِنْيَةِ الاشتقاق ما يُقَيِّدُهُ بِصِيَغٍ هي القياس في الباب بما استقرئ من الكلام الأول ، مناط الاحتجاج ، فَجَرَّدَ مَنْ جَرَّدَ معاجم أخص فَهِيَ تَتَنَاوَلُ بِنْيَةَ الكلمةِ ، اسما أو فعلا ، فيكون من ذلك معيار أعم يجري في بَابِهِ مجرى الجنس العام الذي يجرده الذهن ، فيكون منه قالب ذو معيار في دلالة أخص بما زَادَ عن المصدر أو المعنى الذي يجرد في الذهن ، فَثَمَّ من فاعل ومفعول وفعيل وفعال وأفعل .... إلخ ، ثم منها أجناس أعم هي معيار في النطق وقالب فِيهِ تَتَشَكَّلُ المصادر المطلقة ، لا سيما عند من يقول إن أصل المشتقات هو المصدر لا الفعل ، فيدخل الفعل في جملة المشتقات آنفة الذكر ، وهي ذات دلالة صوتية أخص بما يكون من ميزان يميز بما استقرئ من النظم وَالنَّثْرِ المحتج به فحصل من ذلك تجريد في الصرف كما آخر في النحو تَقَدَّمَ ، فيجرد الذهن بِنًى منه تنصح في بَيَانِ معان أخص تجاوز جنس المعنى المجرد مِنْ زِيَادَاتِ الاشتقاق التي تُقَيِّدُ ، فيكون من معيار الصرف ما يَتَنَاوَلَ مادة "عَلِمَ" ، فَيَشْتَقُّ منها ألفاظا أخص ذات دلالات تجاوز المعنى المجرد في الذهن ، معنى العلم المطلق ، فيكون من "عَلِمَ" فِعْلٌ ماض قَدْ دَلَّ على الحدث والزمن نصا ، والفاعل لزوما ، إذ لا يكون الفعل بداهة إلا وثم فاعل هو الأول إذ يَتَأَوَّلُ ما قام بِنَفْسِهِ من العلم والإرادة ، فيكون من ذلك فعل في الخارج يصدق ، فكان من ذلك ماض وآخر يضارع ودلالته حال واستقبال ، وإن كان ثم من القرينة أخص إذ يمحضه في مواضع لحالٍ ، وفي أخرى لاستقبال كما السين وسوف وكما "أَنْ" المصدرية ، ولو في الجملة ، وثم أَمْرٌ ودلالته دلالة الاستقبال إذ يكون منه إنشاء يَطْلُبُ مَا يعقب النطق ، فَتَأْوِيلُهُ ما يكون بَعْدًا من امتثال الفعل ، فكان من ذلك الماضي : "عَلِمَ" وميزانه في الاشتقاق "فَعِلَ" ، وكان منه المضارع "يَعْلَمُ" وميزانه في الاشتقاق "يَفْعَلُ" ، وكان منه الأمر أَنِ "افِعْلَ" وميزانه في الاشتقاق "افْعَلْ" ، وكان من ذلك جملة أخرى من المشتقات إذ تحكي ، أيضا ، المعنى الأخص ، معنى الفاعل في اسم الفاعل "عَالِم" وميزانه في الاشتقاق "فاعل" ، ومعنى المفعول في "مَعْلُومٌ" وميزانه في الاشتقاق "مفعول" ، ومعنى المبالغة في "عليم" و "عَلَّام" وميزانه في الاشتقاق "فعيل" و "فَعَّال" ، مع دلالة أخص قد دَلَّ عليها كلُّ مثال وإن كان من المبالغة جنس عام ، فَعَلِيمٌ يستغرق دفعة ، لا جرم كان من معموله الغيب المفرد ، وإن كانت دلالته دلالة الجنس المستغرق ، وَعَلَّامٌ ، في المقابل ، يستغرق بالنظر في الأجزاء ، وهي المعلومات في الخارج ، إن المقدورات قوة في علم أول يحيط ، أو الموجودات بَعْدًا بكلمات التكوين إذ تنفذ ، إِنِ المغيَّبَاتِ ومناطها في التكليف التصديق ، دون الخوض في ماهية أو كيف ، فيكون من الإثبات ما اقتصر على المعنى العام الذي يجرده الذهن ، ومناطه أن يأت به الدليل المعتبر فإذا صح فهو المذهب الذي يجاوز ما تَبَادَرَ من مذهب الفقه في الأحكام ، فَثَمَّ مذهب آخر في الاعتقاد ، ومناطه ، أيضا ، أن يصح الدليل ، فاستغرق "عَلَّامٌ" من هذا الوجه ، استغرق المغيَّبات على التفصيل آنف الذكر ، والمشهودات في الخارج ، لا جرم كان المناط في "عَلَّام" هو الجمع فهي الغيوب لا الغيب ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
![]() والشاهد أن الكلام في الاصطلاح هو : لفظ يظهر ومعنى هو أول في الوجدان يبطن ، مع نية وقصد فلا يكون الكلام لفظا يُقَلَّدُ دون معنى في الوجدان يثبت ، لا جرم كان من قِيَامِ الحجة ما تَنَاوَلَ الألفاظ والمعاني فلا تحصل حجة بمبنى لا يفقه السامع له معنى ، لا جرم كان من شرط التكليف أولا أن يكونَ المعلومَ ، فلا تكليف بما يجهل المخاطب وإن سمع لفظا فهو لا يفيده كلاما إذ لا يفقه ما وراءه من المعنى ، فالمعنى ، من وجه ، قسيم المبنى في الحد ، وهو من آخر أول عنه يصدر المبنى ، فَبَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ في الدلالة قد أحكم ، فلا يكون بأحدهما دون الآخر كلام يفهم ، وذلك البَيَانُ الذي عَلَّمَهُ الله ، جل وعلا ، الإنسانَ ، فكان من ذلك عقل يَتَصَوَّرُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع عدة ، ذلك تصور الجنان لدى المبدإ ، فهو علم يجرده الذهن ، وبه قيام الحجة في الخبر والحكم ، فلا يبلغ حد التصديق الأخص إلا أن يكون ثم زيادة من الإقرار والتسليم وتال من الانقياد بِطَاعَةٍ تَأْوِيلُهَا في الخارج الامتثالُ ، ولها من ذلك آخر أعم فهو يَتَنَاوَلُ الأخبار إذ تُصَدَّقُ ، فالتصديق ، كما تقدم ، عمل أخص يجاوز ما يحصل من العرفان المجرد ، بادي الرأي ، مع ما يكون في مواضع من دلالةِ إنشاءٍ يُضَمَّنُ ، إن الأعم كما في أخبار الوعيد والوعد ، فَلَهَا دلالة إنشاء أعم إذ تحض على الفعل حال الوعد رَغَبًا ، وتحض على ضِدٍّ من التَّرْكِ حالَ الوعيد رَهَبًا ، أو الأخص بما يكون من التضمين المباشر ، كما اصطلح أهل الشأن ، إذ من الخبر في المعاني ما دل على إِنْشَاءٍ ، كما في قوله
![]() وَمَرَدُّهُ ، كما تقدم مرارا ، إلى التحكم في الاستدلال بما كان من ترجيح بلا مرجح ، وهو مما عِيبَ ، إِنْ فِي الخلقِ أو فِي الشرعِ ، فكان من تَحَكُّمِ الحداثة في الجيل المتأخر أَنِ الْتَزَمُوا ما لا يعقل في باب الخلق الأول ، وهو الغيب الذي لم يشهد ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب الدليل المجاوز للعقل ، وليس ذلك إلا خبر الوحي ، إذ الخلق الأول من الغيب المطلق ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب الدليل من خارج ، وهو ما جاوز العقول كافة ، فَلَوْ كان من الغيب النسبي إذن لكان مِنْ بَعْضٍ مَنْ شهد ، فأخبر من لم يشهد ، وكان من الأول حجة على الثاني ، إذ علم ما لم يعلم ، فكان من زيادة العلم ما به رَجَحَ قولُ العالم قولَ الجاهل ، وإنما الشأن أن يصح الخبر ، وكذا يقال في الوحي الذي يخبر بما جاوز من الغيب المطلق ، ومنه ما لم يشهده أحد إلا الخالق الأول ، جل وعلا ، لا جرم كان الاشتغال آنف الذكر ، الاشتغال بأدلَّةِ الأصلِ من خبر الوحي ، كان ذلك من آكد مَا يَنْصَرِفُ إليه العاقل المسدَّد ، فَأَمْرُ الدِّينِ أَعْظَمُ ، ومآله أشرف إذ يَبْقَى فمن حَازَهَ فَقَدْ حَازَ كُلَّ شيءٍ ، ومن فاته فقد فَاتَهُ كُلُّ شيءٍ ، فكان من الاشتغال بأدلة منها الْكُلِّيُّ الَّذِي يُحَرِّرُ أدلة النبوات في الجملة ، فهي تَتَنَاوَلُ الجنس العام ، جنس النبوات من الجواز في المبدإ ، وذلك حكمها لدى من حقق ، فالنبوات جائزة في حق الله ، جل وعلا ، إذ لا أحد يوجب عليه شيئا إلا ما أوجبه على نفسه بما كان من الكمال المطلق فهو الأول ، وله من آثارٍ في الفعل ما يَظْهَرُ ، ومنه فعل النبوات إذ تَتَنَزَّلُ بالكلمات الدينية ، الخبرية والإنشائية ، فكان منها أعظم رحمة قد امْتَنَّ بِهَا ذُو الجلال والعزة ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فهي صلاح الأولى والآخرة وهي مناطُ سعادةٍ في الأولى ونجاةٍ في الآخرة ، فكان من الاشتغال أولا بأدلة الجنس العام المستغرق ، ثم تَالٍ لآحادٍ من الجنس ، وأعظمها ما كان من الختم ، لا جرم كان من أَدِلَّتِهَا ما تَكَاثَرَ وَتَوَاتَرَ ، فثم أدلة بها تحرير المرجع ، مرجع الخبر الذي يرفد العقل بما جاوز من الغيب المطلق ، فلا يبلغه دون مخبرٍ من خارج ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطغيانِ مَا أَفْسَدَ بِمَا كَانَ من أسبابٍ تُجْمَعُ ، فكان من الكبر أن يخضع العقل لما نَزَلَ من الوحي ، فلا ينفك يطلب دليلا آخر ، ولو آل به أن ينطق بالمحال الذاتي فهو أهون من تصديق الخبر الرسالي ! ، فَقَالَ من قال في أصل هذا العالم : إن الكون قد خلق نفسه ، أو أن ثم سنة محكمة هي الحتم فَهِيَ الخالقة ، وقد أثبت علم التجريب ، كما يقول بعض المحققين ، أن الحتمية لا تَطَّرِدُ ، فَثَمَّ هامش الخطإ ، وذلك ما يدل ، من وجه آخر ، أن ثم دليلا في الكون يحكي تأويلا ينصح لاسم الرب المهيمن ، جل وعلا ، فهو من يخلق الشيء وَضِدًّا ، فَلَوْ كَانَ الخلقُ عَلَى سُنَّةٍ واحدة لقال من قال : إن ثم معيارا يضطر ، فلا اختيار في فعل أو ترك ، بل ثم حتم يغني عن وجود مدبر ، فالكون يدبر نفسه ، ولو سُلِّمَ بذلك فلا يجاوز السُّؤَالَ المتقدم : سؤالَ التسلسل ، فإن كان ثم سنة فلا بد لها من سَانٍّ ، ولو أجراها اضطرارا فلا إرادة ولا اختيار مع ما يلزم من خلق أول لمادة هذا العالم فإنها لا تقدم ، فلا يُحْسَمُ بها سؤال التسلسل فهي مادة أولى أو هيولى ، لا تنفك تطلب من يُوجِدُ أولا من خالقٍ هو الأول ، وما يصورها تاليا فهو الفاعل ، فهي ميتة لا حياة فيها ولا فعل ، فكيف وجدت بلا موجِد ، ثم صُوِّرَتْ بلا مصوِّر ، فكان من صورها ما تغاير ، ولو سلم بمقال الحكمة الأولى في قدم الجوهر وتعاقب الأغيار عليه ، فالمادة واحدة ! ، وهو ما يخالف عن دليل الحس الضروري إذ يبين بما كان من تجريب وبحث ، يبين عن اختلاف في الماهية وهو ما يحكي حكمة رَبَّانِيَّةً بَالِغَةً ، أَنْ هُيِّئَ كلُّ مخلوقٍ وَيُسِّرَ لما لأجله قد خلق ، فكان من تغاير الأعيان ، وكان من آخر في الأنواع والأجناس ، كان من ذلك ما يبطل القول بقدم الجوهر واحدا بالعين ، فقد يكون ثم تشابه في أصول أدق ، كما حروف المعجم في الجمل ، فالحروف في كل جملة تحكي من الألفاظ والمعاني ما لا يحكي غير ، وإن كانت كُلُّهَا : حروفَ المعجم الواحد ، فإن مِنَ اختيارِ بعضٍ ، ونظمه في سلك بعينه ، مع ترتيب بتقديم وتأخير مع ما يكون من معيار نحو في النطق فذلك تال لِمَا كان من نظم الحروف في كلمات مفردة ، فَثَمَّ نحو مركب به انتظام الكلمات في سلك محكم فتحكي من المعنى ما يغاير آخر ، فَثَمَّ اختلافٌ في أعيان الجمل ، وإن كان من حروف المعجم واحد ، فلا يلزم منه ، بداهة ، وحدة المعنى الذي يقوم بالنفس ، وإنما تَغَايَرَتِ الألفاظُ في النطق وَتَغَايَرَ المعنى تَبَعًا وإن كان من التَّرَادُفِ ما يَثْبُتُ ، فهو مما يتناول الألفاظ لا الجمل ، فمناطه الدلالات المعجمية المفردة لا أخرى من جمل تتراكب فيكون من مدلولها في الخارج ما يختلف ، والترادف ، مع ذلك ، ليس الأصل ، بل لا يطلق القول به مطلقا ، فَثَمَّ مِنَ المحققين مَنْ نَفَى الترادف التام بين لفظين في اللسان ، بل لا بد من قدر فارق ، ولو في ثان من الدلالة بعد أول هو الأصل المشترك وإلا كان ذلك ذريعة إلى إبطال الدلالة اللسانية إن توسع الناظر في الترادف فأهمل الافتراق في الصيغ المنطوقة والمكتوبة ، وهو ما كان مِنْ مُعَطِّلَةٍ في باب الإلهيات قد عمت بهم البلوى في كل جيل إذ طردوا القول بالترادف التام في باب الأسماء والصفات ، فالرحيم عين العليم مطلقا ، دون تفصيل يميز ترادفهما من جهة الْعَلَمِيَّةِ إذ يدلان على مسمى واحد في الخارج ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، دون تفصيل يميز ترادفهما من جهة الْعَلَمِيَّةِ وتغايرهما من جهة المعنى الذي اشتق منه كلٌّ ، إذ الرحمة بداهة تغاير عن العلم ، وإن كان الموصوف بهما في الخارج واحدا ، وهو ما اصطلح أهل الدلالة أنه التَّكَافُؤُ الذي يجمع الترادف والتغاير كَافَّةً ، إذ يكون الترادف من وجه وهو الدلالة الْعَلَمِيَّةُ في باب الاسم والوصف ، ويكون التغاير من آخر وهو الدلالة الوصفية ، فلا تعارض إذ الجهة قد انفكت ، كما يقول أهل الشأن ، وبه يَزُولُ التعارض إذ سَاغَ الجمعُ ، فكان من تَوَسُّعِ بَعْضٍ في الترادف ما أفضى إلى إبطال اللسان كافة ، فذلك لازم طرده بعض في الخبريات ، كما تقدم من مقال المعطلة في الأسماء والصفات ، بل ثم من زَادَ فَطَرَدَهُ في الحكميات ، فأبطل من الوحي خبره وحكمه ! ، كما باطنية تأويل في الأمر والنهي ، وهم ، أيضا ، ممن عمت بهم البلوى في كل جيل ، فكان من ذلك ما لأجله احترز بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَنَفَى الترادف التام من كل وجه إذ قصره على الجنس المعنوي العام إذ لكلِّ مرادفٍ من المعنى الأخص ما به قد استقل ، فالاختلافُ في أعيان الجمل يثبت ، وإن كان من حروف المعجم واحد ، فلا يلزم منه ، بداهة ، وحدة المعنى الذي يقوم بالنفس ، بل ذلك ما يشبه ، ولو من وجهٍ ، مقال الحكمة الأولى إذ قالت إن الجوهر واحد وإنما تغايرت الأعراض في الخارج ، وهو ما فتح ذرائع لما كان بَعْدًا من وحدة الأديان أن تجمع في دين واحد ، وإن المحدَث من الأرض ، فوحدة الجوهر دليل على وحدة العين فليس إلا اختلاف الصور إذ الحقيقة واحدة ، فكان من ذلك وحدة أعيان بما كَانَ مِنَ اتِّحَادٍ قد جاوز العين المخصوصة في الخارج ، فقد تناول الأعيان كَافَّةً ! ، وتلك ذريعة توسل بها أهل الباطن في الجيل المتقدم إذ لَفَّقَ من الدين ما يشبه ياسق جنكيز خان ، فَجَمَعَ من كلٍّ طَرَفًا ، وَصَيَّرَ نفسه هو المعيار المجاوز من خارج ، فهو يختار من الأديان والمذاهب ما يواطئ الهوى والذوق ، فاختار من واحد لا آحاد ! ، إذ الدين واحد وَإِنْ تَغَايَرَتِ المقالات بل وتناقضت فالجمع بينها يَمْتَنِعُ ، إلا أن يكون من التأويل الباطن ما يُصَحِّحُ كُلًّا ، فهي طرق ومسالك تُفْضِي إلى واحد ، وإن تعددت السبل ، كما ضوء المصباح فهو يسري في كُلِّ جهةٍ ، ويفضي إلى واحد ، فلا يستقيم ذلك إلا أن يكون من الوحدة ما جاوز الأديان إلى الأعيان ، فيكون الجوهر واحدا وإن تغايرت الأعراض ، فالحقيقة واحدة في الخارج فليس ثم من الصور ما يحرم أو ينجس ، كما الْتَزَمَ مَنِ الْتَزَمَ من أصحاب المذاهب الباطنية ، إذ كلٌّ في واحدٍ ، وإن اختلفت الصور في الخارج ، إذ الحقيقة تَقْدُمُ ، وليس الوجود إلا واحدا بالعين فلا فرقان يميز زيدا من عمرو ، بل ولا آخر يميز أُمًّا من زوجةٍ ، فالفرج واحد يَحِلُّ وإن اختلفت الصور ! ، وهو ، أيضا ، ما الْتَزَمَ بَعْضٌ من الباطنية بما ذاع من مذاهب إباحية أبطلت الشرع إذ نفت الْفَرْقَ في الوجود والكون ، فوحدة الأعيان أول ووحدة الأديان ثان يَلْزَمُ ، وهو ما تَوَسَّلَ إليه بَعْضٌ في جيل قد تَأَخَّرَ ، ما تَوَسَّلَ إليه باسم الخليل ، عليه السلام ، وهو من ذا بَرَاءٌ يَسْلَمُ ، فـ : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهو ما يرد الأمر إلى مرجع أول يحكم ، وبه الامتياز في الوجود ، فليس واحدا ، وإنما منه أول هو الواجب ، وهو في الأزل قد تَقَدَّمَ حَسْمًا لِمَادَّةٍ تَمْتَنِعُ لَدَى كلِّ مَنْ يَعْقِلُ ، مادة التسلسل في الأزل ، فلا بد من أول له من الكمال الذاتي ما لا يُعَلَّلُ إذ لا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل له من وصف الفاعل : أولية تُطْلَقُ ، فهو الفاعل بِوَصْفِ فِعْلٍ يُرَجِّحُ في الخارج ، وبه الجائزات توجد في الخارج وجودا تاليا يصدق ما كان أولا من وجودٍ في علم التقدير المحكم ، فَثَمَّ واجب أول إليه تُرَدُّ الموجودات كَافَّةً ، فهي عنه تصدر ، صدور المخلوق عن الخالق ، الجائزِ عن الواجبِ بما كان من علة تصدر عن واجب وجود أول ، وهي كلمة تكوينٍ تَنْفُذُ بمشيئةٍ تُرَجِّحُ ، وهي لعلم أول تصدق ، فتلك حكاية النبوات في الوجود والخلق الأول ، فَلَيْسَ الخلق في خبرها خبطَ عشواء ، فلا يكون من خبط وعبث ، لا يكون منه هذا الخلق المحكم ، فتلك دعوى تخالف عن العلم الضروري المستقر لدى العقلاء كافة ، ولو سُلِّمَ جدلا أن ذلك مما جاز في الحكم ، فتلك الدعوى المجردة من دليل يشهد ، فأجزأ في رَدِّهَا أخرى تضاهي مع تحد أخص ، كما يذكر بعض من حقق ، فإن هذا المقال المحدث لا ينفك يَتَبَجَّحُ أنه ينكر الغيب ، فلا يرضى المرجع المجاوز من خارج الحس ، فوحده معيار الإثبات والنفي ، فَهَلَّا كان منه تجريب يُصَدِّقُ ؟! ، أن يكون من عبث في التجريب ما عنه يصدر الإحكام في التكوين والتدبير . فكان من خبر النبوات في باب الوجود ، وهو الجنس العام المجرد في الذهن ، فلا جنس يتقدمه ، وهو العام الذي لا أعم منه ، فلا يكون منه في الخارج إلا واجب أول قد كَمُلَ في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، فَثَمَّ من الفعلِ ما يَحْكِي آثارَ اسمٍ ووصفٍ أول ، فهو له يَتَأَوَّلُ ، فذلك الفعل بالعلم الأول إذ يُقَدِّرُ ، ودليله ما كان من إِتْقَانٍ في الخلقَةِ وإحكامٍ في السنة ، فحصل من ذلك قِسْمَةٌ في العقل الصريح تَنْصَحُ ، وبها جواب سؤال عن الخلق الأول ، فَثَمَّ الخالق الأول بالعلم ، فذلك خلق التقدير ، وثم تال في الخارج يصدق بالإيجاد والتكوين ، مع ثالث به الرَّزق والتدبير ، فالقسمة : واجب أول في الوجود ، وجائز يحتمل ، والجائز لا ينفك يفتقر إلى المرجح وإلا كان من ذلك ما يخالف عن العقل المصرح ، فيكون منه الْتِزَامُ المحال الذاتي في القياس الْعَقْلِيِّ ، إذ يَلْزَمُ التسلسلُ في المؤثرين أزلا إن التزم الخصم أن ثَمَّ ترجيحا من خارج لا يَأْرِزُ آخرَ أمرِه إلى أول قد امتاز وجوده الواجب من وجودِ غَيْرٍ فهو الجائز ، فهو المرجِّح من خارج ، ويلزم آخر يُحَالُ إِنِ الْتَزَمَ الناظرُ القولَ بمادة أولى دون خالق أول ، مع ما يكون بَعْدًا من حركة فيها فذلك فعل لا بد له من فاعل من خارجها ، فلا يكون فعل بلا فاعل ، فكيف بما كان من حياة أخص ، هي مما أعيى وأعجز الخصم ، فكان منها سِرٌّ يَلْطُفُ ، فلا يطيق له مثلا ، وإن ضاهى من المادة بَعْضًا في المعمل ، فما جاوز في تجريبه إلا مَوَاتًا لا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى من ينفخ فيه الحياة ، مع ما يكون من خلق محكم قد عَمَّ فاستغرق الأنواع كافة ، فلكلٍّ من الماهية ما هو أخص ، وله من الخلق ما به قد اسْتَقَلَّ ، فالجواهر ، بادي الرأي ، تَتَغَايَرُ ، وإن كان ثم تشابه في عناصر تدق ، فَمِنْ نَظَمِهَا في جزئيات مخصوصة ما به الأنواع قد تمايزت بما كان من خلق تقدير أول ، وما تلا من إيجاد هو المحكم ، وهو في الباب آي يعجز ، باب الربوبية التي استغرقت الخلق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، جنس عام يستغرق ، فَثَمَّ منه تقدير هو الأول في العلم المحيط المستغرق ، فهو العلم بالماهيات ، وإن دَقَّتْ ، والعلم بما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، وما يصلحها من الأسباب إذ أُعِدَّتِ المحال أن تقبل آثارها ، وكان من قوة الفعل والتأثير ما رُكِزَ في السبب ، فتلك قوة تأويلُها فِعْلٌ يُصَدِّقُ إذا باشر السبب محلًّا يَقْبَلُ ، وثم من الخلق إيجاد يصدق ما كان من علم محيط يستغرق ، وثم تدبير قد تناول المحال كافة ، فلكلٍّ سبب يواطئ ، فذلك السنن المحكَم الذي جَاوَزَ الأعيان ، فكان منه آخر في مواضع أدق ، فسنن الأديان في الأخبار والأحكام تحكي آخر من التوحيد ينصح ، فهو لأول من ربوبية يصدق ، وهو لازم له في القياس المصرَّح ، مع غائية قد جاءت بها الرسالات السماوية ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فتلك العبودية التي بها امتاز الخلق العاقل المكلَّف ، فَلَيْسَتْ عبوديةَ الاضطرار التي تثبت في كل محل ، آمن أو كفر ، كما في عموم قد استغرق في آي مريم المحكم : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، وذلك من القصر بأقوى الأساليب ، النفي وأداته في هذا السياق "إِنْ" النافية ، والاستثناء وأداته "إِلَّا" ، وهو قصر الحقيقة الذي تَنَاوَلَ الأعيان كَافَّةً ، ولو العجماوات كما في الخبر أَنْ : "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ" ، فكان من العموم : عموم "كُلُّ" وهي نص فِي الباب ، كان منه المحفوظ الذي تَنَاوَلَ آحاده كافة ، وذلك ما جاوز في الدلالة : دلالة "مَنْ" : الموصول الاسمي المشترك ، ودلالته ، بادي الرأي ، بما يكون من نَظَرٍ أول في وَضْعِ اللسان المجرد ، وضع المعجم المفرد ، دلالته تَقْتَصِرُ على الجنس العاقل ، فكان من دلالة العموم في "كُلُّ" بما رفدها من معنى العبودية الأعم الذي يستغرق الأعيان كافة ، كان من تلك الدلالة ما زَادَ فِي دلالة "مَنْ" فَصَيَّرَهَا نَصًّا يجاوز العاقل إلى غير ، على تأويل : إن كل من في السماوات والأرض ، وإن كل ما في السماوات والأرض ، فالقرينة قد رَفَدَتِ الخَاصَّ فَصَيَّرَتْهُ نَصًّا في عام يجاوزه ، وهو ، من وجه ، شَاهِدٌ به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فذلك من مجاز الخصوصية إذ أطلق خَاصًّا يَقْتَصِرُ عَلَى العاقلِ ، وَأَرَادَ عاما يجاوز فهو يستغرق الأعيان كَافَّةً ، ومن ينكر المجاز فَهُوَ جَارٍ على أصل يطرده في مواضعِ الخلافِ كَافَّةً ، فهي مما يُرَدُّ إلى حقيقة أخص ، حقيقة العرف المشتهر ، فذلك مما تكرر في شواهد اللسان المحكمة مما به احتجاج في مسائل النحو والبيان ، فَهُوَ من الحقيقة بما كان من تَوَاتُرٍ في الاستعمال ، وإن خالف عن حقيقة اللسان المطلقة بالنظر في وضع أول قد جُرِّدَ في معجم اللسان المفرَدِ ، وهو ، من وجه آخر ، مما قد يجري مجرى الإيجاز حذفا ، فقد ذَكَرَ شَطْرًا وهو العاقل ، وحذف آخر به القسمة تكتمل ، فَحُذِفَ غير العاقل فهو تبع للأول ، والمذكور منهما قد دل على المحذوف ، إذ لَا حَذْفَ إلا بدليل فقد خالف عن الأصل فَافْتَقَرَ إِلَى الدليل من هذا الوجه ، وتلك دلالة تضاهي التلازم استيفاءً لأجزاءِ القسمةِ في الخارج ، فتأويله من هذا الوجه : إن كلُّ مَنْ في السماوات والأرض ، وإن كُلُّ مَا في السماوات والأرض ، إن كلٌّ إلا آتي الرحمن عَبْدًا يخضع ، فتلك ، كما تقدم ، عبودية التكوين الأعم ، فهي اضطرار لا اختيار ، فلا يناط بها ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ ، بادي الرأي ، فَتُشْبِهُ ، من وجه ، أحكام التكوين في الخلقة فلا ثواب ولا عقاب أَنْ خُلِقَ آدمُ ذَكَرًا وَخُلِقَتْ حَوَّاءُ أُنْثَى ، إذ ليس ذلك مما يقدر عليه الخلق ليخاطبوا باكتسابه ، ولو جَاوَزَ بَعْضٌ فَهُوَ يَطْغَى إذ يُنَازِعُ الرَّبَّ الْأَعْلَى ، عَزَّ وَجَلَّ ، منصبَ التكوين بما يكون من تلاعب وتحويل ..... إلخ ، فلا يَتَنَاوَلُهُ التَّكْلِيفُ ، وإن صارَ المقدور الذي يُكْتَسَبُ ، فإنه مما لا يتناوله مدح ولا ذم ، بالنظر في أصل الوصف ، وصف الجبلة : ذكرا أو أنثى ، فليس فيه معنى تَعَبُّدٍ يُرَادُ لِذَاتِهِ ، بل التحكم في اكتسابه بما تقدم من التلاعب والتحويل الذي يصدر عن روح تأله تروم الحرية مطلقا فَتَأْبَى الانقياد لحكم التكوين النافذ فضلا عن التشريع الحاكم فذلك ما أَبَتْ أَوَّلًا ، ثم كان البلوى آخِرًا أن بَلَغَ الطغيان أصلَ الخلقة ، فذلك التحكُّمُ ، بَدَاهَةً ، مما يُذَمُّ وَيَحْرُمُ ، سواء أخرج عن القدرة أم لم يخرج ، بل الخروج قد أفسد الأديان والأبدان كَافَّةً ، والتجريب المحدَث بِذَا يشهد اضطِّرَابًا وَفَسَادًا في الأعيان والأحوال كَافَّةً ، فهو يدخل ، من هذا الوجه ، في عموم الأمر أَنْ : (لْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فإن المخالفة مِنْهَا ما يَتَبَادَرُ من سياق الآي : خُرُوجًا عن الأمر الشرعي الحاكم ، وثم تال قد حدث في جيل تأخر بما عظمت به بَلْوَى قد استغرقت ، فمنها خروج عن الأمر الكوني النافذ بما كان من جبلة الخلق ..... إلخ ، فكان من عبودية التكوين مَا لَا ثَوَابَ فيه ولا عقاب بالنظر في المعنى المجرد ، معنى الاضطرار الذي لا يطيق الخروج عنه أحد ، وَإِنْ جَحَدَ أَوْ سَفْسَطَ ، فَشَاهِدُ الحال لِدَعْوَاهُ يَنْقُضُ نَقْضَ الضرورةِ الملجئة ، وإن كان ثَمَّ وجهُ تكليفٍ بما يكون من الانقياد والتسليم في أقدار ماضية لا تكليف يَتَوَجَّهُ بِمُدَافَعَتِهَا ، لا جَبْرًا يُذَمُّ كما التسليم بالظلم والقعود عن مدافعته وتحصيلِ أسبابٍ بها يُنَاجَزُ تأولا لنصوص الأمر والنهي على تفصيل يتناولها بالقيد الذي يحترز من المفاسد العظمى وهو مع ذلك ليس الذريعة إلى إبطال هذه الشعيرة المثلى ، كَمَا بَلْوَى قَدْ عَمَّتْ في هذا الجيل وكان من فُحْشِهَا أَنِ اتَّخَذَتِ الدين ذريعة لإقرارِ الظلم بما كان من الغلو في نصوص الطاعة والسمع أَنْ تُوضَعَ على غير مواضعها ، مع كَتْمِ بَعْضٍ يشهد بضدٍ لما ذهب إليه صاحب هذه الدعوى . فَثَمَّ تسليم وانقياد يحسن في أَقْدَارٍ لَا تُدْفَعُ ، كما المصائب الكونية التي لا يطيق العبد دَفْعَهَا من الموت والهدم ..... إلخ ، وإن خوطب ، من وجه آخر ، أن يصبر ، وأن يباشر من السبب ما ينفع إن كان ثم وُسْعُ في الدَّفْعِ كما الاستشفاء من المرض أو إغاثة من نَالَهُ الهدمُ ، وكذا جبلة الخلق ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فكلُّ أولئك مما لا يتوجه به تكليف ، وكذا عبودية الاضطرار ، إلا ما يكون من تصديقٍ بها يتناول التوحيد : خلقا وتدبيرا ، وإلا فليست مناط النجاة الأخص ، فلا تُنَالُ إِلَّا بِعُبُودِيَّةِ العابدِ المنقادِ لا العبد المضطر الذي يَصْدُقُ في كُلِّ محلٍّ ، فكلٌّ آتٍ يَوْمَ القيامةِ إِتْيَانَ العبدِ ، فذلك العموم المؤكَّد بأقوى الأساليبِ نَفْيًا وَاسْتِثْنَاءً ، وَثَمَّ تَالٍ يُؤَكِّدُ وهو لجنسِ العبودية يُبَيِّنُ ، فذلك الإحصاء الذي تَنَاوَلَ الأعيان والأعمال كافة ، فـ : (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، وهو مما أُكِّدَ ، أيضا ، بِجُمَلٍ في الباب قِيَاسِيَّةٍ ، فَثَمَّ لام هي في الباب أعم ، لام الابتداء في "لَقَدْ" ، وَلَهَا مِنْ ذلك وصف أخص ، إذ بها ابْتُدِئَ جوابُ القسمِ خَاصَّةً ، فهي دليل قد تَأَخَّرَ لِقَسَمٍ أول قد تَقَدَّمَ ، فاحتملت من الأدلة : دليل التوكيد ، إِنِ الْأَعَمَّ بِنَظَرٍ أول يستغرق كلَّ زيادةٍ في المبنى أَنْ تَحْكِيَ أخرى تُضَاهِي في المعنى ، أو آخر أخص بما اختصت به من اسم الابتداءِ ، فَحُصُولُهَا مَبْدَأَ النُّطْقِ مِمَّا به الذهن يُسْتَحْضَرُ ، إذ ليست العاملة فيما تَلَا ، فزيادتها دونَ عَمَلٍ قَدْ مَازَهَا من أخرى هي نَصٌّ في التعليل أو الجحود أو الأمر إذا دخلت على المضارع ، أو ثالثةٍ هي نَصٌّ في الملكِيَّةِ أو الاختصاص أو الاستحقاق ، فحصل من لام الابتداء ما ضاهى أولئك في الرسم والنطق ، وهو ، مع ذلك ، يخالف عنهم في العمل والمعنى فَلَا تَعْمَلُ لام الابتداء كما قَدْ عَمِلَا النصبَ والجزمَ في الفعل ، والجرَّ في الاسم ، ومعناها ، كما تقدم ، توكيد لدى المبدإِ ، فصار لها من ذلك اسم الابتداء الأخص ، مع ثالث من الوصف إذ دخلت على جواب القسم ، فكان من ذلك ابتداء أخص ، ابتداء الجواب ، وبه اكتسبت اسم الجواب ، فهي لام ابتداء أخص قد دخلت على الجواب خَاصَّةً ، فَصَارَتْ لَامَهُ ، من هذا الوجه ، وهي ، من آخر ، دليل لما تَقَدَّمَ من القسم المقدر ، على تأويل : والله لقد أحصاهم وعدهم عدا ، وثم من التحقيق تال في الباب يؤكد ، إذ دخلت "قد" على العامل "أَحْصَاهُمْ" مع ماضوية تحكي ما تقدم من علم أول قد استغرق ، وما تلا بَعْدًا من علمِ إحصاءٍ يُصَدِّقُ ، فـ : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، مع تَالٍ من كتاب ينطق بالحق إذ يستنسخ القول والفعل ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . والإحصاء في الآية : وصفُ فعلٍ كما العد بَعْدًا ختام الآية : (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) ، فحصل منه آحاد تُنَاطُ بالمشيئة قد صَدَّقَتْ منه الأول نَوْعًا في الأزل يقدم ، وهو ، كما تقدم ، من علم محيط قد استغرق الأعيان والأحوال كافة ، وثم من التوكيد قِيَاسٌ بالمصدر "عَدًّا" ، ومن ثم كان تِكْرَارٌ يَتَنَاوَلُ المعنى ، فـ : (كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ، وإن كان ثم زيادة تفيد ، فكلهم آتِيهِ إِتْيَانَ العبدِ فَرْدًا فلا جمع ، فَزِيدَ وصف الفرد ، فهو الْمُسْتَنْطَقُ في الحساب بعد نَشْرِ الكتاب ، فـ : (كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) . فتلك العبودية الأعم ، وليست ، كما تقدم ، مناط التكليف الأخص بعبودية الاختيار : تصديقا وامتثالا ، لما قد جاءت به النبوات ، فتلك غاية الخلق كما آي الذاريات آنف الذكر أَنْ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . والله أعلى وأعلم . |
#4
|
|||
|
|||
![]() فلا يستوي عابد الرب ، جل وعلا ، وعابد الوثن ، فليس كل عن مشكاة واحدة يصدر ، إلا ما يكون من مذهب حلول واتحاد قد أفسد الأديان إذ أفسد اللسان قَبْلًا ، فَسَوَّى في دلالته بين المفترقات ، وهو ما يخالف عن الحكومات الصريحات ، إذ تقضي ضرورة بالتفريق بين المختلفات ، فلا تُسَوِّي بَيْنَهَا في الخارج بالنظر في حقائق وماهيات أخص وإن اشتركت في أجناس دلالية أعم ، هي ما يُطْلَقُ مِنَ المعنى وَيُجَرَّدُ في الذهن ، وليس الاشتراك فيها ذريعة إلى آخر في الخارج فيصير الوجود في الخارج واحدا بالعين فليس ثم وجود أخص في الخارج تمتاز آحاده بل الجوهر واحد لا يتعدد وإنما تعددت الصور والأعراض ، فما الأعيان التي تدرك بالحس في الخارج إلا صور تحكي مظاهر من وجود واحد هو الحقيقة فهي مجاز يحكي أوصافه جلالا كما صورة فرعون إذ نطق باسم الربوبية والألوهية ! ، فكان من ذلك عرفان صحيح قَدْ صَيَّرَ فرعون المؤمن العارف الذي أدرك من سِرِّ الخلق ما لم يدرك موسى الكليم ، عليه السلام ، إذ بُعِثَ إليه بكلمات النبوة توحيدا يبطل الوحدة ، فالأعيان في الخارج ، ولو لازم المقال الاتحادي ، الأعيان في الخارج ليست إلا صورا تجري مجرى المجاز إن جلالا كما صورة فرعون إذ طغى فجاوز الْحَدَّ في باب التوحيد ، أو جمالا كما صورة الكريم يوسف الصديق ، عليه السلام ، فما أَحَبَّتِ امرأة العزيز فيه إلا حقيقة الإله الذي تحكيه صورة يوسف مجازا ! ، وكذا اتحاد الكلمة ، وهي الوصف ، اتحادها بالناسوت وهو الأقنوم ، كما قد غلت النصارى في عيسى المسيح ، عليه السلام ، أو ما جَاوَزَ من اتِّحَادٍ أعم من جهة الذات والوصف ، فقال إن الإله ذَاتًا وَوَصْفًا قد اتحد بالناسوت الأرضي المحدَث صورةً تحكي حقيقة اللاهوت ، فذلك اتحاد أعم من جهة الذات والوصف ، وإن كان أخص من وجه آخر ، أَنِ اقتصر الاتحاد على عين واحدة ، عين المسيح ، عليه السلام ، في الخارج ، وكذا ما عمت به البلوى بَعْدًا في جيل قد تَأَخَّرَ ، من حلول واتحاد قد تناول المعنى ، كما قد حَلَّ المطلق الأعلى في شخصِ اعتبارٍ في السياسة والحرب قد اصطلح أنه الدولة الإله التي تحكم في الأفراد حكمَ الإلهِ في عبادِه بما احتكرت من أسباب التشريع والإنفاذ ، وكما حلت روح التشريع العليا في كاهن ينتحل نيابة تكذب عن وحي من السماء ينزل ، أو مشرِّع أرضي ظالم قد نازع الإله الحاكم ، جل وعلا ، وصفا من أخص أوصافه بل ما بَعَثَ الرسل ، عليهم السلام ، إلا لينطقوا بتوحيده العام الذي استغرق التكوين والتشريع كافة ، فكان من ذلك الأمر الذي أُطْلِقَ أَنْ : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، بل الخصومة في التشريع كانت أعظم ، فقد أقر المخالف الأول بالتكوين ، ولو في الجملة ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ، خلاف ما عمت به البلوى في الجيل المتأخر فقد صار التوحيد كله محل جحود وإنكار ! ، وإن ضرورةً في خلق هذه الأعيان ، فالعقل قَاضٍ بداهة أنها لا توجد إلا بموجِد ، فالحادث لا بد له من محدِث ، وذلك قانون ضرورة قد استقر في العقل والفطرة ، وإن لم يأت به خبر شرعة ، فهو من مقدمات البداهة في أي استدلال ينصح ، فلا يكون موجود محدَث إلا وثم موجِد أول يتقدم ، فذلك من الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، فلا يكون التحكم أنه قد وجد بلا موجِد ، فذلك الترجيح بلا مرجح ، بل لا بد في الباب من مرجح من خارج الجائز ، فذلك وصف الموجود المحدَث ، بادي الرأي ، فهو الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وذلك ، كما تقدم ، في مواضع مما يتسلسل فلا يكون منه وجود في الخارج يثبت إلا أن يرد ذلك إلى مرجح يتقدم ، فَثَانٍ فَثَالِثٌ ...... إلخ ، فلا يكون وجود في الخارج يثبت إلا أن يُرَدَّ كل أولئك إلى واجبِ وجود أول ، فوجوده قد امتاز من وجودهم ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، وإلا اطرد التسلسل فلم يكن ثم أول عنه تصدر الأعيان والأسباب كافة ، فلا يكون إلا العدم ، فليس ثم وجود في الخارج يثبت ، فلا يكون ذلك إلا أن يثبت أول واجب ، وجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وبه حسم التسلسل في الأزل إذ يمتنع ، فالوجود ليس واحدا بالعين ، كما زعم مقال الاتحاد والحلول في كُلِّ جيل ، وإن تَلَطَّفَ لكلِّ جيلٍ بما يواطئ من التأويل ! ، بل الصحيح أنه واحد بالجنس فتحته أنواع منها واجب الوجود الأول الذي تَنْتَهِي إليه الموجودات كافة ، إن أنواعا أو آحادا ، فهي تصدر عنه صدور المخلوق المحدَث عن الخالق المحدِث فهو الأول فلا أول قبله ، فلا يستوي الإله الحق ، جل وعلا ، وما سواه من آلهة الباطل ، من أوثان حس أو معنى ، بها نازع الطاغوت ذَا الملكوت والجبروت ،
![]() وهو ، أيضا ، مما يزيد في الدلالة شطرا آخر يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِيَاذُ على حَدِّ المقاسمة ، مقاسمة جنس أعلى يَتَنَاوَلُ الطَّلَبَ فَهُوَ بَيْنَ جَلْبٍ وَدَفْعٍ ، جلبِ المصالح وهي الخير ، فذلك اللِّيَاذُ الَّذِي يطلب ، وثم آخر يشاطره الجنس الأعلى ، على التفصيل آنف الذكر ، وذلك العياذ الذي يدفع المفاسد وهي الشر ، فَحَالُ الخلقِ ، أَبَدًا ، بين خَيْرٍ يُطْلَبُ ، وَشَرٍّ يُدْفَعُ ، وَدَفْعُ الشرِّ أولى إِذْ دَفْعُ المفاسِدِ يقدم على جلب المصالح ، كما يقول أهل الأصول والمقاصد ، فَيُسْتَعَاذُ أولا ، وذلك تطهير المحل مما يدنس ، فتكون التخلية قبل التحلية ، ويكون دَفْعُ الْوَارِدِ الفاسدِ قَبْلَ جَلْبِ الصَّادِرِ النَّافِعِ ، فإن الاعتقاد لا يَنْصَحُ إِنْ حَصَلَ إِقْرَارٌ وإذعانٌ أَنَّ الله ، جل وعلا ، معبود بحق ، وحصل آخر يشرك فهو يُعْطِي المخلوقَ بَعْضًا من وصف الإله الحق ، وإن أَقَرَّ أَنَّهُ دُونَهُ ، فلا يساويه مساواةَ الند لآخر ، كما قال بعض من حَقَّقَ ، فَلَيْسَ ثَمَّ أمة تعتقد إلهين معبودين قد استويا من كل وجه ! ، بل من أشرك فَلَا يَنْفَكُّ يُعْطِي أحد الشركاء رُتْبَةً أعلى ، كما النصارى المثلِّثة ، فقد أعطوا الأب رُتْبَةً تَعْلُو الابنَ وروحَ القدسِ ، وكما المثنوية ، فإن النور خير من الظلمة ، وإن كانا عندهم إلهين قد اشتركا في وصف القدم ، فإن النور أفضل ، فكان من ذلك اشتراك في جنس القدم مع حصولِ تَفَاوُتٍ في الرتبة ، وكذا المجوس ، من باب أولى ، فإن الظلمة عندهم محدَثة ، فَثَمَّ قديم واحد وهو النور ، فَعَلَا في الرُّتْبَةِ وجاوز الظلمة ، ولم يسلم كُلُّ أولئك من الشرك ، وإن كان في مقالهم أَوَّلٌ يفضل في الرتبة فَثَمَّ شريك له في الأمر ، لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أولهم حق ، كما في مقال المثلِّثة ، فإن الأب عندهم هو الإله الذي خلق ، وهو الخالق الحق ، ولكنهم قد ضاهوا به الابن وروح القدس في وصف القدم ، مع ما أحدثوا من مقال الأقانيم ، أنها أوصاف ، من وجه ، فَهِيَ معان كالعلم والحياة ، وهي ، مع ذلك ، أقانيم ذات مَاهِيَّةٍ فِي الخارجِ تَسْتَقِلُّ ، فكان من الشرك في وصف القدم ، وَإِنْ أَثْبَتُوا الأب الخالق الأول ، وله من الرُّتْبَةِ مَا قد عَلَا ، ولكنهم لم يَسْلَمُوا من شركٍ به قد غَلَا في المشرَكات ، وإن كانت دون الرب الأول ، جل وعلا ، فَلَمْ يحصل بهذا الإثبات ، إِثْبَاتِ الخالقِ الأول ، بل وإثبات رُتْبَةٍ له تجاوز بقية المشرَكات من الأقانيم ، لم يحصل بذلك توحيد يجزئ ، إذ كان الشرك ، ولو في بَعْضٍ من الوصف ، مع اختلاف في الماهيات الحاصلة في الخارج ، فكان الشرك في وصف القدم أَنِ الْتَزَمَ أولئك ما لَا يُتَصَوَّرُ إلا الفرضَ المجرَّد فِي الذهن ، أَنَّ الأوصاف تحصل فِي الخارج على حد الاستقلال كما الذوات ، وليس المعنى مما يقوم في الخارج إلا بالذات ، فهو يقوم بها قيامَ الوصفِ بالموصوفِ ، وبهما جميعا الحقيقة الواحدة في الخارج تثبت ، حقيقة المسَمَّى الذي يدل عليه الاسم ، فهو الْعَلَمُ على الذات وما يقوم بها من الوصف ، فَلَيْسَ ثَمَّ وصف يستقل كما الذات ، فيكون الجوهر أو الأقنوم الذي يُضَاهِي الذات ، فهو يشاطرها وصف القدم ، وذلك الشرك ، وإن تقدمته الذات في الرتبة ، على التفصيل آنف الذكر . فكل أولئك مِنَ الشِّرْكِ وَهُوَ الشر والمفسدة التي يُسْتَعَاذُ مِنْهَا لَدَى المبدإِ قَبْلَ طَلَبِ خَيْرٍ من التوحيد الذي يجزئ ، توحيد النبوات ، إِنْ ربوبيةً بأفعال الخالق ، أو ألوهيةً بأفعال المكلَّف ، فَقَبْلَ طَلَبِ الهداية والرشاد ، وذلك إيجاب ، يكون دفع الغواية والضلال ، وذلك سلب ، فإذا سُلِبَ المحلُّ أوصافَ النَّقْصِ التي تُكَدِّرُهُ ، كان إيجاب يُحَلِّيهِ وَيُزَيِّنُهُ بأوصاف الكمال ، وقد تهيأ لها المحل ، فليس ثم نقص يكدرها ، فيقدح في كمالها ، بل قد يذهب به ، كما الشرك إذا كَدَّرَ صفاءَ التوحيد أن لم يكن ثم اجتهاد من المكلَّف أَنْ يُطَهِّرَ المحلَّ وَيُخَلِّيهِ من أوضار الشرك ، فَثَمَّ بَعْضٌ لِمَّا يَزَلْ بالقلبِ عَالِقًا ، فإذا لم يَتَحَرَّ العبد ما استطاع فَتَوْحِيدُهُ لَا يَسْلَمُ من شائبةٍ تُكَدِّرُ صفوه بل قد تَنْقُضُ أصله ! ، فَوَجَبَ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَحَرَّى دون أن يوسوس ويتكلف في التفتيش والتدقيق ، فيكون من ذلك بحث بالمناقيش يَغْلُو فِي تَحَرِّي النَّوَايَا والقصودِ ، فَيَجْهَدُ صاحبُه إذ قد كَلَّفَ نفسه ما لا يطاق أَنْ يُحَصِّلَ الحاصلَ ، فالفرض الواجب أن يحرر النية لدى المبدإ ، فإذا حَرَّرَهَا شَرَعَ بَعْدًا في العمل ، فهو المراد من العلم ، وإن شاطره قسمة الدين ، فالدين هو : العلم وذلك الاعتقاد ، والعمل وذلك الشَّرْعُ ، فالدين : عُلُومٌ يَنْتَحِلُهَا الباطن ، وأعمال يمتثلها الظاهر ، وإن كان من الأعمال ما بَطَنَ ، وإنما القسمة : قسمةُ الغالبِ ، إذ أغلب الأعمال مما يظهر في حركات الجوارح ، وإن كان ثم نوع أشرف من حركات الجنان الباطن ، ومبدأ الجميع ، كما تقدم ، النية والقصد ، فإذا حَرَّرَهَا صاحبُها شَرَعَ في العمل ، فلا يتكلف مراجعةً بعد أخرى ، فَيُحَصِّلَ من النية ما قد حُصِّلَ ، فلا ينفك يوسوس في نفسه وهو ما يُجْهِدُ وَيُمِلُّ فَيُفْضِي إلى الترك ، أَنْ غَلَا ، ولو في خيرٍ يعظم ، فما خير أعظم من إخلاص النوايا والقصود ؟! ، فذلك خير ما لم يخرج بصاحبه عن حد المعقول ، فيكون من ذلك وسواس يضجر ، وإنما العدل أن يجتهد في تحرير النية أولا وَدَفْعِ ما يَعْرِضُ تَالِيًا من المفسِدَاتِ ثم يشرع في العمل بِرَسْمِ التوكل والأخذ بالأسباب تأولا لباطن من توحيد الوجهة ، وظاهرٌ يمتثل أحكام الشرعة ، ومدارها على أَسْبَابٍ يباشرها العبد ، وذلك نظام الشرع مع إيمان أول بالقدر ، وذلك نظام التوحيد ، فإذا كان ذلك فَلْيُحْسِنِ الظن بِرَبِّهِ ، جل وعلا ، مع استحضارِ مقام الرهب كما الرغب تأولا لما كان من حال النبوة الأولى ، فـ : (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) ، ولا يَغْلِبَنَّ أحدهما الآخر بل يَعْدِلُ المكلَّفُ بَيْنَهُمَا في القسمة ، فَرَغَبٌ وَرَهَبٌ ، وبهما حد العبادة المجزئة ، فإذا عرض بَعْدًا من خَاطِرٍ يفسد النية ، فهو يدفعه ولا يتكلف في تَتَبُّعِهِ ، بل يعرض عنه ولا يضره حديث النفس ما لم يَرْسَخْ فَيَصِير اعتقادًا يجزم ، فَعُفِيَ من ذلك ، وهو مما تجاوز الرب الرحيم ، جل وعلا ، ما لم يتكلم أو يعمل ، كما في الخبر المصدق ، فـ : "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا، ما لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ بهِ" ، فذلك حد يجزئ في تطهير المحل وَتَخْلِيَتِهِ من أوضارِ الشرك قَبْلَ تَالٍ يطلب من خَيرٍ ، وبه تحلية المحل وعمرانه بما نصح من حكومات الوحي الخبرية والإنشائية ، فَبِهَا عمارة المحال كافة بما ينفع في الأولى والآخرة ، فلا تَنْفَعُ تحليةٌ وَلَمَّا يُطَهَّرِ المحلُّ بَعْدُ من الكدر ، فذلك مما يفسد ما يَرِدُ من المادة النافعة ، فإذا كان في المحل بقية شرك لم يستعذ منه العبد قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَ لِيَاذًا به يطلب خَيْرًا يَنْصَحُ المحل بما كان من توحيدٍ هو واجب التكليف الأول ، إذا كان في المحل بَقِيَّةُ شركٍ ، لَمْ يَسْلَمِ التَّوْحِيدُ الْوَارِدُ من كدر ، وهو مِمَّا يتفاوت ، فقد يكون من بقية الشرك ناقض لأصل التوحيد الجامع ، فيكون من شعبِ الشرك الأكبر ما لم يُغَادِرِ المحل ، كما تقدم من حالِ مَنْ عَبَدَ الإله الحق ، جل وعلا ، وغلا في آخر من معبود باطل ، فَعَبَدَهُ ، ولو لم يعتقد المساواة من كلِّ وجه ، فجعل الإله الحق هو الأول ، فلا يسلم له ذلك إلا أن يجعله الأوحد فلا يكون في منصب التعظيم والتأليه إلا هو ، وقد يكون من شعب الشرك أصغر يَنْقُضُ الكمال الواجب فلا يَنْفَكُّ يَنَالُ من التوحيد الناصح ، وإن لم ينقض الأصل الجامع ، فلا يأمن صاحبه وإن كانت حاله أحسن من الأول الذي أَفْسَدَ الشركُ أصلَ توحيدِه الجامع ، لا يأمن أن يَصِيرَ الشرك الأصغر سَبَبًا فِي آخر أكبر ، لا جرم كان النهي عنه سَدًّا لذريعةِ مَا هو أفحش من شركٍ أكبرَ فهو لأصل الدين يَنْقُضُ ، فَكَانَ الْعِيَاذُ قَبْلَ اللِّيَاذِ ، على التفصيل آنف الذكر ، وكان دفع المفسدة قبل جلب المصلحة ، وكانت التَّخْلِيَةُ قَبْلَ التَّحْلِيَةِ ، فَيُسْتَعَاذُ من الشرك قَبْلَ لِيَاذٍ تَالٍ يطلب التوحيد ، لا جرم كان حد الشهادة المجزئة في حصول اسم ديني ينفع ، كان حدها ابتداء النفي الذي يُخَلِّي المحل من آلهة تبطل ، فالعبد يستعيذ منها وَيَنْفِرُ ، فـ : "لا إله" ، وذلك كفران بكل معبود باطل سوى المعبود الحق ، جل وعلا ، لا جرم كان مِنْ حَدِّ العروة الوثقى ، عروةِ التوحيد العظمى ، كان من حَدِّهَا أولٌّ هو الكفران بالطاغوت ، وتلك تخلية المحل قبل التحلية بَعْدًا بإيمان بالله ، جل وعلا ، يَنْصَحُ ، فكان من "لَا إِلَهَ" : كُفْرَانٌ بِالطَّاغُوتِ الذي يُضَاهِي به عُبَّادُهُ الإلهَ الحقَّ ، جل وعلا ، فيكون من ذلك الغلو في المعبود أو المتبوع أو المطاع ، وهو ما استغرق طاغوت الحس وآخر من المعنى ، طاغوتا من اعتقاد باطل أو تشريع جائر يضاهي به صاحبُه الحقَّ من اعتقاد التوحيد وتشريع الوحي الذي جاءت به النبوات ، وإن اختلفت الأمهات ، فكان من دين واحد أبٌ يجمع ، وكان من الشرائع أمهاتٌ تَكْثُرُ ، قد رُدَّتْ إلى خاتمة من الرسالات تستغرق ، فهي خلاصة ما تَقَدَّمَ من الأصول ، وهي شَارِحَةٌ بما فَصَّلَتْ من الفروع ، وليس ثم بعدها دينٌ يُقْبَلُ إلا أن تكون هي المرجع ، فذلك توحيد تال يَرْفِدُ توحيدَ المرسِل ، جل وعلا ، فَثَمَّ توحيد المرسَل الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فالإيمان به يُرَادُ لذاته ، وَيُرَادُ لِغَيْرٍ بما كان من بُشْرَى نُبُوَّةٍ تقدمت وميثاق أول قد أخذ على الأمم كافة ، فإيمانهم به ونصرته امتثال لما جاءت به نبواتهم ، من وجه ، فـ : (إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، فذلك إيمان بأولى ، مع إيمان بِثَانِيَةٍ هي المرادُ لِذَاتِهِ ، من كلِّ وجهٍ ، أن كان ثم من عقدها ما نصح في الخبريات كافة ، لا سيما الإلهيات وهي قطبُ رَحًى في الباب ، ولأجلها قد تَنَزَّلَتِ النُّبُوَّاتُ بما صَحَّ من الأخبار ، وتلك خلاصة العبادة التي لأجلها خلق الجن والإنس ، كما قد أبان عنه محكم الذكر ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، ولا يحصل ذلك ، بداهة ، حقيقةً لا دعوى ، إلا أن يأخذ المكلَّف الدِّينَ كُلَّهُ بِقُوَّةٍ ، فَيَأْخُذَ من كتابه توحيدا يُصَدَّقُ ، وتشريعا يُمْتَثَلُ ، فَيُصَدِّقُ العلمَ بالعمل ، ولا يكون العلم دعوى تجرد لا دليل عليها من العمل يشهد ، فالنبوة الخاتمة قد جاءت بما يكفي في حصول الاسم الديني المجزئ إِنْ في الاعتقاد بما صدق من الخبر ، أو في التشريع بما عدل من الحكم ، فكان من ذلك حَدُّ عبادةٍ تجزئ إذ لمحال التكليف كافة تستغرق ، فهي ، كما حدها بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، الاسم الجامع لما يحب الله ، جل وعلا ، وَيَرْضَى من الأقوال والأفعال كافة ، ما بطن منها وما ظهر ، وذلك مما لا ينال إلا من مشكاة النبوة تَوْقِيفًا ، وإن كان ثم من معاني الحسن والقبح ما رُكِزَ في الوجدان والعقل ، فهو آلة تصح في درك المعاني الكلية ، فلا تنفك مع ذلك تطلب الرائد المصدِّق من وحي قد تَنَزَّلَ ، وهو ، مع ذلك ، يُبِينُ لها عما أُجْمِلَ من كلياتها الجامعة ، فَثَمَّ من فروع الخبر والحكم ما يُفَصِّلُ مجمل التوحيد والعدل ، فالتوحيد تُفَصِّلُهُ الأخبارُ والعدل تُفَصِّلُهُ الأحكامُ ، ولا ينفك كلٌّ يطلب من الناصح ما يُقَوِّمُ إذا كان ثم اعوجاج يطرأ ، فكان من النبوات ذلك المقوِّم الناصح بما صَدَقَ من أخباره وَعَدَلَ من أحكامه ، كما كان منه قَبْلًا المفصِّل ، وكذا المصدِّق لركز الفطرة الأولى لدى المبدإ ، فالعقل ، كما تقدم ، قَدْ رُكِزَتْ فيه قوى من التوحيد الخبري ، وأخرى من التحسين والتقبيح الحكمي ، فكان ذلك فطرة خلق أولى قد باشرتها شِرْعَةُ نُبُوَّةٍ تَنْصَحُ ، فهي رائد يَصْدُقُ في خبره وحكمه ، وكل أولئك توحيد لمرسَل هو شطر شهادة يَتْبَعُ أن : "محمدًّا رسولُ الله "، وهو لأول يلزم إذ يبين عن التكليف المجزئ في حصول عروة وثقى هي المحكمة التي بها الدين النافع يثبت ، ولا تكون ، كما محل شاهد أول ، إلا بالنفي "لَا إِلَهَ" ، وهو ما يعدل العياذ ، العياذ من كلِّ معبود باطل ، ثم يكون الإثبات بَعْدًا إذ خُلِّيَ المحل مما يَقْبُحُ من الاعتقاد والتصور والإرادة ، فتكون التحلية بالإثبات "إِلَّا الله" ، فذلك إثبات المعبود بحق واحدا لا شريك له في الوصف أو الحكم ، قد انْفَرَدَ بأجناسِ التوحيد كافة ، علما وعملا ، ربوبيةً بها يدبر العالم ، وألوهيةً بها يَتَنَسَّكُ العابد ، وهو يعدل في الدعاء لِيَاذًا يطلب ما يَجْمُلُ من توحيد وتشريع يَنْصَحُ صاحبَه في الأولى والآخرة ، فيكون عياذ به التخلية ، كما العياذ من علم لا ينفع ، ثم يكون تال من لِيَاذٍ هو قسيمه في الحد ، وبه التحلية بِعِلْمٍ يَنْفَعُ ، فذكر الخبر شطرا وهو العياذ من علمٍ لا ينفع ، وقد دل على تال هو لِيَاذٌ يطلب من العلم ما يَنْفَعُ ، فذلك ما لَزِمَ في القسمة شطرا يضاهي وبهما اكتمال القسمة في العقل ، فَثَمَّ من الدعاء آنف الذكر أن : "اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ" ، ثم منه دليل مطابقة بالنظر في المنطوق ، فهو يطابق المدلول الذي لأجله قد وَرَدَ ، استعاذةً من علم لا ينفع ، فدلالة الدعاء على هذا القدر من المعنى : دلالة مطابقة ، وثم أخرى وهي دلالة الالتزام بِالنَّظَرِ فِي قَسِيمٍ له يشاطره الحد ، فيكون من لَازِمَ ذَلِكَ طَلَبُ ما يَنْفَعُ من العلم ، وبهما جميعا مطابقة أخرى تستغرق من الجنسِ ما علا ، وهو حركة الجنان إرادةً ، فمنها إرادةُ تَرْكٍ بما يكون من فحوى استعاذة مما لا ينفع ، وذلك مظنة الترك والمفارقة ، ومنها أخرى تشاطرها وهي إرادة الفعل وتلك فحوى اللِّيَاذِ طَلَبًا لما ينفع من العلم ، ولا يكون ذلك إلا أن ينصح القصد أولا ، وأن يعقب العلمَ عملٌ يصدق . فلا ينفك العالم المسدَّد يَتَأَوَّلُ الخبر أَنْ : (مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، وذلك ، كما تقدم ، من القصر حقيقةً بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، مع دلالة العامل "أُوتِيَ" ، فهو دليل يَنْفِي ذاتيةً في الاكتساب ، إذ ثم مُؤْتٍ له أول ، فَلَيْسَ ذلك من العلم الذي حَصَلَ لهم بلا مُعَلِّمٍ ، كما اقْتَرَحَ بعض من مذاهبِ فَيْضٍ من عَقْلٍ فَعَّالٍ ، فيحصل الاتصال بما يكون من فناء وجود ، ويكون الاتحاد بين الإنسان والطبيعة ، كما يحكي بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، من مُثُلِ حكمةٍ أولى قد صارت بَعْدًا ذريعة إلى حلول واتحاد يصير الوجود وَاحِدًا لا يَتَعَدَّدُ ، فهو واحد بالعين ، لا بالجنس الذي تمتاز آحاده في الخارج ، كما تقدم في مواضع من قسمة الضرورة التي بها يثبت وجود هذا العالم المخلوق ، فلا يكون ذلك إلا أن يُرَدَّ وهو الجائز المحتمل إلى أول قد وجب الوجوبَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فإليه تُرَدَّ الموجودات المحدَثات كافة ، إذ يرجح فيها ، وهي ، كما تقدم ، من الجائز ، بادي الرأي ، فيرجح فيها ما به تجب في الخارج ، لا الوجوب الذاتي فليس ذلك إلا لواحد تنتهي إليه الموجودات المحدثات كافة إذ تصدر عنه صدور المخلوق عن الخالق ، وتلك قصة النبوات في خلق هذا الكون المحدَث بأعيانه وأحواله كَافَّةً ، فلم يكن صدوره الصدور الاضطراري عن علة فاعلة بالطبع مجردةٍ من الوصف الفاعل بعلم ومشيئة ، وإنما كان الخلق بالعلم الأول المقدِّر الذي أحاط واستغرق ، مع مشيئة تالية ترجح ، فهي لذلك العلم الأول تَتَأَوَّلُ أن تخرجه من القوة إلى الفعل ، فتلك حكاية النبوة في قسمة الوجود ، وفي حصول هذا العالم المخلوق من العدم ، فلم يكن في المبدإ له ثبوت في الخارج ، بل كان من ذلك ثبوت في علم أول تقدم ، وهو الأزلي الذي استغرق ، فالخلق المحدَث وهو الجائز ، لا ينفك يطلب مُوجِبًا من خارج يرجح ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ فلا ينفك يطلب حسما ، وإلا كان العدم إذ لم يبلغ الإسناد نهايةً هي الأصل والمخرج ، فيكون التسلسل الممتنع في المؤثرين أزلا ، يكون من ذلك ما امتنع ضرورة في النقل والعقل والفطرة والحس ، وكذا ما كان من مثال حكمة تقدم ، قد غلا في هذا الإنسان المحدَث ، فَصَيَّرَهُ الأصل ، وكان من اتحاد بالطبيعة ما يضاهي مقال الاتحاد والحلول بما يكون من تهيئة المحل رياضة بها فناء واضمحلال لوجود فيتحد بالمطلق أو الموجود الأعلى ، ويحصل له اتصال بالعقل الفعال فتفيض عليه العلوم بلا معلِّم ، وذلك مما قد خالف بصاحبه عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فلم يمز بين واجب الوجود الأول ، وله من الوصف ذاتي لا يُعَلَّلُ ، ومنه العلم فعلمه ، جل وعلا ، الأول الأزلي ، وعلم المخلوق على ضد فهو المكتسب بعد جهل ، إذ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، فالمحل محدَث وما يقوم به من الوصف مثله ، فلا يكون العلم في حق المخلوق إلا اكتسابا ، إلا ما كان من علوم النبوات فهي استثناء أخص لا يقاس عليه ، فذلك العلم الوهبي بما يكون من وحي إلهي يتحمله الملَك النوراني ، فلا ينال بكسب أو رياضة ، كما قد غلا بَعْضٌ في الباب ، فكان من ذلك ، كما تقدم ، ذريعة إلى فناء واتحاد بالواجب الأول ، وصيرورة كلٍّ واحدًا بالعين فلا امتياز لخالق من مخلوق ، وذلك من شؤمِ حكمةٍ أولى قد جَفَتِ النبوة فَغَلَبَ عليها مقال أرضي محدث يأرز إلى مثال وثني مُبْطِلٍ قد صير الآلهة صناعة تحكي حاجات الخلق فهي تسدها فَلَيْسَ الوحي إلا الانعكاس في الخارج لما حصل في العقل والوجدان من حاجاتٍ وَرَغَائِبَ فمصدرها من الإنسان ذاتي ، وإنما تَنْزِلُ من سماء عقله فيحصل من صورتها في الخارج مَلَكٌ يكلم العقل بما عنه قد صدر أولا فيصير الإله المشرع والنبي المكلَّم في آن واحد ، وله من ذلك سيادةٌ تُطْلَقُ ، وعلم محيط قد استغرق ، والصحيح أن العلم في حَقِّهِ جائز لا واجب ، وأنه المحدَث بعد أن لم يَكُنْ ، كما وجوده مبدأ الأمر ، فَلَيْسَ العلم في حق المخلوق : الذاتيَّ الذي لا يعلل ، بل المخلوق قد جُبِلَ على ضِدٍّ من الجهل فهو الأصل فيه وَصْفًا هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا ينفك يطلب من خارج المعلِّم الذي يُؤْتِيهِ من العلم ما به يَرْفَعُ وصف الجهل ، وإن لم يكن من ذلك إلا قليل ، وإن بلغ صاحبه من العلم ما بلغ ، فـ : (مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) . فكان من الإشارة آنفة الذكر في قوله ![]() فكل أولئك مما تدحضه هذه الإشارة إلى قريب يعجز من خلق الله ، جل وعلا ، المتقن في الماهية المحكم في السنة الجارية ، في قوله ![]() ومن ثم كان الإضراب انتقالا ، في قوله ![]() وثم من اسم "الظالمون" ما يحكي من الدلالات ما تَعَدَّدَ ، فهو أولا يَحْكِي من المعنى ، معنى الظلم ، وهو ضد من العدل أن يوضع الشيء في غير الموضع الذي يُوَاطِئُ ، وأعظمه ، بداهة ، الظلم الأكبر في باب الاعتقاد ، أَنْ تُوضَعَ العبادة توحيدا وتشريعا في محل محدَث لا يستحق إذ لم يخلق ولم يوجد ولم يصور ولم يدبر ، ولم يكن له من علم محيط ما استغرق وبه يشرع من الأحكام ما به صلاح الحال والمآل ، بل الجهل وصف المحدَثات كافة ، إذ وجدت من العدم وخرجت إلى الوجود أولا وهي لا تعلم ، فلا يحصل لها العلم إلا تاليا يُكْتَسَبُ ، فليس وصف الذات الأول ، بل هو مما اكتسب بالأسباب من خارج ، لا كعلم الرب الأول ، جل وعلا ، العلم الأول الذي ثَبَتَ فِي الأزل ، فَلَا يُكْتَسَبُ بالأسبابِ ، بل الأسباب كافة عنه تصدر فهي من آثارِ تَقْدِيرِهِ وَفِعْلِهِ ، فالعدل قَاضٍ أَنْ تُرَدَّ العبادة إلى الرب الخالق إذ هو الإله الحاكم ، فَلَهُ من ذلك كلمات تكوين تَنْفُذُ وأخرى من التشريع تَحْكُمُ ، وليس أحد له في هذا الوصف يَشْرَكُ ، لِيَصِحَّ ، ولو فَرْضًا ، أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرٌ من تلك الآلهة الباطلة ، بل خاصة الإنسان الشريف ، كما يقول أهل الشأن ، أَنَّهُ يَسْتَنْكِفُ أن يخضع لمخلوق مِثْلِهِ ، فَبِمَ امتاز عنه ليخضع له ؟! ، وكلٌّ محدَثٌ ذو عقل ، فَبِمَ امتاز عقل زيد من عقل عمرو ؟ ، ليخضع الأخير للأول ، فلا ينفك كلٌّ يطلب أعلى يجاوز ، فَهُمَا له يخضعان خضوعَ الاضطرارِ إن في التكوين أو في التشريع فلا رَبَّ يخلق ولا إله يحكم إلا هو ، فالعرب مثالا ذكره صاحب "المقدمة" ![]() وَأَيَّـامٍ لَنَـا غُـرٍّ طِــوَالٍ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() وذلك قانون الحكمة إن لم يكن ثَمَّ بَعْدُ وحيٌ هو المرجع الأعلى ، فلا يخضع أحدهم لآخر ، فلم يكن منهم ذلك بَعْدًا إلا أن آمنوا بالوحي مرجعا يجاوز من خارج قد أذهب عنهم عصبية النفس والجمع ، فَصَارَ الوحي هو وحده المرجع المجاوز من خارج ، فلا يخضعون وقد جُبِلَتْ نفوسهم أن يَنْفِرُوا من أي قيد حاكم ، لا يخضعون إلا للوحي ، لا جرم كان من مَنْعِ بَعْضٍ لِزَكَاةِ المالِ في حروب الردة ، كان من ذلك حكاية لهذا الطبع ، طبع الأنفة ، أن غَلَا فيه صاحبه فلم يأطره على جادة الوحي ، فإن الصديق ، ![]() وكذا يقال في خضوع المرأة لزوجها ، فإنها إن جردت المثال في العقل فلم يكن ثم مرجع يجاوز من وحي ، فما يحملها أن تسمع وتطيع لبشر مثلها ؟! ، وإن كان من خلقه ما قد فُضِّلَ ، وذلك الغالب لا القاطع ، المجموع لا الجميع ، فإذا حصل من امرأةٍ قُوَّةٌ في النظر والحكم وبه تروم الاستبداد بالرأي ، فما يحملها أن تسمع وتطيع لزوج قد يكون دونها في العقل والنظر ؟ ، فلا تَنْقَادُ إلا إذا جردت النية والقصد أن تسمع وتطيع الأمر ، أمر الشرع فهو ما أمرها أن تسمع وتطيع لزوج , وكلُّ ذلك من العدل في الحكم أن يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ، وهو ما ينسخ الظلم الذي ذُمَّ في الآية : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فالإضراب قد انتقل إلى ذَمِّ الظالم الذي ضاهى خلق الله ، جل وعلا ، المحكم بآخر هو الناقص المحدَث ، فَثَمَّ من اسم الظلم عام يستغرق كلَّ حكومةٍ تكون في غير الموضع ، ومنها واحد قد حكاه السياق مِثَالًا وهو التسوية بين مختلفين : خلق الله ، جل وعلا ، المحكَم ، وما كان من آخر هو الناقص المحدث ، فذلك مثال يُبِينُ عن معنى الظلم العام الذي يستغرق ، كما تقدم ، كل حكومة تكون في غير الموضع ، وهو ما عَمَّ ، من وجه آخر ، إذ احتمل في الدلالة : الظلم الأكبر الذي ينقض أصل الدين الجامع ، وهو ما يَتَبَادَرُ من سِيَاقِ الآيِ ، وإن احتمل آخر يشاطره القسمة ، قسمة الظلم الذي يجرده الذهن ويطلق ، إذ منه ظلم أكبر ينقض أصل الدين الجامع ، وآخرُ أصغر فهو يَنْقُضُ الكمالَ الواجب ، فكلاهما مما يستغرقه جنس الظلم المطلق في الذهن ، إذ تحته أنواع وآحاد على التفصيل آنف الذكر ، وكلا الوجهين ، لو تدبر الناظر ، مما يصح في النظر ، وبه شاهد به يستأنس من يُجَوِّزُ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فذلك لفظ واحد يحكي معنى الظلم ، وهو ، مع ذلك ، يستغرق من الدلالة ما يكثر ، فحصل الاشتراك في الاسم ، وحصل الاختلاف في المسمى في الخارج إذ احتمل ما تقدم من ظلم أكبر ينقض الأصل الجامع وآخر أصغر ينقض الكمال الواجب ، فيكون من ضلالِ كُلٍّ ما يواطئ ظلمه ، فضلال الأول إذ نقض الأصل الجامع ، ضلاله أعظم ، وإن حصل لكلٍّ من معنى الظلم ما يوقعه في الضلال المبين الذي استغرقه بدلالة الظرفية وذلك آكد في الذم أن صار الضلال كالوعاء الذي استغرق الظالم وأحاط به من كل جهة إحاطة تامة تستغرق ، فالظلم سبب في الضلال ، وهو ما يرفد "أل" في "الظالمون" بمعنى تال وهو الوصل على تقدير : بل الذين ظلموا في ضلال مبين ، فيكون من المعنى الذي اشتقت منه الصلة ، وهو الظلم ، يكون منه علة لِمَا تلا من حكم الوقوع في ضلال مبين لا يخفى ، فهو مما استبان لدى كلِّ ذي عقل ينصح إلا أن يخذل فَيَرَى القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، فقد فسدت منه مقدمات الضرورة في الاستدلال المحكم ، وهو ما يحكي آخر يخالف بما كان من مفهوم أن العدل سبب في حصول الهدى المبين كما أن الظلم سبب في حصول الضلال المبين ، فاطرد الخبر وانعكس مع دلالة إنشاء تنهى عن الظلم إذ هو سبب في حصول الضلال المبين ، وتأمر بضد ، فهو لازم للأول ، فتأمر بالعدل إذ هو سبب في الهدى المبين ، وثم من دلالة "أل" في "الظالمون" ، أيضا ، ما يكون لدى المبدإ من بَيَانٍ لجنس المدخول وهو الظلم ، فهو مناط الحكم ، على التفصيل آنف الذكر ، مع دلالة عموم يستغرق ، فهو يستغرق وجوه المعنى ، وذلك ما يصرفه إلى الظلم الأكبر الناقض لأصل الدين الجامع وإن احتمل ضدا من ظلم أصغر ينقض الكمال الواجب ، وهو ، أيضا ، العموم الذي يستغرق آحاد المدخول من القبيل الظالم ، وهو ما حُدَّ جمعا مذكرا ، فذلك حَدُّ التغليب وليس يقتصر بداهة على القبيل المذكر بالنظر في أصل وضع أول في اللسان ، بل ثم من دلالة التغليب ما يجاوز فهو يستغرق كلَّ محلٍّ قد تَوَجَّهَ إليه التكليف لقرينة العموم المستصحب في خطاب التشريع المنزل إلا أن يكون ثم دليل يخصص ، وليس من ذلك شيء في وصف الظلم أن يكون سببا في حصول الضلال المبين ، فذلك ، بداهة ، مما يستوي فيه الذكر والأنثى ، فالظالمون في ضلال مبين ، والظالمات في ضلال مبين ، وهو ما تحكيه ، أيضا ، دلالة الوصل على تقدير : بل الذين ظلموا في ضلال مبين ، فاستغرق تغليبا الجمع المؤنث على تقدير : بل اللاتي ظَلَمْنَ في ضلال مبين ، مع ما تقدم من التعليل أَنْ أُنِيطَ الحكم وهو حصول الضلال المبين بالمعنى الذي اشتقت منه الصلة وهو الظلم ، فكل أولئك مما دلت عليه "أل" في "الظالمون" ، وهو ، أيضا ، شاهد به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فذلك لفظ واحد في النطق وله من الدلالات في الخارج ما يكثر ، وقد صح الجمع بينها في سياق واحد إذ لا تعارض ، فحسن ذلك إِثْرَاءً له بالمعنى أن يَرِدَ منه كثير على واحد من المبنى . والله أعلى وأعلم . |
#5
|
|||
|
|||
![]() فكان من بَعْضٍ أن ناجز الخالق الأول ، جل وعلا ، وصفَ الخلق المطلق ، فَرَامَ أن يضاهي خلقه بما تَنَاوَلَ من أدوات البحث والتجريب في المعمل ، فَعَبَثَ بمادة الوراثة الأولى بالتقديم والتأخير ولم يخرج في جمل قد أحدثها ، نصحت أو فسدت ، لم يخرج عن معجم أول فليس يحدث من ذلك ما لم يكن في المبدإ ، فلا يطيق الخلقَ من العدم ، وإنما غايته أن يضاهي ما وجد من مادة الخلق الأولى ، وإن لم يطق تاليا أخص أن يَبُثَّ فيها الحياة فهي سر ألطف ، فلا يضاهي إلا مصنوعا أول ، وإذا ضاهاه فَفٍي المادة الميتة دون الحياة فلا يكون ذلك إلا يدخل مَيِّتَهُ الذي نحت في الخارج في نظام حي ، فيكون من ذلك ، كما يذكر بعض من حَقَّقَ ، فيكون منه أَنْ يَنْقَسِمَ وَيَتَكَاثَرَ فلم تدب فيه الحياة إلا أن أُدْخِلَ نظام حياة محكم ، فليس من خلقه ولا يطيق له صنعا ، ولو بَسِيطًا يأتلف من وحدة واحدة من خلية في الخارج ، فلا يطيق المخالف أن يَصْنَعَ واحدة ، وإن ضاهى الأجزاء فمن أين له بالحياة إلا أن يقتبسها من نظام حي فلا يكون من مَيِّتِهِ ما يَحْيَى إلا أن تُقْتَبَسَ له حياة من نظام حي ، وهو ما يَرُدُّ الحياة إلى ذلك النظام لا إلى ما ضاهى المخالفُ في المعمل ، فلا يطيق الحياة التي هي أصل لمادته التي لا حياة فيها لدى المبدإ ، مع حاجة وافتقار ، فلا صانع يزعم طَلَاقَةَ قدرةٍ وهو يفتقر إلى آخر يكمل به ما صنع بل ويفتقر إلى أول عنه يصدر في مضاهاة مِثَالٍ حياة قد ثبت لدى المبدإ ، فهو ، من وجه ، يفتقر إلى مادة أولى ، وهو تال يُقَلِّدُ فلا يُبْدِعُ الجديد ولا يخرج عن سنن التكوين ، وهو ثالث لا يبث في مصنوعه الحياةَ إذ لا يطيق ، فذلك مما استأثر به الرب المهيمن ، جل وعلا ، وبه نَصَحَ توحيد أول في التكليف ، توحيد الرب ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، بأوصاف الخلق والرزق والتدبير ، وكان من ذلك ما نصح في القياس المحكم ، إذ تَنَاوَلَ الباب على حد التلازم بين ملزوم ولازم ، فكان من الملزوم أول ، وهو ما كان من هذا الخلق المتقَن المحكَم ، وما كان من وجوه عناية في التدبير ، وهو ما صَيَّرَهُ نُظَّارُ الإسلاميين دليلا في الباب ، باب الربوبية ، فذلك دليل الاختراع لا على مثال تقدم ، وهو ، كما تقدم في موضع ، دليلُ إِبْدَاعٍ منه قد اشْتُقَّ الاسم المقيد ، اسم البديع في آي الذكر المحكم : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فذلك "فعيل" من "فاعل" ، فهو المبدِع فأضيف إلى المبدَع المحدَث من السماوات والأرض ، وذلك من إضافة الخالق إلى المخلوق ، المسبِّب إلى المسبَّب ، إذ كان من الاسم وجه اشتقاق يدل على المعنى ، معنى الإبداع ، وهو سبب في حصول الخلق في الخارج لا على مثال سابق ، فذلك وجه تعليل كائن ، وهو ما قد عَمَّ فاستغرق الكون ظرفا تَنَاوَلَ الأعلى من السماوات والأدنى من الأرض ، وذلك طباق إيجاب قد استغرق ، وهو دليل لما تلا من طلاقة القدرة ، فـ : (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وذلك من عطف السبب على المسبَّب ، إذ القضاء النافذ في التكوين عِلَّةُ مَا تَقَدَّمَ من إبداع لا على مَثِيلٍ ، فذلك الإبداع الذي تَنَاوَلَ السماوات والأرض جميعا ، وهو مَا يحكي المثالَ لعام قد استغرق كل شيء فجاوز المذكور من السماوات والأرض ، وذلك ما صَيَّرَهُ المثالَ لعام يَسْتَغْرِقُ ، فَذِكْرُ آحادٍ منه في سياق التمثيل المبيِّن ، ذلك مما لا يُخَصِّصُ عمومه المستغرق بل يبين عنه ويوضح ، فالله ، جل وعلا ، بديع كل شيء ، لا على مثال تقدم ، آحادا من الأنواع ، فالأول منها لم يكن قبلا ، وإن كان له من الوجود ما تَقَدَّمَ في علم تقدير يحيط ، وهو ما به الخلق المصدِّق في الخارج يكون ، فيحصل له من الكينونة تال أخص ، فذلك وجود ثان يصدق الأول ، إذ يكون كما كَانَ في الغيب المقدَّر ، فعلم التقدير الأول سبب في تال من الوجود المصدِّق ، فهو علم يُؤَثِّرُ في الخلق ، إذ يكون منه أولا هو المقدور ، وهو ما تناوله من العلم أخص ، فذلك علمُ حكمةٍ وخبرةٍ وَلُطْفٍ ، كما آي التنزيل قد أبان في موضع تال من الذكر المحكم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من العلم ما تَنَاوَلَ دَقَائِقَ التَّقْدِيرِ عَلَى حَدِّ الإتقان في الخلقة والإحكام في السنة ، فكان من ذلك خبرة ولطف يخفى ، فَثَمَّ من السنن المحكم ما لا يدركه الحس الظاهر ، وإن تَنَاوَلَ من ذلك بحثَ تجريبٍ قد حصل له من الآلات حديثٌ لم يُعْهَدْ ، فَأَبَانَ عَنْ بَعْضٍ من الغيب النسبي ، وهو ، مع ذلك ، لا يَنَالُ من العلم إلا قليلا ، وإن تَبَجَّحَ بما بَلَغَ من علمٍ أنه يملك من نظرية الحتم معيارَ رياضة في حساب الحركات الكونية ، فلا يجد من ذلك إلا قانون طبيعة محكم لا يفتقر إلى أول يهيمن ، وما وجد ، لَوْ تَدَبَّرَ وَفَقِهَ ، فهو دليل على ضدِّ ما ذهب ، فمن أجرى هذا السنن المحكم ؟! ، فإنه لا يكون ، بداهة ، عن أول هو الجوهر الذي لا يَعْلَمُ بل لا حياة له تَثْبُتُ ، فكيف كان من الحياة أول ؟! ، فذلك ، أيضا ، من بدع لا على مثال تقدم ، وإن رَامَ مَنْ رَامَ لَهُ نِدًّا في المعمل ، فلم يجاوز إلا أَنِ اسْتَنْبَطَ المادة دون روح الحياة ، ذلك المعدنِ اللطيف الذي لا يَعْلَمُ مَاهِيَّتَهُ إلا مَنْ خَلَقَ الخلق الأول ، خَلْقَ الإبداع لا على مثال تقدم ، ولم يكن من ذلك خلق لأول من لا شيء ، بل ثم من العناصر والجواهر ما تَنَاوَلَ في المعمل ، وهو لأول من الخلق يحاكي فلا إبداع في الأمر ، فَلَوْ صدق في الدعوى لخرج عن قانون الخلق المحكم ، واقترح آخر يضاهي ذا ماهية وسنن يغاير ! ، وإنما أخذ ما وَجَدَ فَلَمْ يَخْلُقْ من العدم ، فليس له من ذلك أولية مطلقة كما أخرى للخالق الأول ، جل وعلا ، بل لو كان الأوَّلُ ، كما زعم ، الخبطَ والعشواء بلا غاية تُحْكَمُ ، فهو بلا علم بل ولا حياة ، فليس إلا اقتراحا لجوهر قديم في الأزل ، تَرْجِيحًا بلا مرجح ، فمن أَوْجَدَهُ أولا ثم بث فيه الحياة والحركة تَالِيًا ، فكان من التحكم أول أَنْ وُجِدَ بلا موجِد ، وكان ثان يُرَجِّحُ في الحركة ، أيضا ، بلا مرجِّح ، فدبت حركة في المادة الميتة بلا محرك ، بل قد وجدت دفعة في الخارج بلا موجد ، فذلك الترجيح بلا مرجح إن في وجود الجوهر القديم أولا ، أو فيما تلا من حركة قد تناولت هذا الجوهر بمعدن حياة تلطف ، فكان من ذلك خلق مبدَع لا على مثال تقدم ، فَلَوْ سُلِّمَ جدلا أن أول هذا الخلق المعجز هو ذلك الجوهر القديم الذي لا يعلم ولا حياة فيه أولى تَثْبُتُ ، ولا إرادة له بها يُرَجِّحُ ، فليس ثم شيء إلا التعطيل المحض ، فَلَيْسَ إلا وجودًا أول لا يجيب عن سؤال الخلق فمن أوجد ؟! ، فكان من ذلك ترجيح بلا مرجح ، مَاهِيَّةً قد وجدت في الكون صُدْفَةً ، وهو ما تَنَاوَلَهُ بَعْضٌ قَدْ صَيَّرَ جهلَه دليلا عَلَى مَنْ يعلم ممن قد أتى له من ذلك خبر مصدَّق ، بما كان من وحي منزَّل قد ثبت بأدلة قد تَنَاوَلَهَا أهل الشأن ، ومنها العام والخاص ، ومنها النوع الذي يُثْبِتُ جِنْسَ الوحي الأعم ومنها آحاد هي أدلة بها إثباتُ كُلِّ نُبُوَّةٍ في الخارج ، فكان له من الخبر ما ليس للأول الذي جعل ما لم يعلم من السُّنَنِ صُدْفَةً ، وهو ما أبان عنه بعض من حقق ، إذ يحكي من اصطلاح الصدفة أخص عند أصحاب الوضع المحدَث ، فإن الاستثناء أو الصدفة عندهم وليد الجهل بقوانين وسنن لم يعلمها الناظر ، فهو يلجأ إلى هذا التأويل إذا جهل ما كان من أول من الخلق وتال من السنن المحكم الذي عليه يجري في الحركة ، فلا يكون ذلك إلا بكلمات منها أول به التكوين ، فذلك خلق الإيجاد المصدِّق ، ومنها تال بِهِ التدبير على سنن محكم ، فعجز من جهل إذ لم يؤت من العلم إلا قليلا ، فَرَدَّ الأمر إلى الصدفة إذ جهل ، فهلا سأل إذ لم يعلم لا أَنْ يُصَيِّرَ جهلَه دليلا به يَتَحَكَّمُ ، فليس العلم إلا ما يعلمه ، وإن قصرت مداركه فلم تجاوز الحس الظاهر بما حصل له من أداة تجريب وبحث ، ولو تدبرها ما وَجَدَ من ذلك إلا تسلسلا في المؤثرين ، فهو من خلق هذه الآلة ، وإن خلق التحويل من ماهيات أولى بسيطة إلى أخرى مركبة تَتَعَقَّدُ ، فمردها أبدا إلى أول بسيط ، فما صنع إلا أن تناول هذه الأوليات وأجراها على سَنَنٍ مُحْكَمٍ فِي الجمعِ ، فَتَنَاوَلَ مِنْ سَنَنِ الكون ما به اجتماع هذه العناصر فهي آحاد أولى لم يزعم بداهة أنه قد أوجدها من العدم إِبْدَاعًا لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وإنما تَنَاوَلَ منها ما وَجَدَ ، وهو بَعْدًا لم يحدث من السنن جديدا يُجْرِي عليه العناصر الأولى فيبلغ من الخلق بَدِيعًا لا نظير له في الخارج ، فلا إبداع له في خلق العناصر الأولى ، وإنما له من ذلك كشف أول يتناول الماهيات البسيطة ، فَقَدْ كَانَتْ موجودة قَبْلَ أن يَكْتَشِفَ ، بل قد كانت قبل خلقه على هذه الأرض ، إِنْ أَصْلًا أو آحادا ، ولا إبداع له ثان في السنن فإنه لم يحدث منها ما لم يكن قَبْلًا ، وإنما عالج منها أيضا ما اكتشف فقد كانت السنن ثابتة قبل وجوده ، فليس له من الإبداع ما بِهِ يَتَبَجَّحُ إن في إيجاد العناصر البسيطة ماهياتٍ أولى هي مبدأ ما يصنع ، أو في اقتراح سنن جديد به يخلق ما ليس له في الخارج ند ، بل لا ينفك يحاكي ما وجد أولا ، كما صنع بَعْضٌ وقد رام صناعة مادة الحياة الأولى من شفرة وراثة في المعمل ، فَتَنَاوَلَ من ذلك ما وجد ، فلم يخلق مادة من العدم ، وإنما ضاهى ما وجد ، وتناوله بعدا بمضاهاة تارة ، وتغيير أخرى ، بما يكون من طفرات تحدث بِزِيَادَةٍ أو نَقْصٍ ، بما يكون من قطع في شريط الوراثة وعزل لبعض وحداته أو قواعده البسيطة ، أو دَمْجٍ لآخر بما يكون من لصق يزيد في الأول : طَفَرَاتٍ منها ما ينفع ومنها ما يضر ، منها ما يصدر عن قاعدة علم ، ولو في إجراء التجربة وإن افتقرت إلى غاية تحمد ، فقد يكون من الفعل حسن ، أو هو ابتداء من الجائز فلا يحظر ، بل له في الخارج وجوه تَنْفَعُ ، ولو إجراء في دقائق وتفاصيل ، ولكنه يفتقر إلى إطارٍ كُلِّيٍّ من نِيَّةٍ تَتَقَدَّمُ ، وغاية يطلبها الفاعل ، فيكون منها ما يَشْرُفُ إذ يُوَاطِئُ ضرورات في باب الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ، عبوديةً بها يَتَأَوَّلُ الناسك ما وجب في قياس العقل المصرح أن يشكر من قَدَّرَ في الأزل ، وأوجد بَعْدًا في الشهادة الإيجادَ المصدِّق لما كان أولا من علم تقدير محكم ، وأجرى على سنن يَنْفَعُ ، وَرَزَقَ بِمَا يَسَّرَ من أسبابٍ في الشهادة ، وَدَبَّرَ بما أتقن من الخلق ماهياتٍ قَدْ رُكِزَتْ فيها قوى تقبل آثار الأسباب من خارج ، وأخرى في الأسباب من قوى قد رُكِزَتْ وَبِهَا تأثير في المحال يَنْفَعُ بما أُحْكِمَ من السَّنَنِ الذي يجري ، فذلك ما تَنَاوَلَهُ العلم المحدَث إذ تحكم في حَدِّ العلم أنه ما يُدْرَكُ بالحس ، فَتَنَاوَلَهُ التَّنَاوُلَ الساذج الذي يحكي الجهل المطبق مع فساد في القصد والنظر كِبْرًا أَنْ يُقِرَّ أنه مخلوق من العدم ، قَدْ خَلَقَهُ أول له من وصف العلم والحكمة والقدرة ما أطلق ، فأبى الانقياد في باب الربوبية أنه مخلوق مربوب ، وَتَوَسَّلَ به إلى تال هو غاية ما يَرُومُ الوسواس المتربِّص أن يأبى الانقياد في باب الألوهية أنه العبد الذي لا يصدر إلا عن أمر سيده إن في التصور أو في الحكم ، إِنْ من فَرْدٍ يَتَنَسَّكُ أو جمع يَتَحَرَّكُ ، وبه مادة الطغيان تُحْسَمُ فلا يكون من المخلوق فَرَحٌ بما كان من علمٍ لو تدبره لوجده دليلا على ضِدٍّ مِمَّا يَطْغَى إذ افْتِقَارُهُ وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فهو يَفْتَقِرُ إلى الأسباب التي بها يطغى في الحس أن يجد من الماهيات عناصر هي الأوليات التي يتناولها بالمعالجة على ما تقدم من سنن محكم ، فَثَمَّ افْتِقَارٌ ثَانٍ أن يكتشف هذه السنن وَيُحْسِنَ إِعْمَالَهَا بما به يعالج الأوليات فَيَتَوَسَّل منها إلى أخرى مركبة بها ينتفع في الإجراء والفعل ، وهو ما افتقر أولا إلى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ يَنْصَحُ وتال من غاية تحمد ، لا أن يطغى به وهو ، كما تقدم ، دليل افتقاره ، فإن الأسباب من عناصر هي الأوليات ما لم يخلق ، بل إليه يَفْتَقِرُ ، ولو ظلم وَسَفَكَ واستباح من الأمصار واسترق من الأبدان ما يَقُصُّهُ تاريخ محدَث من رِقٍّ فَاحِشٍ قَدْ تَنَاوَلَ الأرضَ ومن عليها فكان من جُمْلَةِ بَوَاعِثِهِ في حروب الصليب الأولى ، وفي تال من حملاتها في العصر المحدث ، كان من ذلك الطمع في ثرواتٍ منها الأولياتُ ، محلُّ الشاهدِ ، إِذِ افْتَقَرَ إليها مَنِ احتكر الآلة ، وله في صناعتها فَضْلٌ لا يُجْحَدُ ، ولكنه ، كما تقدم ، لم يَبْتَكِرْ من السنن بَدِيعًا لا مثل له يَتَقَدَّمُ ، بل قد تَنَاوَلَ ما استقر من السنن المحكم ، وأحسن يستعمله في صناعة آلة تَنْفَعُ ، ولو مباحةً فذلك الأصل في الأشياء ، فلا ينفك يفتقر إلى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ يَتَقَدَّمُ ، وغاية تشرف ، أن يكون من ذلك نُسُكٌ يُصَدِّقُ قياسَ العقل المحكم أن يشكر مَنْ خلق هذا الكون وأجراه على هذا السنن المحكم لا أن يكون من ذلك ذريعة إلى ضد من الجحود والطغيان بما حصل للإنسان من أسباب ، وهي دليل افتقاره الذاتي فإنه لم يَخْلُقْ من العدم ، ولم يَقْتَرِحْ مِنَ السَّنَنِ جديدا ، بل ما صنع إلا الكشف ، أو قد حصل له بلا جهد فلم يكن إلا ملاحظة بها تناول حركة في الخارج فاكتشف بها القانون الحاكم ، فلم يستحدث من العدم لا ماهية العناصر الأولى ولا السنن الذي عليه تجري ، فَتَحَكَّمَ في المبدإ أَنْ حَدَّ الصدفة أنها ما يجهل ، فكل ما جهل وليس له من اسم العلم إلا ما يدرك بالحس ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، رابع من الأدلة بعد الخبر الْمَتَلَقَّى من مرجعِ غَيْبٍ مصدَّق ، إن في الغيب النسبي أو آخر هو المطلق ، والعقل بما ركز فيه من قوى النظر مقدماتٍ في الاستدلال هي أول من الضروري الذي به يَتَوَسَّلُ الناظر إلى آخر نظري ، فَيَتَرَاكَبَ من المقدمات الضرورية ما به تُنَالُ العلوم النظرية ، والفطرة بما رُكِزَ فيها من وجدانِ ضرورةٍ آخر من غَرَائِزَ منها معقول وهو الأشرف ومنها آخر محسوس به تدبير الأبدان بما تعالج من الأسباب ، فَفِي كُلٍّ ركزٌ من قوى منها ما يُعَالِجُ ، ومنها آخر يُبَاشِرُ ، فقوى السبب تُبَاشِرُ مَوَاضِعَ تدق في الأبدان فهي تعالج الأسباب ، وَثَمَّ رابع بعد الخبر والعقل والفطرة ، فَثَمَّ الحس وهو آخر في الباب ، باب العلم الذي تَحَكَّمَ مَنْ تَحَكَّمَ فصيره الأول بل والأوحد فما لم يدرك الحس فهو الصدفة ! ، استدلالا بالجهل ، وعدم العلم بالشيء ليس عِلْمًا بالعدم ، وليس إثباتا لصدفة تخبط أن لم يدرك منها الإجراءَ المحكم ، وليس عَدَمً إدراكه دليلًا في الباب يَنْصَحُ فيحتج به على من أدرك ! ، فكل ما لم يدرك فهو العدم أو الصدفة ، وإن كان الثابِتَ الموجود قَبْلَهُ في الكون ، المحكَمَ الذي يصدر عن علمٍ أول يحيط وَقُدْرَةٍ نافذة بها الإجراء والمنع لا العشواء والخبط كما زَعَمَ مَنْ نَفَى القصد والإرادة ، وهو بَعْدًا قَدْ نَفَى الغاية فَلَيْسَ إلا العبث ، فلم يكن ثم مرجع ناصح من خارج يبين له عن غاية هذا الخلق المحكم ، بل قد صار إثبات الغايةِ حديثَ الخرافة الذي يَتَهَكَّمُ به الجاحد ويسخر ، وإن عَدَلَ إلى نقيض يُسَفْسِطُ وهو مِمَّا به يُتَّهَمُ في عقله أن أنكر الأول المطلق ، إن في التكوين أو في آخر من التدبير ، أَنَفَةً أن يخضع لِلَازِمٍ من التشريع ، وهو الغاية من الخلق ، فيكون من ذلك عبودية قد اسْتَنْكَفَهَا فَصَارَ إلى أخرى هي الأدنى من الهوى والذوق ، إن ذَاتِيًّا يصدر عن عقل الواحد ، أو آخر موضوعيا من عقل الجمع فهو يجاوز وإن لم يسلم من مُؤَثِّرٍ من خارج يحرف ، فلا يسلم له اعتقاد أو حكم إلا أن يَرُدَّ الجميع إلى مرجع موضوعي يجاوز كُلًّا ، فهو المرجع المجاوز المطلق من وحي قد حكى من الخلق ما لم يشهد كلٌّ ، وهو ما لا يَسْلَمُ صاحبه إلا أن يؤمن بالغيب ، خاصة العقل المفضل ، بل ذلك لازم في الباب ، وَلَوْ لِخَصْمٍ قد جحد ، فإنه قد رَدَّ الأمر إذ جهل فلم يشهد الخلق الأول ، قد رَدَّهُ إلى أول تَقَدَّمَ وصفه فهو الجوهر الميت فلا حياة فيه إذ يَفْتَقِرُ إلى موجِد أول ، ولو الإيجاد المطلق ، فكيف بما زاد من خلق متقن بما رُكِزَ فيه من قوى تَقْبَلُ وَتُؤَثِّرُ ، فلا ينفك ذلك يَتَسَلْسَلُ في التكوين حتى يُرَدَّ إلى أول له من ذلك وصف الأولية المطلقة ، حسما لمادة التسلسل في الأزل إذ تمتنع ، مع تال يجاوز في الإثبات ، فإن هذا الخلق المتقن لا يكون بداهة إلا بعلم أول يحيط ، فهو ، كما تقدم ، تأويلُ جُمَلَةٍ من الأسماء الحسنى : العليم والحكيم والخبير واللطيف ..... إلخ ، مع قدرة بها إِنْفَاذُ مَشِيئَةٍ تخرج المعلوم المقدور من الغيب إلى الشهادة ، فيصير ذا وجود أخص في الخارج يصدق ما كان أولا من علم التقدير المحكم ، وذلك من قياس الضرورة أن هذا الخلق لا يكون إلا بخالق أول يتقدم ، وأن هذا الإتقان لا يكون إلا عن مُتْقِنٍ هو الأول ، أيضا ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وإرادة ، فيكون من ذلك علم محيط يستغرق وإرادة تَنْفُذُ فَهِيَ لَهُ تَتَأَوَّلُ إذ تخرجُه من القوة إلى الفعل ، من الغيب إلى الشهادة ، من التقدير الأول إلى الإيجاد المصدِّق ، فلا يستقيم الأمر إلا أن يُرَدَّ إلى أول قد خلق من العدم فذلك ما يكون لأحد من الخلق ، وإن تَبَجَّحَ أنه يطيق فَلَيْسَ إلا المضاهاة والمحاكاة مع ما يكون من نقص في الصورة المحدَثة ، بل لو سُلِّمَ لِبَعْضٍ يَتَبَجَّحُ في هذا الجيل المحدث بما حاكى به الخلق الأول وزعم أنه يزيد ، فصنع ما هو أذكى منه وأقدر ، فلا ينفك سُؤَالُ التسلسل يَتَكَرَّرُ ، فمن خلق هذا الخلق المجاوز الذي فاق البشر ، فالبشر قد خَلَقُوهُ ، والبشر قد خُلِقُوا من شيء تقدم ..... إلخ من أسباب تَتَسَلْسَلُ منها المشهود ومنها المغيَّب حتى تُرَدَّ جَمِيعًا إلى الأول الذي لا أول قبله ، ولو سُلِّمَ بأول التطور من جوهر ميت لا يتحرك ثم كان من تال حركة خبط وعشواء عنها كان هذا الخلق المحكم والسنن المتقن ، فثم قياس آخر في الباب يلزم ، فإذا كان الخبط والعشواء ولا علم له ولا عقل ، إن كان قد خلق هذا الخلق المحكم على هذا السنن المتقن ، فكيف يكون من حال الإنسان ، وهو أعلى ، أَنْ لم يطق إلا محاكاة هذا الخلق والسنن الصادر عن ميت لا عقل له ولا علم ، فالقياس أن يُبْدِعَ الإنسان إبداعا أعلى لا أَنْ يُقَلِّدَ ما هو أدنى من أول هو الخبط والعشواء فلا تصور ولا غاية ، وهو مع ذلك مما يلزم المنكر لقصة الخلق الأولى التي جاء بها الوحي المصدق ، فإنه قد فَرَّ من إيمان بغيب إذ زعم أن العلم هو ما يدرك بالحس الظاهر ، فلم يشهد هذا الخبط والعشواء بالحس ، فَلَا يَسْلَمُ له أوله ، أيضا ، إلا إن آمن بالغيب ، فإذ كان ذلك حتما لازما وإن اجتهد أن يجحده ، أَفَلَا كَانَ أَوَّلُ النبوة أولى بالإيمان بما كان من وصف الكمال المطلق لا عدما لم يجاوز في الاقتراح الأول من الحكمة المحدَثَةِ أنه العلة المجردة من الوصف فهي فاعلة بالطبع اضطرارا ، وليس يصدق منها خارج الذهن إلا العدم ، إذ يجردها العقل مطلقا بشرط الإطلاق ، وذلك ما لا يكون في الخارج ، فأول النبوات أولى بما زعم من قياس العقل المحكم ، وهو ما أقر به بَعْضُ من أَنْصَفَ من أرباب الوضع المحدث الذي صير علوم الاجتماع والأخلاق ..... إلخ ، صَيَّرَهَا من علوم التجريب الوضعي ذات الوصف الحتمي الجبري مع ما رام من اقتراح دين يضاهي الدين الرسالي ، فاجتهد أن يعزل قوانين الأخلاق والاجتماع ..... إلخ عن الدين المنزل ، وهو ، مع ذلك ، قد أنصف ولو في الكفران والجحود ! ، فَلَوْ لم يكن ثم بُدٌّ من الدين ، فالدين الخاتم ، وهو خلاصة الرسالات المنزلة ، الدين الخاتم هو الأولى بالقبول ، إذ قد واطأ صريح المعقول ، إن في الخلق أو في التدبير ، فلا يكون الخلق إلا بخالق أول ، ولا يكون السنن الجاري بَعْدًا إِلَّا بِمُجْرٍ أول ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ فِي بَابِ التدبير ، فلا بد من مُدَبِّرٍ أول لهذا السنن المحكم ، فَهُوَ ، بَدَاهَةً ، يَفْتَقِرُ إلى من يَسُنُّ فَيُجْرِيهِ على جادة من الحكمة تَنْصَحُ ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ في الأزل حتى يَبْلُغَ المدبِّر الأول ، فالخلق المبدَعُ ، لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، لَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى مبدِع أول لا مبدِع قبله ، فكان من ذلك إبداعُ السماواتِ والأرضِ ، كما الآي آنف الذكر : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فَتِلْكَ دلالة النكرة "أَمْرًا" إذ قد وَرَدَتْ فِي سياقِ الشَّرْطِ ، وذلك نَصٌّ في الباب ، بابِ العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، فكان من ذلك قضاء تكوين نافذ بكلم تكوين صادق ، فآحاده بَعْدًا مِمَّا يحدث بالمشيئة ، وله من نوع قديم هو الأول ، فذلك المعلوم المقدَّر في الأزل فتأويله ما يكون بَعْدًا بِالْكَلِمِ ، كَلِمِ التكوينِ النافذ ، وهو ما خُتِمَتْ به الآية ، وَذَلِكَ عنوان القضاء الكوني النافذ في ربوبية قد عَمَّتْ فَاسْتَغْرَقَتْ التقدير والتكوين والتدبير ، ولا ينفك يجري في الاستدلال المصرَّح مجرى الملزوم فهو الأول لِتَالٍ من اللَّازِمِ أن يكون له من القضاء آخر يَثْبُتُ في التشريع والحكم بما تَنَزَّلَ من وحي يَنْصَحُ إِنْ بِخَبَرٍ يُصَحِّحُ قُوَّةَ العلمِ والنظرِ ، أو بإنشاءٍ يُصَحِّحُ قُوَّةَ العمل ، فَثَمَّ تلازم ضروري في باب التوحيد ، توحيد الربوبية وبه قضاء التكوين مَلْزُومًا هو الأول ، وتوحيد الإلوهية وبه قَضَاءُ التشريع لَازِمًا هو التالي ، وهو ما خُوصِمَتْ فِيهِ النبوات قديما ، فكان لخصومها بَقِيَّةُ عَقْلٍ ! أن لم يخالفوا في المقدمة الأولى ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَأُلْزِمُوا بِهَا إذ تَنَاقَضُوا فَأَثْبَتُوا الملزوم رُبُوبِيَّةً وَنَفَوا لازمه ألوهيةً ! ، خلافا لجيل محدَث قد أنكر البدائه الضرورية ، فَنَفَى الملزوم واللازم كافة ! ، والتزم لأجل ذلك ما لا يُعْقَلُ أَنَّ هذا الخلق لم يكن عن خالق أول له من العلم ما يحيط ومن الإرادة ما ينفذ ! .
وذلك ، أيضا ، من الخبر المصدق الذي يدل على إنشاء يأمر بالتصديق في باب التكوين ، ويأمر بِتَالٍ يَلْزَمُ من الامتثال في باب التشريع ، وهو تَلَازُمًا آخر في الاستدلال ، هو يَنْهَى عن ضَدٍّ من التكذيب في باب التكوين ، والعصيان في باب التشريع ، وهو ما قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر بما كان من تَبْدِيلِ في الدين المنزل وتحريف قد اكتسبته أيدي الكهنة وقد صارت لهم رياسة في الدين تُطْلَقُ فكان الطغيان في الحكم الذي اكْتَسَى لحاء الدين زورا ، فصار القيد المحكم على حركة العقل أن يَنْظُرَ وَيَتَدَبَّرَ في أدلة الكون المحكمة ليكون من ذلك مقدمة أولى تُفْضِي ضرورة إلى لازم في التشريع ، فخرج العقل عن قيد الدين المبدَّل ، وذلك حق ، ولكنه لم يخرج منه إلى آخر يَنْصَحُ العقل ، فيكون له المرجع المجاوز من خارج الذي يَفْصِلُ في الغيوب بخبر الصدق ، وفي الشرائع بحكم العدل الذي تَجَرَّدَ من الهوى والحظ وسائر ما يعرض للعقل من الأغيار والآفات ، بل كان منه الاسْتِئْسَارُ في قيد محدَث لم تكن جنايته في الباب بأدنى من جناية الدين المبدل ، فكان من ذلك باكورة مذهب إِنْسَانِيٍّ عَظَّمَ الماهية البشرية التي لا تجاوز عالم الشهادة والحس ، مع تَالٍ في القصد رَامَ الاقتصاص لِلنَّوْعِ الإنساني من الكاثوليكية التي ازْدَرَتْهُ ، فألصقت به الخطيئة الأولى التي تلَطَّخَ بِهَا فلا يكون الخلاص إلا بالصلب وتحمل الآلام التي يعالجها الإنسان ليطهر ، وهو ما استوجب تعذيب البدن وإهانته ، وقد كان ذلك بَاعِثَ الرَّهْبَنَةِ التي غَلَتْ في إهانة الجسد ، وكان من ذلك قَصَصٌ قَدْ صَارَ مضربَ المثل ، فكان المذهب الإنساني رَدَّ الفعل الذي غلا في طرف آخر ، فالمذهب الإنساني قد ظهر من بواكير عصر النهضة فكان الإنسان هو مركز الدراسات الأخلاقية والاجتماعية التي اتسمت بالأرضية التي تَنْطَلِقُ من مَدَارِكِ الحسِّ فهي تنكر الغيوب الميتافيزيقة المجاوزة وَتُصَيِّرُ المعيارَ وضعيا تجريبيا ، وإن في العلوم الإنسانية ذات الطابع العقلي فَلَهَا وقائع ذهنية استبدلت بها الظواهر الموضوعية التي يمكن ملاحظتها بأدوات البحث التجريبي الوضعي ، فكانت الدراسات الاجتماعية الوضعية ، كما يقول بعض الباحثين ، سَبَبًا في انتقال العقل الأوروبي من اللاهوت والميتافيزيقا إلى الفلسفة الوضعية وتطبيقاتها الخارجية من العلم الوضعي الذي يعتمد الحس وحده معيار الإثبات والنفي بما يكون من ملاحظات استبعد الخيال ، مع نِسْبِيَّةٍ قد هيمنت على الدرس الأوروبي الحديث ، وهو ما ظهرت آثاره بعد ذلك في مذاهب نفعية براجماتية اتخذت المنفعة الخاصة أو المنفعة العامة وهي الموضوعية المجاوزة ، اتخذت ذلك معيارا في التحسين والتقبيح في مسائل الاجتماع والأخلاق والسياسة ..... إلخ ، فما تحصل به المصلحة الخاصة أو العامة هو الحق ، وهو ما يُفْضِي إلى نسبية تستبعد المطلقات من أحكامها ، فالحكم يصدر عن رؤية ذاتية أو موضوعية لا تسلم من التأثر بالمنافع المادية المباشرة ، والنجاح العملي ، كما يقول درس الأخلاق البراجماتي ، هو المعيار الأخلاقي الإنساني ، وهو ما عَزَّزَ مركزية الإنسان بعد استبعاد اللاهوت والأخلاق الميتافيزيقية التي تَتَّسِمُ بالثبات والإطلاق ، فَتَعَزَّزَ مركز الإنسان في نَظَرِيَّةِ الوجود والكون حتى صار هو الأصل الذي تصدر عنه القيم الكلية والتشريعات الجزئية مع ما يَتَّسِمُ به معياره من نِسْبِيَّةٍ تَتَفَاوَتُ ، فَثَمَّ اضطراب في نظرته في الوجود وأصل الخلق والغاية والقصد ، مع القول بالعشوائية الأولى في الخلق مع صدفية تتحكم في وصف كل ما جاوز الحس فلا يدركه أنه الصدفة ، فصار هذا المصطلح الأخص في حد الصدفة هو دليل الجهل بالقوانين ، فالباحث يلجأ إليه في تَفْسِيرِ ظاهرة إلا إذا عجز عن تفسيرها بالمعايير البحثية الوضعية ، فليس ثم حقيقة تستحق الدراسة إلا الحقائق الخارجية التي يتناولها الدرس الوضعي ، وَلَيْسَ ثَمَّ سبب معتبر في تَفْسِيرِ أَيِّ ظاهرة إلا السبب الذي يدركه الحس ، وما جاوزه فهو الخبط والعشواء في أصل الخلق ، والصدفة في حركة الكون ، وذلك من الغرور الذي استبد بالعقل الأوروبي بعد تحرره من القيد الكنسي ، فَظَنَّ أنه وحده يطيق تفسير الظواهر كافة بما يحد من نظريات تَسْتَنِدُ إلى الحس والعقل دون مرجع مجاوز من خارج ، فلم يَعُدْ في حاجة إلى الوحي الذي يُبَاشِرُ في الحقيقة الإنسانية وجدانها الباطن وهو الجزء الأشرف الذي به امتاز الإنسان الناطق من الحيوان الأعجم ، فَتَحَوَّلَ الإنسان إلى حقيقة حيوانية خالصة ، وَإِنْ عُلْيَا تحتل قمة الهرم التطوري الذي أدى إلى اضطراب فكري تَنَاوَلَ المطلقات كافة ، فالخلق المحسوس يَتَطَوَّرُ ، والأصل واحد لا يَتَعَدَّدُ ، فليس ثم قصة خلق أول به امتاز الإنسان وَفُضِّلَ على سائر الأنواع ، وصار كلٌّ ، الإنسان والحيوان ، على حد سواء وهو ما طعن الإنسان النرجسي في مَقْتَلٍ وقد ظن أنه الْمُتَفَرِّدُ في الخلق كما قد أخبره اللاهوت قَبْلًا ! ، فكان من نظرية التطور ما هدم هذا المطلق بذريعة الإنكار لخرافاتِ الميتافيزيقا التي أخبرت بِقِصَّةِ خلق أولى لا دليل عَلَيْهَا من الحس الظاهر ، مع أنها استبدلت بها نظرية أخرى لا مستند لها من الحس الذي اتخذته معيارا وحيدا في العلم فهو ما يَتَنَاوَلُهُ البحث والتجريب الوضعي ويرصد نتائجه في ملاحظاتٍ يُدَوِّنُهَا ، فنظرية التطور فَرْضٌ عقلي محض ، ودعوى تفتقر إلى دليل وضعي يستند إلى الحس ، أو آخر خبري يجاوز ، فيجزئ في رَدِّهَا دعوى أخرى تَنْقُضُ دون أن يَتَكَلَّفَ الناظر دليلا أخص في الباب ، فصاحب الدعوى لم يتكلف من ذلك شيئا ! ، فلا يثبت ذلك ، وهو من الغيب الذي لم يشهده أحد ، لا قصة الخلق في خبر الوحي ولا التطور في فرض الدارونية ، لا يثبت ذلك وقد جَاوَزَ الحس إلا بمرجع من خارج يجاوز بما يشهد شهادة تَسْتَنِدُ إلى الحس ، فإما أن يكون صاحب الدعوى ممن شهد ، وإنما أن يأتيه خَبَرٌ عَمَّنْ شهد ، وإما أن يحدث من ذلك في الشهادة ما يصدق دعواه ، فيكون من مثال التطور ما يُبَاشِرُهُ بالحس ، سواء أكان ذلك مما يباشر في تجربة يقصد إليها صَاحِبُهَا في المعمل ، فيكون من ذلك قصد أول وغاية تروم إثبات صحة الفرض ، وهو ما يجعله ، وهو المخلوق ، أكمل من الخالق ، فليس إلا صنع الطبيعة وقد صارت هي الفاعل خَبْطًا وَعَبَثًا بلا غاية ، فلا علم ولا إرادة ، وَفِعْلُهَا في الكون يشبه ، من وجه ، ما اقترحت الفلسفة اليونانية الأولى من العلة الفاعلة بالطبع ، المجردة من الوصف ، مع قدم الهيولى أو العلة المادية التي منها كان هذا الكون ، وذلك ، أيضا ، من القصة التي تحكي أصل الخلق ، وهو الغيب الذي جاوز العقل والحس ، فلا يثبت إلا بخبرٍ من خارج يصدق ، ولم يقم صاحبه من دليل الخبر ما يجاوز ، فليس ، أيضا ، إلا الدعوى المجردة التي تَفْتَقِرُ إلى دليل من خارج ، وإلا لزم الدور في الاستدلال أن يستدل على الشيء بِنَفْسِهِ فلا دليل عليه من خارج يجاوز . فنظرية التطور ، كما تقدم ، فَرْضٌ عقلي محض ، ودعوى تفتقر إلى دليل وضعي يستند إلى الحس ، أو آخر خبري يجاوز ، فليس منها إلا الفرض المحض التي لا دليل عليه من خارج ، فبحث البيولوجيا وبحث الأحافير ... إلخ لم يقدم وسائط ، ولو آحادا بها اتصال السلسلة المنقطعة التي تَسْتَنِدُ إليها نظرية التطور ، والمتبادر من أمر قد استغرق الكائنات كافة فكلها تخضع لمعيار التطور العشوائي الذي يحدث منه عدد لا يَتَنَاهَى من التجارب الفاشلة فيكون من ذلك أحافير تدل على هذه التَّجَارِبِ الفاشلة ، فالمتبادر أن ثم أمثلة كثيرة إن ماضية حفظها السجل الأحفوري أو حاضرة فما منع التطور أن يستمر فلا زَالَتْ ثَمَّ أنواع دنيا من كائنات بسيطة في هذا العالم ، فكان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجح في اسْتِئْنَافِ التطور أولا ثم منعه آخرا ، ولم يكن ثم دليل إلا عين الدعوى تحكما في الاستدلال يصادر على المطلوب أَنِ اسْتَدَلَّ بصورة الخلاف ، فما يدعيه هو الدليل ، وهو ما ينازعه فيه الخصم الذي ينكر التطور ، فلا تَسْلَمُ له الدعوى إلا أن يقيم عليها دليلا من خارج ، وقد تحكم مبدأ البحث أَنْ حَدَّ العلم أنه ما يُدْرَكُ بالحسِّ حصرا فلا مرجع من خارج يجاوزه إذ الميتافيزيقا واللاهوت قد استبعدا من أدلة البحث المعتبرة ، ولم يقم صاحب النظرية مع ذلك دليلا واحدا وَلَوِ اسْتَنَادًا إلى معياره في البحث ، فلا دليل من الحس يشهد لنظريته في تطور الأنواع وأصل الخلق فَقَدْ رَدَّهُ إلى أول في الأزل هو الكائن البسيط الذي وُجِدَ دفعةً بلا موجِد فهو قديم قدم الأزل وإن لم يكن له حياة ولا علم ... إلخ ، فذلك الكائن المجهول في أعماق التاريخ الذي وُجَدَ دفعةً بلا موجِد أول يتقدم مخالفةً عن معيار ضرورة في الاستدلال ، أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث أول يَتَقَدَّمُ ، ومن ثم كان ترجيح آخر بلا مرجِّح أن بُثَّتْ فيه حركة الحياة فكان الانقسام بلا تقدير أول فليس إلا الخبط والعشواء ، فلا قصد في ذلك هو الأول ، ولا غاية يَنْتَهِي إليها ، ومن ثم توقف التطور كما بدأ ، ترجيحا بلا مرجِّح ، فانعدام القصد والغاية في الخلق قد فتح ذريعة لآخر في البحث الفكري والأخلاقي وهو ما يُفْضِي إلى هدم المبادئ والمقدمات الضرورية في أي بحث ، فَأَدَّى بعد ذلك إلى انحطاط تال في دَوْرٍ مُتَأَخِّرٍ من أدوار الحضارة الغربية إذ نُزِعَتْ من الإنسان خاصة الوجدان الباطن ، وتحول إلى كائن مادي تحركه البواعث الغريزية ، كما تقدم من النظرية البراجماتية التي تعزز في الإنسان ماهيته الحيوانية التي تباشر الأسباب المادية في الخارج وقد صارت هي المعيار الحاكم ، فظهرت نظرية التطور في نَفْسِ السياق ، وهي التي نزعت من الإنسان تفرده في الخلق وجعلته من أصل حيواني مشترك ، مع خبط وعشواء في التطور يفتقر إلى القصد والغاية ، فكل أولئك مما استثمر في الانحراف الديني الكنسي . وذلك ما يُجَافِي عن حقائق الوحي المحكم بما ذكر من قصة الخلق الأول ، فأوجز في مواضع وأطنب في أخرى ، وَرَدَّ كُلَّ أولئك إلى العلم المحيط ، العلم الأول الذي يَتَنَاوَلُ المقدورات كافة ، على قاعدة تقدمت ، قاعدة التلازم بين مَلْزُومِ الربوبية ولازم الألوهية ، ومن العلم ما تَنَاوَلَ الأعراف والعوائد ، ولها أصل أول في الوجدانِ يحصل ضرورةً بِلَا اكتسابٍ ، وَلَهَا ثَانٍ يُكْتَسَبُ بما يُبَاشِرُ الإنسان من الأقوال والأفعال ، فهي تأويل يخرج ركز الفطرة الأولى من القوة إلى الفعل ، فلا يكون من ذلك تبديلُ خِلْقَةٍ كَمَا الشيطانُ قَدْ زَيَّنَ لِفُجَّارٍ من الخلق أن يخالفوا عن الجبلة والطبع ، بل قد صيروا لِذَا أصلا من النظر أن الخارج هو من يصنع الوجدان الباطن فيولد الإنسان محايدا لا يُرَجِّحُ لا في الشرع ولا في الخلق ، فيكتسب بَعْدًا مَا يُبِينُ عن نوعه ودينه ، فليس ثَمَّ رِكْزُ فطرةٍ أولى في التوحيد والتكوين ، وذلك جحد لفطرة أولى قد ركزت في الوجدان ، فـ : "كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه" ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، معنى أعم يتناول النَّوْعَ كما الدين والعقد ، فيكون من ذلك حكمة في الخلق أن هُيِّئَ كُلُّ محل لما يواطئ من الأحوال ، وكان من التوحيد ضرورة أولى قد ركزت في كل وجدان ، فكان من الجحد لفطرة التوحيد والتكوين أَنْ زَعَمَ بَعْضٌ أَنَّ الإنسان يُولَدُ خلوا من العقائد والدوافع ، فَيُولَدُ لَا على عَقْدٍ قد أُحْكِمَ ، ولو المجملَ المركوزَ في الوجدانِ قُوَّةً لَا تَنْفَكُّ تطلب من الفعل ما يخرجها إلى الوجود بما يكون من تصديق تال لدى البلوغ ، وامتثال لحكومات الوحي ، بل وقال بعض قد فجر في خصومة التوحيد ، فجحد أولا من فطرة الخلق والتكوين ، قال إن الخلق يحايد مبدأ الميلاد ، فليس ثم دافع أول يميز ذكرا من أنثى ، بل كل على خلق واحد ، وإنما يكتسب كُلٌّ من الدوافع ما يميز بَعْدًا ، وذلك أصل في الشرك الأكبر ، شرك الربوبية إذ ينازع الخالق ، جل وعلا ، فطرة الخلق وحكمته أن هَيَّأَ كُلًّا لما له يواطئ فَأَعَدَّ له من الهيئات والدوافع ما يلائم ، وإنما جحد أولئك فطرة أولى توجب التسليم بِالْفَاطِرِ الأول ، فَلَهُ ، من ذلك أول من العلم المحيط ، وتال من مشيئة تُرَجِّحُ ، وبها كلمات التكوين تَنْفُذُ ، حَكَمًا من خارج في الخلق ، مع تال قد نَزَلَ به الوحي مرجعا من خارج يجاوز فهو يبين عن شرعة تواطئ الخلقة فكان لكل نوع من الأحكام ما يواطئ ، فالمرجع من خارج ، من الوحي المنزل ، لا من الوجود المحدَث ، أنه هو من يصنع الخلقة ويسن الشرعة بما يواطئ هوى الواضع وذوقه ، فالخلاف أبدا في المرجع أهو الخالق الأعلى أم المخلوق المحدث من هذا العالم أو من الإنسان الجاهل الذي اغتر بما حصل له من ظاهر العلم وأدوات التجريب والبحث فعزل الخالق الأعلى ، ونازعه منصبَ التشريع بل والتكوين بَعْدًا كما البلوى قد عمت في هذا الجيل المحدث ، فكان الجحود بل والمخالفة عن الفطرة الأولى في الخارج بما يقارف من أسباب بها تبديل وتحريف في الشرعة والخلقة جميعا تأولا لوعد الشيطان وتزيينه ، فـ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) . فمن العلم ما تَنَاوَلَ الأعراف والعوائد ، ومنها رِكْزُ جِبِلَّةٍ أول ، فتأويله ما يكون بعدا في الخارج بما يَتَنَاوَلُ المحلُّ من أسباب له تباشر ، ومنها أخرى أعم بما يكون من قوانين الاجتماع والحكم ، فَثَمَّ من الأعراف ما اعتبر الوحي ما لم يخالف عن معيار الخبر والحكم ، فذلك المحكم الذي يقضي في غَيْرٍ مما تشابه من عرف أو عادة ، فيحكم فيه ، بادي الرأي ، إن باعتبار أو بآخر يُلْغِي وهو ما لم يكن بداهة من علماء الاجتماع المحدَث ، فَدَرَسَ من دَرَسَ المثلَ الاجتماعية على قاعدة وضعية ترصد سلوك المجتمع دون النظر في المعيار الحاكم من خارج ، فهي دراسة وصفية تحاكي الدراسة البنيوية التي لا تجاوز الظاهرة محل البحث ، فتقترح لها فلسفة حاكمة من داخلها لا من معيار حاكم من خارجها ، فالمجتمع هو من يصنع القاعدة الاجتماعية والأخلاقية بما يمارس من سلوك لا يطرد في كل أمة ، ولا يطرد في كل جيل من أجيال الأمة الواحدة ، فسلوكه هو الحاكم في القاعدة الأخلاقية ، فلا قيمة ثابتة تحكم السلوك من خارج ، ومن وضع القاعدة الأخلاقية او الحقوقية هو من يُبْطِلُهَا إذا شَاءَ تَذَرُّعًا بحالة الاستثناء التي تدل ، كما يقول بعض النظار ، على افْتِقَارِ هذه المعايير إلى قاعدة راسخة من الغيب ، أن يكون المرجع لها مما جاوز العقل والحس ، فلا ينقضها أحد ولا تعلقها حالة استثناء تطرأ فيكون السلوك المتغير هو الحاكم في المعيار الاجتماعي والأخلاقي ، والقياس أنه هو الثابت المطلق الذي يأطر السلوك النسبي المتغير ، فكان من درس أولئك : درس مقارن قد اتخذ الظاهرة الاجتماعية والتاريخية قاعدة مطلقة ، فسلوك المجتمع هو الذي يصنع الفلسفة في عالم الأفكار ، والشريعة والقانون في عالم الأحكام ، فالدين ، وهو منهاج عام يَتَنَاوَلُ التصور والحكم ، الدين من صنع المجتمع ، فهو المؤنسَنُ بما يُوَاطِئُ مصالح المجتمع استنادا إلى معيار نفعي خاص أو عام يجعل المحسوس في الخارج هو رائد المجتمع الذي يصدر عنه في صناعة الدين قِيَمًا باعثة وشريعة حاكمة ، وقد رَدَّهُ بعض المحققين ، إلى مثال الفلسفة اليونانية الأول إذ صنعت من الآلهة ما يحكي تصورها الأرضي الذي يَسْتَنِدُ إلى الحس الظاهر ، فكذلك المنهج الوضعي المحدث إذ يصنع من الدين ما يلائم احتياجات الإنسان ، وهي المتغير المضطرب إذ استند إلى معيار النفعية الذاتية التي اتخذت الفرد معيارا في التصور والحكم ، فكان من ذلك اختلال المعيار الحاكم بالحسن والقبح ، إذ صار السلوك الفردي في مثال المنفعة الخاصة ، والسلوك الجمعي في مثال المنفعة العامة ، صار هذا السلوك هو المعيار الحاكم في باب الحسن والقبح مع ما وُصِفَ بِهِ من نَقْصٍ ، منه الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فَهُوَ مِمَّا رُكِزَ فِي أصلِ الخلقة الأولى فالأصل : جهل لدى المبدإ ، وإن كان ثم من الفطرة ما ركز في الوجدان من لدن الميلاد ، كما قر بعض الباحثين المحدثين وله عناية وَتَقَدُّمٌ في علوم تجريب تَتَنَاوَلُ الدماغ والأعصاب ، فصنف في ذلك ما يُثْبِتُ ميلادَ الأطفال على اعتقاد ليس إلا الفطرة المجملة التي تفتقر إلى تال يُبَيِّنُ فَلَيْسَتْ ، كما يَزْعُمُ بَعْضٌ ، تَنْشِئَةَ الأب والأم ، وإن أَثَّرَا فيها بعدا بالتبيين أو آخر هو التبديل والتحريف ، فهي ، ابتداء ، قد ثَبَتَتْ فلا يصنعها المجتمع وإن أَثَّرَ بها بالإيحاب أو بالسلب ، فيحصل العلم للصغير الذي لا يَعْلَمُ ، وإن كان من الفطرة أول مجمل ، يحصل له العلم اكتسابا بما يباشر من أسباب التعلم ، فليس علمه الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وليس الثابت لدى المبدإِ ، مع ما ثبت ضرورة من ضِدٍّ هو الجهل بالمآلات وإن تَنَاوَلَ مَنْ بَحْثَهَا قِيَاسًا يستند إلى مقدمات ضرورةٍ في الوجدان ، فدلالتها لا تقطع في باب الحسن والقبح ، وإن كان منها ركز أول في الوجدان وإلا ما كان هذا الاضطِّرَابُ التشريعي الذي يَتَنَاوَلُ القوانين بالتعديل تارة والنسخ أخرى إذ تَفْتَقِرُ إلى معيارٍ محكم يجاوز سلوك الجماعة الذي يَتَغَيَّرُ بما يكون من المؤثِّرَاتِ وبما يطرأ من الاحتياجات التي صارت ، كما تقدم ، باعث العقل أن يصنع من الدين ما يستجيب لمؤثِّرَاتِ الخارجِ ، فليس الحاكم فِيهَا بما يأطرها على جادَّةِ صدقٍ وعدلٍ مطلق فلا يكون ذلك إلا من مرجع من خارج يجاوز وهو ، كما يقول بعض المحققين ، ما يخرج الضروري المستقر من معيار التحسين والتقبيح في باب الأخلاق ، ما يخرجه من الالتزام الوجداني إلى الإلزام العملي ، فالمرجع المجاوز يخرج الأخلاق من قوة الالتزام الباطن إلى فعل الإلزامِ في الخارج ، فلا يجزئ الحسن والقبح المركوز ضرورة في الوجدان ، لا يجزئ في صناعة دين يَسْلَمُ من المؤثرات المحدثة بما يطرأ من الاحتياجات التي صارت الحكم من خارج لا المحكومة بشرع يأطرها على جادة من الصدق والعدل تَنْصَحُ ، فلا يجزئ في تشريع الدين المحكم الذي يواطئ معيار الحسن والقبح المستقر في الوجدان ضرورة أولى ، لا يجزئ في ذلك إلا مرجع من خارج يجاوز العقل ، فَيَسْلَمُ مِنَ النقص الذاتي الذي جُبِلَ عليه العقل ، فالضرورة العقلية والوجدانية الباطنة محل اعتبار في التشريع ، وهي أدوات الفهم بما استقر في النفس من خاصة النطق الذي يخرج المعاني من القوة إلى الفعل ، فالكلام المنطوق تأويل ما يقوم بالنفس من المعنى المعقول ، وبهما جميعا حَدُّ الكلامِ المجزئ كما اصطلح النحاة ، فهو اللفظ والمعنى ، فاللفظ يُظْهِرُ المعنى الحاصل في الوجدان ، فيخرجه ، كما تقدم ، من القوة إلى الفعل ، والضرورة العقلية والوجدانية محل اعتبار ، على التفصيل آنف الذكر ، ولكنها ، من وجه آخر ، مجملة فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليل المبيِّن من مرجع من خارج يَسْلَمُ مِمَّا لَمْ تَسْلَمْ منه من نقص هو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وآخر هو العارض بما يكون من سببٍ من خارج يَطْرَأُ من العلة في الحفظ أو الفهم وما يكون من التغير والاختلاط ..... إلخ ، فالدين الحاكم في المثال الرسالي المنزل هو الحكم من خارج ، فَلَئِنْ وَاطَأَ الضرورة العقلية والوجدانية الصريحة ، فليس لها يخضع ، فتكون هي باعث التشريع ومرجع التحكيم ، فتصنع من الدين ما يُرَدُّ إلى معيار المنفعة المضطرب ، سواء أكانت الخاصة الذاتية أم العامة الموضوعية ، وإن كان من الأخيرة مرجع من خارج الذات يجاوز ، فلا يسلم ، أيضا ، من المؤثِّر من خارج ، فالعقل بما تَقَدَّمَ من علومه الضرورية لا ينفك يطلب مِنَ المرجع المجاوز ما يُفَصِّلُ مجملاته ، فهو رَائِدُ الصدق في التصور والحكم ، وهو السالم من النقص الذاتي أو العارض ، فلا يَتَقَدَّمُ التابعُ المتبوعَ ، بل يجب على الناظر ، كما يقول صاحب "الموافقات" ، أن يجعل الشرع في يمينه والعقل في يساره تَنْبِيهًا يَلْطُفُ أن الوحي ، أبدا ، يَقْدُمُ ، وإن تعاضدا في الحكم ، وهو المطرد باستقراء أَدِلَّةِ الشريعة الصحيحة ، آيا هو المتواتر فهو القطعي في ثبوته ، وخبرا قد استوفى شرط الصحة في الاصطلاح وَسَلِمَ من القادح المعتبر من شذوذ أو علة لا القادح المتوهم بما يكون من دعوى التشكيك بلا دليل يرجح ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، الترجيح بلا مرجح ، فإذا تعاضد النقل الصحيح والعقل الصريح وهو ما اطرد ، كما تقدم ، باستقراء الأدلة الرسالية كافة ، آيا أو خبرا ، فإذا كان ذلك فَعَلىَ شَرْطٍ يُسْتَصْحَبُ أبدا ، كما يقول صاحب "الموافقات" ، وهو تَقَدُّمُ النقل فهو المتبوع الحاكم ، وتأخر العقل فهو التابع الخاضع ، فالوحي هو المرجع الموضوعي المطلق الذي جَاوَزَ مَرْجِعَ العقلِ الفردي الذاتي ، وآخر من العقل الجمعي الذي يصدق فيه وصف الموضوعي المجاوز للعقل الفردي ، ولكنه ، مع ذلك مقيد إذ لا يسلم ، كما العقل الفردي ، لا يسلم من المؤثرات الخارجية التي تَتَنَاوَلُ مَعَايِيرَ الأفكار والأخلاق تَنَاوُلَ السلوك المتغير بما يطرأ من العادات والأعراف ، وما يَتَغَايَرُ من الاحتياجات والمصالح ، وهي ، وإن كانت محل اعتبار في الشرع المنزل ، فإنه قد جاء بما يجلب أكبر المصالح ويدفع ضِدًّا يضاهي من المفاسد ، فهي ، وإن كانت محل اعتبار كما تقدم ، إلا أنها تابعة كما العقل فلا تتقدم حكومة الوحي ، فتكون هي صانعة الدين بما يواطئ معيارها المضطرب ، لا جرم كان شرط الأصوليين الأول في باب المصلحة ألا تخالف عن نص الوحي المحكم ، فلا تَنْقُضُهُ فَتَرُدَّ أو تُكَذِّبَ ، ولا تحتال فَتُحَرِّفَ أو تَتَأَوَّلَ التأويلَ الباطل الذي لا قرينة له تعتبر ، فليس إلا ما يَتَوَهَّمُ صانع الدين في مذهب الوضع المحدث ، فَيَتَوَهَّمُ مِنَ المصلحة ما يعتبر ، وإن ألغاه الوحي المنزل ، وَيُصَيِّرُ هذه المصلحة والحاجة هي الرائد في صناعة الشريعة التي تُوَاطِئُ الهوى والذوق ، وهو ما يَفْتَحُ ذرائعَ الاضطراب والتدافع إذ لكل أُمَّةٍ من الاحتياجات والمصالح ما لا يُنْكَرُ ، فإذا كان التعارض بَيْنَهَا ، ولم يكن ثم معيار حاكم من خارجها ، فلكِلٍّ من العقل الذاتي غير المجاوز كما المذهب الوجودي الذي يغلو في تقرير الحرية الفردية ويجعل الإنسان هو سلطة الحكم العليا فلا يخضع لسلطان الوحي ، وهو ، كما يقول بعض المحققين ، مما أوقع الإنسان في الحيرة والاضطراب ، وقد صار بمفرده فَعُزِلَ عن منهاج السماء الذي يأطره على جادة الحق ، الصدق والعدل ، فتكتمل قواه الذاتية ، الباطنة والظاهرة ، قوى العلم التي تصحح التصور ، وقوى العمل التي تصحح الإرادة والحكم ، فكمال النفس ، كما يقول بعض من صَنَّفَ في النبوات وهي واسطة النقل بين الحق والخلق ، كمال النفس أَنْ تَعْلَمَ الحق ، وذلك أول ، وهو مراد لذاته ، من وجه ، ولكن القوى لا تكمل به ، بل هو ، من وجه آخر ، مراد لِغَيْرِهِ ، وهو توحيد التأله فلا صلاح للنفس إلا به ، وذلك ما جاءت به النبوات كافة ، فقد جاءت بجدال محكم لا يماري بإطناب يُمِلُّ وهو ، مع ذلك ، يُغْرِبُ في ألفاظه وَيَتَكَلَّفُ كما خطاب الفلسفة المحدث ، بل قد جاء الوحي باستدلالٍ صحيحٍ صريحٍ ، فكان من ذكر الملزوم من فعل الربوبية خلقا ورزقا وتدبيرا ، وهو ما يأرز إلى علم محيط قد استغرق المقدورات كَافَّةً ، الكونية والشرعية ، فكان منه ربوبية ترفد الأبدان بأسبابٍ خارجةٍ من الأرض ، وأخرى ترفد الأديان بأسباب نازلة من السماء ، فَصَحَّتْ بها قوى الحس والمعنى ، الجسد والروح ، فتلك ربوبية عامة قد استغرقت المحال والأحوال كافة ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بالعلم ، وهو ، كما تقدم ، قَدِ استغرق التكوين والتشريع ، التقدير الأول والإيجاد المصدِّق بَعْدًا والرزق والتدبير الذي تناول الوجود المحدَث : الأعيانَ والأحوالَ كافة ، فتلك ربوبية بكلمات العلم المحيط المستغرق ، وذلك وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، كما جاءت به النبوات ، فَصَدَّقَتْ أولا من العلم الضروري المركوز في العقل ، وآخر قد رُكِزَ في الفطرة ، أَنَّ الوجودَ المحدَث لا بد له من موجِد ، وذلك مما يتسلسل فيمتنع في الأزل فمرده أبدا إلى وجود أول ، هو الواجب الذاتي فلا يفتقر إلى موجِب موجِد من خارج ، بل هو الأول ، أولية الإطلاق ، ووجوده قد جاوز الكلي المطلق الذي أَثْبَتَتْهُ الفلسفة المحدَثة ، وهو ما غلب على درسها ذي الطابع التجريدي ، إن في التصور أو في الأحكام أو في الأخلاق ، مع افتقادها إلى معنى الإلزام في التكليف ، فلا شريعة تأطر إلا ما تقدم من الكلي المجمل ، وهو ما يفتقر إلى خطابِ تَشْرِيعٍ يُفَصِّلُ ، فلا بد من مرجع من خارج يجاوز فشريعته تجاوز الأرض ، إِنْ عَقْلَ الفردِ أو عَقْلَ الجمعِ ، فلا يسلم كائن محدَث ، إِنْ شَخْصًا ذا ماهية في الخارج تجاوز أو آخر له من الاعتبار معنى في الأذهان فلا وجود له يصدق في الأعيان ، كما الوضع المحدَث من مذاهب في الفكر والحكم ، فلا وجود لها في الأعيان وإنما وجودها في الأذهان معانٍ يحصل بها إلزام يحكي خاصة الخلق ، إذ جُبِلُوا على الاتباع والتقليد والتأله ، فإن لم يكن ذلك لمرجع من خارج يجاوز فهو يحكم حكومة ناصحة تسلم من الهوى والحظ ، فلا ينالها ما نال حكومات الأرض المحدثة من نَقْصٍ يحكي نَقْصَ الواضع ، فَلَهُ من معيار الحسن والقبح ما أُجْمِلَ ، وهو ما تأوله العقل الذاتي المفرد بالمنفعة الخاصة ، وتأوله العقل الموضوعي الجمعي بالمنفعة العامة ، فلم يسلم من نَقْصٍ وافتقارٍ ذَاتِيٍّ ، فالجهل وصف ذات قد ثَبَتَ له أبدا ، ولو أصلَ الخلقةِ ، فإن حصل العلم فهو المكتسب بأسباب ، وليس ، مع ذلك ، يحيط بالمآلات والأحوال كافة ، مع اتهام يَنَالُهُ فَلَا يَبْرَأُ بِمَا يروم من الحظ والنفع المحدَث الذي يحكي وصف الافتقار الذاتي ، كما الجهل ، فكلاهما مما رُكِزَ فِيهِ أولا ، فَإِنْ حَصَلَ العلم فَبِالتَّعَلُّمِ ، وإن حصل الغنى فَبِالاسْتِغْنَاءِ بأسباب من خارج بها يطغى الجاهل ، ولو تدبر لوجد في السبب دليلا يحكي ضِدًّا مما انْتَحَلَ أَنَّهُ العالِم ، فـ : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ، والقادر ، فـ : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فإن في طلب السبب لحصول الاستغناء ، في ذلك دليل على ضد من الدعوى ، فإن الغني الذي له من ذلك وصف الذات المطلق ، فلا يفتقر ، بداهة ، إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليه يفتقر أن يوجده على ماهية مخصوصة تحكي حكمةً في التقدير ، وقدرة في التكوين ، فمن ذلك جمال العلم الذي به خَلْقٌ أول ، أن يُقَدِّرَ السبب على الماهية التي تلائم ، وله آخر من المحل يواطئ ، فيكون من ذلك حكمة تحكي الجمال ، مع قدرة بها الإنفاذ ، وتلك حكاية الجلال ، وبهما جميعا كمال أول هو المطلق فلم يكن منه عدم أول ثم صار له وجود تال يصدق ، بل وجوده ، كما تقدم ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، الأوَّلُ الذي لا أول قَبْلَهُ يَتَقَدَّمُ ، بل كلُّ أوليةٍ في الخارج فهي المقيدة فلا تَنْفَكُّ تطلب أولا يَتَقَدَّمُهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ كلُّها إلى الأول المطلق ، واجبِ الوجود الأول ، ذي الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من ذلك وجود كامل قد استغرق الجمال والجلال كافة ، فليس الأول المجرَّد من الوصف ، عِلَّةً فاعلة بالطبع ، كما كان من حكمة أولى تجافي الوجدان الصريح ، الذهني والخارجي ، فليس ثم مطلق بشرط الإطلاق له من الوجدان الأخص في الخارج ما يستقل ، بل ذلك مما لا يجاوز حَدَّ التصور أو الفرض في الذهن ، فالمطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج يصدق ، فليس ثم في الخارج إلا الوجود المقيَّد ، وبه امتاز أول النبوات ذو الوجود الواجب في الخارج ، فَلَهُ من ذلك وجود الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَثَمَّ خبر النبوات الذي جاء بالصِّدْقِ ، فأثبت من وصف الكمال ما استغرق ، ومنه وصف معنى يدل عليه العقل ، ومعدنه في التكوين والتشريع ، وصف العلم الأول المحيط ، العلم المفصل الذي استغرق الكليات والجزئيات كافة ، لا الكليات المجملة ، كما خطاب الحكمة الأولى ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ العلمِ وصفُ معنى يدل عليه العقل ضرورة لدى المبدإ ، وقد أَقَرَّ به بعض فلاسفة اليونان ، ممن كانت له نسبة إلى النبوات ، ولو لم يَنْتَحِلْ منها عَقْدَ تَوْحِيدٍ محكم ، فقد تأثر بما قد تحمل من حكمتها الرسالية المنزلة عن بعض أتباعها في الشرق ، وهو الموضع الذي نَزَلَتْ فيه النبوات كلها ، فهي معدن الحق المطلق ، وما أصاب غَيْرٌ ، كما الغرب المحدَث ، ما أصاب مِنْ حَقٍّ ، ولو مجملًا ، في التصور والأحكام والأخلاق ، فذلك بعض مما قد جاءت به النبوة ، وما أصابه أولئك إلا بما نصح من فطرة أولى في الخلق ، ولو آثَارًا في النفس ، فهي من آثار ربوبية بها جَبْلٌ أول على معان من الحق تنصح ، فتحكي ضرورةً من العلم أن ثم أولا هو الخالق ، وله من ذلك وصف مطلق ، فتلك الأولية في العلم المحيط وبه تقدير محكم يزيد في الوصف إتقانا في الخلقة وإحكاما في السنة ، فذلك العلم المفصل الذي يدل عليه العقل ضرورة ، ولو لم يكن ثم خطابُ نُبُوَّةٍ ، فإن ثم من دليل العقل والفطرة والحس إذ يُبَاشِرُ الوجودَ المحدَث في الخارج وما أُتْقِنَ منه وما أُحْكِمَ ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا وثم أول له من وصف الإتقان والحكمة ما عَمَّ كُلَّ شيءٍ في الخارج ، إِنِ الأعيانَ أو ما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، فَلَهُ من ذلك عِلْمٌ مُفَصَّلٌ قد استغرق الجزئيات كافة ، إِنِ الكونيَّةَ وبها تقدير الأعيان وإيجادها وتدبيرها على سنن محكم ، أو الشرعيَّةَ بِمَا تَنَزَّلَ من صَادِقِ الخبرِ وعَادِلِ الحكمِ ، وبهما ، كما تقدم ، اكتمال القوى كافة ، العلمية وبها التصور ، والعملية وبها الحكم ، تَأَلُّهًا قَدِ اسْتَغْرَقَ الجنان وهو معدن التصور والإرادة ، والأركان وبها تأويلٌ يُصَدِّقُ ما كان أولا من التصور والإرادة ، ولا يَنْفَكُّ يطلب المفصَّل من خطاب التكليف ، وتلك مادة بها التأله ينصح بما كان مِنِ امْتِثَالٍ في الخارج يُصَدِّقُ ما كان أولا من دعوى توحيد يَبْطُنُ ، فأوله التصديق ، وهو قدر في الوجود يزيد ، فيجاوز ما يحصل أولا من العرفان المجرد بما يكون من مباشرة الوحي المنزَّل إذ يُخْبِرُ ، وبما يقيم من حجة تَلْزَمُ ، فذلك مما يحصل لكلِّ أحدٍ ، آمن أو كفر ، فلا ينفك يطلب مرجحا أخص من خارج ، بما يكون من حركة الجنان المصدِّقة ، فذلك معنى أخص يحصل في القلب ، وبه أول فِي التصور ، وذلك توحيد في العلم يُثْبِتُ الملزوم الأول من ربوبية هي المبدأ في حِجَاجِ مَنْ جَحَدَ وَكَفَرَ ، فيكون منها جدال المنكِر بما قد دل عليه العقل والفطرة والحس من آي الإتقان والحكمة ، مع أول في الحجاج يخاطب العقل بما لزم ضرورة من العلم ، أن المحدَث ، كما تَقَدَّمَ في مواضع تَكْثُرُ ، لا بد له من محدِث يَتَقَدَّمُ ، وذلك مما في التأثير يتسلسل فلا يكون ثم وجود في الخارج يصدق ، وهو ما شهد به الحس ضرورة من هذا العالم المحدَث ، لا يكون ثم وجود يصدق إلا أن تُرَدَّ العلل كافة إلى أول لا أول قبله ، فذلك محل الإجماع لدى العقلاء كافة ، ثُمَّ يكون تال في الجدال أَنَّ هذا الإتقان والإحكام لا يكون بداهة عن علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف فلا علم ولا مشيئة ، وإنما فعل الاضطرار مع شرك في الوجود الأول بما كان من قِدَمِ العالم ، وهو مما يجافي القياس المصرح ، فتلك مادة لا بد لها من موجِد يَتَقَدَّمُ ، ولو سلم أنها الأول المطلق ، فهي جماد لا حياة فيه ولا إرادة ، فمن ذا رَجَّحَ فِيهَا بما بُثَّ من حياة وإرادة ، بها حركة بعد سكون ، فلا بد من مرجِّح من خارج قد زادها من الوصف حركة وانقساما ، لو سُلِّمَ جدلا بما كان من خطاب التطور من بسيط إلى مركب ، ولو الموجَّه الذي قال به بعض من تأخر ، وهو من الغيب الذي لم يشهده أحدٌ ، لا المصدِّق به ولا المكذِّب ، لا سيما إن كان المصدِّق بالتطور مِمَّنْ يجحد الغيب ، فَهُوَ من يقول بالتطور خبط عشواء خلاف من قال بالتطور الموجَّه فهو ، وإن ضَلَّ في قصة الخلق ومبدإِ الأمر ، خير من الأول ، إِذْ يصدق بخالق أول وله من الفعل في الكون ما يُؤَثِّرُ وَيُدَبِّرُ ، قمن قال بالخبط والعشواء في الخلق فهو يَلْتَزِمُ في الباب ، بداهة ، إنكارَ الغيب مطلقا فهو الخرافة التي لا وجود لها في الخارج إذ لا موجود إلا ما يدرك بالحس ، كما تَقَدَّمَ من حَدِّ الوضعِ المحدَث العلمَ أنه ما يدرك بالحس حَصْرًا يجمع ويمنع ، وذلك التَّحَكُّمُ الذي صَيَّرَ عدم الوجدان وهو جهل ، صيره دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، طغيانا بالحس الظاهر أَنْ صَارَ هو معيارَ الإثباتِ والنفيِ مَعَ نَقْصٍ وَعَجْزٍ هو وصف له يلازم ، ولو في الخلق الشاهد ، فإن منه غُيُوبًا لا تدرك بالحس ، وَلَمَّا يَزَلِ البحثُ يُظْهِرُ منها في كل جيلٍ ما به الحجة تَنْصَحُ ، تأولا لِمَا كان من آي محكم أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فكان من الطغيان بالعقل والحس أن صار وحده معيار الإثبات والنفي ، وهو ما ينقضه غيب في هذا الوجود المشهود لا يدرك بالحس ، فكيف بما جاوز من الغيوب المطلقة ، فتلك خاصة العقل المكتَمِلِ أَنْ يُثْبِتَ ما جاوز وجدان الحس المحدَث وإلا انحط إلى دَرَكَةِ حيوانٍ أعجمَ لَا يُطِيقُ دَرَكًا إلا ما يُبَاشِرُ بقوى الحس الظاهر ، فكان من أول التطور ، إِنْ خبطَ العشواء أو آخر قد توسط فقال منه بالموجَّه الذي يُرَدُّ إلى أول له من العلم والإرادة ما يثبت فهو إلى مقال النبوات أقرب ، وإن لم يصب الحق في الباب ، فإنه ، كما تقدم ، من الغيب المطلق الذي لا يجاوز العقل فيه حد التجويز المحض في الممكن ، فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارجٍ يُرَجِّحُ ، فالمبدأ : أن يميز العقل في باب الخلق : الممكنَ من المحالِ ، فَثَمَّ من مقال الخبط والعشواء ما يحكم العقل الناصح ضرورة بامتناعه ، أن يكون ثم من أول هو الجوهر القديم وهو الميت قد وُجِدَ بلا موجِد ، مخالفةً لِمَا نَصَحَ من معيار القياس الضروري في باب الفعل ، أَنْ لَا بُدَّ من فاعل أول يَتَقَدَّمُ ، مع صيرورة الفاعلين كافة إلى فاعل أول لا فاعلَ قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك وصف أولية هو المطلق ثم يكون من الترجيحِ تَالٍ بلا مرجح ، أَنْ دَبَّتِ الحياة والحركة في هذا الجوهر القديم ، ثم كان من ذلك ثالث خبطا يتكرر حتى كان من آحاد في باب الاحتمال لا حد لها يحصر ، وهو ما أقر به بَعْضُ مَنْ تَنَاوَلَ الأمر إحصاءً يَسْتَنِدُ إلى حسابِ العقلِ ، فذلك احتمال يعدل الصفر ، فهو المحال أن يكون من تكرار يجاوز عمر هذا العالم ليحصل من ذلك وجود ذو إتقان وحكمة ، لو سُلِّمَ أَنَّ ذلك جائز ممكِن ، فكان من ذلك ممتنع آخر ذاتي ، فخبط لا منتهى له يفضي إلى خلق متقن محكم بلا علم أول يقدر ، ومشيئة تنفذ فهي ترجح في إيجاد تال في الخارج يصدق ما كان أولا من التقدير المحكم ، فلا علم ولا مشيئة ! ، بل ليس إلا الخبط جَبْرًا بِلَا إرادة ، وهو ما يقبح في حق المخلوق المحدَث أن يكون من حركته جبر بلا إرادة ، فهو المكبل بحتمية تاريخية ، لو سُلِّمَ بِهَا ، فلا تخلو من وجه ينصح إذ تحكي مَا أُحْكِمَ من سَنَنٍ في التكوين والتدبير ، فذلك حق ، وليس بداهة يُبْطِلُ تكليف الشرع الذي يُنَاطُ بإرادة واختيار فهما مناط التكليف تصديقا وامتثالا ، وبهما امتاز الإنسان ذو العقل الذي يتصور ، وذو الإرادة والمشيئة التي ترجح في التصديق والامتثال ، فيكون من ذلك مشيئة بها الاختيار فلا جبر ، وهي ، مع ذلك ، لا تخرج عن مشيئة أولى يصدق فيها ، من وجه ، حتمية السَّنَنِ المحكم الذي لا يكون بداهة إلا وثم أول يحكمه فيأطره على سنن مقدر ، لا أنه بهذا الإحكام يحكي حتمية بها العقل يَسْتَغْنِي عن وجود خالق أول يدبر ، كما زعم بعض من طغى بما حصل له من نظر وحساب قد استند إلى آلة بحث وتجريب لا تسلم من الخطإ ، ولو احتمالا ، بل من كلِّ جيلٍ منها ما يبطل قياس المتقدم ، فما كان بالأمس مُسَلَّمَةَ ضرورةٍ بها يتبجح التجريب المحدَث قد صار اليوم باطلا ظاهر البطلان ، فهو الخرافة التي بها يَتَهَكَّمُ العقلاء ، وقد كانت قَبْلًا المقالَ الذي به يَتَشَدَّقُ العلماء ! ، فكان من طغيانِ بَعْضٍ بما حصل له من حتمية بها زعم الاستغناء عن فاعل أول يخلق ويقدر ، فَفِي حَتْمِيَّةِ السَّنَنِ الكونيِّ غُنْيَةٌ ! ، وهو ، في نفسه ، دليل على ضد ، فلا ينفك ، بداهة ، يطلب المرجح من خارج ، فاعلا يجريه فيكون من آثاره في الخارج ما يجد الناظر ضرورة من هذا الخلق المتقن المحكم ، فلا يكون ، بداهة ، عن خبط وعشواء ، فذلك المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل تلك حتمية سنن محكم تدل ضرورة على أول محكِم ولا يكون ذلك إلا بعلم محيط قد استغرق ، وهو ما سَلَّمَ به كل عاقل ، فكان من آحاد من حكماء اليونان ممن تَقَدَّمَ لهم ذكر ، وقد كان له بالنبوة سبب ، وَلَوْ واسطةَ بعضٍ قد تحمل علومها ، فَتَلَقَّى منه حكيم من اليونان ، فَأَقَرَّ بما أجمع عليه العقلاء كافة ، كما ينقل بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أن : "لهذا العالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات" ، فليس علمه ، كما تقدم من مقال الحكمة الأولى ، ليس علمه الكلي المطلق فلا يعلم الجزئيات المفصلة وبها تقدير أول تأويله ما يكون بَعْدًا من هذا الوجود المتقن المحكم ، وهو ما تناول جزئيات التشريع كما أولى من التكوين ، وبهما نصح التوحيد المحكم ، توحيد الربوبية إذ تَنَاوَلَ علمها جزئيات التكوين بما تقدم من التقدير في الأزل بعلم أول يحيط ، وما تلا من إيجاد في الخارج يصدق ، وما كان بَعْدًا من تدبير هو المحكم ، فذلك أول من التوحيد هو الملزوم في جدال الخصم ، إذ يحكي من الضرورة في العقل والفطرة والحس أن هذا الوجود المحدَث لا بد له من أول هو المحدِث ، وأن هذا الإتقان والإحكام لا بد له من أول له من وصف العلم والحكمة ما استغرق ، فجاوز ما أَثْبَتَتِ الحكمة الأولى من الكلي المطلق إلى تَالٍ قد استغرق الجزئيات المفصلة من آحاد من الأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال وما أُحْكِمَ من سَنَنِهَا في التدبير ، فكل أولئك يدل ضرورة على توحيد في الربوبية هو أول ، وذلك ما قد عَمَّ فاستغرق الأعيان وما قام بها من الأوصاف والأحوال وما أُحْكِمَ مِنْ سَنَنٍ عليه تجري ، فذلك تفصيل أول في توحيد العلم والتصور ربوبيةً بها يصدق من الحتمية بعض ، لا حتمية الاضطرار الذي طغى به بَعْضٌ فجعله هو الخالق المدبر ، وإن افْتَقَر بداهة إلى مَنْ يجريه على هذا السنن المحكم ، فلا حتمية بلا أول هو من يجريها على هذا الإتقان والإحكام ، فدليل الحتمية يدل على ضِدٍّ لِمَا كان من استدلال الخصم إذ يَنْفِي الأول الذي انفرد بوصف الوجود الواجب وما كان من العلم المحيط المستغرق وما كان من مشيئة ترجح وبها تأويل إيجاد وتدبير يصدق ما كان من خلق التقدير الأول ، فذلك الرب الذي انْفَرَدَ بوصف الربوبية المطلق ، بل وكان من خروج عن هذه الحتمية ما يبطل شبهة الخصم ، فثم من ذلك تأويل آخر لاسم الرب ، فهو خالق الشيء وهو الأصل ، وخالِقُ ضِدٍّ ، ولو قليلا أو نادرا ، فَهُوَ الفرع الذي يحكي القدرة المطلقة فلا يحتج خصم بحتمية تَطَّرِدٌ ، فلا استثناء ولو قَلِيًلا أو نادرا ، بل ثم من ذلك خروج عن القانون الحتمي المطرد ، وإن في أمور المعاش المباحة ، فذلك وصف الرب الذي عمت قدرته ومشيئته في الخلق ، فَخَلَقَ الأضداد بالقدرة ، وأجراها على سَنَنٍ من التدافع به تأويل ثان من الوصف ، وصف الحكمة ، وبهما جلال القدرة وجمال القدرة ، بهما كان إثبات لكمال هو المطلق الذي انفرد به الرب المهيمن ، جل وعلا ، الرب الذي جاءت النبوات له تثبت ولوصف كماله تُفَصِّلُ ، فذلك علم يجاوز العلم الكلي المجمل الذي رُكِزَ في العقل والفطرة فلا يَنْفَكُّ يطلب المبيِّن من خبر الشرعة الصادق ، ولازمه تال من توحيد في التأله بما كان من تفصيل آخر في باب الأحكام والأخلاق فلم يقتصر على كليات مجملة كتلك التي تَبَجَّحَتْ بها الحكمة الأولى أنها معدن التحقيق في الباب ولم تجاوز في الباب حد العلم ، وهو في نفسه مما يحمد ، ولكنه لا ينفك يطلب تاليا من عمل يصدق ، فكيف وعلم الحكمة الأولى مع ذلك لم يجاوز الكليات المجردة في الذهن ؟! ، فلو كان منه ما يفصل ما أجزأ في حصول اسم ديني ينصح , ولو المطلق الأول ، إلا أن يشفع بِتَالٍ من العمل يصدق وهو ما افتقر إلى شريعةٍ تُفَصِّلُ ، وهي ، أيضا ، تُوَاطِئُ ما ركز في النفوس من معيار الحسن والقبح المطلق ، فلا تنفك مجملاته تطلب المبين من خارج ، فكان من ذلك تال ينصح القوة العلمية ، قذلك توحيد الألوهية بما كان من تكليف يُلْزِمُ ، فهو ، كما تقدم ، يخرج الالتزام في الأحكام والأخلاق من القوة من الفعل ، فتأويل الالتزام عِلْمًا الإلزامُ عَمَلًا في الخارج يصدق ، فذلك لازم تال في القسمة ، فأولها ملزوم من توحيد ربوبية في الخلق ولازمه توحيد ألوهية في الشرع ، فَثَمَّ أول به كمال القوة العلمية في باب التصور لما كان من قصة الخلق ومآل بَعْدَ الموت وما يكون في البرزخ والحشر ..... إلخ ، فذلك مما ركز في الوجدان ضرورة وإن كان ، أيضا ، من المجمل الذي لا يبين عنه إلا خبر من خارج يفصل ، فقد أَثْبَتَ بعض عقلاء اليونان المعادَ ، ولكنهم لم يجاوزوا فيه حَدَّ الإجمال فقال بعض بمعاد النفوس دون الأجساد ، وقصره آخر على العالمة دون الجاهلة ..... إلخ ، من تصور يدور بين المجمل والباطل إذ لم يكن في هذا الباب من الغيب مَرْجِعٌ من خارج يجاوز العقل فَيُصَدِّقُهُ رَائِدًا ينصح بما يحكي من الغيب المفصَّل ، فليس ذلك إلا الوحي المنزل الذي جاء يصدق ما استقر في الفطرة من العلم ، وجاء يُفَصِّلُ بما أَخْبَرَ صادقا وَحَكَمَ عادلا ، فَنَصَحَ القوى كلَّها ، علمية تَتَصَوَّرُ وعمليَّةً تَتَأَوَّلُ ، وجاء ثالث يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ منها ، فأبان في باب الواجب كما واجب الوجود الأول ، أبان عن الاسم والوصف والفعل والحكم ، وأبان في باب الجائز من هذا الوجود المحدَث ، أبان عن قصة الخلق الأولى ، وبها ترجيح بمرجح معتبر بما كان من خَبَرَ غَيْبٍ يصدق ، فَلَئِنْ سُلِّمِ ، مِثَالًا تَقَدَّمَ ، بما كان من تَطَوُّرٍ مُوَجَّهٍ ، فالخبط قد خرج من القسمة ، بادي الرأي ، وإن لم يكن ثم خطاب وحي ، إذ هو المحال الذاتي الذي يمتنع ، والموجه منه من الجائز المحتمل ، وهو من الغيب الذي لا يجزئ في إثباته دعوى الجواز العقلي المحض ، بل لا ينفك يطلب الدليل من خارج وليس إلا خبر الغيب الصادق الذي يرجح في الجائز الذي لم يَشْهَدْهُ أحد ، فَلَا يُسَلَّمُ بدعوى ، وإن جائزة بادي الرأي ، لا يُسَلَّمُ بِهَا في باب غيب لا يدرك بالحس ، ودلالة العقل فيه لا تجاوز ، كما تقدم ، حد الجائز المحض الذي يفتقر إلى دليل من خارج ، فلا يسلم بها إلا أن يكون من هذا الدليل مرجح من خارج ، الدليل الخبري الصادق الذي يرجح في الباب الترجيح المعتبر ، فذكر من ذلك نصا في محل النِّزَاعِ يحسم ، وهو ما كان من قصة الخلق الأولى ، خلق آدم من طين يقدر وما بُثَّ بَعْدًا من روح حياة تَلْطُفُ ، فلم يكن الأمر تَطَوُّرًا هو الموجه ، وإن جاز في العقل لدى المبدإ ، ولم يكن خبط عشواء ، فذلك ما امتنع من باب أولى ، فكل أولئك من ملزوم ربوبية أول ، وهو ما به توحيد في العلم والتصور ينصح ، وبه اكتمال القوة العلمية بما كان من الآي والأخبار الرسالية التي أخبرت بالغيب المفصَّل ، وثم لازم من توحيد ألوهية بما كان من شريعة أمر ونهي تُفَصِّلُ ، قد جاوزت في الغاية ، كما يقول بعض من حقق ، تهيئة المحل بمعيار من الأخلاق المجملة أن يَتَلَقَّى من العلم المجرد ما صار عِلَّةً في حصول الكمال ، كمال النفس الذي اقتصر على العلم دون العمل ، بل ليس من العلم إلا الكليات المجملة فذلك من أدنى ما جاءت به النبوات إذ جاوزت فجاءت بالعلم المفصل ، وجاءت بآخر من شريعة أمر ونهي تُفَصِّلُ وهي لِمَا رُكِزَ في الوجدان من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ضروري تصدق ، وبها اكتمال أخرى من قوى العمل ، فذلك توحيد قد استغرق المحال والأحوال كافة ، وبه لحظ الإرادة العملية كما الشعور العلمي ، فاستغرق ، كما يقول بعض من حقق ، الشعور وهو العلم الأول والإرادة وهو تال من العمل يصدق ، وهو الحكم المجاوز من خارج الفرد الذي ضل في شعاب الفكرة والحركة إذ حاد عن جادة النبوة ، فلم يكن من ذلك إلا مذاهب محدثة كما وضعية قد تناولت الأخلاق التناول التجريبي الذي حول الإنسان المكلَّف إلى حيوان تجارب في المعمل بما يخاطب الحس والغريزة حصرا ، وصيرت عقل الجمع هو المرجع الموضوعي المجاوز من خارج ، وسلطانه سلطانُ الجبرِ الذي يُهْدِرُ خاصة الفرد ذي الشعور والإرادة ، فَلَمْ تَرُدَّ الأمر إلى مرجع موضوعي يجاوز العالم المحدَث كله ، وهو ، مع ذلك يكرم الإنسان ذا العقل والإرادة ، فَلَهُ من ذلك مناط تكليف به امتاز من سائر الكائنات التي تسلك سَنَنَ الكون جبرا ، فكان من إرادة الإنسان ما به كُرِّمَ وَكُلِّفَ ، وكان من إيمان بقدر أول ما به الاحتراز أن يطغى بما حصل له من سبب ، فَيَزْعُمَ سيادةً في الكون تُطْلَقُ ، وبها تذرع أنه الإله الذي يشرع بما واطأ الهوى والذوق ، فالوحي قد استوفى أجزاء القسمة إيمانا بالقدر وامتثالا للشرع ، وكان منه مرجع من خارج يجاوز العقول كافة ، عقل الجمع الوضعي الذي قهر الفرد مع إلحاقه بحث الأخلاق الوجداني بما كان من آخر في الحس هو التجريبي ، فلم يعتبر من العلم إلا ما باشر بالحس تحكُّمًا قد أهدر من أدلة العلم ما جاوز من الخبر والعقل والفطرة ، فالحس رابع في الرتبة ، فكيف صار الأول بل والأوحد ؟! إلا أن يكون ثم اضطراب في المعيار ينحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الأعجم بل ما دونه ، كما البلوى قد عمت في جيل قد تأخر إذ التزم من إنكار المرجع الرسالي المجاوز للعقول كافة ، الجمعي والفردي ، التزم من ذلك ما به خالف عن حكمة التشريع وفطرة التكوين . والله أعلى وأعلم . |
![]() |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
![]() |
||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
من خواطر معلم لغة عربية | فريد البيدق | مُضطجَع أهل اللغة | 8 | 05-07-2019 10:30 AM |
خواطر | كريم امصنصف | مُضطجَع أهل اللغة | 9 | 13-10-2017 03:16 AM |
خواطر مرسلة بين ماض وحاضر | خالد العاشري | حلقة الأدب والأخبار | 0 | 13-05-2015 08:05 PM |
خواطر من فيض الذاكرة | شجرة الزيتون | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 18-09-2013 12:02 AM |
خواطر | سهل بن المبارك | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 27-12-2008 07:24 PM |